فصل: تفسير الآيات (1- 19):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.سورة الأعلى:

.تفسير الآيات (1- 19):

{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)}
{سبح}: نزّه عن النقائص، {اسم ربك}: الظاهر أن التنزيه يقع على الاسم، أي نزهه عن أن يسمى به صنم أو وثن فيقال له رب أو إله، وإذا كان قد أمر بتنزيهه اللفظ أن يطلق على غيره فهو أبلغ، وتنزيه الذات أحرى. وقيل: الاسم هنا بمعنى المسمى. وقيل: معناه نزّه اسم الله عن أن تذكره إلا وأنت خاشع. وقال ابن عباس: المعنى صلّ باسم ربك الأعلى، كما تقول: ابدأ باسم ربك، وحذف حرف الجر. وقيل: لما نزل {فسبح باسم ربك العظيم} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجعلوها في ركوعكم» فلما نزل: {سبح اسم ربك الأعلى}، قال: «اجعلوها في سجودكم» وكانوا يقولون في الركوع: اللهم لك ركعت، وفي السجود: اللهم لك سجدت. قالوا: {الأعلى} يصح أن يكون صفة لربك، وأن يكون صفة لاسم فيكون منصوباً، وهذا الوجه لا يصح أن يعرب {الذي خلق} صفة لربك، فيكون في موضع جر لأنه قد حالت بينه وبين الموصوف صفة لغيره. لو قلت: رأيت غلام هند العاقل الحسنة، لم يجز؛ بل لابد أن تأتي بصفة هند، ثم تأتي بصفة الغلام فتقول: رأيت غلام هند الحسنة العاقل. فإن لم يجعل الذي صفة لربك، بل ترفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف أو تنصبه على المدح، جاز أن يكون الأعلى صفة لاسم.
{الذي خلق}: أي كل شيء، {فسوى}: أي لم يأت متفاوتاً بل متناسباً على إحكام وإتقان، دلالة على أنه صادر عن عالم حكيم. وقرأ الجمهور: {قدر} بشد الدال، فاحتمل أن يكون من القدر والقضاء، واحتمل أن يكون من التقدير والموازنة بين الأشياء. وقال الزمخشري: قدّر لكل حيوان ما يصلحه، فهداه إليه وعرّفه وجه الانتفاع به، انتهى. وقرأ الكسائي: قدر مخفف الدال من القدرة أو من التقدير والموازنة، وهدى عام لجميع الهدايات. وقال الفرّاء: فهدى وأضل، اكتفى بالواحدة عن الأخرى. وقال الكلبي ومقاتل: هدى الحيوان إلى وطء الذكور للإناث. وقال مجاهد: هدى الإنسان للخير والشر، والبهائم للمراتع. وقيل: هدى المولود عند وضعه إلى مص الثدي، وهذه الأقوال محمولة على التمثيل لا على التخصيص. والظاهر أن أحوى صفة لغثاء. قال ابن عباس: المعنى {فجعله غثاء أحوى}: أي أسود، لأن الغثاء إذا قدم وأصابته الأمطار اسود وتعفن فصار أحوى. وقيل: أحوى حال من المرعى، أي أحرى المرعى أحوى، أي للسواد من شدّة خضرته ونضارته لكثرة ريه، وحسن تأخير أحوى لأجل الفواصل، وقال:
وغيث من الوسمي حوتلاعه ** تبظنته بشيظم صلتان

{سنقرِئك فلا تنسى}، قال الحسن وقتادة ومالك: هذا في معنى {لا تحرك به لسانك} وعده الله أن يقرئه، وأخبره أنه لا ينسى، وهذه آية للرسول صلى الله عليه وسلم في أنه أمّيّ، وحفظ الله عليه الوحي، وأمنه من نسائه.
وقيل: هذا وعد بإقراء السور، وأمر أن لا ينسى على معنى التثبيت والتأكيد، وقد علم أن النسيان ليس في قدرته، فهو نهي عن إغفال التعاهد، وأثبتت الألف في {فلا تنسى}، وإن كان مجزوماً بلا التي للنهي لتعديل رءوس الآي.
{إلا ما شاء الله}، الظاهر أنه استثناء مقصود. قال الحسن وقتادة وغيرهما: مما قضى الله نسخه، وأن ترتفع تلاوته وحكمه. وقال ابن عباس: إلا ما شاء الله أن ينسيك لتسن به، على نحو قوله عليه الصلاة والسلام: «أني لأنسى وأنسى لأسن» وقيل: إلا ما شاء الله أن يغلبك النسيان عليه، ثم يذكرك به بعد، كما قال عليه الصلاة والسلام، حين سمع قراءة عباد بن بشير: «لقد ذكرني كذا وكذا آية في سورة كذا وكذا» وقيل: {فلا تنسى}: أي فلا تترك العمل به إلا ما شاء الله أن تتركه بنسخه إياه، فهذا في نسخ العمل. وقال الفراء وجماعة: هذا استثناء صلة في الكلام على سنة الله تعالى في الاستثناء، وليس ثم شيء أبيح استثناؤه.
وأخذ الزمخشري هذا القول فقال: وقال: إلا ما شاء الله، والغرض نفي النسيان رأساً، كما يقول الرجل لصاحبه: أنت سهيمي فيما أملك إلا ما شاء الله، ولا يقصد استثناء شيء، وهو من استعمال القلة في معنى النفي، انتهى. وقول الفراء والزمخشري يجعل الاستثناء كلا استثناء، وهذا لا ينبغي أن يكون في كلام الله تعالى، بل ولا في كلام فصيح. وكذلك القول بأن لا في {فلا تنسى} للنهي، والألف ثابتة لأجل الفاصلة، وهذا قول ضعيف. ومفهوم الآية في غاية الظهور، وقد تعسفوا في فهمها. والمعنى أنه تعالى أخبر أنه سيقرئه، وأنه لا ينسى إلا ما شاء الله، فإنه ينساه إما النسخ، وإما أن يسن، وإما على أن يتذكر. وهو صلى الله عليه وسلم معصوم من النسيان فيما أمر بتبليغه، فإن وقع نسيان، فيكون على وجه من الوجوه الثلاثة.
ومناسبة {سنقرئك} لما قبله: أنه لما أمره تعالى بالتسبيح، وكان التسبيح لا يتم إلا بقراءة ما أنزل عليه من القرآن، وكان يتذكر في نفسه مخافة أن ينسى، فأزال عنه ذلك وبشره بأنه تعالى يقرئه وأنه لا ينسى، استثنى ما شاء الله أن ينسيه لمصلحة من تلك الوجوه. {إنه يعلم الجهر}: أي جهرك بالقرآن، {وما يخفى}: أي في نفسك من خوف التفلت، وقد كفاك ذلك بكونه تكفل بإقرائك إياه وإخباره أنك لا تنسى إلا ما استثناه، وتضمن ذلك إحاطة علمه بالأشياء. {ونيسرك} معطوف على {سنقرئك}، وما بينهما من الجملة المؤكدة اعتراض، أي يوفقك للطريقة التي هي أيسر وأسهل، يعني في حفظ الوحي.
وقيل: للشريعة الحنيفية السهلة. وقيل: يذهب بك إلى الأمور الحسنة في أمر دنياك وآخرتك من النصر وعلو المنزلة والرفعة في الجنة. ولما أخبر أنه يقرئه وييسره، أمره بالتذكير، إذ ثمرة الإقراء هي انتفاعه في ذاته وانتفاع من أرسل إليهم. والظاهر أن الأمر بالتذكير مشروط بنفع الذكرى، وهذا الشرط إنما جيء به توبيخاً لقريش، أي {إن نفعت الذكرى} في هؤلاء الطغاة العتاه، ومعناه استبعاد انتفاعهم بالذكرى، فهو كما قال الشاعر:
لقد أسمعت لو ناديت حياً ** ولكن لا حياة لمن تنادي

كما تقول: قل لفلان وأعد له إن سمعك؛ فقوله: إن سمعك إنما هو توبيخ وإعلام أنه لن يسمع. وقال الفراء والنحاس والزهراوي والجرجاني معناه: وإن لم ينفع فاقتصر على القسم الواحد لدلالته على الثاني. وقيل: إن بمعنى إذ، كقوله: {وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} أي إذ كنتم؛ لأنه لم يخبر بكونهم الأعلون إلا بعد إيمانهم. {سيذكر من يخشى}: أي لا يتذكر بذكراك إلا من يخاف، فإن الخوف حامل على النظر في الذي ينجيه مما يخافه، فإذا نظر فأداه النظر والتذكر إلى الحق، وهؤلاء هم العلماء والمؤمنون كل على قدر ما وفق له. {ويتجنبها}: أي الذي، {الأشقى}: أي المبالغ في الشقاوة، لأن الكافر بالرسول صلى الله عليه وسلم هو أشقى الكفار، كما أن المؤمن به وبما جاء به هو أفضل ممن آمن برسول قبله. ثم وصفه بما يؤول إليه حاله في الآخرة، وهو صلي النار ووصفها بالكبرى. قال الحسن: النار الكبرى: نار الآخرة، والصغرى: نار الدنيا. وقال الفراء: الكبرى: السفلى من أطباق النار. وقيل: نار الآخرة تتفاضل، ففيها شيء أكبر من شيء. {ثم لا يموت}: فيستريح، {ولا يحيى} حياة هنيئة؛ وجيء بثم المقتضية للتراخي إيذاناً بتفاوت مراتب الشدة، لأن التردد بين الحياة والموت أشد وأفظع من الصلي بالنار.
{قد أفلح}: أي فاز وظفر بالبغية، {من تزكى}: تطهر. قال ابن عباس: من الشرك، وقال: لا إله إلا الله. وقال الحسن: من كان عمله زاكياً. وقال أبو الأحوص وقتادة وجماعة: من رضخ من ماله وزكاه. {وذكر اسم ربه}: أي وحده، لم يقرنه بشيء من الأنداد، {فصلى}: أي أتى الصلاة المفروضة وما أمكنه من النوافل، والمعنى: أنه لما تذكر آمن بالله، ثم أخبر عنه تعالى أنه أفلح من أتى بهاتين العبادتين الصلاة والزكاة، واحتج بقوله: {وذكر اسم ربه} على وجوب تكبيرة الافتتاح، وعلى أنه جائز بكل اسم من أسمائه تعالى، وأنها ليست من الصلاة، لأن الصلاة معطوفة على الذكر الذي هو تكبيرة الافتتاح، وهو احتجاج ضعيف. وقال ابن عباس: {وذكر اسم ربه}: أي معاده وموقفه بين يدي ربه، {فصلى له}. وقرأ الجمهور: {بل تؤثرون} بتاء الخطاب للكفار.
وقيل: خطاب للبر والفاجر؛ يؤثرها البر لاقتناء الثواب، والفاجر لرغبته فيها. وقرأ عبد الله وأبو رجاء والحسن والجحدري وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبو عمرو والزعفراني وابن مقسم: بياء الغيبة.
{إن هذا}: أي الإخبار بإفلاح من تزكى وإيثار الناس للدنيا، قاله ابن زيد وابن جرير، ويرجح بقرب المشار إليه بهذا. وقال ابن عباس وعكرمة والسدي: إلى معاني السورة. وقال الضحاك: إلى القرآن. وقال قتادة: إلى قوله: {والآخرة خير وأبقى}. {لفي الصحف الأولى}، لم ينسخ إفلاح من تزكى، والآخرة خير وأبقى في شرع من الشرائع. فهو في الأولى وفي آخر الشرائع. وقرأ الجمهور: الصحف بضم الحاء كالحرف الثاني؛ والأعمش وهرون وعصمة، كلاهما عن أبي عمرو: بسكونها؛ وفي كتاب اللوامح العبقلي عن أبي عمرو: الصحف صحف بإسكان الحاء فيهما، لغة تميم. وقرأ الجمهور: إبراهيم بألف وبياء والهاء مكسورة؛ وأبو رجاء: بحذفهما والهاء مفتوحة مكسورة معاً؛ وأبو موسى الأشعري وابن الزبير: أبراهام بألف في كل القرآن؛ ومالك بن دينار: إبراهيم بألف وفتح الهاء وبغير ياء؛ وعبد الرحمن بن أبي بكرة: إبراهيم بكسر الهاء وبغير ياء في جميع القرآن. قال ابن خالويه: وقد جاء إبراهيم، يعني بألف وضم الهاء. وتقدم في والنجم الكلام على صحف إبراهيم وموسى عليهما الصلاة والسلام.

.سورة الغاشية:

.تفسير الآيات (1- 26):

{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آَنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)}
{هل أتاك حديث الغاشية} والغاشية: الداهية التي تغشى الناس بشدائدها يوم القيامة، قاله سفيان والجمهور. وقال ابن جبير ومحمد بن كعب: النار، قال تعالى: {وتغشى وجوههم النار} وقال: {ومن فوقهم غواش} فهي تغشى سكانها. وهذا الاستفهام توقيف، وفائدته تحريك نفس السامع إلى تلقي الخبر. وقيل: المعنى هل كان هذا من عملك لولا ما علمناك؟ وفي هذا تعديد النعمة. وقيل: هل بمعنى قد. {وجوه يومئذ}: أي يوم إذ غشيت، والتنوين عوض من الجملة، ولم تتقدم جملة تصلح أن يكون التنوين عوضاً منها، لكن لما تقدّم لفظ الغاشية، وأل موصولة باسم الفاعل، فتنحل للتي غشيت، أي للداهية التي غشيت. فالتنوين عوض من هذه الجملة التي انحل لفظ الغاشية إليها، وإلى الموصول الذي هو التي. {خاشعة}: ذليلة. {عاملة ناصبة}، قال ابن عباس والحسن وابن جبير وقتادة: {عاملة} في النار، {ناصبة} تعبة فيها لأنها تكبرت عن العمل في الدنيا. قيل. وعملها في النار جر السلاسل والأغلال، وخوضها في النار كما تخوض الإبل في الوحل، وارتقاؤها دائبة في صعود نار وهبوطها في حدور منها. وقال ابن عباس أيضاً وزيد بن أسلم وابن جبير: عاملة في الدنيا ناصبة فيها لأنها على غير هدى، فلا ثمرة لها إلا النصب وخاتمته النار؛ والآية في القسيسين وعباد الأوثان وكل مجتهد في كفره. وقال عكرمة والسدي: عاملة ناصبة بالنصب على الذم، والجمهور برفعهما.
وقرأ: {تصلى} بفتح التاء؛ وأبو رجاء وابن محيصن والأبوان: بضمها؛ وخارجة: بضم التاء وفتح الصاد مشدّد اللام، وقد حكاها أبو عمرو بن العلاء {حامية}: مسعرة آنية قد انتهى حرها، كقوله: {وبين حميم آن} قاله ابن عباس والحسن ومجاهد. وقال ابن زيد: حاضرة لهم من قولهم: آنى الشيء حضر. والضريع، قال ابن عباس: شجر من نار. وقال الحسين: وجماعة الزقوم. وقال ابن جبير: حجارة من نار. وقال ابن عباس أيضاً وقتادة وعكرمة ومجاهد: شبرق النار. وقيل: العبشرق. وقيل: رطب العرفج، وتقدم ما قيل فيه في المفردات. وقيل: واد في جهنم. والضريع، إن كان الغسلين والزقوم، فظاهر ولا يتنافى الحصر في {إلا من غسلين} و{إلا من} ضريع. وإن كانت أغياراً مختلفة، والجمع بأن الزقوم لطائفة، والغسلين لطائفة، والضريع لطائفة.
وقال الزمخشري: {لا يسمن} مرفوع المحل أو مجروره على وصف طعام أو ضريع، يعني أن طعامهم من شيء ليس من مطاعم الإنس وإنما هو شوك، والشوك مما ترعاه الإبل وتتولع به، وهذا نوع منه تنفر عنه ولا تقربه، ومنفعتا الغذاء منتفيتان عنه، وهما إماطة الجوع وإفادة القوة، والسمن في البدن، انتهى. فقوله: مرفوع المحل أو مجروره على وصف طعام أو ضريع. أما جره على وصفه لضريع فيصح، لأنه مثبت منفي عنه السمن والإغناء من الجوع.
وأما رفعه على وصفه لطعام فلا يصح، لأن الطعام منفي ولا يسمن، منفي فلا يصح تركيبه، إذ يصير التقدير: ليس لهم طعام لا يسمن ولا يغني من جوع إلا من ضريع، فيصير المعنى: أن لهم طعاماً يسمن ويغني من جوع من غير ضريع، كما تقول: ليس لزيد مال لا ينتفع به إلا من مال عمرو، فمعناه أن له مالاً ينتفع به من غير مال عمرو. ولو قيل: الجملة في موضع رفع صفة للمحذوف المقدر في {إلا من ضريع} كان صحيحاً، لأنه في موضع رفع على أنه بدل من اسم ليس، أي ليس لهم طعام إلا كائن من ضريع، إذ الإطعام من ضريع غير مسمن ولا مغن من جوع، وهذا تركيب صحيح ومعنى واضح، وقال الزمخشري: أو أريد أن لا طعام لهم أصلاً، لأن الضريع ليس بطعام للبهائم فضلاً عن الإنس، لأن الطعام ما أشبع وأسمن، وهو منهما بمعزل. كما تقول: ليس لفلان ظل إلا الشمس، تريد نفي الظل على التوكيد. انتهى. فعلى هذا يكون الاستثناء منقطعاً، إذ لم يندرج الكائن من الضريع تحت لفظة طعام، إذ ليس بطعام. والظاهر الاتصال فيه. وفي قوله: {ولا طعام إلا من غسلين} لأن الطعام هو ما يتطعمه الإنسان، وهذا قدر مشترك بين المستلذ والمكروه وما لا يستلذ ولا يستكره.
{وجوه يومئذ ناعمة}: صح الابتداء في هذا وفي قوله: {وجوه يومئذ خاشعة} بالنكرة لوجود مسوغ ذلك وهو التفصيل، ناعمة لحسنها ونضارتها أو متنعمة. {لسعيها راضية}: أي لعملها في الدنيا بالطاعة، راضية إذا كان ذلك العمل جزاؤه الجنة. {في جنة عالية}: أي مكاناً ومكانة. وقرأ الأعرج وأهل مكة والمدينة ونافع وابن كثير وأبو عمرو بخلاف عنهم. {لا تسمع} مبنياً للمفعول، {لاغية}: رفع، أي كلمة لاغية، أو جماعة لاغية، أو لغو، فيكون مصدراً كالعاقبة، ثلاثة أقوال، الثالث لأبي عبيدة وابن محيصن وعيسى وابن كثير وأبو عمرو كذلك، إلا أنهم قرأوا بالياء لمجاز التأنيث، والفضل والجحدري كذلك، إلا أنه نصب لاغية على معنى لا يسمع فيها، أي أحد من قولك: أسمعت زيداً؛ والحسن وأبو رجاء وأبو جعفر وقتادة وابن سيرين ونافع في رواية خارجة وأبو عمرو بخلاف عنه؛ وباقي السبعة: لا تسمع بتاء الخطاب عموماً، أو للرسول عليه الصلاة والسلام، أو الفاعل الوجود. لاغية: بالنصب، {فيها عين جارية}: عين اسم جنس، أي عيون، أو مخصوصة ذكرت تشريفاً لها. {فيها سرر مرفوعة}: من رفعة المنزلة أو رفعة المكان ليرى ما خوله ربه من الملك والنعيم، أو مخبوءة من رفعت لك هذا، أي خبأته. {وأكواب موضوعة}: أي بأشربتها معدة لا تحتاج إلى مالئ، أو موضوعة بين أيديهم، أو موضوعة على حافات العيون.
{ونمارق مصفوفة}: أي وسائد صف بعضها إلى جنب بعض للاستناد إليها والاتكاء عليها. {وزرابي مبثوثة}: متفرقة هنا وهنا في المجالس.
ولما ذكر تعالى أمر القيامة وانقسام أهلها إلى أشقياء وسعداء، وعلم أنه لا سبيل إلى إثبات ذلك إلا بواسطة الصانع الحكيم، أتبع ذلك بذكره هذه الدلائل، وذكر ما العرب مشاهدوه وملابسوه دائماً فقال: {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت}، وهي الجمال، فإنه اجتمع فيها ما تفرق من المنافع في غيرها، من أكل لحمها، وشرب لبنها، والحمل عليها، والتنقل عليها إلى البلاد الشاسعة، وعيشها بأي نبات أكلته، وصبرها على العطش حتى أن فيها ما يرد الماء لعشر، وطواعيتها لمن يقودها، ونهضتها وهي باركة بالأحمال الثقال، وكثرة جنينها، وتأثرها بالصوت الحسن على غلظ أكبادها، وهي لا شيء من الحيوان جميع هذه الخصال غيرها. وقد أبان تعالى امتنانه عليهم بقوله: {أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاماً} الآيات. ولكونها أفضل ما عند الغرب، جعلوها دية القتل، ووهبوا المائة منها من يقصدهم ومن أرادوا إكرامه، وذكرها الشعراء في مدح من وهبها، كما قال:
أعطوا هنيدة تحدوها ثمانية ** وقال آخر:

الواهب المائة الهجان برمتها

وناسب التنبيه بالنظر إليها وإلى ما حوت من عجائب الصفات، ما ذكر معها من السماء والجبال والأرض لانتظام هذه الأشياء في نظر العرب في أوديتهم وبواديهم، وليدل على الاستدلال على إثبات الصانع، وأنه ليس مختصاً بنوع دون نوع، بل هو عام في كل موجوداته، كما قيل:
وفي كل شيء له آية ** تدل على أنه واحد

وقال أبو العباس: المبرد: الإبل هنا السحاب، لأن العرب قد تسميها بذلك، إذ تأتي إرسالاً كالإبل، وتزجى كما تزجى الإبل، وهي في هيئتها أحياناً تشبه الإبل والنعام، ومنه قوله:
كأن السحاب ذوين السما ** ء نعام تعلق بالأجل

وقال الزمخشري: ولم يدع من زعم أن الإبل السحاب إلى قوله إلا طلب المناسبة، ولعله لم يرد أن الإبل من أسماء السحاب، كالغمام والمزن والرباب والغيم وغير ذلك، وإنما رأى السحاب مشبهاً بالإبل كثيراً في أشعارهم، فجوّز أن يراد بها السحاب على طريقة التشبيه والمجاز، انتهى. وقرأ الجمهور: {الإبل} بكسر الباء وتخفيف اللام؛ والأصمعي عن أبي عمرو: بإسكان الباء؛ وعليّ وابن عباس: بشد اللام. ورويت عن أبي عمرو وأبي جعفر والكسائي وقالوا: إنها السحاب، عن قوم من أهل اللغة. وقال الحسن: خص الإبل بالذكر لأنها تأكل النوى والقت وتخرج اللبن، فقيل له: الفيل أعظم في الأعجوبة، وقال العرب: بعيدة العهد بالفيل، ثم هو خنزير لا يؤكل لحمه ولا يركب ظهره ولا يحلب دره. والإبل لا واحد له من لفظه وهو مؤنث، ولذلك إذا صغر دخلته التاء فقالوا: أبيلة، وقالوا في الجمع: آبال. وقد اشتقوا من لفظه فقالوا: تأبل الرجل، وتعجبوا من هذا الفعل على غير قياس فقالوا: ما آبل زيداً.
وإبل اسم جاء على فعل، ولم يحفظ سيبويه مما جاء على هذا الوزن غيره. وكيف خلقت: جملة استفهامية في موضع البدل من الإبل، وينظرون: تعدى إلى الإبل بواسطة إلى، وإلى كيف خلقت على سبيل التعليق، وقد تبدل الجملة وفيها الاستفهام من الاسم الذي قبلها كقولهم: عرفت زيداً أبو من هو على أصح الأقوال، على أن العرب قد أدخلت إلى على كيف، فحكى أنهم قالوا: انظر إلى كيف يصنع. وكيف سؤال عن حال والعامل فيها خلقت، وإذا علق الفعل عن ما فيه الاستفهام، لم يبق الاستفهام على حقيقته، وقد بينا ذلك في كتابنا المسمى بالتذكرة وفي غيره.
وقرأ الجمهور: {خلقت}: رفعت، {نصبت} سطحت بتاء التأنيث مبنياً للمفعول؛ وعليّ وأبو حيوة وابن أبي عبلة: بتاء المتكلم مبنياً للفاعل، والمفعول محذوف، أي خلقتها، رفعتها، نصبتها؛ رفعت رفعاً بعيد المدى بلا عمد، نصبت نصباً ثابتاً لا تميل ولا تزول؛ سطحت سطحاً حتى صارت كالمهاد للمتقلب عليها. وقرأ الجمهور: {سطحت} خفيفة الطاء؛ والحسن وهارون: بشدّها. ولما حضهم على النظر، أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بتذكيرهم فقال: {فذكر} ولا يهمنك كونهم لا ينظرون. {إنما أنت مذكر}، كقوله تعالى: {إن عليك إلا البلاغ} {لست عليهم بمسيطر}: أي بمسلط، كقوله: {وما أنت عليهم بجبار} وقرأ الجمهور: بالصاد وكسر الطاء، وابن عامر في رواية، ونطيق عن قنبل، وزرعان عن حفص: بالسين؛ وحمزة في رواية: بإشمام الزاي؛ وهارون: بفتح الطاء، وهي لغة تميم. وسيطر متعد عندهم ويدل عليه فعل المطاوعة وهو تسطر، وليس في الكلام على هذا الوزن إلا مسيطر ومهيمن ومبيطر ومبيقر، وهي أسماء فاعلين من سيطر وهيمن وبيطر. وجاء مجيمر اسم واد ومديبر، ويمكن أن يكون أصلهما مدبر ومجمر فصغراً. وقرأ الجمهور: إلا حرف استثناء فقيل متصل، أي فأنت مسيطر عليه. وقيل: متصل من فذكر، أي فذكر إلا من انقطع طمعك من إيمانه وتولى فاستحق العذاب الأكبر، وما بينهما اعتراض. وقيل: منقطع، وهي آية موادعة نسخت بآية السيف. وقرأ ابن عباس وزيد بن عليّ وقتادة وزيد بن أسلم: ألا حرف تنبيه واستفتاح، والعذاب الأكبر هو عذاب جهنم.
وقرأ الجمهور: {إيابهم} بتخفيف الياء مصدر آب؛ وأبو جعفر وشيبة: بشدّها مصدراً لفعيل من آب على وزن فيعال، أو مصدراً كفوعل كحوقل على وزن فيعال أيضاً كحيقال، أو مصدر الفعول كجهور على وزن فعوال كجهوار فأصله أوواب فقلبت الواو الأولى ياء لسكونها وانكسار ما قبلها؛ واجتمع في هذا البناء والبناءين قبله واو وياء، وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء، وأدغم ولم يمنع الإدغام من القلب لأن الواو والياء ليستا عينين من الفعل، بل الياء في فيعل والواو في فعول زائدتان.
وقال صاحب اللوامح، وتبعه الزمخشري: يكون أصله إواباً مصدر أوّب، نحو كذّب كذاباً، ثم قيل إواباً فقلبت الواو الأولى ياء لانكسار ما قبلها. قال الزمخشري: كديوان في دوان، ثم فعل به ما فعل بسيد، يعني أنه اجتمع ياء وواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الواو، فأما كونه مصدر أوب فإنه لا يجوز، لأنهم نصوا على أن الواو الأولى إذا كانت موضوعة على الإدغام وجاء ما قبلها مكسوراً فلا تقلب الواو الأولى ياء لأجل الكسرة، ومثلوا بأخرواط مصدر أخروّط، ومثلوا أيضاً بمصدر أوب نحو أوّب إواباً، فهذه وضعت على الإدغام، فحصنها من الإبدال ولم تتأثر للكسر.
وأما تشبيه الزمخشري بديوان فليس بجيد لأنهم لم ينطقوا بها في الوضع مدغمة، فلم يقولوا دوّان، ولولا الجمع على دواوين لم يعلم أن أصل هذه الياء واو، وأيضاً فنصوا على شذوذ ديوان فلا يقاس عليه غيره. وقال ابن عطية: ويصح أن يكون من أأوب، فيجيء إيواباً، سهلت الهمزة، وكان اللازم في الإدغام يردها إواباً، لكن استحسنت فيه الياء على غير قياس، انتهى. فقوله: وكان اللازم في الإدغام بردها إواباً ليس بصحيح، بل اللازم إذا اعتبر الإدغام أن يكون إياباً، لأنه قد اجتمعت ياء وهي المبدلة من الهمزة بالتسهيل. وواو وهي عين الكلمة وإحداهما ساكنة، فتقلب الواو ياء وتدغم فيها الياء فيصير إياباً.
ولما كان من مذهب الزمخشري أن تقديم المعمول يفيد الحصر، قال معناه: أن إيابهم ليس إلا إلى الجبار المقتدر على الانتقام، وأن حسابهم ليس بواجب إلا عليه تعالى، وهو الذي يحاسب على النقير والقطمير، ومعنى الوجوب: الوجوب في الحكمة، والله أعلم.