فصل: تفسير الآيات (114- 126):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (114- 126):

{لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114) وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122) لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)}
النجوى مصدر كالدعوى يقال: نجوت الرجل أنجوه نجوى إذا ناجيته. قال الواحدي: ولا تكون النجوى إلا بين اثنين. وقال الزجاج: النجوى ما انفرد به الجماعة، أو الإثنان سرّاً كان وظاهراً انتهى. وقال ابن عطية: المسارة، وتطلق النجوى على القوم المتناجين، وهو من باب قوم عدل وصف بالمصدر. وقال الكرماني: نجوى جمع نجي، وتقدم الكلام في هذه المادة، وتكرر هنا لخصوصية البنية.
مريد من مرد، عتا وعلا في الحذاقة، وتجرد للشر والغواية. وقال ابن عيسى: وأصله التملس، ومن شجرة مرداء أي ملساء تناثر ورقها، وغلام أمرد لا نبات بوجهه، وصرح ممرد مملس لا يعلق به شيء لملاسته، والمارد الذي لا يعلق بشيء من الفضائل. البتك: الشق والقطع، بتك يبتك، وبتك للتكثير، والبتك القطع واحدها بتكة. قال الشاعر:
حتى إذا ما هوت كف الوليد لها ** طارت وفي كفه من ريشها بتك

محيص: مفعل من حاص يحيص، زاع بنفور ومنه: فحاصوا حيصة حمر الوحش. وقول الشاعر:
ولم ندر أن حصنا من الموت حيصة ** كم العمر باق والمدا متطاول

ويقال جاض بالجيم والضاد المعجمة والمحاص مثل المحيص. قال الشاعر:
تحيص من حكم المنية جاهداً ** ما للرجال عن المنون محاص

وفي المثل: وقعوا في حيص بيص. وحاص باص إذا وقع فيما لا يقدر على التخلص منه، ويقال: حاص يحوص حوصاً وحياصاً إذا نفر وزايل المكان الذي فيه. والحوص في العين ضيق مؤخرها. الخليل: فعيل من الخلة، وهي الفاقة والحاجة. أو من الخلة وهي صفاء المودّة، أو من الخلل. قال ثعلب: سمى خليلاً لأن محبته تتخلل القلب فلا تدع فيه خللاً إلا ملأته. وأنشد قول بشار:
قد تخللت مسلك الروح مني ** وبه سمي الخليل خليلا

{لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس} الضمير في نجواهم عائد على قوم طعمة الذين تقدم ذكرهم قاله: ابن عباس وغيره. وقال مقاتل: هم قوم من اليهود ناجوا قوم طعمة، واتفقا معهم على التلبيس على الرسول صلى الله عليه وسلم في أمر طعمة. وقال ابن عطية: هو عائد على الناس أجمع.
وجاءت هذه الآيات عامة فاندرج أصحاب النازلة وهم قوم طعمة في ذلك العموم، وهذا من باب الإيجاز والفصاحة، لكون الماضي والمغاير تشملهما عبارة واحدة انتهى. وهذا الاستثناء منقطع إن كان النجوى مصدراً، ويمكن اتصاله على حذف مضاف أي: إلا نجوى من أمر، وقاله: أبو عبيدة. وإن كان النجوى المتناجين قيل: ويجوز في: مِن الخفض من وجهين: أن يكون تابعاً لكثير، أو تابعاً للنجوى، كما تقول: لا خير في جماعة من القوم إلا زيد إن شئت اتبعت زيد الجماعة، وإن شئت اتبعته القوم.
ويجوز أن يكون مِن أمر مجروراً على البدل من كثير، لأنه في حيز النفي، أو على الصفة. وإذا كان منقطعاً فالتقدير: لكن مَن أمر بصدقة فالخير في نجواه. ومعنى أمر: حث وحض. والصدقة تشمل الفرض والتطوّع. والمعروف عام في كل بر. واختاره جماعة منهم: أبو سليمان الدمشقي، وابن عطية. فيندرج تحته الصدقة والاصلاح. لكنهما جردا منه واختصا بالذكر اهتماماً، إذ هما عظيما الغذاء في مصالح العباد. وعطف بأو فجعلا كالقسم المعادل مبالغة في تجريدهما، حتى صار القسم قسيماً. وقيل: المعروف الفرض. روي ذلك عن ابن عباس ومقاتل. وقيل: إغاثة الملهوف. قال الزمخشري: ويجوز أن يراد بالصدقة الواجب، وبالمعروف ما يتصدق به على سبيل التطوع انتهى. وفي الحديث الصحيح: «كلُّ كلام ابن آدم عليه لا له إلا مَن كان أمر بمعروف أو نهى عن منكر أو ذكر الله تعالى». وحدّث سفيان الثوري بهذا الحديث أقواماً فقال أحدهم: ما أشد هذا الحديث! فقال له: ألم تسمع كل معروف صدقة، وإنّ من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلقٍ. وقال الحطيئة:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ** لا يذهب العرف بين الله والناس

وظاهر قوله: أو إصلاح بين الناس، أنه في كل شيء يقع فيه اختلاف ونزاع. وقيل: هو خاص بالإصلاح بين طعمة واليهودي المذكورين. قال أبو عبد الله الرازي ما ملخصه: ذكر ثلاثة أنواع، لأن عمل الخير إما أن يكون بدفع المضرة وإليه الإشارة بقوله: أو إصلاح بين الناس. أو بإيصال المنفعة إما جسمانياً وهو إعطاء المال، وإليه الإشارة بقوله: بصدقة. أو روحانياً وهو تكميل القوة النظرية بالعلوم، أو القوة العملية بالأفعال الحسنة، ومجموعها عبارة عن الأمر بالمعروف، وإليه الإشارة بقوله: أو معروف.
وقال الراغب: يقال لكل ما يستحسنه العقل ويعرفه معروف، ولكل ما يستقبحه وينكره منكر. ووجه ذلك أنه تعالى ركّز في العقول معرفة الخبر والشر، وإليه أشار بقوله: {صبغة الله} {وفطرة الله} وعلى ذلك ما اطمأنت إليه النفس لمعرفتها به انتهى. وهذه نزغة اعتزالية في أنّ العقل يحسن ويقبح. وقيل: هذه الثلاثة تضمنت الأفعال الحسنة، وبدأ بأكثرها نفعاً وهو إيصال النفع إلى الغير، ونبه بالمعروف على النوافل التي هي من الإحسان والتفضل، والإصلاح بين الناس على سياستهم، وما يؤدي إلى نظم شملهم انتهى. وقال عليه السلام: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة قيل: بلى يا رسول الله، قال: صلاح ذات البين» وخصّ مَن أمر بهذه الأشياء، وفي ضمن ذلك أنّ الفاعل أكثر استحقاقاً من الأمر، وإذا كان الخير في نجوى الأمر به فلا يكون في من يفعله بطريق الأولى..
{ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً} لما ذكر أن الخير في مَن أمر ذكر ثواب من فعل، ويجوز أن يريد: ومن يأمر بذلك، فيعبر بالفعل عن الأمر، كما يعبر به عن سائر الأفعال.
وقرأ أبو عمرو وحمزة: يؤتيه بالياء، والباقون بالنون على سبيل الالتفات، ليناسب ما بعده من قوله: {نوله ما تولى ونصله} فيكون إسناد الثواب والعقاب إلى ضمير المتكلم العظيم، وهو أبلغ من إسناده إلى ضمير الغائب. ومن قرأ بالياء لحظ الإسم الغائب في قوله: ابتغاء مرضاة الله، وفي قوله: ابتغاء مرضاة الله دليل على أنه لا يجزي من الأعمال إلا ما كان فيه رضا الله تعالى، وخلوصه لله دون رياء ولا سمعة.
{ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً} نزلت في طعمة بن أبيرق لما فضحه الله بسرقته، وبرّأ اليهودي، ارتد وذهب إلى مكة وتقدّم ذلك موته وسببه. ومما قيل فيه: إنه ركب في سفينة فسرق منها مالاً فعلم به، فألقي في البحر. وقيل: لما سرق الحجاج السلمي استحى الحجاج منه لأنه كان ضيفه فأطلقه، فلحق بحيرة بني سليم فعبد صنماً لهم ومات على الشرك. وقيل: نزلت في قوم طعمة قدموا فأسلموا، ثم ارتدّوا. وتقدم معنى المشاقة في قوله: {فإنما هم في شقاق} ومن يشاقق: عام فيندرج فيه طعمة وغيره من المشاقين من بعد ما تبين له الهدى: أي اتضح له الحق الذي هو سبب الهداية. ولو لم يكن إلا إخبار الله نبيه عليه السلام بقصة طعمة وإطلاعه إياه على ما بيتوه وزوّروه، لكان له في ذلك أعظم وازع وأوضح بيان، وكان ذنب من يعرف الحق ويزيغ عنه أعظم من ذنب الجاهل، لأنّ من لا يعرف الحق يستحق العقوبة لترك المعرفة، لأن العمل لا يلزمه حتى يعرفه، أو يعرفه من يصدقه. والعالم يستحق العقوبة بترك استعمال ما يقتضيه معرفته، فهو أعظم جرماً إذا اطلع على الحق وعمل بخلاف ما يقتضيه على سبيل العناد لله تعالى، إذ جعل له نور يهتدي به. وسبيل المؤمنين: هو الدين الحنيفي الذي هم عليه. وهذه الجملة المعطوفة هي على سبيل التوكيد والتشنيع، وإلا فمن يشاقق الرسول هو متبع غير سبيل المؤمنين ضرورة، ولكنه بدأ بالأعظم في الإثم، وأتبع بلازمه توكيداً.
واستدل الشافعي وغيره بهذه الآية على أن الإجماع حجة. وقد طول أهل أصول الفقه في تقرير الدلالة منها، وما يرد على ذلك وذلك مذكور في كتب أصول الفقه. وقال الزمخشري: هو دليل على أنّ الإجماع حجة لا يجوز مخالفتها، كما لا يجوز مخالفة الكتاب والسنة، لأن الله تعالى جمع بين اتباع سبيل غير المؤمنين وبين مشاقة الرسول في الشرط، وجعل جزاءه الوعيد الشديد، فكان اتباعهم واجباً كموالاة الرسول انتهى كلامه.
وما ذكره ليس بظاهر الآية المرتب على وصفين اثنين، لا يلزم منه أن يترتب على كل واحد منهما، فالوعيد إنما ترتب في الآية على من اتصف بمشاقة الرسول واتباع سبيل غير المؤمنين، ولذلك كان الفعل معطوفاً على الفعل، ولم يعد معه اسم شرط. فلو أعيد اسم الشرط وكان، يكون ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى، ومن يتبع غير سبيل المؤمنين لكان فيه ظهور مّا على ما ادّعوا، وهذا كله على تسليم أن يكون قوله: ويتبع غير سبيل المؤمنين مغايراً لقوله: ومن يشاقق الرسول. وقد قلنا: إنه ليس بمغاير، بل هو أمر لازم لمشاقة الرسول، وذلك على سبيل المبالغة والتوكيد وتفظيع الأمر وتشنيعه. والآية بعد هذا كله هي وعيد الكفار، فلا دلالة على جزئيات فروع مسائل الفقه. واستدل بهذه الآية على وجوب عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى أن كل مجتهد يسقط عنه الإثم. ومعنى قوله: ما تولى قال ابن عطية: وعيد بأن يترك مع فاسد اختياره. وقال الزمخشري: يجعله بالياء، وما تولى من الضلالة بأن تخذله وتخلى بينه وبين ما اختار انتهى. وهذا على منزعه الاعتزالي. وقرئ: وتصله بفتح النون من صلاه. وقرأ ابن أبي عيلة: يوله ويصله بالياء فيهما جرياً على قوله: فسوف يؤتيه بالياء، وفي هاء نوله ونصله: الإشباع والاختلاس والإسكان وقرئ بها.
{إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضلّ ضلالاً بعيداً} تقدّم مثل تفسير هذه الآية، ونزلت قيل: في طعمة. وقيل: في نفر من قريش أسلموا ثم انقلبوا إلى مكة مرتدين. وقيل: في شيخ قال: لم أشرك بالله منذ عرفته، إلا أنه كان يأتي ذنوباً، وأنه ندم واستغفر، إلا أنّ آخر ما تقدّم فقد افترى إثماً عظيماً، وآخر هذه فقد ضل ضلالاً بعيداً ختمت كل آية بما يناسبها. فتلك كانت في أهل الكتاب، وهم مطلعون من كتبهم على ما لا يشكون في صحته من أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، ووجوب اتباع شريعته، ونسخها لجميع الشرائع، ومع ذلك قد أشركوا بالله مع أن عندهم ما يدل على توحيد الله تعالى والإيمان بما نزل، فصار ذلك افتراء واختلافاً مبالغاً في العظم والجرأة على الله.
وهذه الآية هي في ناس مشركين ليسوا بأهل كتب ولا علوم، ومع ذلك فقد جاءهم بالهدى من الله، وبان لهم طريق الرشد فأشركوا بالله، فضلوا بذلك ضلالاً يستبعد وقوعه، أو يبعد عن الصواب. ولذلك جاء بعده: {إن يدعون من دونه إلا إناثاً} وجاء بعد تلك: {ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم} وقوله: {انظر كيف يفترون على الله الكذب} ولم يختلف أحد من المتأولين في أنّ المراد بهم اليهود، وأن كان اللفظ عاماً.
ولما كان الشرك من أعظم الكبائر، كان الضلال الناشئ عنه بعيداً عن الصواب، لأن غيره من المعاصي وإن كان ضلالاً لكنه قريب من أن يراجع صاحبه الحق، لأن له رأس مال يرجع إليه وهو الإيمان، بخلاف المشرك. ولذلك قال تعالى: {يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ذلك هو الضلال البعيد} وناسب هنا ذكر الضلال لتقدم الهدى قبله {إن يدعون من دونه إلا إناثاً} المعنى: ما يعبدون من دون الله ويتخذونه إلهاً إلا مسميات تسمية الإناث. وكنى بالدعاء عن العبادة، لأنّ من عبد شيئاً دعاه عند حوائجه ومصالحه. وكانوا يحلون الأصنام بأنواع الحلى، ويسمونها أنثى وإناث، جمع أنثى كرباب جمع ربى. قال ابن عباس، والحسن، وقتادة: المراد الخشب والحجارة، فهي مؤنثات لا تعقل، فيخبر عنها كما يخبر عن المؤنث من الأشياء. فيجيء قوله: إلا إناثاً، عبارة عن الجمادات. وقال أبو مالك والسدي وابن زيد وغيرهم: كانت العرب تسمي أصنامها بأسماء مؤنثة كاللات والعزى ومناة ونايلة. ويردّ على هذا بأنها كانت تسمى أيضاً بأسماء مذكرة: كهبل، وذي الخلصة.
وقال الضحاك وغيره: المراد ما كانت العرب تعتقده من تأنيث الملائكة وعبادتهم إياها، فقيل لهم: هذا على إقامة الحجة من فاسد قولهم. وقال الحسن: لم يكن حي من أحياء العرب إلا ولهم صنم يعبدونه يسمونه أنثى بني فلان، وفي هذا تعبيرهم بالتأنيث لنقصه وخساسته بالنسبة للتذكير. وقال الراغب: أكثر ما عبدته العرب من الأصنام كانت أشياء منفعلة غير فاعلة، فبكتهم الله تعالى أنهم مع كونهم فاعلين من وجه يعبدون ما ليس هو إلا منفعلاً من كل وجه، وعلى هذا نبه إبراهيم عليه السلام بقوله: {لِمَ تعبد ما لا يسمع ولا يبصر} وقرأ أبو رجاء: إنْ تدعون بالتاء على الخطاب، ورويت عن عاصم. وفي مصحف عائشة رضي الله عنها: إلا أوثاناً جمع وثن، وهو الصنم. وقرأ بذلك أبو السوار والهناي. وقرأ الحسن: إلا أنثى على التوحيد. وقرأ ابن عباس، وأبو حيوة، والحسن، وعطاء، وأبو العالية، وأبو نهيك، ومعاذ القاري: أنثاً. قال الطبري: فيما حكى إناث كثمار وثمر. وقال غيره: أنث جمع أنيث، كغرير وغرر. وقال المغربي: إلا إناثاً إلا ضعافاً عاجزين لا قدرة لهم، يقال: سيف أنيث وميناثة بالهاء وميناث غير قاطع. قال الشاعر:
فتخبرني بأن العقل عندي ** جراز لا أقل ولا أنيث

أنث في أمره لان، والأنيث المخنث الضعيف من الرجال. وقرأ سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، وأبو المتوكل، وأبو الجوزاء: إلا وثناً بفتح الواو والثاء من غير همزة. وقرأ ابن المسيب، ومسلم بن جندب، ورويت عن ابن عباس، وابن عمر، وعطاء: الا أنثا، يريدون وثناً، فأبدل الهمزة واواً، وخرج على أنه جمع جمع إذ أصله وثن، فجمع على وثان كجمل وجمال، ثم وثان على وثن كمثال، ومثل وحمار وحمر.
قال ابن عطية: هذا خطأ، لأن فعالاً في جمع فعل إنما هو للتكثير، والجمع الذي هو للتكثير لا يجمع، وإنما يجمع جموع التقليل، والصواب أن يقال: وثن جمع وثن دون واسطة، كأسد وأسد انتهى. وليس قوله: وإنما يجمع جموع التقليل بصواب، كامل الجموع مطلقاً لا يجوز أن تجمع بقياس سواء كانت للتكثير أم للتقليل، نص على ذلك النحويون. وقرأ أيوب السجستاني: الاوثنا بضم الواو والثاء من غير همزة، كشقق. وقرأت فرقة: الاثنا بسكون الثاء، وأصله وثناً، فاجتمع في هذا اللفظ ثماني قراءات: إناثاً، وأنثى، وأنثا، وأوثاناً، ووثناً، ووثنا، واثناً، وأثنا.
{وإن يدعون إلا شيطاناً مريداً لعنه الله} المراد به إبليس قاله: الجمهور، وهو الصواب، لأن ما قاله بعد ذلك مبين أنه هو. وقيل: الشيطان المعين بكل صنم: أفرد لفظاً وهو مجموع في المعنى الواحد يدل على الجنس. قيل؛ كان يدخل في أجواف الأصنام فيكلم داعيها، ويحتمل أن يكون لعنه الله صفة، وأن يكون خبراً عنه. وقيل: هو دعاء، ولا يتعارض الحصران، لأن دعاء الأصنام ناشئ عن دعائهم الشيطان، لما عبدوا الشيطان أغراهم بعبادة الأصنام، أو لاختلاف الدعاءين، فالأول عبادة، والثاني طواعية. وقال ابن عيسى: هو مثل: {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} يعني: أن نسبة دعائهم الأصنام هو على سبيل المجاز. وأما في الحقيقة فهم يدعون الشيطان.
{وقال لأتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً} أي نصيباً واجباً اقتطعته لنفسي من قولهم: فرض له في العطاء، وفرض الجند رزقهم. والمعنى: لأستخلصنهم لغوايتي، ولأخصنهم بإضلالي، وهم الكفرة والعصاة. قال ابن عطية: المفروض هنا معناه المنحاز، وهو مأخوذ من الفرض، وهو الحز في العود وغيره، ويحتمل أن يريد واجباً أن اتخذه، وبعث النار هو نصيب إبليس. قال الحسن: من كل ألف تسعمائة وتسعون قالوا: ولفظ نصيب يتناول القليل فقط. والنص إنّ أتباع إبليس هم الكثير بدليل: {لأحتنكن ذريته إلا قليلاً} {فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين} وهذا متعارض.
وأجيب أن التفاوت إنما يحصل في نوع البشر، أما إذا ضممت أنواع الملائكة مع كثرتهم إلى المؤمنين كانت الكثرة للمؤمنين. وأيضاً فالمؤمنون وإن كانوا قليلين في العدد، نصيبهم عظيم عند الله تعالى. والكفار والفساق وإن كانوا كثيرين فهم كالعدم. انتهى تلخيص ما أحب به. والذي أقول: إنّ لفظ نصيب لا يدل على القليل والكثير، بدليل قوله: {للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون} الآية. والواو: قيل عاطفة، وقيل واو الحال.
{ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرنَّ خلق الله} هذه خمسة أقسم إبليس عليها: أحدها: اتخاذ نصيب من عباد الله وهو اختياره إياهم. والثاني: إضلالهم وهو صرفهم عن الهداية وأسبابها. والثالث: تمنيته لهم وهو التسويل، ولا ينحصر في نوع واحد، لأنه يمني كل إنسان بما يناسب حاله من طول عمر وبلوغ وطر وغير ذلك، وهي كلها أماني كواذب باطلة.
وقيل: الأماني تأخير التوبة. وقيل: هي اعتقاد أن لا جنة ولا نار، ولا بعث ولا حساب. وقال الزمخشري: ولأمنينهم الأماني الباطلة من طول الأعمار، وبلوغ الآمال، ورحمة الله تعالى للمجرمين بغير توبة، والخروج من النار بعد دخولها بالشفاعة، ونحو ذلك انتهى. وهذا على منزعه الاعتزالي وولوعه بتفسير كتاب الله عليه من غير إشعار لفظ القرآن بما يقوله وينحله. والرابع: أمره إياهم الناشئ عنه تبتيك آذان الأنعام، وهو فعلهم بالبحائر كانوا يشقون آذان الناقة إذا ولدت خمسة أبطن. وجاء الخامس ذكرا وحرموا على أنفسهم الانتفاع بها قاله: عكرمة، وقتادة، والسدي. وقيل: فيه إشارة إلى كل ما جعله الله كاملاً بفطرته، فجعل الإنسان ناقصاً بسوء تدبيره. والخامس أمره إياهم الناشئ عنه تغيير خلق الله تعالى.
قال ابن عباس، وابراهيم، ومجاهد، والحسن، وقتادة، وغيرهم. أراد تغيير دين الله، ذهبوا في ذلك إلى الاحتجاج بقوله: {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله} أي لدين الله. والتبديل يقع موقعه التغيير، وإن كان التغيير أعم منه. ولفظ لا تبديل لخلق الله خبر، ومعناه: النهي. وقالت فرقة منهم الزجاج: هو جعل الكفار آلهة لهم ما خلق للاعتبار به من الشمس والنار والحجارة، وغير ذلك مما عبدوه. وقال ابن مسعود، والحسن: هو الوشم وما جرى مجراه من التصنع للتحسين، فمن ذلك الحديث في: «لعن الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات المغيرات خلق الله ولعن الواصلة والمستوصلة» انتهى.
وقال ابن عباس أيضاً وأنس، وعكرمة، وأبو صالح، ومجاهد، وقتادة أيضاً: هو الخصاء، وهو في بني آدم محظور. وكره أنس خصاء الغنم، وقد رخص جماعة فيه لمنفعة السمن في المأكول، ورخص عمر بن عبد العزيز في خصاء الخيل. وقيل للحسن: إن عكرمة قال؛ هو الخصاء قال: كذب عكرمة، هو دين الله تعالى. وقيل: التخنث. وقال الزمخشري: هو فقء عين الحامي وإعفاؤه عن الركوب انتهى. وناسب هذا أنه ذكر أثر ذلك تبتيك آذان الأنعام، فناسب أن يكون التغيير هذا. وقيل: تغيير خلق الله هو أنَّ كل ما يوجده الله لفضيلة فاستعان به في رذيلة فقد غير خلقه. وقد دخل في عمومه ما جعله الله تعالى للإنسان من شهوة الجماع ليكون سبباً للتناسل على وجه مخصوص، فاستعان به في السفاح واللواط، فذلك تغيير خلق الله. وكذلك المخنث إذا نتف لحيته، وتقنع تشبهاً بالنساء، والفتاة إذا ترجلت متشبهة بالفتيان. وكل ما حلله الله فحرموه، أو حرمه تعالى فحللوه. وعلى ذلك: {قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاًً} وإلى هذه الجملة أشار المفسرون، ولهذا قالوا: هو تغيير أحكام الله.
وقيل: هو تغيير الإنسان بالاستلحاق أو النفي. وقيل: خضاب الشيب بالسواد. وقيل: معاقبة الولاة بعض الجناة بقطع الآذان، وشق المناخر، وكل العيون، وقطع الأنثيين. ومن فسر بالوشم أو الخصاء أو غير ذلك مما هو خاص في التغيير، فإنما ذلك على جهة التمثيل لا الحصر. وفي حديث عياض المجاشعي: «وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإن الشياطين ألهتهم وأحالتهم عن دينهم، فحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن لا يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً، وأمرتهم أن لا يغيروا خلقي». ومفعول أمر الثاني محذوف أي: ولآمرنهم بالتبتيك فيبتكن، ولآمرنهم بالتغير فليغيرن. وحذف لدلالة ما بعده عليه. وقرأ أبو عمرو: ولآمرنهم بغير ألف، كذا قاله ابن عطية. وقرأ أبي: وأضلنهم وأمنينهم وآمرنهم انتهى. فتكون جملاً مقولة، لا مقسماً عليها. وجاء ترتيب هذه الجمل المقسم عليها في غاية من الفصاحة، بدأ أولاً باستخلاص الشيطان نصيباً منهم واصطفائه إياهم، ثم ثانياً بإضلالهم وهو عبارة عما يحصل في عقائدهم من الكفر، ثم ثالثاً بتمنيتهم الأماني الكواذب والإطماعات الفارغة، ثم رابعاً بتبتيك آذان الأنعام، هو حكم لم يأذن الله فيه، ثم خامساً بتغيير خلق الله وهو شامل للتبتيك وغيره من الأحكام التي شرعها لهم. وإنما بدأ بالأمر بالتبتيك وإن كان مندرجاً تحت عموم التغيير، ليكون ذلك استدراجاً لما يكون بعده من التغيير العام، واستيضاحاً من إبليس طواعيتهم في أول شيء يلقيه إليهم، فيعلم بذلك قبولهم له. فإذا قبلوا ذلك أمرهم بجميع التغييرات التي يريدها منهم، كما يفعل الإنسان بمن يقصد خداعه: يأمره أولاً بشيء سهل، فإذا رآه قد قبل ما ألقاه إليه من ذلك أمره بجميع ما يريد منه. وإقسام إبليس على هذه الأشياء ليفعلنها يقتضي علم ذلك، وأنها تقع إمّا لقوله تعالى. {لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين} أو لكونه علم ذلك من جهة الملائكة، أو لكونه لما استنزل آدم علم أن ذريته أضعف منه.
{ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً} أي من يؤثر حظ الشيطان على حظه من الله. وكأنه لما قال إبليس: لأتخذن من عبادك نصيباً، فذكر أنه يصطفيهم لنفسه، أخبر أنهم قبلوا ذلك الاتخاذ وانفعلوا له، فاتخذوه ولياً من دون الله. والوليّ هنا قال مقاتل: بمعنى الرب. وقال أبو سليمان الدمشقي: من الموالاة، ورتب على هذا الاتخاذ الخسران المبين، لأن من ترك حظه من الله لحظ الشيطان فقد خسرت صفقته. وقوله: من دون الله، قيد لازم. لأنه لا يمكن أن يتخذ الشيطان ولياً إلا إذا لم يتخذ الله ولياً، ولا يمكن أن يتخذ الشيطان ولياً ويتخذ الله ولياً، لأنهما طريقان متباينان، لا يجتمعان هدى وضلالة. وهذه الجملة الشرطية محذرة من اتباع الشيطان.
{يَعِدُهُمْ وَيُمَنّيهِمْ} لفظان متقاربان والمعنى: أن الذي أقسم عليه مِن أن يمنيهم وقع بإخبار الله تعالى عنه بذلك، واكتفى من الإخبار عن وقوع تلك الجمل التي أقسم عليها إبليس بوضوحها وظهورها.
ولما كان الوعد والتمنية من أمور الباطن، أخبر الله عنه بها. والمعنى: أنه يعدهم بالأمور الباطلة والزخارف الكاذبة، وأنه لا ثواب ولا عقاب.
{وما يعدهم الشيطان إلا غروراً} قرأ الأعمش: وما يعدهم يسكون الدال، خفف لتوالي الحركات. وتقدّم تفسير الغرور ومعناه: هنا الخدع التي تظن نافعة، ويكشف الغيب أنها ضارة. واحتمل النصب أن يكون مفعولاً ثانياً، أو مفعولاً من أجله، أو مصدراً على غير الصدر لتضمين يعدهم معنى يغرهم، ويكون ثم وصف محذوف أي: إلا غروراً واضحاً أو نحوه، أو نعتاً لمصدر محذوف أي: وعداً غروراً. أي: ذا غرور.
{أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصاً} أخبر تعالى أنّ المكان الذي يأوون إليه ويستقرون فيه هو جهنم، وأنهم لا يجدون عنها مراغاً يروغون إليه. وعنها: لا يجوز أن تتعلق بمحذوف، لأنها لا تتعدّى بعن، ولا بمحيصا وإن كان المعنى عليه لأنه مصدر، فيحتمل أن يكون ذلك تبييناً على إضماراً عني. وجوزوا أن يكون حالاً من محيص، فيتعلق بمحيص أي: كائناً عنها، ولو تأخر لكان صفة.
{والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً} لما ذكر مأوى الكفار، ذكر مأوى المؤمنين، وأسند الفعل إلى نون العظمة، اعتناء بأنه تعالى هو الذي يتولى إدخالهم الجنة وتشريفاً لهم. وقرئ: سيدخلهم بالياء. ولما رتب تعالى مصير مَن كان تابعاً لإبليس إلى النار لإشراكه وكفره وتغيير أحكام الله تعالى، رتّب هنا دخول الجنة على الإيمان وعمل الصالحات.
{وَعْدَ الله حَقّا} لما ذكر أنّ وعد الشيطان هو غرور باطل، ذكر أنّ هذا الوعد منه تعالى هو الحق الذي لا ارتياب فيه، ولا شك في إنجازه. والذين مبتدأ، وسيدخلهم الخبر. ويجوز أن يكون من باب الاشتغال أي: وسندخل الذين آمنوا سندخلهم. وانتصب وعد الله حقاً على أنه مصدر مؤكد لغيره، فوعد الله مؤكداً لقوله: سيدخلهم، وحقاً مؤكد لوعد الله.
{ومن أصدق من الله قيلاً} القيل والقول واحد، أي: لا أحد أصدق قولاً من الله. وهي جملة مؤكدة أيضاً لما قبلها. وفائدة هذه التواكيد المبالغة فيما أخبر به تعالى عباده المؤمنين، بخلاف مواعيد الشيطان وأمانته الكاذبة المخلفة لأمانيه.
{ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب} قال ابن عباس، والضحاك، وأبو صالح، ومسروق، وقتادة، والسدي، وغيرهم: الخطاب للأمة. قال بعضهم: اختلفوا مع قوم من أهل الكتاب فقالوا: ديننا أقدم من دينكم. وأفضل، فنبينا قبل نبيكم. وقال المؤمنون: كتابنا يقضي على الكتب، ونبينا خاتم الأنبياء، ونحو هذا من المحاورة فنزلت. وقال مجاهد وابن زيد: الخطاب لكفار قريش، وذلك أنهم قالوا: لن نبعث ولن نعذب، وإنما هي حياتنا لنا فيها النعيم، ثم لا عذاب.
وقالت اليهود: نحن أبناء الله وأحباؤه. إلى نحو هذا من الأقوال كقولهم
{لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى} فرد الله تعالى على الفريقين.
وقال الزمخشري في ليس: ضمير وعد الله، أي: ليس ينال ما وعد الله من الثواب بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب. والخطاب للمسلمين، لأنه لا يتمنى وعد الله إلا من آمن به، ولذلك ذكر أهل الكتاب معهم لمشاركتهم لهم في الإيمان. وعن الحسن: ليس الإيمان بالتمني، ولكن ما وقر في القلب، وصدقه العمل. إنَّ قوماً ألهتم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، وقالوا: نحسن الظن بالله، وكذبوا لو أحسنوا الظن به لأحسنوا العمل. ويحتمل أن يكون الخطاب للمشركين لقولهم: إن كان الأمر كما يزعم هؤلاء لنكونن خيراً منهم وأحسن حالاً، لأوتين مالاً وولداً إن لي عنده للحسنى. وكان أهل الكتاب يقولون: نحن أبناء الله وأحباؤه لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة، ويعضده تقدم ذكر أهل الشرك انتهى.
وعلى هذه الأقوال وقع الاختلاف في اسم ليس، وأقربها أنَّ الذي يعود الضمير عليه هو الوعد من أنه تعالى يدخلهم الجنة، ويليه أن يعود على الإيمان المفهوم من قوله: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات} كما ذهب إليه الحسن، ثم إنه يعود على ما وقعت فيه محاورة المؤمنين وأهل الكتاب، أو ما قالته قريش وأهل الكتاب على ما مر ذكره. وقال الحوفي: اسم ليس مضمر فيها على معنى: ليس الثواب عن الحسنات ولا العقاب على السيئات بأمانيكم، لأنّ الاستحقاق إنما يكون بالعمل، لا بالأماني. وقال أبو البقاء: ليس مضمر فيها ولم يتقدم له ذكر، وإنما دل عليه سبب الآية، وذلك أن اليهود والنصارى قالوا: نحن أصحاب الجنة. وقال المشركون: لا نبعث. فقال: ليس بأمانيكم أي: ليس ما ادعيتموه بأمانيكم. وقرأ الحسن، وأبو جعفر، وشيبة بن نصاح، والحكم، والأعرج: بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب ساكنة الياء، جمع على فعالل، كما يقال: قراقير وقراقر، جمع قرقور.
{من يعمل سوءاً يجز به} قال الجمهور: اللفظ عام، والكافر والمؤمن مجازيان بالسوء يعملانه. فمجازاة الكافر النار، والمؤمن بنكبات الدنيا. فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: لما نزلت قلت: يا رسول الله ما أشد هذه الآية جاءت قاصمة الظهر، فقال صلى الله عليه وسلم: «إنما هي المصيبات في الدنيا» وقالت بمثل هذا التأويل عائشة رضي الله عنها. وقال به: أبي بن كعب، وسأله الربيع بن زياد عن معنى الآية وكأنه خافها فقال له: أي ما كنت أظنك إلا أفقه مما أرى، ما يصيب الرجل خدش أو غيره إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر.
وخصص الحسن، وابن زيد بالكفار يجازون على الصغائر والكبائر. وقال الضحاك: يعني اليهود والنصارى والمجوس وكفار العرب، ورأى هؤلاء أن الله تعالى وعد المؤمنين بتكفير السيئات. وخصص السوء ابن عباس، وابن جبير بالشرك. وقيل: السوء عام في الكبائر.
{ولا يجدون لهم من دون الله ولياً ولا نصيراً} روى ابن بكار عن ابن عامر ولا يجد بالرفع على القطع.
{ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة} مِن الأولى هي للتبعيض، لأن كل واحد لا يتمكن من عمل كل الصالحات، وإنما يعمل منها ما هو تكليفه وفي وسعه. وكم مكلف لا يلزمه زكاة ولا حج ولا جهاد، وسقطت عنه الصلاة في بعض الأحوال على بعض المذاهب. وحكى الطبري عن قوم: أنّ من زائدة، أي: ومن يعمل الصالحات. وزيادة من في الشرط ضعيف، ولاسيما وبعدها معرفة. ومِن الثانية لتبيين الإبهام في: ومن يعمل. وتقدم الكلام في أوفى قوله: {لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى} وهو مؤمن. جملة حالية، وقيد في عمل الإنسان لأنه لو عمل من الأعمال الصالحة ما عمل فلا ينفعه إلا إن كان مؤمناً. قال الزمخشري: وإذا أبطل الله الأماني وأثبت أن الأمر كله معقود بالعمل الصالح وأن من أصلح عمله فهو الفائز، ومن أساء عمله فهو الهالك، تبين الأمر ووضح، ووجب قطع الأماني وحسم المطامع، والإقبال على العمل الصالح، ولكنه نصح لا تعيه الآذان، ولا تلقى إليه الأذهان انتهى. والذي تدل عليه الآية أن الإيمان شرط في الانتفاع بالعمل، لأنّ العمل شرط في صحة الإيمان.
{ولا يظلمون نقيراً} ظاهره: أنه يعود إلى أقرب مذكور وهم المؤمنون، ويكون حكم الكفار كذلك. إذ ذكر أحد الفريقين يدل على الآخر، أنّ كلاهما يجزى بعمله، ولأنّ ظلم المسيء أنه يزاد في عقابه. ومعلوم أنه تعالى لا يزيد في عقاب المجرم، فكان ذكره مستغنى عنه. والمحسن له ثواب، وتوابع للثواب من فضل الله هي في حكم الثواب، فجاز أن ينقص من الفضل. فنفي الظلم دلالة على أنه لا يقع نقص في الفضل. ويحتمل أن يعود الضمير في: ولا يظلمون إلى الفريقين، عامل السوء، وعامل الصالحات. وقرأ: يدخلون مبنياً للمفعول هنا، وفي مريم، وأوّلي غافر بن كثير وأبو عمر وأبو بكر. وقرأ كذلك ابن كثير وأبو بكرفي ثانية غافر. وقرأ كذلك أبو عمرو في فاطر. وقرأ الباقون مبنياً للفاعل.
{ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن} تقدم الكلام على نحوه في قولين من أسلم وجهه لله وهو محسن.
{واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً} تقدم الكلام على ملة إبراهيم حنيفاً في قوله: {قل بل ملة إبراهيم حنيفاً} واتباعه. قال ابن عباس: في التوحيد. وقال أبو سليمان الدمشقي: في القيام لله بما فرضه.
وقيل: في جميع شريعته إلا ما نسخ منها.
{واتخذ الله إبراهيم خليلاً} هذا مجاز عن اصطفائه واختصاصه بكرامة تشبه كرامة الخليل عند خليله. وتقدم اشتقاق الخليل في المفردات. والجمهور: على أنها من الخلة وهي المودّة التي ليس فيها خلل. وقول محمد بن عيسى الهاشمي: إنه إنما سمي خليلاً لأنه تخلى عما سوى خليله. فإن كان فسر المعنى فيمكن، وإن كان أراد الاشتقاق فلا يصح لاختلاف المادتين. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا جبريل بمَ اتخذ الله ابراهيم خليلاً؟ قال: لإطعامه الطعام» والكرامة التي أكرمه الله بها ذكروها في قصة مطولة عن ابن عباس مضمونها: أن الله قلب له غرائر الرمل دقيقاً حواري عجن، وخبز وأطعم الناس منه. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتخذ الله ابراهيم خليلاً وموسى نجياً واتخذني حبيباً ثم قال: وعزتي وجلالي لأوثرن حبيبي على خليلي ونجييّ» لما أثنى على من اتبع ملة ابراهيم أخبر بمزيته عنده واصطفائه، ليكون ذلك أدعى إلى اتباعه. لأن من اختصه الله بالخلة جدير بأن يتبع أو ليبين أن تلك الخلة إنما سببها حنيفية ابراهيم عن سائر الأديان إلى دين الحق كقوله: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماماً} أي قدوة لإتمامك تلك الكلمات. ونبه بذلك على أنّ من عمل بشرعه كان له نصيب من مقامه. وليست هذه الجملة معطوفة على الجملة قبلها، لأن الجملة قبلها معطوفة على صلة مَن، ولا تصلح هذه للصلة، وإنما هي معطوفة على الجملة الاستفهامية التي معناها الخبر، أي: لا أحد أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله، نبهت على شرف المنبع وفوز المتبع. وقال الزمخشري: (فإن قلت): ما موقع هذه الجملة؟ (قلت): هي جملة اعتراضية لا محل لها من الإعراب كنحو ما يجيء في الشعر من قولهم: والحوادث جمة، وفائدتها تأكيد وجوب اتباع ملته، لأن من بلغ من الزلفى عند الله أن اتخذه خليلاً كان جديراً بأن تتبع ملته وطريقته انتهى. فإن عنى بالاعتراض غير المصطلح عليه في الضوء فيمكن أن يصح قوله، كأنه يقول: اعترضت الكلام. وإن عنى بالاعتراض المصطلح عليه فليس بصحيح، إذ لا يعترض إلا بين مفتقرين كصلة وموصول، وشرط وجزاء، وقسم ومقسم عليه، وتابع ومتبوع، وعامل ومعمول، وقوله: كنحو ما يجيء في الشعر من قولهم: والحوادث جمة، فالذي نحفظه أن مجيء الحوادث جمة إنما هو بين مفتقرين نحو قوله:
وقد أدركتني والحوادث جمة ** أسنة قوم لا ضعاف ولا عزل

ونحو قال الآخر:
ألا هل أتاها والحوادث جمة ** بأن أمرأ القيس بن تملك بيقرا

ولا نحفظه جاء آخر كلام.
{ولله ما في السموات وما في الأرض} لما تقدم ذكر عامل السوء وعامل الصالحات، أخبر بعظيم ملكه.
وملكه بجميع ما في السموات، وما في الأرض، والعالم مملوك له، وعلى المملوك طاعة مالكه. ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة لما ذكرناه، ولما تقدم ذكر الخلة، فذكر أنه مع الخلة عبد الله، وأن الخلة ليست لاحتياج، وإنما هي خلة تشريف منه تعالى لابراهيم عليه السلام مع بقائه على العبودية.
{وَكَانَ الله بِكُلّ شَئ مُّحِيطاً} أي: عالماً بكل شيء من الجزئيات والكليات، فهو يجازيهم على أعمالهم خيرها وشرها، قليلها وكثيرها.
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعاً من الفصاحة والبلاغة والبيان والبديع. منها التجنيس المغاير في: فقد ضل ضلالاً، وفي: فقد خسر خسراناً، وفي: ومن أحسن وهو محسن. والتكرار في: لا يغفر ويغفر، وفي: يشرك ومن يشرك، وفي: لآمرنهم، وفي: اسم الشيطان، وفي: يعدهم وما يعدهم، وفي: الجلالة في مواضع، وفي: بأمانيكم ولا أماني، وفي: من يعمل ومن يعمل، وفي: ابراهيم. والطباق المعنوي في: ومن يشاقق والهدى، وفي: أن يشرك به ولمن يشاء يعني المؤمن، وفي: سواء والصالحات. والاختصاص في: بصدقة أو معروف أو إصلاح، وفي: وهو مؤمن، وملة ابراهيم، وفي: ما في السموات وما في الأرض. والمقابلة في: من ذكر أو أنثى. والتأكيد بالمصدر في: وعد الله حقاً. والاستعارة في: وجهه لله عبر به عن القصد أو الجهة وفي: محيطاً عبر به عن العلم بالشيء من جميع جهاته. والحذف في عدة مواضع.