فصل: تفسير الآيات (18- 32):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (18- 32):

{كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32)}
تقدمت قصة عاد مطولة ومتوسطة، وهنا ذكرها تعالى موجزة، كما ذكر قصة نوح عليه السلام موجزة. ولما لم يكن لقوم نوح علم، ذكر قوم مضافاً إلى نوح. ولما كانت عاد علماً لقوم هود، ذكر العلم، لأنه أبلغ في الذكر من التعريف بالإضافة. وتكرر التهويل بالاستفهام قبل ذكر ما حل بهم وبعده، لغرابة ما عذبوا به من الريح، وانفرادهم بهذا النوع من العذاب، ولأن الاختصار داعية الاعتبار والتدبر والصرصر الباردة، قاله ابن عباس والضحاك وقتادة. وقيل، المصوتة والجمهور: على إضافة يوم إلى نحس، وسكون الحاء. وقرأ الحسن: بتنوين يوم وكسر الحاء، جعله صفة لليوم، كقوله تعالى: {في أيام نحسات} {مستمر}، قال قتادة: استمر بهم حتى بلغهم جهنم. وعن الحسن والضحاك: كان مراً عليهم. وروي أنه كان يوم الأربعاء، والذي يظهر أنه ليس يوماً معيناً، بل أريد به الزمان والوقت، كأنه قيل: في وقت نحس. ويدل على ذلك أنه قال في سورة فصلت: {فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً في أيامٍ نحساتٍ} وقال في الحاقة: {سخرها عليهم سبع ليالٍ وثمانية أيامٍ حسوماً} إلا أن يكون ابتداء الريح في يوم الأربعاء، فعبر بوقت الابتداء، وهو يوم الأربعاء، فيمكن الجمع بينها.
{تنزع الناس}: يجوز أن يكون صفة للريح، وأن يكون حالاً منها، لأنها وصفت فقربت من المعرفة. ويحتمل أن يكون تنزع مستأنفاً، وجاء الظاهر مكان المضمر ليشمل ذكورهم وإناثهم، إذ لو عاد بضمير المذكورين، لتوهم أنه خاص بهم، أي تقلعهم من أماكنهم. قال مجاهد: يلقى الرجل على رأسه، فتفتت رأسه وعنقه وما يلي ذلك من بدنه. وقيل: كانوا يصطفون آخذي بعضهم بأيدي بعض، ويدخلون في الشعاب، ويحفرون الحفر فيندسون فيها، فتنزعهم وتدق رقابهم. والجملة التشبيهية حال من الناس، وهي حال مقدرة. وقال الطبري: في الكلام حذف تقديره: فتتركهم. {كأنهم أعجاز نخل}: فالكاف في موضع نصب بالمحذوف شبههم، بأعجاز النخل المنقعر، إذ تساقطوا على الأرض أمواتاً وهم جثث عظام طوال. والأعجاز: الأصول بلا فروع قد انقلعت من مغارسها. وقيل: كانت الريح تقطع رؤوسهم، فتبقى أجساداً بلا رؤوس، فأشبهت أعجاز النخل التي انقلعت من مغرسها. وقرأ أبو نهيك: أعجز على وزن أفعل، نحو ضبع وأضبع. والنخل اسم جنس يذكر ويؤنث، وإنما ذكر هنا لمناسبة الفواصل، وأنث في قوله: {أعجاز نخل خاوية} في الحاقة لمناسبة الفواصل أيضاً. وقرأ أبو السمال، فيما ذكر الهذلي في كتابه الكامل، وأبو عمرو والداني: برفعهما. فأبشر: مبتدأ، وواحد صفته، والخبر نتبعه. ونقل ابن خالويه، وصاحب اللوامح، وابن عطية رفع أبشر ونصب واحداً عن أبي السمال. قال صاحب اللوامح: فأما رفع أبشر فبإضمار الخبر بتقدير: أبشر منا يبعث إلينا، أو يرسل، أو نحوهما؟ وأما انتصاب واحداً فعلى الحال، إما مما قبله بتقدير: أبشر كائن منا في الحال توحده، وإما مما بعده بمعنى: نتبعه في توحده، أو في انفراده.
وقال ابن عطية: ورفعه إما على إضمار فعل مبني للمفعول، التقدير: أينبأ بشر؟ وإما على الابتداء، والخبر في قوله: {نتبعه}، وواحداً على هذه القراءة حال إما من الضمير في نتبعه، وإما من المقدر مع منا، كأنه يقول: أبشر كائن منا واحداً؟ وفي هذا نظر. وقولهم ذلك حسد منهم واستبعاد أن يكون نوع البشر يفضل بعضه بعضاً هذا الفضل، فقالوا: نكون جمعاً ونتبع واحداً، ولم يعلموا أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، ويفيض نور الهدى على من رضيه. انتهى.
وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف أنكروا أن يتبعوا بشراً منهم واحداً؟ قلت: قالوا: أبشراً إنكاراً؟ لأن يتبعوا مثلهم في الجنسية، وطلبوا أن يكونوا من جنس أعلى من جنس البشر، وهم الملائكة، وقالوا منا، لأنه إذا كان منهم، كانت المماثلة أقوى، وقالوا واحداً إنكاراً، لأن تتبع الأمة رجلاً واحداً، وأرادوا واحداً من أبنائهم ليس بأشرفهم ولا أفضلهم، ويدل عليه. {أألقي الذكرعليه من بيننا}: أي أأنزل عليه الوحي من بيننا؟ وفينا من هو أحق منه بالاختيار للنبوة. انتهى، وهو حسن، على أن فيه تحميل اللفظ ما لا يحتمله. {إنا إذا}: أي إن اتبعناه، فنحن في ضلال: أي بعد عن الصواب وحيرة. وقال الضحاك: في تيه. وقال وهب: بعد عن الحق، {وسعر}: أي عذاب، قاله ابن عباس. وعنه وجنون يقال: ناقة مسعورة إذا كانت تفرط في سيرها كأنها مجنونة، وقال الشاعر:
كأن بها سعراً إذا العيس هزها ** زميل وإزجاء من السير متعب

وقال قتادة: وسعر: عناء. وقال ابن بحر: وسعر جمع سعير، وهو وقود النار، أي في خطر كمن هو في النار. انتهى. وروي أنه كان يقول لهم: إن لم تتبعوني، كنتم في ضلال عن الحق وسعر: أي نيران، فعكسوا عليه فقالوا: إن اتبعناك كنا إذاً كما تقول. ثم زادوا في الإنكار والاستبعاد فقالوا: {أألقي}: أي أأنزل؟ قيل: وكأنه يتضمن العجلة في الفعل، والعرب تستعمل هذا الفعل، ومنه: {وألقَيت عليك محبة مني} {إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً} والذكر هنا: الوحي والرسالة وما جاءهم من الحكمة والموعظة. ثم قالوا: ليس الأمر كما تزعم بل هو القرآن. {أشر}: أي بطر، يريد العلوّ علينا، وأن يقتادنا ويتملك طاعتنا. وقرأ قتادة وأبو قلابة: بل هو الكذاب الأشر، بلام التعريف فيهما وبفتح الشين وشد الراء، وكذا الأشر الحرف الثاني. وقرأ الحرف الثاني مجاهد، فيما ذكر صاحب اللوامح وأبو قيس الأودي الأشر بثلاث ضمات وتخفيف الراء. ويقال: أشر وأشر، كحذر وحذر، فضمة الشين لغة وضم الهمزة تبع لضمة الشين. وحكى الكسائي عن مجاهد: ضم الشين.
وقرأ أبو حيوة: هذا الحرف الآخر الأشر أفعل تفضيل، وإتمام خير، وشر في أفعل التفضيل قليل. وحكى ابن الأنباري أن العرب تقول: هو أخير وهو أشر. قال الراجز.
بلال خير الناس وابن الأخير

وقال أبو حاتم: لا تكاد العرب تتكلم بالأخير والأشر إلا في ضرورة الشعر، وأنشد قول رؤبة بلال البيت. وقرأ علي والجمهور: سيعلمون بياء الغيبة، وهو من إعلام الله تعالى لصالح عليه السلام؛ وابن عامر وحمزة وطلحة وابن وثاب والأعمش: بتاء الخطاب: أي قل لهم يا صالح وعداً يراد به الزمان المستقبل، لا اليوم الذي يلي يوم خطابهم، فاحتمل أن يكون يوم العذاب الحال بهم في الدنيا، وأن يكون يوم القيامة، وقال الطرماح:
ألا عللاني قبل نوح النوائح ** وقبل اضطراب النفس بين الجوانح

وقبل غد يا لهف نفسي في غد ** إذا راح أصحابي ولست برائح

أراد وقت الموت، ولم يرد غداً بعينه. وفي قوله: {سيعلمون غداً} تهديد ووعيد ببيان انكشاف الأمر، والمعنى: أنهم هم الكذابون الأشرون. وأورد ذلك مورد الإبهام والاحتمال، وإن كانوا هم المعنيين بقوله تعالى، حكاية عن قول نوح عليه الصلاة والسلام: {فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه} والمعنى به قومه، وكذا قول شعيب عليه السلام: {سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب} وقول الشاعر:
فلئن لقيتك خاليين لتعلمن ** أني وأيك فارس الأحزاب

وإنما عنى أنه فارس الأحزاب، لا الذي خاطبه. {إنا مرسلوا الناقة فتنة لهم}: أي ابتلاء واختباراً، وآنس بذلك صالحاً. ولما هددهم بقوله: {سيعلمون غداً}، وكانوا قد ادعوا أنه كاذب، قالوا: ما الدليل على صدقك؟ قال الله تعالى: {إنا مرسلوا الناقة}: أي مخرجوها من الهضبة التي سألوها. {فارتقبهم}: أي فانتظرهم وتبصر ما هم فاعلون، {واصطبر} على أذاهم ولا تعجل حتى يأتي أمر الله. {ونبئهم أن الماء}: أي ماء البئر الذي لهم، {قسمة بينهم}: أي بين ثمود وبين الناقة غلب ثمود، فالضمير في بينهم لهم وللناقة. أي لهم شرب يوم، وللناقة شرب يوم. وقرأ الجمهور: قسمة بكسر القاف؛ ومعاذ عن أبي عمرو: بفتحها. {كل شرب محتضر} أي محضور لهم وللناقة. وتقدمت قصة الناقة مستوفاة، فأغنى عن إعادتها، وهنا محذوف، أي فكانوا على هذه الوتيرة من قسمة الماء، فملوا ذلك وعزموا على عقر الناقة. {فنادوا صاحبهم}، وهو قدار بن سالف، {فتعاطى}: هو مطاوع عاطى، وكأن هذه الفعلة تدافعها الناس وعاطاها بعضهم بعضاً، فتعاطاها قدار وتناول العقر بيده. ولما كانوا راضين، نسب ذلك إليهم في قوله: {فعقروا الناقة} وفي قوله: {فكذبوه فعقروها} والصيحة التي أرسلت عليهم.
يروى أن جبريل عليه السلام صاح في طرف منازلهم، فتفتتوا وهمدوا وصاروا {كهشيم المحتظر} وهو ما تفتت وتهضم من الشجر. والمحتظر: الذي يعمل الحظيرة، فإنه تتفتت منه حالة العمل وتتساقط أجزاء مما يعمل به، أو يكون الهشيم ما يبس من الحظيرة بطول الزمان، تطأه البهائم فيتهشم.
وقرأ الجمهور: بكسر الظاء؛ وأبو حيوة وأبو السمال وأبو رجاء وأبو عمرو بن عبيد: بفتحها، وهو موضع الاحتظار. وقيل: هو مصدر، أي كهشيم الاحتظار، وهو ما تفتت حالة الاحتظار. والحظيرة تصنعها العرب وأهل البوادي للمواشي والسكنى من الأغصان والشجر المورق والقصب. والحظر: المنع؛ وعن ابن عباس وقتادة، أن المحتظر هو المحترق. قال قتادة: كهشيم محترق؛ وعن ابن جبير: هو التراب الذي يسقط من الحائط البالي. وقيل: المحتظر بفتح الظاء هو الهشيم نفسه، فيكون من إضافة الموصوف إلى صفته، كمسجد الجامع على من تأوله كذلك، وكان هنا قيل: بمعنى صار.

.تفسير الآيات (33- 55):

{كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آَلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) وَلَقَدْ جَاءَ آَلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)}
تقدمت قصة لوط عليه السلام وقومه. والحاصب من الحصباء، وهو المعنيّ بقوله تعالى: {وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل} {إلا آل لوط}، قيل: إلا ابنتاه، و{بسحر}: هو بكرة، فلذلك صرف، وانتصب {نعمة} على أنه مفعول من أجله، أي نجيناهم لإنعامنا عليهم أو على المصدر، لأن المعنى: أنعمنا بالتنجية إنعاماً. {كذلك نجزي}: أي مثل ذلك الإنعام والتنجية نجزي {من شكر} إنعامنا وأطاع وآمن. {ولقد أنذرهم بطشتنا}: أي أخذتنا لهم بالعذاب، {فتماروا}: أي تشككوا وتعاطوا ذلك، {بالنذر}: أي بالإنذار، أو يكون جمع نذير. {فطمسنا}، قال قتادة: الطمس حقيقة جر جبريل عليه السلام على أعينهم جناحه، فاستوت مع وجوههم. وقال أبو عبيدة: مطموسة بجلد كالوجه. قيل: لما صفقهم جبريل عليه السلام بجناحه، تركهم يترددون لا يهتدون إلى الباب، حتى أخرجهم لوط عليه السلام. وقال ابن عباس والضحاك: هذه استعارة، وإنما حجب إدراكهم، فدخلوا المنزل ولم يروا شيئاً، فجعل ذلك كالطمس. وقرأ الجمهور: فطمسنا بتخفيف الميم؛ وابن مقسم: بتشديدها. {فذوقوا}: أي فقلت لهم على ألسنة الملائكة: ذوقوا.
{ولقد صبحهم بكرة}: أي أول النهار وباكره، لقوله: {مشرقين} و{مصبحين} وقرأ الجمهور: بكرة بالتنوين، أراد بكرة من البكر، فصرف. وقرأ زيد بن علي: بغير تنوين. {عذاب مستقر}: أي لم يكشفه عنهم كاشف، بل اتصل بموتهم، ثم بما بعد ذلك من عذاب القبر، ثم عذاب جهنم. {فذوقوا عذابي ونذر}: توكيد وتوبيخ ذلك عند الطمس، وهذا عند تصبيح العذاب. قيل: وفائدة تكرار هذا، وتكرار {ولقد يسرنا}، التجرد عند استماع كل نبأ من أنباء الأولين، للاتعاظ واستئناف التيقظ إذا سمعوا الحث على ذلك لئلا تستولي عليهم الغفلة، وهكذا حكم التكرير لقوله: {فبأي آلاء ربكما تكذبان} عند كل نعمة عدها في سورة الرحمن. وقوله: {ويل يومئذ للمكذبين} عند كل آية أوردها في سورة والمرسلات، وكذلك تكرير القصص في أنفسها، لتكون العبرة حاضرة للقلوب، مذكورة في كل أوان.
{ولقد جاء آل فرعون النذر}: هم موسى وهارون وغيرهما من الأنبياء، لأنهما عرضا عليهم ما أنذر به المرسلون، أو يكون جمع نذير المصدر بمعنى الإنذار. {كذبوا بآياتنا} هي التسع، والتوكيد هنا كهو في قوله: {ولقد أريناه آياتنا كلها} والظاهر أن الضمير في: {كذبوا}، وفي: {فأخذناهم} عائد على آل فرعون. وقيل: هو عائد على جميع من تقدم من الأمم ذكره، وتم الكلام عند قوله: {النذر}. {فأخذناهم أخذ عزيز}: لا يغالب، {مقتدر}: لا يعجز شيء. {أكفاركم}: خطاب لأهل مكة، {خير من أولئكم}: الإشارة إلى قوم نوح وهود وصالح ولوط، وإلى فرعون، والمعنى: أهم خير في القوّة وآلات الحروب والمكانة في الدنيا، أو أقل كفؤاً وعناداً؟ فلأجل كونهم خيراً لا يعاقبون على الكفر بالله، وقفهم على توبيخهم، أي ليس كفاركم خيراً من أولئكم، بل هم مثلهم أو شرّ منهم، وقد علمتم ما لحق أولئك من الهلاك المستأصل لما كذبوا الرسل.
{أم لكم براءة في الزبر}: أي ألكم في الكتب الإلهية براءة من عذاب الله تعالى؟ قاله الضحاك وعكرمة وابن زيد.
{أم يقولون نحن جميع} أي واثقون بجماعتنا، منتصرون بقوتنا، تقولون ذلك على سبيل الإعجاب بأنفسكم. وقرأ الجمهور: أم يقولون، بياء الغيبة التفاتاً، وكذا ما بعده للغائب. وقرأ أبو حيوة وموسى الأسواري وأبو البرهشيم: بتاء الخطاب للكفار، اتباعا لما تقدم من خطابهم. وقرأوا: ستهزم الجمع، بفتح التاء وكسر الزاي وفتح العين، خطاباً للرسول صلى الله عليه وسلم؛ وأبو حيوة أيضاً ويعقوب: بالنون مفتوحة وكسر الزاي وفتح العين؛ والجمهور: بالياء مبنياً للمفعول، وضم العين. وعن أبي حيوة وابن أبي عبلة أيضاً: بفتح الياء مبنياً للفاعل ونصب العين: أي سيهزم الله الجمع. والجمهور: {ويولون} بياء الغيبة؛ وأبو حيوة وداود بن أبي سالم، عن أبي عمرو: بتاء الخطاب. والدبر هنا: اسم جنس، وجاء في موضع آخر {ليولن الأدبار} وهو الأصل، وحسن اسم الجنس هنا كونه فاصلة. وقال الزمخشري: {ويولون الدبر}: أي الأدبار، كما قال: كلوا في بعض بطنكم تعفوا. وقرئ: الأدبار. انتهى، وليس مثل بطنكم، لأن مجيء الدبر مفرداً ليس بحسن، ولا يحسن لإفراد بطنكم. وفي قوله تعالى: {سيهزم الجمع} عدة من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بهزيمة جمع قريش؛ والجمهور: على أنها مكية، وتلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم مستشهداً بها. وقيل: نزلت يوم بدر.
{بل الساعة موعدهم}: انتقل من تلك الأقوال إلى أمر الساعة التي عذابها أشد عليهم من كل هزيمة وقتال. {والساعة أدهى}: أي أفظع وأشد، والداهية الأمر: المنكر الذي لا يهتدى لدفعه، وهي الرزية العظمى تحل بالشخص. {وأمر} من المرارة: استعارة لصعوبة الشيء على النفس. {إن المجرمين في ضلال}: أي في حيرة وتخبط في الدنيا. {وسعر}: أي احتراق في الآخرة، جعلوا فيه من حيث مصيرهم إليه. وقال ابن عباس: وخسران وجنون، والسعر: الجنون، وتقدم مثله في قصة صالح عليه السلام. {يوم يسحبون}: يجرون {في النار}، وفي قراءة عبد الله: إلى النار. {على وجوههم ذوقوا}: أي مقولاً لهم: {ذوقوا مس سقر}. وقرأ محبوب عن أبي عمرو: مسقر، بإدغام السين في السين. قال ابن مجاهد: إدغامه خطأ لأنه مشدد. انتهى. والظن بأبي عمرو أنه لم يدغم حتى حذف إحدى السينين لاجتماع الأمثال، ثم أدغم.
{إنا كل شيء خلقناه بقدر}، قراءة الجمهور: كل شيء بالنصب. وقرأ أبو السمال، قال ابن عطية وقوم من أهل السنة: بالرفع. قال أبو الفتح: هو الوجه في العربية، وقراءتنا بالنصب مع الجماعة. وقال قوم: إذا كان الفعل يتوهم فيه الوصف، وأن ما بعده يصلح للخبر، وكان المعنى على أن يكون الفعل هو الخبر، اختير النصب في الاسم الأول حتى يتضح أن الفعل ليس بوصف، ومنه هذا الموضع، لأن في قراءة الرفع يتخيل أن الفعل وصف، وأن الخبر يقدر.
فقد تنازع أهل السنة والقدرية الاستدلال بهذه الآية. فأهل السنة يقولون: كل شيء فهو مخلوق لله تعالى بقدرة دليله قراءة النصب، لأنه لا يفسر في مثل هذا التركيب إلا ما يصح أن يكون خبراً لو وقع الأول على الابتداء. وقالت القدرية: القراءة برفع كل، وخلقناه في موضع الصفة لكل، أي إن أمرنا أو شأننا كل شيء خلقناه فهو بقدر أو بمقدار، على حد ما في هيئته وزمنه وغير ذلك. وقال الزمخشري: {كل شيء} منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر. وقرئ: كل شيء بالرفع، والقدر والقدر هو التقدير. وقرئ: بهما، أي خلقنا كل شيء مقدراً محكماً مرتباً على حسب ما اقتضته الحكمة، أو مقدراً مكتوباً في اللوح، معلوماً قبل كونه قد علمنا حاله وزمانه. انتهى. قيل: والقدر فيه وجوه: أحدها: أن يكون بمعنى المقدار في ذاته وصفاته. والثاني: التقدير، قال تعالى: {فقدرنا فنعم القادرون} وقال الشاعر:
وما قدّر الرحمن ما هو قادر

أي ما هو مقدور. والثالث: القدر الذي يقال مع القضاء، يقال: كان ذلك بقضاء الله وقدره، والمعنى: أن القضاء ما في العلم، والقدر ما في الإرادة، فالمعنى في الآية: {خلقناه بقدر}: أي بقدرة مع إرادة. انتهى. {وما أمرنا إلا واحدة}: أي إلا كلمة واحدة وهي: كن كلمح بالبصر، تشبيه بأعجل ما يحس، وفي أشياء أمر الله تعالى أوحى من ذلك، والمعنى: أنه إذا أراد تكوين شيء لم يتأخر عن إرادته. {ولقد أهلكنا أشياعكم}: أي الفرق المتشايعة في مذهب ودين. {وكل شي فعلوه}: أي فعلته الأمم المكذبة، محفوظ عليهم إلى يوم القيامة، قاله ابن عباس والضحاك وقتادة وابن زيد. ومعنى {في الزبر}: في دواوين الحفظة. {وكل صغير وكبير} من الأعمال، ومن كل ما هو كائن، {مستطر}: أي مسطور في اللوح. يقال: سطرت واستطرت بمعنى. وقرأ الأعمش وعمران بن حدير وعصمة عن أبي بكر: بشد راء مستطر. قال صاحب اللوامح: يجوز أن يكون من طرّ النبات، والشارب إذا ظهر وثبت بمعنى: كل شيء ظاهر في اللوح مثبت فيه. ويجوز أن يكون من الاستطار، لكن شدّد الراء للوقف على لغة من يقول: جعفرّ ونفعلّ بالتشديد وقفاً. انتهى، ووزنه على التوجيه الأول استفعل، وعلى الثاني افتعل. وقرأ الجمهور: ونهر على الإفراد، والهاء مفتوحة؛ والأعرج ومجاهد وحميد وأبو السمال والفياض بن غزوان: بسكونها، والمراد به الجنس، إن أريد به الأنهار، أو يكون معنى ونهر: وسعة في الأرزاق والمنازل، ومنه قول قيس بن الحطيم:
ملكت بها كفي فأنهرت فتقها ** يرى قائم من دونها ما وراءها

أي: أوسعت فتقها. وقرأ زهير العرقبي والأعمش وأبو نهيك وأبو مجلز واليماني: بضم النون والهاء، جمع نهر، كرهن ورهن، أو نهر كأسد وأسد، وهو مناسب لجمع جنات. وقيل: نهر جمع نهار، ولا ليل في الجنة، وهو بعيد. {في مقعد صدق}: يجوز أن يكون ضد الكذب، أي في المقعد الذي صدقوا في الخبر به، وأن يكون من قولك: رجل صدق: أي خير وجود وصلاح. وقرأ الجمهور: في مقعد، على الإفراد، يراد به اسم الجنس؛ وعثمان البتي: في مقاعد على الجمع؛ وعند تدل على قرب المكانة من الله تعالى، والله تعالى أعلم.