فصل: تفسير الآيات (29- 38):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (29- 38):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31) وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32) وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآَتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33) الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35) وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38)}
الجار: القريب المسكن منك، وألفه منقلبة عن واو لقولهم: جاورت، ويجمع على جيران وجيرة. والجنب: البعيد. والجنابة البعد قال:
فلا تحرمني نائلاً عن جنابة ** فإني امرؤ وسط القباب غريب

وهو من الاجتناب، وهو أن يترك الرجل جانباً. وقال تعالى: {واجنبني} أي بعدني، وهو وصف على فعل كناقة سرح.
المختال: المتكبر، وهو اسم فاعل من اختال، وألفه منقلبة عن ياء لقولهم: الخيلاء والمخيلة. ويقال: خال الرجل يخول خولاً إذا تكبر وأعجب بنفسه، فتكون هذه مادة أخرى، لأن تلك مركبة من خيل خ ي ل، وهذه مادة من خ ول. الفخور: فعول من فخر، والفخر عد المناقب على سبيل الشغوف والتطاول.
القرين: فعيل بمعنى مفاعل، من قارنه إذا لازمه وخالطه، ومنه سميت الزوجة قرينة. ومنه قيل لما يلزمن الإبل والبقر: قرينان، وللحبل الذي يشدان به قرن قال الشاعر:
وابن اللبون إذا ما لز في قرن ** لم يستطع صوله البزل القناعيس

وقال:
كمدخل رأسه لم يدنه أحد ** من القرينين حتى لزه القرن

{يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} تقدم شرح نظير هذه الجملة في قوله: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا} ومناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى لما بين كيفية التصرف في النفوس بالنكاح، بيّن كيفية التصرف في الأموال الموصلة إلى النكاح، وإلى ملك اليمين، وأن المهور والأثمان المبذولة في ذلك لا تكون مما ملكت بالباطل، والباطل هو كل طريق لم تبحه الشريعة، فيدخل فيه: السرقة، والخيانة، والغصب، والقمار، وعقود الربا، وأثمان البياعات الفاسدة، فيدخل فيه بيع العربان وهو: أن يأخذ منك السلعة ويكري الدابة ويعطي درهماً مثلاً عرباناً، فإن اشترى، أو ركب، فالدرهم من ثمن السلعة أو الكراء، وإلا فهو للبائع. فهذا لا يصح ولا يجوز عند جماهير الفقهاء، لأنه من باب أكل المال بالباطل. وأجاز قوم منهم: ابن سيرين، ومجاهد، ونافع بن عبيد، وزيد بن أسلم: بيع العربان على ما وصفناه، والحجج في كتب الفقه.
وقد اختلف السلف في تفسير قوله: بالباطل. فقال ابن عباس والحسن: هو أن يأكله بغير عوض. وعلى هذا التفسير قال ابن عباس: هي منسوخة، إذ يجوز أكل المال بغير عوض إذا كان هبة أو صدقة أو تمليكاً أو إرثاً، أو نحو ذلك مما أباحت الشريعة أخذه بغير عوض. وقال السدي: هو أن يأكل بالربا والقمار والبخس والظلم، وغير ذلك مما لم يبح الله تعالى أكل المال به. وعلى هذا تكون الآية محكمة وهو قول ابن مسعود والجمهور. وقال بعضهم: الآية مجملة، لأن معنى قوله: بالباطل، بطريق غير مشروع. ولمّا لم تكن هذه الطريق المشروعة مذكورة هنا على التفصيل، صارت الآية مجملة.
وإضافة الأموال إلى المخاطبين معناه: أموال بعضكم. كما قال تعالى: {فمن ما ملكت أيمانكم} وقوله: {ولا تقتلوا أنفسكم} وقيل: يشمل قوله: أموالكم، مال الغير ومال نفسه. فنهى أن يأكل مال غيره إلا بطريق مشروع، ونهى أن يأكل مال نفسه بالباطل، وهو: إنفاقه في معاصي الله تعالى. وعبر هنا عن أخذ المال بالأكل، لأن الأكل من أغلب مقاصده وألزمها.
{إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} هذا استثناء منقطع لوجهين: أحدهما: أن التجارة لم تندرج في الأموال المأكولة بالباطل فتستثنى منها سواء أفسرت قوله بالباطل بغير عوض كما قال: ابن عباس، أم بغير طريق شرعي كما قاله غيره. والثاني: أن الاستثناء إنما وقع على الكون، والكون معنى من المعاني ليس مالاً من الأموال. ومن ذهب إلى أنه استثناء متصل فغير مصيب لما ذكرناه. وهذا الاستثناء المنقطع لا يدل على الحصر في أنه لا يجوز أكل المال إلا بالتجارة فقط، بل ذكر نوع غالب من أكل المال به وهو: التجارة، إذ أسباب الرزق أكثرها متعلق بها.
وفي قوله: عن تراض دلالة على أنّ ما كان على طريق التجارة فشرطه التراضي، وهو من اثنين: الباذل للثمن، والبائع للعين. ولم يذكر في الآية غير التراضي، فعلى هذا ظاهر الآية يدل على أنه لو باع ما يساوي مائة بدرهم جاز إذا تراضيا على ذلك، وسواء أعلم مقدار ما يساوي أم لم يعلم. وقالت فرقة: إذا لم يعلم قدر الغبن وتجاوز الثلث، ردّ البيع. وظاهرها يدل على أنه إذا تعاقد بالكلام أنه تراض منهما ولا خيار لهما، وإن لم يتفرقا. وبه قال: أبو حنيفة، ومالك، وروى نحوه عن عمر. وقال الثوري، والليث، وعبيد الله بن الحسن، والشافعي: إذا عقدا فهما على الخيار ما لم يتفرّقا، واستثنوا صوراً لا يشترط فيها التفرق، واختلفوا في التفرق. فقيل: بأن يتوارى كل منهما عن صاحبه. وقال الليث: بقيام كل منهما من المجلس. وكل من أوجب الخيار يقول: إذا خيره في المجلس فاختار، فقد وجب البيع. وروى خيار المجلس عن عمر أيضاً. وأطال المفسرون بذكر الاحتجاج لكل من هذه المذاهب، وموضوع ذلك كتب الفقه.
والتجارة اسم يقع على عقود المعاوضات المقصود منها طلب الأرباح. وأن تكون في موضع نصب أي: لكن كون تجارة عن تراض غير منهي عنه. وقرأ الكوفيون: تجارة بالنصب، على أن تكون ناقصة على تقدير مضمر فيها يعود على الأموال، أو يفسره التجارة، والتقدير: إلا أن تكون الأموال تجارة، أو يكون التقدير: إلا أن تكون التجارة تجارة عن تراض منكم. كما قال: إذا كان يوماً ذا كوكب أشنعا. أي إذا كان هواي اليوم يوماً ذا كوكب. واختار قراءة الكوفيين أبو عبيد، وقرأ باقي السبعة: تجارة بالرفع، على أنّ كان تامة.
وقال مكي بن أبي طالب: الأكثر في كلام العرب أن قولهم إلا أن تكون في الاستثناء بغير ضمير فيها على معنى يحدث أو يقع، وهذا مخالف لاختيار أبي عبيد. وقال ابن عطية: تمام كان يترجح عند بعض لأنها صلة، فهي محطوطة عن درجتها إذا كانت سليمة من صلة وغيرها، وهذا ترجيح ليس بالقوي، ولكنه حسن انتهى ما ذكره. ويحتاج هذا الكلام إلى فكر، ولعله نقص من النسخة شيء يتضح به هذا المعنى الذي أراده. وعن تراض: صفة للتجارة أي: تجارة صادرة عن تراض.
{ولا تقتلوا أنفسكم} ظاهره النهي عن قتل الإنسان نفسه كما يفعله بعض الجهلة بقصد منه، أو بحملها على غرر يموت بسببه، كما يصنع بعض الفتاك بالملوك، فإنهم يقتلون الملك ويقتلون بلا شك. وقد احتج عمرو بن العاص بهذه الآية حين امتنع من الاغتسال بالماء البارد، وأقر رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجاجه. وقيل: يحتمل أن يكون المعنى: لا تفعلوا ما تستحقون به القتل من القتل والردّة والزنا بعد الإحصان. قال ابن عطية: وأجمع المتأوّلون أنّ القصد النهي عن أن يقتل بعض الناس بعضاً. وقال الزمخشري عن الحسن: إن المعنى لا تقتلوا إخوانكم انتهى. وعلى هذا المعنى أضاف القتل إلى أنفسهم لأنهم كنفس واحدة، أو من جنس واحد، أو من جوهر واحد. ولأنه إذا قتل قتلَ على سبيل القصاص، وكأنه هو الذي قتل نفسه. وما ذكره ابن عطية من إجماع المتأوّلين ذكر غيره فيه الخلاف. قال ما ملخصه: يحتمل أن يراد حقيقة القتل، فيحتمل أن يكون المعنى: لا يقتل بعضكم بعضاً. ويحتمل أن يكون المعنى: لا يقتل أحد نفسه لضر نزل به، أو ظلم أصابه، أو جرح أخرجه عن حد الاستقامة. ويحتمل أن يراد مجاز القتل أي: يأكل المال بالباطل، أو بطلب المال والانهماك فيه، أو يحمل نفسه على الغرر المؤدي إلى الهلاك، أو يفعل هذه المعاص والاستمرار عليها. فيكون القتل عبر به عن الهلاك مجازاً كما جاء: شاهد قتل ثلاثاً نفسه، والمشهود له، والمشهود عليه أي: أهلك. وقرأ علي والحسن: ولا تقتلوا بالتشديد.
{إن الله كان بكم رحيماً} حيث نهاكم عن إتلاف النفوس، وعن أكل الحرام، وبين لكم جهة الحل التي ينبغي أن يكون قوام الأنفس. وحياتها بما يكتسب منها، لأنّ طيب الكسب ينبني عليه صلاح العبادات وقبولها. ألا ترى إلى ما ورد مَن حجّ بمال حرام أنه إذا قال: لبيك قال الله له: لا لبيك ولا سعديك، وحجك مردود عليك. وألا ترى إلى الداعي ربه ومطعمه حرام وملبسه حرام كيف جاء أنّى يستجاب له؟ وكان النهي عن أكل المال بالباطل متقدماً على النهي عن قتل أنفسهم، لأنه أكثر وقوعاً، وأفشى في الناس من القتل، لاسيما إن كان المراد ظاهر الآية من أنه نهى أن يقتل الإنسان نفسه، فإن هذه الحالة نادرة.
وقيل: رحيماً حيث لم يكلفكم قتل أنفسكم حين التوبة كما كلف بني إسرائيل قتلهم أنفسهم، وجعل ذلك توبة لهم وتمحيصاً لخطاياهم.
{ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً فسوف نصليه ناراً} الإشارة بذلك إلى ما وقع النهي عنه في هذه الجملة من أكل المال بالباطل، وقتل الأنفس. لأن النهي عنهما جاء متسقاً مسروداً، ثم ورد الوعيد حسب النهي. وذهب إلى هذا القول جماعة. وتقييد أكل المال بالباطل بالاعتداء والظلم على هذا القول ليس المعنى أن يقع على جهة لا يكون اعتداء وظلماً، بل هو من الأوصاف التي لا يقع الفعل إلا عليه. وقيل: إنما قال: عدواناً وظلماً ليخرج منه السهو والغلط، وما كان طريقه الاجتهاد في الأحكام. وأما تقييد قتل الأنفس على تفسير قتل بعضنا بعضاً بقوله: عدواناً وظلماً، فإنما ذلك لأنّ القتل يقع كذلك، ويقع خطأ واقتصاصاً. وقيل الإشارة بذلك إلى أقرب مذكور وهو: قتل الأنفس، وهو قول عطاء، واختيار الزمخشري. قال: ذلك إشارة إلى القتل أي: ومن يقدم على قتل الأنفس عدواناً وظلماً لا خطأ ولا اقتصاصاً انتهى. ويكون نظير قوله: {ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم} وذهب الطبري: إلى أنّ ذلك إشارة إلى ما سبق من النهي الذي لم يقترن به وعيد وهو من قوله: {يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً ولا تعضلوهن} إلى هذا النهي الذي هو ولا تقتلوا أنفسكم، فأما ما قبل ذلك من النهي فقد اقترن به الوعيد. وما ذهب إليه الطبري بعيد جداً لأن كل جملة قد استقلت بنفسها، ولا يظهر لها تعلق بما بعدها إلا تعلق المناسبة، ولا تعلق اضطرار المعنى. وأبعد من قول الطبري ما ذهب إليه جماعة من أن ذلك إشارة إلى كل ما نهى عنه من القضايا، من أول السورة إلى النهي الذي أعقبه قوله: ومن يفعل ذلك. وجوز الماتريدي أن يكون ذلك إشارة إلى أكل المال بالباطل، قال: وذلك يرجع إلى ما سبق من أكل المال بالباطل، أو قتل النفس بغير حق، أو إليهما جميعاً انتهى. فعلى هذا القول يكون في المشار إليه بذلك خمسة أقوال.
وانتصاب عدواناً وظلماً على المفعول من أجله، وجوزوا أن يكونا مصدرين في موضع الحال، أي: معتدين وظالمين. وقرئ عدواناً بالكسر. وقرأ الجمهور: نصليه بضم النون. وقرأ النخعي والأعمش: بفتحها من صلاة، ومنه شاة مصلية. وقرئ أيضاً: نصليه مشدداً. وقرئ: يصليه بالياء، والظاهر أن الفاعل هو ضمير يعود على الله أي: فسوف يصليه هو أي: الله تعالى. وأجاز الزمخشري أن يعود الضمير على ذلك قال: لكونه سبباً للمصلي، وفيه بعد.
ومدلول ناراً مطلق، والمراد والله أعلم تقييدها بوصف الشدّة، أو ما يناسب هذا الجرم العظيم من أكل المال بالباطل وقتل الأنفس.
{وكان ذلك على الله يسيراً} ذلك إشارة إلى إصلائه النار، ويسره عليه تعالى سهولته، لأن حجته بالغة وحكمه لا معقب له. وقال الزمخشري: لأن الحكمة تدعو إليه، ولا صارف عنه من ظلم أو نحوه، وفيه دسيسة الاعتزال.
{إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً} مناسبة هذه الآية ظاهره، لأنه تعالى لمّا ذكر الوعيد على فعل بعض الكبائر، ذكر الوعد على اجتناب الكبائر. والظاهر أنّ الذنوب تنقسم إلى كبائر وسيئات، وهي التي عبر عنها أكثر العلماء بالصغائر. وقد اختلفوا في ذلك، فذهب الجمهور إلى انقسام الذنوب إلى كبائر وصغائر، فمن الصغائر النظرة واللمسة والقبلة ونحو ذلك مما يقع عليه اسم التحريم، وتكفر الصغائر باجتناب الكبائر. وذهب جماعة من الأصوليين منهم الأستاذ أبو إسحاق الاسفرايني، وأبو المعالي، وأبو نصر عبد الرحيم القشيري: إلى أن الذنوب كلها كبائر، وإنما يقال لبعضها صغيرة بالإضافة إلى ما هو أكبر منها، كما يقال: الزنا صغيرة بالنسبة إلى الكفر، والقبلة المحرّمة صغيرة بالنسبة إلى الزنا، ولا ذنب يغفر باجتناب ذنب آخر، بل كل ذنب كبيرة وصاحبه ومرتكبه في المشيئة غير الكفر. وحملوا قوله تعالى: كبائر ما تنهون عنه على أنواع الشرك والكفر قالوا: ويؤيده قراءة كبير على التوحيد، وقوله صلى الله عليه وسلم: «» من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة فقال له رجل: يا رسول الله وإن كان يسيراً؟ قال: «إن كان قضيباً من أراك» فقد جاء الوعيد على اليسير، كما جا على الكثير. وروي عن ابن عباس مثل قول هؤلاء قال: كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة.
والذين ذهبوا إلى انقسام الذنوب إلى كبائر وصغائر، وأن الصغائر تكفر باجتناب الكبائر على ما اقتضاه ظاهر الآية وعضده الحديث الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم من قوله: «ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يأت كبيرة وذلك الدهر كله» وفي صحيح مسلم: «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر».
واختلفوا في الكبائر فقال ابن مسعود: هي ثلاث، القنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله. وروي عنه أيضاً أنها أربع: فزاد الإشراك بالله. وقال علي: هي سبع: الإشراك بالله، وقتل النفس، وقذف المحصنة، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والفرار يوم الزحف، والتعرّب بعد الهجرة.
وقال عبيد بن عمير: الكبائر سبع كقول عليّ في كل واحدة منها آية في كتاب الله، وجعل الآية في التعرب: {إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى} الآية وفي البخاري: «اتقوا السبع الموبقات» فذكر هذه إلا التعرب، فجاء بدله السحر. وقد ذهب قوم إلى أن هذه الكبائر هي هذه السبع التي ثبتت في البخاري. وقال ابن عمر: فذكر هذه إلا السحر، وزاد الإلحاد في المسجد الحرام. والذي يستسخر بالوالدين من العقوق. وقال ابن مسعود أيضاً والنخعي: هي جميع ما نهى عنه من أول سورة النساء إلى ثلاثين آية منها، وهي: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه} وقال ابن عباس أيضاً فيما روي عنه: هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع. وقال ابن عباس أيضاً: الكبائر كل ما ورد عليه وعيد بنار، أو عذاب، أو لعنة، أو ما أشبه ذلك. وإلى نحو من هذا ذهب أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الفارسي القرطبي، قال: قد أطلت التفتيش عن هذا منذ سنين فصحّ لي أن كلّ ما توعد الله عليه بالنار فهو من الكبائر، ووجدناه عليه السلام قد أدخل في الكبائر بنص لفظه أشياء غير التي ذكر في الحديث يعني الذي في البخاري فمنها، قول الزور، وعقوق الوالدين، والكذب عليه صلى الله عليه وسلم، وتعريض المرء أبويه للسبّ بأن يسبّ آباء الناس، وذكر عليه السلام الوعيد الشديد بالنار على الكبر، وعلى كفر نعمة المحسن في الحق، وعلى النياحة في المآتم، وحلق الشعر فيها، وخرق الجيوب، والنميمة، وترك التحفظ من البول، وقطيعة الرحم، وعلى الخمر، وعلى تعذيب الحيوان بغير الذكاة لأكل ما يحل أكله منها أو ما أبيح أكله منها، وعلى لسان الإزار على سبيل التجوه، وعلى المنان بما يفعل من الخير، وعلى المنفق سلعته بالحلف الكاذب، وعلى المانع فضل مائه من الشارب، وعلى الغلول، وعلى متابعة الأئمة للدنيا فإن أعطوا منها وفي لهم وإن لم يعطوا منها لم يوف لهم، وعلى المقطتع بيمينه حق امرئ مسلم، وعلى الإمام الغاش لرعيته، ومن ادعى إلى غير أبيه، وعلى العبد الآبق، وعلى من غل، ومن ادعى ما ليس له، وعلى لاعن من لا يستحق اللعن، وعلى بغض الأنصار، وعلى تارك الصلاة، وعلى تارك الزكاة، وعلى بغض عليّ رضي الله عنه، ووجدنا الوعيد الشديد في نص القرآن قد جاء على الزناة، وعلى المفسدين في الأرض بالحرابة، فصح بهذا قول ابن عباس انتهى كلامه. يعني قوله هي: إلى السبعين أقرب منها إلى السبع. وروي عن ابن عباس أنه قال: هي إلى سبعمائة أقرب، لأنه لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار.
وقد اختلف القائلون بأنه يكفر الصغائر باجتناب الكبائر، هل التكفير قطعي؟ أو غالب ظن؟ فجماعة من الفقهاء وأهل الحديث ذهبوا إلى أنه قطعيّ كما دلت عليه الآية والأحاديث، والأصوليون قالوا: هو على غلبة الظن، وقالوا: لو كان ذلك قطعياً لكانت الصغائر في حكم المباح يقطع بأن لا تبعة فيه، ووصف مدخلاً بقوله: كريماً ومعنى كرمه: فضيلته، ونفى العيوب عنه كما تقول: ثوب كريم، وفلان كريم المحتد.
ومعنى تكفير السيئات إزالة ما يستحق عليها من العقوبات، وجعلها كأن لم تكن، وذلك مرتب على اجتناب الكبائر.
وقرأ ابن عباس وابن جبير: إن تجتنبوا كبير على الافراد، وقد ذكرنا من احتج به على أنه أريد الكفر. وأمّا من لم يقل ذلك فهو عنده جنس.
وقرأ المفضل عن عاصم: يكفر ويدخلكم بالياء على الغيبة.
وقرأ ابن عباس: من سيئاتكم بزيادة من.
وقرأ نافع: مدخلاً هنا، وفي الحج بفتح الميم، ورويت عن أبي بكر. وقرأ باقي السبعة بضمها وانتصاب المضموم الميم إمّا على المصدر أي: إدخالاً، والمدخل فيه محذوف أي: ويدخلكم الجنة إدخالاً كريماً. وإمّا على أنه مكان الدخول، فيجيء الخلاف الذي في دخل، أهي متعدية لهذه الأماكن على سبيل التعدية للمفعول به؟ أم على سبيل الظرف؟ فإذا دخلت همزة النقل فالخلاف. وأما انتصاب المفتوح الميم فيحتمل أن يكون مصدر الدخل المطاوع لأدخل، التقدير: ويدخلكم فتدخلون دخولاً كريماً، وحذف فتدخلون لدلالة المطاوع عليه، ولدلالة مصدره أيضاً. ويحتمل أن يراد به المكان، فينتصب إذ ذاك إما بيدخلكم، وإما بدخلتم المحذوفة على الخلاف، أهو مفعول به أو ظرف.
{ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض} قال قتادة والسدي: لما نزل {للذكر مثل حظ الأنثيين} قال الرجال: إنا لنرجو أن نفضل على النساء في الحسنات كالميراث.
وقال النساء: إنا لنرجو أن يكون الوزر علينا نصف ما على الرجال كالميراث. وقال عكرمة: قال النساء: وددنا أنّ الله جعل لنا الغزو فنصيب من الأجر مثل ما يصيب الرجال. وزاد مجاهد: أن ذلك عن أم سلمة. وأنها قالت: وإنما لنا نصف الميراث فنزلت. وروي عنها أنها قالت: ليتنا كنا رجالاً فنزلت.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى لما نهى عن أكل المال بالباطل، وعن قتل الأنفس، وكان ما نهى عنه مدعاة إلى التبسط في الدنيا والعلو فيها وتحصيل حطامها، نهاهم عن تمني ما فضل الله به بعضهم على بعض، إذ التمني لذلك سبب مؤثر في تحصيل الدنيا وشوق النفس إليها بكل طريق، فلم يكتف بالنهي عن تحصيل المال بالباطل وقتل الأنفس، حتى نهى عن السبب المحرّض على ذلك، وكانت المبادرة إلى النهي عن المسبب آكد لفظاعته ومشقته فبدئ به، ثم أتبع بالنهي عن السبب حسماً لمادة المسبب، وليوافق العمل القلبي العمل الخارجي فيستوي الباطن والظاهر في الامتناع عن الأفعال القبيحة.
وظاهر الآية يدل على النهي أن يتمنى الإنسان لنفسه ما فضل به عليه غيره، بل عليه أن يرضى بما قسم الله له.
وتمني ذلك هو أن يكون له مثل ما لذلك المفضل. وقال ابن عباس وعطاء: هو أن يتمنى مال غيره. وقال الزمخشري: نهوا عن الحسد، وعن تمني ما فضل الله به بعض الناس على بعض من الجاه والمال، لأن ذلك التفضيل قسمة من الله تعالى صادرة عن حكمة وتدبير وعلم بأحوال العباد، وبما يصلح للمقسوم له من بسط في الرزق أو قبض انتهى. وهو كلام حسن. وظاهر النهي إنما يتناول ما فضل الله به بعضهم على بعض. أما تمني أشياء من أحوال صالحة له في الدنيا وأعمال يرجو بها الثواب في الآخرة فهو حسن لم يدخل في الآية. وقد جاء في الحديث: «وددت أن أقتل في سبيل الله ثم أحيى ثم أقتل» وفي آخر الآية: {واسألوا الله من فضله} فدل على جواز ذلك. وإذا كان مطلق تمني ما فضل الله به بعضهم على بعض منهياً عنه، فإن يكون ذلك بقيد. زوال نعمة من فضل عليه عنه بجهة الأحرى. والأولى إذ هو الحسد المنهى عنه في الشرع، والمستعاذ بالله منه في نص القرآن. وقد اختلفوا إذا تمنى حصول مثل نعمة المفضل عليه له من غير أن تذهب عن المفضل، فظاهر الآية المنع، وبه قال المحققون، لأن تلك النعمة ربما كانت مفسدة في حقه في الدين، ومضرة عليه في الدنيا، فلا يجوز أن يقول: اللهم أعطني. داراً مثل دار فلان، ولا زوجاً مثل زوجه، بل يسأل الله ما شاء من غير تعرض لمن فضل عليه. وقد أجازه بعض الناس.
{للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن} قال ابن عباس وقتادة: معناه من الميراث، لأن العرب كانت لا تورث النساء. وضعف هذا القول لأن لفظ الاكتساب ينبو عنه، لأن الاكتساب يدل على الاعتمال والتطلب للمكسوب، وهذا لا يكون في الإرث، لأنه مال يأخذه الوارث عفواً بغير اكتساب فيه، وتفسير قتادة هذا متركب على ما قاله في سبب نزول الآية. وقيل: يعبر بالكسب عن الإصابة، كما روي أنّ بعض العرب أصاب كنزاً فقال له ابنه: بالله يا أبه أعطني من كسبك نصيباً، أي مما أصبت. ومنه قول خديجة رضي الله عنها: وتكسب المعدوم. قالوا: ومنه قول الشاعر:
فإن أكسبوني نزر مال فإنني ** كسبتهم حمداً يدوم مع الدهر

وقالت فرقة: المعنى أن الله تعالى جعل لكل من الصنفين مكاسب تختص به، فلا يتمنى أحد منها ما جعل للآخر. فجعل للرجال الجهاد والإنفاق في المعيشة، وحمل التكاليف الشاقة كالأحكام والإمارة والحسبة وغير ذلك. وجعل للنساء الحمل ومشقته، وحسن التبعل، وحفظ غيب الزوج، وخدمة البيوت.
وقيل: المعنى مما اكتسب من نعيم الدنيا، فينبغي أن يرضى بما قسم الله له. وهذه الأقوال الثلاثة هي بالنسبة لأحوال الدنيا. وقالت فرقة: المعنى نصيب من الأجر والحسنات. وقال الزمخشري: جعل ما قسم لكل من الرجال والنساء على حسب ما عرف الله من حاله الموجبة للبسط والقبض كسباً له انتهى. وفي قوله: عرف الله نظر، فإنه لا يقال في الله عارف، نص الأئمة على ذلك، لأن المعرفة في اللغة تستدعي قبلها جهلاً بالمعروف، وذلك بخلاف العلم، فإنه لا يستدعي جهلاً قبله. وتسمية ما قسم الله كسباً له فيه نظر أيضاً، فإنّ الاكتساب يقتضي الاعتمال والتطلب كما قلناه، إلا إن قلنا أنَّ أكثر ما قسم له يستدعي اكتساباً من الشخص، فأطلق الاكتساب على جميع ما قسم له تغليباً للأكثر. وفي تعليق النصيب بالاكتساب حض على العمل، وتنبيه على كسب الخير.
{واسألوا الله من فضله} أي من زيادة إحسانه ونعمه. لما نهاهم عن تمني ما فضل به بعضهم، أمرهم بأن يعتمدوا في المزيد عليه تبارك وتعالى. وظاهر قوله: من فضله، العموم فيما يتعلق بأحوال الدنيا وأحوال الآخرة، لأن ظاهر قوله: {ولا تتمنوا} ما فضل العموم أيضاً، وهو قول الجمهور. وقال ابن جبير وليث بن أبي سليم: هذا في العبادات والدين وأعمال البر، وليس في فضل الدنيا. وفي قوله: من فضله، دلالة على عدم تعيين المطلوب، لكن يطلب من فضل الله ما يكون سبباً لإصلاح دينه ودنياه على سبيل الإطلاق، كما قال تعالى: {ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة}
وقرأ ابن كثير والكسائي: وسلوا بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على السين، وذلك إذا كان أمراً للمخاطب، وقبل السين واو أو فاء نحو: {فسل الذين يقرؤن} و{فاسألوا أهل الذكر} وقرأ باقي السبعة بالهمز. قال ابن عطية: إلا في قوله: {واسألوا ما أنفقتم} فإنهم أجمعوا على الهمز فيه انتهى. وهذا الذي ذكره ابن عطية وهم، بل نصوص المقرئين في كتبهم على أن واسألوا ما أنفقتم من جملة المختلف فيه. بيَّن ابن كثير والكسائي، وبين الجماعة، ونص على ذلك بلفظه ابن شيطا في كتاب التذكار، ولعل الوهم وقع له في ذلك من قول ابن مجاهد في كتاب السبعة له، ولم يختلفوا في قوله: {وليسألوا ما أنفقوا} أنه مهموز لأنه لغائب انتهى. وروى الكسائي عن اسماعيل بن جعفر عن أبي جعفر وشيبة: أنهما لم يهمزا وسل ولا فسل، مثل قراءة الكسائي، وحذف الهمزة في سل لغة الحجاز، وإثباتها لغة لبعض تميم. وروى اليزيدي عن أبي عمرو: أن لغة قريش سل. فإذا أدخلوا الواو والفاء همزوا، وسأل يقتضي مفعولين، والثاني لقوله: واسألوا الله هو قوله: من فضله. كما تقول: أطعمت زيداً من اللحم، وكسوته من الحرير، والتقدير: شيئاً من فضله، وشيئاً من اللحم، وشيئاً من الحرير.
وقال بعض النحويين: من زائدة، والتقدير: وسلوا الله فضله، وهذا لا يجوز إلا على مذهب الأخفش. وقال ابن عطية: ويحسن عندي أن يقدر المفعول أمانيكم إذ ما تقدم يحسن هذا المعنى.
{إن الله كان بكلّ شيء عليماً} أي علمه محيط بجميع الأشياء فهو عالم بما فضل به بعضكم على بعض وما يصلح لكلّ منكم من توسيع أو تقتير فإياكم والاعتراض بتمن أو غيره وهو عالم أيضاً بسؤالكم من فضله فيستجيب دعاءكم {ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم} لمّا نهى عن التمني المذكور، وأمر بسؤال الله من فضله، أخبر تعالى بشيء من أحوال الميراث، وأنّ في شرعه ذلك مصلحة عظيمة من تحصيل مال للوارث لم يسع فيه، ولم يتعنّ بطلبه، فرب ساع لقاعد. وكلّ لا تستعمل إلا مضافة، إما الظاهر، وإما لمقدر، واختلفوا في تعيين المقدّر هنا، فقيل: المحذوف إنسان، وقيل: المحذوف مال. والمولى: لفظ مشترك بين معان كثيرة، منها: الوارث وهو الذي يحسن أن يفسر به هنا، لأنه يصلح لتقدير إنسان وتقدير مال، وبذلك فسر ابن عباس وقتادة والسدي وغيرهم: أن الموالي العصبة والورثة، فإذا فرّعنا على أنّ المعنى: ولكلّ إنسان، احتمل وجوهاً:
أحدها: أن يكون لكلّ متعلقاً بجعلنا، والضمير في ترك عائد على كل المضاف لإنسان، والتقدير: وجعل لكل إنسان وارثاً مما ترك، فيتعلق مما بما في معنى موالي من معنى الفعل، أو بمضمر يفسره المعنى، التقدير: يرثون مما ترك، وتكون الجملة قد تمت عند قوله: مما ترك، ويرتفع الوالدان على إضمار كأنه قيل: ومن الوارث؟ فقيل: هم الوالدان والأقربون ورّاثاً، والكلام جملتان.
والوجه الثاني: أن يكون التقدير وجعلنا لكل إنسان موالي، أي ورّاثاً. ثم أضمر فعل أي: يرث الموالي مما ترك الوالدان، فيكون الفاعل بترك الوالدان. وكأنه لما أبهم في قوله: وجعلنا لكل إنسان موالي، بيَّن أن ذلك الإنسان الذي جعل له ورثة هو الوالدان والأقربون، فأولئك الورّاث يرثون مما ترك والداهم وأقربوهم، ويكون الوالدان والأقربون موروثين. وعلى هذين الوجهين لا يكون في: جعلنا، مضمر محذوف، ويكون مفعول جعلناه لفظ موالي. والكلام جملتان.
الوجه الثالث: أن يكون التقدير: ولكل قوم جعلناهم موالي أي: ورّاثاً نصيب مما ترك والداهم وأقربوهم، فيكون جعلنا صفة لكلٍّ، والضمير من الجملة الواقعة صفة محذوف، وهو مفعول جعلنا. وموالي منصوب على الحال، وفاعل ترك الوالدان. والكلام منعقد من مبتدأ وخبر، فيتعلق لكل بمحذوف، إذ هو خبر المبتدأ المحذوف القائم مقامه صفته وهو الجار والمجرور، إذ قدر نصيب مما ترك. والكلام إذ ذاك جملة واحدة كما تقول: لكل من خلقه الله إنساناً من رزق الله، أي حظ من رزقه الله.
وإذا فرعنا على أن المعنى: ولكل مال، فقالوا: التقدير ولكل مال مما تركه الوالدان والأقربون، جعلنا موالي أي ورّاثاً يلونه ويحرزونه. وعلى هذا التقدير يكون مما ترك في موضع الصفة لكل، والوالدان والأقربون فاعل بترك ويكونون موروثين، ولكل متعلق بجعلنا. إلا أن في هذا التقدير الفصل بين الصفة والموصوف بالجملة المتعلقة بالفعل الذي فيها المجرور وهو نظير قولك: بكل رجل مررت تميمي، وفي جواز ذلك نظر.
واختلفوا في المراد بالمعاقدة هنا. فقال ابن عباس، وابن جبير، والحسن، وقتادة وغيرهم: هي الحلف. فإنّ العرب كانت تتوار بالحلف، فقرر ذلك بهذه الآية ثم نسخ بقوله: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله} وعنه أيضاً هي: الحلف، والنصيب هو المؤازرة في الحق والنصر، والوفاء بالكلف، لا الميراث. وقال ابن عباس أيضاً: هي المؤاخاة، كانوا يتوارثون بها حتى نسخ. وعنه كان المهاجرون يرثون الأنصار دون ذوي رحمهم حتى نسخ بما تقدم، وبقي اثنان: النصيب من النصر والمعونة، ومن المال على جهة الندب في الوصية. وقال ابن المسيب: هي التبني والنصيب الذي أمرنا بإتيانه، هو الوصية لا الميراث، ومعنى عاقدت أيمانكم في هذا القول: عاقدتهم أيمانكم وما سحتموهم. وقيل: كانوا يتوارثون بالتبني لقوم يموتون قبل الوصية ووجوبها، فأمر الموصي أن يؤديها إلى ورثة الموصى له. وقيل: المعاقدة هنا الزواج، والنكاح يسمى عقداً، فذكر الوالدين والأقربين، وذكر معهم الزوج والزوجة. وقيل: المعاقدة هنا الولاء. وقيل: هي حلف أبي بكر الصديق أن لا يورث عبد الرحمن شيئاً، فلما أسلم أمره الله أن يؤتيه نصيبه من المال، قال أبو روق: وفيهما نزلت.
فتلخص من هذه الأقوال في المعاقدة أهي الحلف أن لا يورث الحالف؟ أم المؤاخاة؟ أم التبني؟ أم الوصية المشروحة؟ أم الزواج؟ أم الموالاة؟ سبعة أقوال. قال ابن عطية: ولفظة المعاقدة والإيمان ترجح أنّ المراد الأحلاف، لأنّ ما ذكر من غير الأحلاف ليس في جميعه معاقدة ولا أيمان انتهى.
وكيفية الحلف في الجاهلية: كان الرجل يعاقد الرجل فيقول: دمي دمك، وهدمي هدمك، وناري نارك، وحربي حربك، وسلمي سلمك، وترثني وأرثك، وتطلب بي وأطلب بك، وتعقل عني وأعقل عنك. فيكون للحليف التسدس من ميراث الحليف، فنسخ الله ذلك. وعلى الأقوال السابقة جاء الخلاف في قوله: {والذين عاقدت أيمانكم} أهو منسوخ أم لا؟ وقد استدل بها على ميراث مولى الموالاة وبه قال: أبو يوسف، وأبو حنيفة، وزفر، ومحمد، قالوا: من أسلم على يد رجل ووالاه وعاقده ثم مات ولا وارث له غيره، فميراثه له. وروى نحوه عن يحيى بن سعيد، وربيعة، وابن المسيب، والزهري، وابراهيم، والحسن، وعمر، وابن مسعود. وقال مالك، وابن شبرمة، والثوري، والأوزاعي، والشافعي: ميراثه للمسلمين. وقد أطال الكلام في هذه المسألة أبو بكر الرازي ناصراً مذهب أبي حنيفة.
وقرأ الكوفيون: عقدت بتخفيف القاف من غير ألف، وشدّد القاف حمزة من رواية عليّ بن كبشة، والباقون عاقدت بألف، وجوزوا في إعراب الذين وجوهاً. أحدها: أن يكون مبتدأ والخبر فآتوهم. والثاني: أن يكون منصوباً من باب الاشتغال نحو: زيداً فاضربه. الثالث: أن يكون مرفوعاً معطوفاً على الوالدان والأقربون، والضمير في فآتوهم عائد على موالي إذا كان الوالدان ومن عطف عليه موروثين، وإن كانوا وارثين فيجوز أن يعود على موالي، ويجوز أن يعود على الوالدين والمعطوف عليه. الرابع: أن يكون منصوباً معطوفاً على موالي قاله: أبو البقاء، وقال: أي وجعلنا الذين عاقدت ورّاثاً، وكان ذلك ونسخ انتهى. ولا يمكن أن يكون على هذا التقدير الذي قدّره أن يكون معطوفاً على موالي لفساد العطف، إذ يصير التقدير: ولكل إنسان، أو: لكل شيء من المال جعلنا ورّاثاً. والذين عاقدت أيمانكم، فإن كان من عطف الجمل وحذف المفعول الثاني لدلالة المعنى عليه أمكن ذلك، أي جعلنا ورّاثاً لكل شيء من المال، أي: لكل إنسان، وجعلنا الذين عاقدت أيمانكم ورّاثاً. وهو بعد ذلك توجيه متكلف، ومفعول عاقدت ضمير محذوف أي: عاقدتهم أيمانكم، وكذلك في قراءة عقدت هو محذوف تقديره: عقدت حلفهم، أو عهدهم أيمانكم. وإسناد المعاقدة أو العقد للإيمان سواء أريد بها القسم، أم الجارحة، مجاز بل فاعل ذلك هو الشخص.
{إن الله كان على كل شيء شهيداً} لما ذكر تعالى تشريع التوريث، وأمر بإيتاء النصيب، أخبر تعالى أنه مطلع على كل شيء فهو المجازى به، وفي ذلك تهديد للعاصي، ووعد للمطيع، وتنبيه على أنه شهيد على المعاقدة بينكم. والصلة فأوفوا بالعهد.
{الرّجال قوّامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم} قيل: سبب نزول هذه الآية أنَّ امرأة لطمها زوجها فاستعدت، فقضى لها بالقصاص، فنزلت. فقال صلى الله عليه وسلم: «أردت أمراً وأراد الله غيره» قاله: الحسن، وقتادة، وابن جريج، والسدي وغيرهم. فذكر التبريزي والزمخشري وابن عطية: أنها حبيبة بنت زيد بن أبي زهير زوج الربيِّع بن عمر، وأحد النقباء من الأنصار. وطولوا القصة وفي آخرها: فرفع القصاص بين الرجل والمرأة، وقال الكلبي: هي حبيبة بنت محمد بن سلمة زوج سعيد بن الربيع. وقال أبو روق: هي جميلة بنت عبد الله بن أبي أوفى زوج ثابت بن قيس بن شماس. وقيل: نزل معها: {ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه} وفي سبب من عين المرأة أن زوجها لطمها بسبب نشوزها. وقيل: سبب النزول قول أم سلمة المتقدم: لما تمنى النساء درجة الرجال عرفن وجه الفضيلة قيل: المراد بالرجال هنا من فيهم صدامة وحزم، لا مطلق من له لحية. فكم من ذي لحية لا يكون له نفع ولا ضر ولا حرم، ولذلك يقال: رجل بين الرجولية والرجولة.
ولذلك ادعى بعض المفسرين أنَّ في الكلام حذفا تقديره: الرجال قوامون على النساء إن كانوا رجالاً. وأنشد:
أكل امرئ تحسبن امرأ ** ونار توقد بالليل ناراً

والذي يظهر أنَّ هذا إخبار عن الجنس لم يتعرض فيه إلى اعتبار أفراده، كأنه قيل: هذا الجنس قوام على هذا الجنس. وقال ابن عباس: قوّامون مسلطون على تأديب النساء في الحق. ويشهد لهذا القول طاعتهن لهم في طاعة الله. وقوام: صفة مبالغة، ويقال: قيام وقيم، وهو الذي يقوم بالأمر ويحفظه. وفي الحديث: «أنت قيّام السموات والأرض ومن فيهن» والباء في بما للسبب، وما مصدرية أي: بتفضيل الله. ومن جعلها بمعنى الذي فقد أبعد، إذ لا ضمير في الجملة وتقديره محذوفاً لا مسوّغ لحذفه، فلا يجوز.
والضمير في بعضهم عائد على الرجال والنساء. وذكر تغليباً للمذكر على المؤنث، والمراد بالبعض الأول الرجال، وبالثاني النساء. والمعنى: أنهم قوّامون عليهن بسبب تفضيل الله الرجال على النساء، هكذا قرروا هذا المعنى. قالوا: وعدل عن الضميرين فلم يأت بما فضل الله عليهن لما في ذكر بعض من الإبهام الذي لا يقتضي عموم الضمير، فرب أنثى فضلت ذكراً. وفي هذا دليل على أن الولاية تستحق بالفضل لا بالتغلب والاستطالة، وذكروا أشياء مما فضل به الرجال على النساء على سبيل التمثيل. فقال الربيع: الجمعة والجماعة. وقال الحسن: النفقة عليهن. وينبو عنه قوله: وبما أنفقوا. وقيل: التصرف والتجارات. وقيل: الغزو، وكمال الدين، والعقل. وقيل: العقل والرأي، وحل الأربع، وملك النكاح، والطلاق، والرجعة، وكمال العبادات، وفضيلة الشهادات، والتعصيب، وزيادة السهم في الميراث، والديات، والصلاحية للنبوة، والخلافة، والإمامة، والخطابة، والجهاد، والرمي، والآذان، والاعتكاف، والحمالة، والقسامة، وانتساب الأولاد، واللحى، وكشف الوجوه، والعمائم التي هي تيجان العرب، والولاية، والتزويج، والاستدعاء إلى الفراش، والكتابة في الغالب، وعدد الزوجات، والوطء بملك اليمين.
وبما أنفقوا من أموالهم: معناه عليهن، وما: مصدرية، أو بمعنى الذي، والعائد محذوف فيه مسوّغ الحذف. قيل: المعنى بما أخرجوا بسبب النكاح من مهورهن، ومن النفقات عليهن المستمرة. وروى معاذ: أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لبعلها» قال القرطبي: فهم الجمهور من قوله: وبما أنفقوا من أموالهم، أنه متى عجز عن نفقتها لم يكن قواماً عليها، وإذا لم يكن قواماً عليها كان لها فسخ العقد لزوال المعقود الذي شرع لأجله النكاح. وفيه دلالة واضحة من هذا الوجه على ثبوت فسخ النكاح عند الإعسار بالنفقة والكسوة، وهو مذهب مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يفسخ لقوله: {وإن كان ذو عسرة فنظِرة إلى ميسرة}
{فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله} قال ابن عباس: الصالحات المحسنات لأزواجهنّ، لأنهن إذا أحسن لأزواجهن فقد صلح حالهن معهم.
وقال ابن المبارك: المعاملات بالخير. وقيل: اللائي أصلحن الله لأزواجهن قال تعالى: {وأصلحنا له زوجه} وقيل: اللواتي أصلحن أقوالهن وأفعالهن. وقيل: الصلاة الدين هنا.
وهذه الأقوال متقاربة. والقانتات: المطيعات لأزواجهن، أو لله تعالى في حفظ أزواجهن، وامتثال أمرهم، أو لله تعالى في كل أحوالهن، أو قائمات بما عليهن للأزواج، أو المصليات، أقوال آخرها للزجاج. حافظات للغيب: قال عطاء وقتادة: يحفظن ما غاب عن الأزواج، وما يجب لهن من صيانة أنفسهن لهن، ولا يتحدثن بما كان بينهم وبينهن. وقال ابن عطية: الغيب، كل ما غاب عن علم زوجها مما استتر عنه، وذلك يعم حال غيبة الزوج، وحال حضوره. وقال الزمخشري: الغيب خلاف الشهادة، أي حافظات لمواجب الغيب إذا كان الأزواج غير شاهدين لهن، حفظن ما يجب عليهن حفظه في حال الغيبة من الزوج والبيوت والأموال انتهى. والألف واللام في الغيب تغني عن الضمير، والاستغناء بها كثير كقوله: {واشتعل الرأس شيباً} أي رأسي. وقال ذو الرّمة:
لمياء في شفتيها حوّة لعس ** وفي اللثات وفي أنيابها شنب

تريد: وفي لثاتها. وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرّتك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في مالها ونفسها»، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية.
وقرأ الجمهور: برفع الجلالة، فالظاهر أن تكون ما مصدرية، والتقدير: بحفظ الله إياهن. قاله ابن عباس وعطاء ومجاهد. ويحتمل هذا الحفظ وجوهاً أي: يحفظ، أي: بتوفيقه إياهن لحفظ الغيب، أو لحفظه إياهن حين أوصى بهن الأزواج في كتابه وأمر رسوله، فقال: «استوصوا بالنساء خيراً» أو بحفظهن حين وعدهن الثواب العظيم على حفظ الغيب، وأوعدهن العذاب الشديد على الخيانة. وجوزوا أن تكون ما بمعنى الذي، والعائد على ما محذوف، والتقدير: بما حفظه الله لهن من مهور أزواجهن، والنفقة عليهن، قاله الزجاج. وقال ابن عطية: ويكون المعنى إما حفظ الله ورعايته التي لا يتم أمر دونها، وإما أوامره ونواهيه للنساء، وكأنها حفظه، فمعناه: أن النساء يحفظن بإزاء ذلك وبقدره. وأجاز أبو البقاء أن تكون ما نكرة موصوفة.
وقرأ أبو جعفر بن القعقاع: بنصب الجلالة فالظاهر أنَّ ما بمعنى الذي، وفي حفظ ضمير يعود على ما مرفوع أي: بالطاعة والبر الذي حفظ الله في امتثال أمره. وقيل: التقدير بالأمر الذي حفظ حق الله وأمانته، وهو التعفف والتحصن والشفقة على الرجال والنصيحة لهم. وقدره ابن جني: بما حفظ دين الله، أو أمر الله. وحذف المضاف متعين تقديره: لأن الذات المقدسة لا ينسب إليها أنها يحفظها أحد. وقيل: ما مصدرية، وفي حفظ ضمير مرفوع تقديره: بما حفظن الله، وهو عائد على الصالحات.
قيل: وحذف ذلك الضمير، وفي حذفه قبح لا يجوز إلا في الشعر كما قال: فإن الحوادث أودى بها.
يريد: أو دين بها. والمعنى: يحفظن الله في أمره حين امتثلنه. والأحسن في هذا أن لا يقال أنه حذف الضمير، بل يقال: إنه عاد الضمير عليهن مفرداً، كأنه لوحظ الجنس، وكأن الصالحات في معنى من صلح، وهذا كله توجيه شذوذ أدّى إليه قول من قال في هذه القراءة: إنّ ما مصدرية. ولا حاجة إلى هذا القول، بل ينزه القرآن عنه. وفي قراءة عبد الله ومصحفه: فالصوالح قوانت حوافظ للغيب بما حفظ الله، فأصلحوا إليهن. وينبغي حملها على التفسير لأنها مخالفة لسواد الإمام، وفيها زيادة. وقد صح عنه بالنقل الذي لا شك فيه أنه قرأ: وأقرأ على رسم السواد، فلذلك ينبغي أن تحمل هذه القراءة على التفسير. قال ابن جني: والتكسير أشبه بالمعنى، إذ هو يعطي الكثرة وهي المقصودة هنا. ومعنى قوله: فأصلحوا إليهن أي أحسنوا ضمن أصلحوا معنى أحسنوا، ولذلك عداه بإلى. روى في الحديث: «يستغفر للمرأة المطيعة لزوجها الطير في الهواء، والحيتان في البحر، والملائكة في السماء، والسباع في البراري» «قالت أم سلمة: قلت: يا رسول الله نساء الدنيا أفضل أم الحور؟ فقال: نساء الدنيا أفضل من الحور. قلت: يا رسول الله بم؟ قال: بصلاتهن، وصيامهن، وعبادتهن، وطاعة أزواجهن.» {واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن} لما ذكر تعالى صالحات الأزواج وأنهن من المطيعات الحافظات للغيب، ذكر مقابلهن وهن العاصيات للأزواج. والخوف هنا قيل: معناه اليقين، ذهب في ذلك إلى أنّ الأوامر التي بعد ذلك إنما يوجبها وقوع النشوز لا توقعه، واحتج في جواز وقوع الخوف موقع اليقين بقول أبي محجن الثقفي رضي الله عنه:
ولا تدفنني بالفلاة فإنني ** أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها

وقيل الخوف علي بابه من بعض الظن. قال:
أتاني كلام من نصيب بقوله ** وما خفت ياسلام أنك عاتبي

أي: وما ظننت. وفي الحديث: «أمرت بالسواك حتى خفت لأدردن» وقيل: الخوف على بابه من ضد الأمن، فالمعنى: يحذرون ويتوقعون، لأن الوعظ وما بعده إنما هو في دوام ما ظهر من مبادئ ما يتخوف. والنشوز: أن تتعوج المرأة ويرتفع خلقها وتستعلي على زوجها، ويقال: نسور بالسين والراء المهملتين، ويقال: نصور، ويقال: نشوص. وامرأة ناشر وناشص. قال الأعشي:
تجللها شيخ عشاء فأصبحت ** مضاعية تأتي الكواهن ناشصا

قال ابن عباس: نشوزهنّ عصيانهنّ. وقال عطاء: نشوزها أن لا تتعطر، وتمنعه من نفسه، وتتغير عن أشياء كانت تتصنع للزوج بها. وقال أبو منصور: نشوزها كراهيتها للزوج. وقيل: امتناعها من المقام معه في بيته، وإقامتها في مكان لا يريد الإقامة فيه.
وقيل: منعها نفسها من الاستمتاع بها إذا طلبها لذلك. وهذه الأقوال كلها متقاربة.
ووعظهن: تذكيرهن آمر الله بطاعة الزوج، وتعريفهن أنّ الله أباح ضربهن عند عصيانهن، وعقاب الله لهن على العصيان قاله: ابن عباس. وقال مجاهد: يقول لها: اتقي الله، وارجعي إلى فراشك. وقيل: يقول لها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» وقال: «لا تمنعه نفسها ولو كانت على قتب» وقال: «أيما امرأة باتت هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح» وزاد آخرون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم العبد الآبق وامرأة بات عليها زوجها ساخطاً وإمام قوم هم له كارهون».
وهجرهن في المضاجع: تركهن لكراهة في المراقد. والمضجع المكان الذي يضطجع فيه على جنب. وأصل الاضطجاع الاستلقاء، يقال: ضجيع ضجوعاً واضطجع استلقى للنوم، وأضجعته أملته إلى الأرض، وكل شيء أملته من إناء وغيره فقد أضجعته. قال ابن عباس وابن جبير: معناه لا تجامعوهن. وقال الضحاك والسدي: اتركوا كلامهن، وولوهن ظهوركم في الفراش. وقال مجاهد: فارقوهن في الفرش، أي ناموا ناحية في فرش غير فرشهن. وقال عكرمة والحسن: قولوا لهن في المضاجع هجراً، أي كلاماً غليظاً. وقيل: اهجروهن في الكلام ثلاثة أيام فما دونها. وكنى بالمضاجع عن البيوت، لأن كل مكان يصلح أن يكون محلاً للاضطجاع. وقال النخعي، والشعبي، وقتادة، والحسن: من الهجران، وهو البعد وقيل: اهجروهن بترك الجماع والاجتماع، وإظهار التجهم، والإعراض عنهن مدة نهايتها شهراً كما فعل عليه السلام «حين حلف أن لا يدخل على نسائه شهراً» وقيل: اربطوهن بالهجار، وأكرهوهن على الجماع من قولهم: هجر البعير إذا شده بالهجار، وهو حبل يشدّ به البعير قاله: الطبري ورجحه. وقدح في سائر الأقوال. وقال الزمخشري في قول الطبري: وهذا من تفسير الثقلاء انتهى. وقيل في للسبب: أي اهجروهن بسبب تخلفهن عن الفرش. وقرأ عبد الله والنخعي: في المضجع على الإفراد وفيه معنى الجمع، لأنه اسم جنس.
وضربهن هو أن يكون غير مبرح ولا ناهك، كما جاء في الحديث. قال ابن عباس: بالسواك ونحوه. والضرب غير المبرح هو الذي لا يهشم عظماً، ولا يتلف عضواً، ولا يعقب شيناً، والناهك البالغ، وليجتنب الوجه. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «علق سوطك حيث يراه أهلك» وعن أسماء بنت الصديق رضي الله عنها: كنت رابعة أربع نسوة عند الزبير، فإذا غضب على إحدانا ضربها بعود المشجب حتى يكسره عليها. وهذا يخالف قول ابن عباس، وكذلك ما رواه ابن وهب عن مالك: أن أسماء زوج الزبير كانت تخرج حتى عوتبت في ذلك وعيب عليها وعلى ضرّاتها، فعقد شعر واحدة بالأخرى، ثم ضربهما ضرباً شديداً، وكانت الضرّة أحسن اتقاء، وكانت أسماء لا تتقي الضرب، فكان الضرب بها أكثر، فشكت إلى أبيها أبي بكر رضي الله عنه فقال: يا بنية اصبري فإن الزبير رجل صالح، ولعله أن يكون زوجك في الجنة.
وظاهر الآية يدل: على أنه يعظ، ويهجر في المضجع، ويضرب التي يخاف نشوزها. ويجمع بينها، ويبدأ بما شاء، لأن الواو لا ترتب. وقال بهذا قوم وقال الجمهور: الوعظ عند خوف النشوز، والضرب عند ظهوره. وقال ابن عطية: هذه العظة والهجر والضرب مراتب، إن وقعت الطاعة عند إحداها لم يتعد إلى سائرها. وقال الزمخشري: أمر بوعظهن أولاً، ثم بهجرانهن في المضاجع، ثم بالضرب إن لم ينجع فيهن الوعظ والهجران. وقال الرازي ما ملخصه: يبدأ بلين القول في الوعظ، فإن لم يفسد فبخشنه، ثم يترك مضاجعتها، ثم بالإعراض عنها كلية، ثم بالضرب الخفيف كاللطمة واللكزة ونحوها مما يشعر بالاحتقار وإسقاط الحرمة، ثم بالضرب بالسوط والقضيب اللين ونحوه مما يحصل به الألم والإنكاء ولا يحصل عنه هشم ولا إراقة دم، فإن لم يفد شيء من ذلك ربطها بالهجار وهو الحبل، وأكرهها على الوطء، لأن ذلك حقه. وأي شيء من هذه رجعت به عن نشوزها على ما رتبناه لم يجز له أن ينتقل إلى غيره لقوله: {فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً} انتهى. وقوله: فإن أطعنكم أي: وافقنكم وانقدن إلى ما أوجب الله عليهن من طاعتكم. يدل على أنهن كن عاصيات بالنشوز، وأن النشوز منهن كان واقعاً، فإذن ليس الأمر مرتباً على خوف النشوز. وآخرها يدل على أنه مرتب على عصيانهن بالنشوز، فهذا مما حمل على تأول الخوف بمعنى التيقن. والأحسن عندي أن يكون ثمّ معطوفاً حذف لفهم المعنى واقتضائه له، وتقديره: واللاتي تخافون نشوزهن ونشزن. كما حذف في قوله: {أن اضرب بعصاك الحجر فانفجرت} تقديره فضرب فانفجرت، لأن الانفجار لا يتسبب عن الأمر، إنما هو متسبب عن الضرب. فرتبت هذه الأوامر على الملفوظ به. والمحذوف: أمر بالوعظ عند خوف النشوز، وأمر بالهجر والضرب عند النشوز.
ومعنى فلا تبغوا: فلا تطلبوا عليهن سبيلاً من السبل الثلاثة المباحة وهي: الوعظ، والهجر، والضرب. وقال سفيان: معناه لا تكلفوهن ما ليس في قدرتهن من الميل والمحبة، فإن ذلك إلى الله. وقيل: يحتمل أن يكون تبغوا من البغي وهو الظلم، والمعنى: فلا تبغوا عليهن من طريق من الطرق. وانتصاب سبيلاً على هذا هو على إسقاط الخافض. وقيل: المعنى فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً من سبل البغي لهن والإضرار بهن توصيلاً بذلك إلى نشوزهن أي: إذا كانت طائعة فلا يفعل معها ما يؤدي إلى نشوزها.
ولفظ عليهن يؤذن بهذا المعنى. وسبيلاً نكرة في سياق النفي، فيعم النهي عن الأذى بقول أو فعل.
{إن الله كان علياً كبيراً} لما كان في تأديبهن بما أمر تعالى به الزوج اعتلاء للزوج على المرأة، ختم تعالى الآية بصفة العلو والكبر، لينبه العبد على أن المتصف بذلك حقيقة هو الله تعالى. وإنما أذن لكم فيما أذن على سبيل التأديب لهن، فلا تستعلوا عليهن، ولا تتكبروا عليهن، فإنَّ ذلك ليس مشروعاً لكم. وفي هذا وعظ عظيم للأزواج، وإنذار أنَّ قدرة الله عليكم فوق قدرتكم عليهن. وفي حديث أبي مسعود وقد ضرب غلاماً له اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا العبد. أو يكون المعنى: إنكم تعصونه تعالى على علو شأنه وكبرياء سلطانه، ثم يتوب عليكم، فيحق لكم أن تعفوا عنهن إذا أطعنكم.
{وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها} الخلاف في الخوف هنا مثله في: واللاتي تخافون. ولما كان حال المرأة مع زوجها إمّا الطواعية، وإمّا النشوز. وكان النشوز إمّا تعقبه الطواعية، وإمّا النشوز المستمر، فإن أعقبته الطواعية فتعود كالطائعة أولاً. وإن استمر النشوز واشتدّ، بعث الحكمان.
والشقاق: المشاقة. والأصل شقاقاً بينهما، فاتسع وأضيف. والمعنى على الظرف كما تقول: يعجبني سير الليلة المقمرة. أو يكون استعمل اسماً وزال معنى الظرف، أو أجرى البين هنا مجرى حالهما وعشرتهما وصحبتهما.
والخطاب في: وإن خفتم، وفي فابعثوا، للحكام، ومن يتولى الفصل بين الناس. وقيل: للأولياء لأنهم الذين يلون أمر الناس في العقود والفسوخ، ولهم نصب الحكمين. وقيل: خطاب للمؤمنين. وأبعد من ذهب إلى أنه خطاب للأزواج، إذ لو كان خطاباً للأزواج لقال: وإن خافا شقاق بينهما فليبعثا، أو لقال: فإن خفتم شقاق بينكم، لكنه انتقال من خطاب الأزواج إلى خطاب من له الحكم والفصل بين الناس، وإلى أنه خطاب للأزواج ذهب الحسن والسدي. والضمير في بينهما عائد على الزوجين، ولم يجرد ذكرهما، لكن جرى ما يدل عليهما من ذكر الرجال والنساء.
والحكم: هو من يصلح للحكومة بين الناس والإصلاح. ولم تتعرّض الآية لماذا يحكمان فيه، وإنما كان من الأهل، لأنه أعرف بباطن الحال، وتسكن إليه النفس، ويطلع كل منهما حكمه على ما في ضميره من حب وبغض وإرادة صحبة وفرقة. قال جماعة من العلماء: لابد أن يكونا عارفين بأحوال الزوجين، عدلين، حسني السياسة والنظر في حصول المصلحة، عالمين بحكم الله في الواقعة التي حكما فيها. فإن لم يكن من أهلهما من يصلح لذلك أرسل من غيرهما عدلين عالمين، وذلك إذا أشكل أمرهما ورغباً فيمن يفصل بينهما. وقال بعض العلماء: إنما هذا الشرط في الحكمين اللذين يبعثهما الحاكم. وأما الحكمان اللذان يبعثهما الزوجان فلا يشترط فيهما إلا أن يكونا بالغين عاقلين مسلمين، من أهل العفاف والستر، يغلب على الظن نصحهما.
واختلفوا في المقدار الذي ينظر فيه الحكمان، فذهب الجمهور إلى أنهما ينظران في كل شيء، ويحملان على الظالم، ويمضيان ما رأيا من بقاء أو فراق، وبه قال: مالك، والأوزاعي، وإسحاق، وأبو ثور. وهو مروي عن: علي، وعثمان، وابن عباس، والشعبي، والنخعي، ومجاهد، وأبي سلمة، وطاووس. قال مالك: إذا رأيا التفريق فرقا، سواء أوافق مذهب قاضي البلد أو خالفه، وكلاه أم لا، والفراق في ذلك طلاق بائن، وقالت طائفة: لا ينظر الحكمان إلا فيما وكلهما به الزوجان وصرّحا بتقديمهما عليه، فالحكمان وكيلان: أحدهما للزوج، والآخر للزوجة، ولا تقع الفرقة إلا برضا الزوجين، وهو مذهب أبي حنيفة، وعن الشافعي القولان. وقال الحسن وغيره: ينظر الحكمان في الإصلاح وفي الأخذ والإعطاء، إلا في الفرقة فإنّها ليست إليهما. وأما ما يقول الحكمان، فقال جماعة: يقول حكم الزوج له أخبرني ما في خاطرك، فإن قال: لا حاجة لي فيها، خذ لي ما استطعت وفرق بيننا، علم أن النشوز من قبله. وإن قال: أهواها ورضها من مالي بما شئت ولا تفرق بيننا، علم أنه ليس بناشز ويقول الحكم من جهتها لها كذلك، فإذا ظهر لهما أن النشوز من جهته وعظاه، وزجراه، ونهياه.
{إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما} الضمير في يريدا عائد على الحكمين قاله: ابن عباس، ومجاهد، وغيرهما. وفي بينهما عائد على الزوجين، أي: قصدا إصلاح ذات البين، وصحت نيتهما، ونصحا لوجه الله، وفق الله بين الزوجين وألف بينهما، وألقى في نفوسهما المودة. وقيل: الضميران معاً عائدان على الحكمين أي: إن قصدا إصلاح ذات البين، وفق الله بينهما فيجتمعان على كلمة واحدة، ويتساعدان في طلب الوفاق حتى يحصل الغرض. وقيل: الضميران عائدان على الزوجين أي: إن يرد الزوجان إصلاحاً بينهما، وزوال شقاق، يزل الله ذلك ويؤلف بينهما. وقيل: يكون في يريدا عائداً على الزوجين، وفي بينهما عائداً على الحكمين: أي: إن يرد الزوجان إصلاحاً وفق الله بين الحكمين فاجتمعا على كلمة واحدة، وأصلحا، ونصحا.
وظاهر الآية أنه لابد من إرسال الحكمين وبه قال الجمهور.
وروي عن مالك: أنه يجري إرسال واحد، ولم تتعرض الآية لعدالة الحكمين، فلو كانا غير عدلين فقال عبد الملك: حكمهما منقوض. وقال ابن العربي: الصحيح نفوذه. وأجمع أهل الحل والعقد: على أن الحكمين يجوز تحكيمهما. وذهبت الخوارج: إلى أن التحكيم ليس بجائز، ولو فرّق الحكمان بين الزوجين خلعا برضا الزوجين. فهل يصح من غير أمر سلطان؟ ذهب الحسن وابن سيرين: إلى أنه لا يجوز الصلح إلا عند السلطان. وذهب عمر وعثمان وابن عمر وجماعة من الصحابة والتابعين: إلى أنه يصح من غير أمر السلطان منهم: مالك، وأبو حنيفة، وأصحابه، والشافعي.
{إن الله كان عليماً حكيماً} يعلم ما يقصد الحكمان، وكيف يوفقا بين المختلفين، ويخبر خفايا ما ينطقان به في أمر الزوجين.
{واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين} مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى لما ذكر أنّ الرجال قوامون على النساء بتفضيل الله إياهم عليهن، وبإنفاق أموالهم، ودل بمفهوم اللقب أنه لا يكون قواماً على غيرهن، أوضح أنه مع كونه قواماً على النساء هو أيضاً مأمور بالإحسان إلى الوالدين، وإلى من عطفه على الوالدين. فجاءت حثاً على الإحسان، واستطراداً لمكارم الأخلاق. وأن المؤمن لا يكتفي من التكاليف الإحسانية بما يتعلق بزوجته فقط، بل عليه غيرها من بر الوالدين وغيرهم. وافتتح التوصل إلى ذلك بالأمر بإفراد الله تعالى بالعبادة، إذ هي مبدأ الخير الذي تترتب الأعمال الصالحة عليه. ونظير: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحساناً} وتقدم شرح قوله: {وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين} إلا أن هنا وبذي، وهناك وذي، وإعادة الباء تدل على التوكيد والمبالغة، فبولغ في هذه الآية لأنها في حق هذه الأمة، ولم يبالغ في حق تلك، لأنها في حق بني إسرائيل. والاعتناء بهذه الأمة أكثر من الاعتناء بغيرها، إذ هي خير أمة أخرجت للناس. وقرأ ابن أبي عبلة: وبالوالدين إحسان بالرفع، وهومبتدأ وخبر فيه ما في المنصوب من معنى الأمر، وإن كان جملة خبرية نحو قوله:
فصبر جميل فكلانا مبتلي

{والجار ذي القربى} قال ابن عباس: ومجاهد، وعكرمة، والضحاك، وقتادة، وابن زيد، ومقاتل في آخرين: هو الجار القريب النسب، والجار الجنب هو الجار الأجنبي، الذي لا قرابة بينك وبينه. وقال بلعاء بن قيس:
لا يجتوينا مجاور أبدا ** ذو رحم أو مجاور جنب

وقال نوف الشامي: هو الجار المسلم.
{والجار الجنب} هو: الجار اليهودي، والنصراني. فهي عنده قرابة الإسلام، وأجنبية الكفر. وقالت فرقة، هو الجار القريب المسكن منك، والجنب هو البعيد المسكن منك. كأنه انتزع من الحديث الذي فيه: إن لي جارين فإلى أهيما أهدي؟ قال: «إلى أقربهما منك باباً» وقال ميمون بن مهران: والجار ذي القربى أريد به الجار القريب. قال ابن عطية: وهذا خطأ في اللسان، لأنه جمع على تأويله بين الألف واللام والإضافة، وكان وجه الكلام: وجار ذي القربى انتهى. ويمكن تصحيح قول ميمون على أن لا يكون جمعاً بين الألف واللام والإضافة على ما زعم ابن عطية بأن يكون قوله: ذي القربى بدلاً من قوله: والجار، على حذف مضاف التقدير: والجار جار ذي القربى، فحذف جار لدلالة الجار عليه، وقد حذفوا البدل في مثل هذا. قال الشاعر:
رحم الله أعظما دفنوها ** بسجستان طلحة الطلحات

يريد: أعظم طلحة الطلحات.
ومن كلام العرب: لو يعلمون العلم الكبيرة سنة، يريدون: علم الكبيرة سنة. والجنب: هو البعيد، سمي بذلك لبعده عن القرابة. وقال: فلا تحرمني نائلاً عن جنابة. والمجاورة مساكنة الرجل الرجل في محلة، أو مدينة، أو كينونة أربعين داراً من كل جانب، أو يعتبر بسماع الأذان، أو بسماع الإقامة، أقوال أربعة ثانيها: قول الأوزاعي. وروى في ذلك حديثاً أنه عليه الصلاة والسلام «أمر مناديه ينادي: لا إنَّ أربعين داراً جوار، ولا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه» المجاورة مراتب، بعضها ألصق من بعض، أقربها الزوجة. قال الأعشى:
أجارتنا بيني فإنك طالقة

وقرئ: والجار ذا القربى. قال الزمخشري: نصباً على الاختصاص كما قرئ {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} تنبيهاً على عظم حقه لإدلائه بحقي الجوار والقربى انتهى، وقرأ عاصم في رواية المفضل عنه: والجار الجنُب بفتح الجيم وسكون النون، ومعناه البعيد. وسئل أعرابي عن الجار الجنْب فقال: هو الذي يجيء فيحل حيث تقع عينك عليه.
{والصاحب بالجنب} قال ابن عباس، وابن جبير، وقتادة، ومجاهد، والضحاك: هو الرفيق في السفر. وقال علي وابن مسعود والنخعي، وابن أبي ليلى: الزوجة. وقال ابن زيد: هو من يعتريك ويلمّ بك لتنفعه. وقال الزمخشري: هو الذي صحبك بأن حصل بجنبك إما رفيقاً في سفر، وإما جاراً ملاصقاً، وإما شريكاً في تعلم علم أو حرفة، وإما قاعداً إلى جنبك في مجلس أو مسجداً، أو غير ذلك من أدنى صحبة التأمت بينك وبينه، فعليك أن تراعي ذلك الحق ولا تنساه، وتجعله ذريعة للإحسان. وقال مجاهد أيضاً: هو الذي يصحبك سفراً وحضراً. وقيل: الرفيق الصالح.
{وابن السبيل} تقدّم شرحه.
{وما ملكت أيمانكم} قيل: ما وقعت على العاقل باعتبار النوع كقوله تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم} وقيل: لأنها أعم من من، فتشمل الحيوانات على إطلاقها من عبيد وغيرهم، والحيوانات غير الارقاء أكثر في يد الإنسان من الارقاء، فغلب جانب الكثرة، فأمر الله تعالى بالإحسان إلى كل مملوك من آدمي وحيوان غيره. وقد ورد غير ما حديث في الوصية بالارقاء خيراً في صحيح مسلم وغيره. ومن غريب التفسير ما نقل عن سهل التستري قال: الجار ذو القربى هو القلب، والجار الجنب النفس، والصاحب بالجنب العقل الذي يجهر على اقتداء السنة والشرائع، وابن السبيل الجوارح المطيعة.
{إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً} نفى تعالى محبته عمن اتصف بهاتين الصفتين: الاختيال وهو التكبر، والفخر هو عد المناقب على سبيل التطاول بها والتعاظم على الناس. لأنّ من اتصف بهاتين الصفتين حملتاه على الإخلال بمن ذكر في الآية ممن يكون لهم حاجة إليه. وقال أبو رجاء الهروي: لا تجد سيئ الملكة إلا وجدته مختالاً فخوراً، ولا عاقاً إلا وجدته جباراً شقياً. قال الزمخشري: والمختال التياه الجهول الذي يتكبر عن إكرام أقاربه وأصحابه ومماليكه، فلا يحتفى بهم، ولا يلتفت إليهم.
وقال غيره: ذكر تعالى الاختيال لأن المختال يأنف من ذوي قرابته إذا كانوا فقراء، ومن جيرانه إذا كانوا ضعفاء، ومن الأيتام لاستضعافهم ومن المساكين لاحتقارهم، ومن ابن السبيل لبعده عن أهله وماله، ومن مماليكه لأسرهم في يده انتهى. وتظافرت هذه النقول على أن ذكر هاتين الصفتين في آخر الآية إنما جاء تنبيهاً على أنّ من اتصف بالخيلاء والفخر يأنف من الإحسان للأصناف المذكورين، وأن الحامل له على ذلك اتصافه بتينك الصفتين. والذي يظهر لي أنّ مساقهما غير هذا المساق الذي ذكروه، وذلك أنه تعالى لما أمر بالإحسان للأصناف المذكورة والتحفي بهم وإكرامهم، كان في العادة أن ينشأ عن من اتصف بمكارم الأخلاق أن يجد في نفسه زهواً وخيلاء، وافتخاراً بما صدر منه من الإحسان. وكثيراً ما افتخرت العرب بذلك وتعاظمت في نثرها ونظمها به، فأراد تعالى أن ينبه على التحلي بصفة التواضع، وأن لا يرى لنفسه شفوفاً على من أحسن إليه، وأن لا يفخر عليه كما قال تعالى: {لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} فنفى تعالى محبته عن المتحلي بهذين الوصفين. وكان المعنى أنهم أمروا بعبادة الله تعالى، وبالإحسان إلى الوالدين. ومن ذكر معهما: ونهوا عن الخيلاء والفخر، فكأنه قيل: ولا تختالوا وتفخروا على من أحسنتم إليه، إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً. إلا أنّ ما ذكرناه لا يتم إلا على أن يكون الذين يبخلون مبتدأ مقتطعاً مما قبله، أما إن كان متصلاً بما قبله فيأتي المعنى الذي ذكره المفسرون، ويأتي إعراب الذين يبخلون، وبه يتضح المعنى الذي ذكروه، والمعنى الذي ذكرناه إن شاء الله تعالى.
{الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً} نزلت هذه الآية في قوم كفار. روى عن ابن عباس، ومجاهد، وابن زيد، وحضرمي: أنها نزلت في أحبار اليهود بخلوا بالإعلام بأمر محمد صلى الله عليه وسلم، وكتموا ما عندهم من العلم في ذلك، وأمروا بالبخل على جهتين: أمروا أتباعهم بجحود أمر محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا للأنصار: لم تنفقون على المهاجرين فتفتقرون؟ وقيل: نزلت في المنافقين. وقيل: في مشركي مكة.
وعلى اختلاف سبب النزول اختلف أقوال المفسرين من المعنى بالذين يبخلون. وقيل: هي عامّة في كل من يبخل ويأمر بالبخل من اليهود وغيرهم. والبخل في كلام العرب: منع السائل شيئاً مما في يد المسؤول من المال، وعنده فضل. قال طاووس: البخل أن يبخل الإنسان بما في يده، والشح أن يشح على ما في أيدي الناس. والبخل في الشريعة، هو منع الواجب. وقال الراغب: لم يرد البخل بالمال، بل بجميع ما فيه نفع للغير انتهى. ولما أمر تعالى بالإحسان إلى الوالدين ومن ذكر معهما من المحتاجين على سبيل ابتداع أمر الله، بيّن أنّ من لا يفعل ذلك قسمان.
أحدهما: البخيل الذي لا يقدم على إنفاق المال ألبتة حتى أفرط في ذلك وأمر بالبخل. والثاني: الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس، لا لغرض أمر الله وامتثاله وطاعته. وذمّ تعالى القسمين بأن أعقب القسم الأول: وأعتدنا للكافرين، وأعقب الثاني بقوله: {ومن يكن الشيطان له قريناً}.
والبخل أنواع: بخل بالمال، وبخل بالعلم، وبخل بالطعام، وبخل بالسلام، وبخل بالكلام، وبخل على الأقارب دون الأجانب، وبخل بالجاه، وكلها نقائص ورذائل مذمومة عقلاً وشرعاً وقد جاءت أحاديث في مدح السماحة وذم البخل منها: «خصلتان لا يجتمعان في مؤمن: البخل وسوء الخلق» وظاهر قوله بالبخل أنه متعلق بقوله: ويأمرون، كما تقول: أمرت زيداً بالصبر، فالبخل مأمور به. وقيل: متعلق الأمر محذوف، والباء في بالبخل حالية، والمعنى: ويأمرون الناس بشكرهم مع التباسهم بالبخل، فيكون نحو ما أشار إليه الشاعر بقوله:
أجمعت أمرين ضاع الحزم بينهما ** تيه الملوك وأفعال المماليك

وقرأ الجمهور: بالبخل بضم الباء وسكون الخاء. وعيسى بن عمر والحسن: بضمهما. وحمزة الكسائي: بفتحهما، وابن الزبير وقتادة وجماعة. بفتح الباء، وسكون الخاء. وهي كلها لغات. قال الفرّاء: البخل مثقلة لأسد، والبخل خفيفة لتميم، والبخل لأهل الحجاز. ويخففون أيضاً فتصير لغتهم ولغة تميم واحدة، وبعض بكر بن وائل بقولون البخل قال جرير:
تريدين أن ترضي وأنت بخيلة ** ومن ذا الذي يرضي الأخلاء بالبخل

وأنشدني المفضل:
وأوفاهم أوان بخل

وينشد هذا البيت بفتحتين وضمتين:
وإن امرأ لا يرتجى الخير عنده ** لذو بخل كل على من يصاحب

واختلفوا في إعراب الذين يبخلون، فقيل: هو في موضع نصب بدل من قوله: من كان. وقيل: من قوله مختالاً فخوراً. أفرد اسم كان، والخبر على لفظ من، وجمع الذين حملا على المعنى. وقيل: انتصب على الذم. ويجوز عندي أن يكون صفة لمن، ولم يذكروا هذا الوجه. وقيل: هو في موضع رفع على إضمار مبتدأ محذوف، أي: هم الذين. وقال أبو البقاء: يجوز أن يكون بدلاً من الضمير في فخوراً، وهو قلق. فهذه ستة أوجه يكون فيها الذين يبخلون متعلقاً بما قبله، ويكون الباخلون منفياً عنهم محبة الله تعالى، وتكون الآية إذن في المؤمنين، والمعنى: أحسنوا أيها المؤمنون إلى مَن سمى الله، فإن الله لا يحب من فيه الخلال المانعة من الإحسان إليهم وهي: الخيلاء، والفخر، والبخل، والأمر به، وكتمان ما أعطاهم الله من الرزق والمال. وقيل: الذين يبخلون في موضع رفع على الابتداء، واختلفوا في الخبر: أهو محذوف؟ أم ملفوظ به؟ فقيل: هو ملفوظ به وهو قوله: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها} ويكون الرابط محذوفاً تقديره: مثقال ذرة لهم، أو لا يظلمهم مثقال ذرة.
وإلى هذا ذهب الزجاج، وهو بعيد متكلف لكثرة الفواصل بين المبتدأ والخبر، ولأن الخبر لا ينتظم مع المبتدأ معناه: انتظاماً واضحاً لأنّ سياق المبتدأ وما عطف عليه ظاهراً من قوله: والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، لا يناسب أن يخبر عنه بقوله: إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً، بل مساق أنّ الله لا يظلم أن يكون استئناف كلام إخباراً عن عدله وعن فضله تعالى وتقدس. وقيل: هو محذوف فقدره الزمخشري: الذين يبخلون ويفعلون ويصنعون أحقاء بكل ملامة. وقدره ابن عطية: معذبون أو مجازون ونحوه. وقدره أبو البقاء: أولئك قرناؤهم الشيطان، وقدره أيضاً: مبغضون. ويحتمل أن يكون التقدير: كافرون {وأعتدنا للكافرين} فإن كان ما قبل الخبر مما يقتضي كفراً حقيقة كتفسيرهم البخل بأنه بخل بصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبإظهار نبوّته. والأمر بالبخل لأتباعهم أي: بكتمان ذلك، وكتمهم ما تضمنته التوراة من نبوّته وشريعته، كان قوله: وأعتدنا للكافرين، حقيقة فإن كان ما قبل الخبر كفر نعمة كتفسيرهم: أنها في المؤمنين، كان قوله: وأعتدنا للكافرين كفر نعمة ولكل من هذه التقادير مناسب من الآية، والآية على هذه التقادير. وقول الزجاج: في الكفار، ويبين ذلك سبب النزول المتقدم. وتقدم تفسير البخل والأمر به، والكتمان على هذا الوجه في سبب النزول. وأعتدنا للكافرين: أي أعددنا وهيأنا. والعتيد: الحاضر المهيأ والمهين الذي فيه خزي وذل، وهو أنكى وأشد على المعذب.
{والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر} تقدم تفسير مثل هذه الآية في قوله: {كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر}، وهنا: ولا باليوم الآخر. وهناك: واليوم الآخر. قال السدّي، والزجاج وأبو سليمان الدّمشقي والجمهور: هم المنافقون نزلت فيهم، وإنفاقهم هو إعطاؤهم الزكاة، وإخراجهم المال في السفر للغزو رئاء ودفعاً عن أنفسهم، لا إيماناً ولا حباً في الدّين. وقال ابن عباس: ومقاتل، ومجاهد: نزلت في اليهود. وضعفه الطبري من حيث أنهم يؤمنون بالله واليوم الآخر. ووجه ابن عطية هذا القول بأنهم لم يؤمنوا على ما ينبغي جعل إيمانهم كلا إيمان من حيث لا ينفعهم. وقيل: هم مشركو مكة، لأنهم كانوا ينكرون البعث. وإنفاق اليهود هو ما أعانوا به قريشاً في غزوة أحد وغزوة الخندق، وإنفاق مشركي مكة هو ما كان في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم وطلبهم الانتصار.
وفي إعراب والذين ينفقون وجوه: أحدها: أنه مبتدأ محذوف الخبر، ويقدر: معذبون، أو قرينهم الشيطان، ويكون العطف من عطف الجمل. والثاني: أن يكون معطوفاً على الكافرين، فيكون مجروراً قاله: الطبري. والثالث: أن يكون معطوفاً على الذين يبخلون، فيكون إعرابه كإعراب الذين يبخلون.
والعطف في هذين الوجهين من عطف المفردات. ورئاء مصدر راء، أو انتصابه على أنه مفعول من أجله، وفيه شروطه فلا ينبغي أن يعدل عنه. وقيل: هو مصدر في موضع الحال قاله: ابن عطية، ولم يذكر غيره. وظاهر قوله: ولا يؤمنون أنه عطف على صلة الذين، فيكون صلة. ولا يضر الفصل بين أبعاض الصلة بمعمول للصلة، إذ انتصاب رئاء على وجهيه بينفقون. وجوّزوا أن يكون: ولا يؤمنون في موضع الحال، فتكون الواو واو الحال أي: غير مؤمنين، والعامل فيها ينفقون أيضاً. وحكى المهدوي: أنه يجوز انتصاب رئاء على الحال من نفس الموصول لا من الضمير في ينفقون، فعلى هذا لا يجوز أن يكون: ولا يؤمنون معطوفاً على الصلة، ولا حالاً من ضمير ينفقون، لما يلزم من الفصل بين أبعاض الصلة، أو بين معمول الصلة بأجنبي وهو رئاء المنصوب على الحال من نفس الموصول، بل يكون قوله: ولا يؤمنون مستأنف. وهذا وجه متكلف. وتعلق رئاء بقوله: ينفقون واضح، إما على المفعول له، أو الحال، فلا ينبغي أن يعدل عنه. وتكرار لا وحرف الجر في قوله: ولا باليوم الآخر مفيد لانتفاء كل واحد من الإيمان بالله، ومن الإيمان باليوم الآخر. لأنك إذا قلت: لا أضرب زيداً وعمراً، احتمل أن لا تجمع بين ضربيهما. ولذلك يجوز أن تقول بعد ذلك: بل أحدهما. واحتمل نفي الضرب عن كل واحد منهما علي سبيل الجمع، وعلى سبيل الإفراد. فإذا قلت: لا أضرب زيداً ولا عمراً، تعين هذا الاحتمال الثاني الذي كان دون تكرار.
{ومن يكن الشيطان له قريناً فساء قريناً} لما ذكر تعالى من اتصف بالبخل والأمر به، وكتمان فضل الله تعالى، والإنفاق رئاء، وانتفاء إيمانه بالله وباليوم الآخر، ذكر أن هذه من نتائج مقارنة الشيطان ومخالطته وملازمته للمتصف بذلك، لأنها شر محض، إذ جمعت بين سوء الاعتقاد الصادر عنه الإنفاق رئاء، وسائر تلك الأوصاف المذمومة. ولذلك قدم تلك الأوصاف وذكر ما صدرت عنه وهو انتفاء الإيمان بالموجد، وبدار الجزاء. ثم ذكر أنّ ذلك من مقارنة الشيطان.
والقرين هنا فعيل بمعنى مفاعل، كالجليس والخليط أي: المجالس والمخالط. والشيطان هنا جنس لا يراد به إبليس وحده وهو كقوله: {ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين} وله متعلق بقريناً أي: قريناً له. والفاء جواب الشرط، وساء هنا هي التي بمعنى بئس للمبالغة في الذم، وفاعلها على مذهب البصريين ضمير عام، وقريناً تمييز لذلك الضمير. والمخصوص بالذمّ محذوف وهو العائد على الشيطان الذي هو قرين، ولا يجوز أن يكون ساء هنا هي المتعدية ومفعولها محذوف وقريناً حال، لأنها إذ ذاك تكون فعلاً متصرفاً فلا تدخله الفاء، أو تدخله مصحوبة بقد. وقد جوّزوا انتصاب قريناً على الحال، أو على القطع، وهو ضعيف.
وبولغ في ذمّ هذا القرين لحمله على تلك الأوصاف الذميمة. قال الزمخشري وغيره: ويجوز أن يكون وعيداً لهم بأن الشيطان يقرن بهم في النار انتهى. فتكون المقارنة إذ ذاك في الآخرة يقرن به في النار فيتلاعنان ويتباغضان كما قال: {مقرنين في الأصفاد} {وإذا ألقوا منها مكاناً ضيقاً مقرنين} وقال الجمهور: هذه المقارنة هي في الدنيا كقوله: {وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم} {ونقيض له شيطاناً فهو له قرين} {وقال قرينه ربنا ما أطغيته} قال ابن عطية: وقرن الطبري هذه الآية بقوله تعالى: {بئس للظالمين بدلاً} وذلك مردود، لأنّ بدلاً حال، وفي هذا نظر. والذي قاله الطبري صحيح، وبدلاً تمييز لا حال، وهو مفسر للضمير المستكن في بئس على مذهب البصريين، والمخصوص بالذم محذوف تقديره: هم أي الشيطان وذريته. وإنما ذهب إلى إعراب المنصوب بعد نعم وبئس حالاً الكوفيون على اختلاف بينهم مقرر في علم النحو.