فصل: تفسير الآيات (29- 49):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (29- 49):

{فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)}
لما تقدم إقسام الله تعالى على وقوع العذاب، وذكر أشياء من أحوال المعذبين والناجين، أمره بالتذكير، إنذاراً للكافر، وتبشيراً للمؤمن، ودعاء إلى الله تعالى بنشر رسالته، ثم نفى عنه ما كان الكفار ينسبونه إليه من الكهانة والجنون، إذا كانا طريقين إلى الإخبار ببعض المغيبات، وكان للجن بهما ملابسة للإنس. وممن كان ينسبه إلى الكهانة شيبة بن ربيعة، وممن كان ينسبه إلى الجنون عقبة بن أبي معيط. وقال الزمخشري: {فذكر} فاثبت على تذكير الناس وموعظتهم، ولا يثبطنك قولهم كاهن أو مجنون، ولا تبال به، فإنه قول باطل متناقض. فإن الكاهن يحتاج في كهانته إلى فطنة ودقة نظر، والمجنون مغطى على عقله؛ وما أنت، بحمد الله تعالى وإنعامه عليك بصدق النبوة ورصافة العقل، أحد هذين. انتهى. وقال الحوفي: {بنعمة ربك} متعلق بما دل عليه الكلام، وهو اعتراض بين اسم ما وخبرها، والتقدير: ما أنت في حال إذكارك بنعمة ربك بكاهن. قال أبو البقاء: الباء في موضع الحال، والعامل في بكاهن أو مجنون، والتقدير: ما أنت كاهناً ولا مجنوناً ملتبساً بنعمة ربك. انتهى. وتكون حالاً لازمة لا منتقلة، لأنه عليه الصلاة والسلام ما زال ملتبساً بنعمة ربه. وقيل: {بنعمة ربك} مقسم بها، كأنه قيل: ونعمة ربك ما أنت كاهن ولا مجنون، فتوسط المقسم به بين الاسم والخبر، كما تقول: ما زيد والله بقائم. ولما نفى عنه الكهانة والجنون اللذين كان بعض الكفار ينسبونهما إليه، ذكر نوعاً آخر مما كانوا يقولونه.
روي أن قريشاً اجتمعت في دار الندوة، وكثرت آراؤهم فيه صلى الله عليه وسلم، حتى قال قائل منهم، وهم بنو عبد الدار، قاله الضحاك: تربصوا به ريب المنون، فإنه شاعر سيهلك، كما هلك زهير والنابغة والأعشى، فافترقوا على هذه المقالة، فنزلت الآية في ذلك. وقول من قال ذلك هو من نقص الفطرة بحيث لا يدرك الشعر، وهو الكلام الموزون على طريقة معروفة من النثر الذي ليس هو على ذلك المضمار، ولا شك أن بعضهم كان يدرك ذلك، إذ كان فيهم شعراء، ولكنهم تمالؤوا مع أولئك الناقصي الفطرة على قولهم: هو شاعر، حجداً الآيات الله بعد استيقانها. وقرأ زيد بن علي: يتربص بالياء مبنياً للمفعول به، {ريب}: مرفوع، وريب المنون: حوادث الدهر، فإنه لا يدوم على حال، قال الشاعر:
تربص بها ريب المنون لعلها ** تطلق يوماً أو يموت حليلها

وقال الهندي:
أمن المنون وريبها تتوجع ** والدهر ليس بمعتب من يجزع

{قل تربصوا}: هو أمر تهديد من المتربصين هلاككم، كما تتربصون هلاكي. {أم تأمرهم أحلامهم}: عقولهم بهذا، أي بقولهم كاهن وشاعر ومجنون، وهو قول متناقض، وكانت قريش تدعى أهل الأحلام والنهي.
وقيل لعمرو بن العاص: ما بال قومك لم يؤمنوا وقد وصفهم الله تعالى بالعقل؟ فقال: تلك عقول كادها الله، أي لم يصحبها التوفيق. {أم تأمرهم}، قيل: أم بمعنى الهمزة، أي أتأمرهم؟ وقدرها مجاهد ببل، والصحيح أنها تتقدر ببل والهمزة.
{أم هم قوم طاغون}: أي مجاوزون الحدّ في العناد مع ظهور الحق. وقرأ مجاهد: بل هم، مكان: {أم هم}، وكون الأحلام آمرة مجازاً لما أدت إلى ذلك، جعلت آمرة كقوله: {أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا} وحكى الثعلبي عن الخليل أنه قال: كل ما في سورة والطور من أم فاستفهام وليس بعطف. تقوله: اختلقه من قبل نفسه، كما قال: {ولو تقول علينا بعض الأقاويل} وقال ابن عطية: تقوله معناه: قال عن الغير أنه قاله، فهو عبارة عن كذب مخصوص. انتهى. {بل لا يؤمنون}: أي لكفرهم وعنادهم، ثم عجزهم بقوله تعالى: {فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين}: أي مماثل للقرآن في نظمه ووصفه من البلاغة، وصحة المعاني والأخبار بقصص الأمم السالفة والمغيبات، والحكم إن كانوا صادقين في أنه تقوله، فليقولوا هم مثله، إذ هو واحد منهم، فإن كانوا صادقين فليكونوا مثله في التقوّل. فقرأ الجحدري وأبو السمّال: {بحديث مثله}، على الإضافة: أي بحديث رجل مثل الرسول في كونه أمياً لم يصحب أهل العلم ولا رحل عن بلده، أو مثله في كونه واحداً منهم، فلا يجوز أن يكون مثله في العرب فصاحة، فليأت بمثل ما أتى به، ولن يقدر على ذلك أبداً.
{أم خلقوا من غير شيء}: أي من غير شيء حي كالجماد، فهم لا يؤمرون ولا ينهون، كما هي الجمادات عليه، قاله الطبري. وقيل: {من غير شيء}: أي من غير علة ولا لغاية عقاب وثواب، فهم لذلك لا يسمعون ولا يتشرعون، وهذا كما تقول: فعلت كذا وكذا من غير علة: أي لغير علة، فمن للسبب، وفي القول الأول لابتداء الغاية. وقال الزمخشري: {أم خلقوا}: أم أحدثوا؟ وقدروا التقدير الذي عليه فطرتهم؛ {من غير شيء}: من غير مقدر، أم هم الذين خلقوا أنفسهم حيث لا يعبدون الخالق؟ {بل لا يوقنون}: أي إذا سئلوا: من خلقكم وخلق السموات والأرض؟ قالوا: الله، وهم شاكون فيما يقولون لا يوقنون. أم خلقوا من غير رب ولا خالق؟ أي أم أحدثوا وبرزوا للوجود من غير إله يبرزهم وينشئهم؟ {أم هم الخالقون} لأنفسهم، فلا يعبدون الله، ولا يأتمرون بأوامره، ولا ينتهون عن مناهيه. والقسمان باطلان، وهم يعترفون بذلك، فدل على بطلانهم. وقال ابن عطية: ثم وقفهم على جهة التوبيخ على أنفسهم، أهم الذين خلقوا الأشياء فهم لذلك يتكبرون؟ ثم خصص من تلك الأشياء السموات والأرض لعظمها وشرفها في المخلوقات، ثم حكم عليهم بأنهم لا يوقنون ولا ينظرون نظراً يؤديهم إلى اليقين.
{أم عندهم خزائن ربك}، قال الزمخشري: خزائن الرزق، حتى يرزقوا النبوة من شاءوا، أو: أعندهم خزائن علمه حتى يختاروا لها من اختياره حكمة ومصلحة؟ {أم هم المسيطرون}: الأرباب الغالبون حتى يدبرون أمر الربوبية ويبنوا الأمور على إرادتهم. وقال ابن عطية: أم عندهم الاستغناء عن الله تعالى في جميع الأمور، لأن المال والصحة والقوة وغير ذلك من الأشياء كلها من خزائن الله تعالى. وقال الزهراوي: وقيل يريد بالخزائن: العلم، وهذا قول حسن إذا تؤمل وبسط. وقال الرماني: خزائنه تعالى: مقدوراته. انتهى. والمسيطر، قال ابن عباس: المسلط القاهر. وقرأ الجمهور: المصيطرون بالصاد؛ وهشام وقنبل وحفص: بخلاف عنه بالسين، وهو الأصل؛ ومن أبدلها صاداً، فلأجل حرف الاستعلاء وهو الطاء، وأشم خلف عن حمزة، وخلاد عنه بخلاف عنه الزاي.
{أم لهم سلم} منصوب إلى السماء، {يستمعون فيه}: أي عليه أو منه، إذ حروف الجر قد يسد بعضها مسد بعض، وقدره الزمخشري: صاعدين فيه، ومفعول يستمعون محذوف تقديره: الخبر بصحة ما يدعونه، وقدره الزمخشري: ما يوحى إلى الملائكة من علم الغيب حتى يعلموا ما هو كائن من تقدم هلاكه على هلاكهم وظفرهم في العاقبة دونه كما يزعمون. {بسلطان مبين}: أي بحجة واضحة بصدق استماعهم مستمعهم، {أم تسألهم أجراً} على الإيمان بالله وتوحيده واتباع شرعه، {فهم} من ذلك المغرم الثقيل اللام {مثقلون}، فاقتضى زهدهم في اتباعك.
{أم عندهم الغيب}: أي اللوح المحفوظ، {فهم يكتبون}: أي يثبتون ذلك للناس شرع، وذلك عبادة الأوثان وتسييب السوائب وغير ذلك من سيرهم. وقيل: المعنى فهم يعلمون متى يموت محمد صلى الله عليه وسلم الذي يتربصون به، ويكتبون بمعنى: يحكمون. وقال ابن عباس: يعني أم عندهم اللوح المحفوظ، فهم يكتبون ما فيه ويخبرون. {أم يريدون كيداً}: أي بك وبشرعك، وهو كيدهم به في دار الندوة، {فالذين كفروا}: أي فهم، وأبرز الظاهر تنبيهاً على العلة، أو الذين كفروا عام فيندرجون فيه، {هم المكيدون}: أي الذين يعود عليهم وبال كيدهم، ويحيق بهم مكرهم، وذلك أنهم قتلوا يوم بدر، وسمى غلبتهم كيداً، إذ كانت عقوبة الكيد. {أم لهم إله غير الله} يعصمهم ويدفع عنهم في صدور إهلاكهم، ثم نزه تعالى نفسه، {عما يشركون} به من الأصنام والأوثان.
{وإن يروا كسفاً من السماء}: كانت قريش قد اقترحت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما اقترحت من قولهم: أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً، فأخبر تعالى أنهم لو رأوا ذلك عياناً، حسب اقتراحهم، لبلغ بهم عتوهم وجهلهم أن يغالطوا أنفسهم فيما عاينوه، وقالوا: هو سحاب مركوم، تراكم بعضه على بعض ممطرنا، وليس بكسف ساقط للعذاب. {فذرهم}: أمر موادعة منسوخ بآية السيف. وقرأ الجمهور: {حتى يلاقوا}؛ وأبو حيوة: حتى يلقوا، مضارع لقي، {يومهم}: أي يوم موتهم واحداً واحداً، والصعق: العذاب، أو يوم بدر، لأنهم عذبوا فيه، أو يوم القيامة، أقوال، ثالثها قول الجمهور، لأن صعقته تعم جميع الخلائق.
وقرأ الجمهور: يصعقون، بفتح الياء. وقرأ عاصم وابن عامر وزيد بن عليّ وأهل مكة: في قول شبل بن عبادة، وفتحها أهل مكة، كالجمهور في قول إسماعيل. وقرأ السلمي: بضم الياء وكسر العين، من أصعق رباعياً.
{وإن للذين ظلموا}: أي لهؤلاء الظلمة، {عذاباً دون ذلك}: أي دون يوم القيامة وقبله، وهو يوم بدر والفتح، قاله ابن عباس وغيره. وقال البراء بن عازب وابن عباس أيضاً: هو عذاب القبر. وقال الحسن وابن زيد: مصائبهم في الدنيا. وقال مجاهد: هو الجوع والقحط، سبع سنين. {فإنك بأعيننا}: عبارة عن الحفظ والكلاءة، وجمع لأنه أضيف إلى ضمير الجماعة، وحين كان الضمير مفرداً، أفرد العين، قال تعالى: {ولتصنع على عيني} وقرأ أبو السمال: بأعيننا، بنون واحدة مشدّدة. {وسبح بحمد ربك}، قال أبو الأحوص عوف بن مالك: هو التسبيح المعروف، وهو قول سبحان الله عند كل قيام. وقال عطاء: حين تقوم من كل مجلس، وهو قول ابن جبير ومجاهد. وقال ابن عباس: حين تقوم من منامك. وقيل: هو صلاة التطوع. وقيل: الفريضة. وقال الضحاك: حين تقوم إلى الصلاة تقول: سبحانك اللهم وبحمدك، تبارك اسمك، وتعالى جدّك، ولا إله غيرك. وقال زيد بن أسلم: حين تقوم من القائلة والتسبيح، إذ ذاك هو صلاة الظهر. وقال ابن السائب: اذكر الله بلسانك حين تقوم من فراشك إلى أن تدخل في الصلاة. {ومن الليل فسبحه}: قبل صلاة المغرب والعشاء. {وأدبار النجوم}: صلاة الصبح. وعن عمرو وعليّ وأبي هريرة والحسن: إنها النوافل، {وأدبار النجوم}: ركعتا الفجر. وقرأ سالم بن أبي الجعد والمنهال بن عمرو ويعقوب: وأدبار، بفتح الهمزة، بمعنى: وأعقاب النجوم.

.سورة النجم:

.تفسير الآيات (1- 25):

{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآَخِرَةُ وَالْأُولَى (25)}
{والنجم}: هم الصحابة. وقيل: العلماء مفرد أريد به الجمع، وهو في اللغة خرق الهوى ومقصده السفل، إذ مصيره إليه، وإن لم يقصد إليه. وقال الشاعر:
هوى الدلو اسلمها الرشا

ومنه: هوى العقاب. {صاحبكم}: هو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والخطاب لقريش: أي هو مهتد راشد، وليس كما تزعمون من نسبتكم إياه إلى الضلال والغي. {وما ينطق}: أي الرسول عليه الصلاة والسلام، {عن الهوى}: أي عن هوى نفسه ورأيه. {إن هو إلا وحى} من عند الله، {يوحى} إليه. وقيل: {وما ينطق}: أي القرآن، عن هوى وشهوة، كقوله: {هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق} {إن هو}: أي الذي ينطق به. أو {إن هو}: أي القرآن. {علمه}: الضمير عائد على الرسول صلى الله عليه وسلم، فالمفعول الثاني محذوف، أي علمه الوحي. أو على القرآن، فالمفعول الأول محذوف، أي علمه الرسول صلى الله عليه وسلم. {شديد القوى}: هو جبريل، وهو مناسب للأوصاف التي بعده، وقاله ابن عباس وقتادة والربيع. وقال الحسن: {شديد القوى}: هو الله تعالى، وهو بعيد.
{ذو مرة}: ذو قوة، ومنه لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مرة سوى. وقيل: ذو هيئة حسنة. وقيل: هو جسم طويل حسن. ولا يناسب هذان القولان إلا إذا كان شديد القوى هو جبريل عليه السلام. {فاستوى}: الضمير لله في قوله الحسن، وكذا {وهو بالأفق الأعلى} لله تعالى، على معنى العظمة والقدرة والسلطان. وعلى قول الجمهور: {فاستوى}: أي جبريل في الجو، {وهو بالأفق الأعلى}، إن رآه الرسول عليه الصلاة والسلام بحراء قد سد الأفق له ستمائة جناح، وحينئذ دنا من محمد حتى كان قاب قوسين، وكذلك هو المرئي في النزلة الأخرى بستمائة جناح عند السدرة، قاله الربيع والزجاج. وقال الطبري: والفراء: المعنى فاستوى جبريل؛ وقوله: {وهو}، يعني محمداً صلى الله عليه وسلم، وفي هذا التأويل العطف على الضمير المرفوع من غير فصل، وهو مذهب الكوفيين. وقد يقال: الضمير في استوى للرسول، وهو لجبريل، والأعلى لعمه الرأس وما جرى معه. وقال الحسن وقتادة: هو أفق مشرق الشمس.
وقال الزمخشري: {فاستوى}: فاستقام على صورة نفسه الحقيقية دون الصورة التي كان يتمثل بها كلما هبط بالوحي، وكان ينزل في صورة دحية، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم أحب أن يراه في صورته التي جبل عليها، فاستوى له بالأفق الأعلى، وهو أفق الشمس، فملأ الأفق. وقيل: ما رآه أحد من الأنبياء في صورته الحقيقية غير محمد صلى الله عليه وسلم، مرة في الأرض، ومرة في السماء. {ثم دنا} من رسول الله صلى الله عليه وسلم، {فتدلى}: فتعلق عليه في الهوى. وكان مقدار مسافة قربه منه مثل {قاب قوسين}، فحذفت هذه المضافات، كما قال أبو علي في قوله:
وقد جعلتني من خزيمة أصبعا

أي: ذا مسافة مقدار أصبع، {أو أدنى} على تقديركم، كقوله: {أو يزيدون} {إلى عبده}: أي إلى عبد الله، وإن لم يجر لاسمه عز وجل ذكر، لأنه لا يلبس، كقوله: {ما ترك على ظهرها} {ما أوحى}: تفخيم للوحي الذي أوحي إليه قبل. انتهى. وقال ابن عطية: {ثم دنا}، قال الجمهور: أي جبريل إلى محمد عليهما الصلاة والسلام عند حراء. وقال ابن عباس وأنس في حديث الإسراء: ما يقتضي أن الدنو يستند إلى الله تعالى. وقيل: كان الدنو إلى جبريل. وقيل: إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، أي دنا وحيه وسلطانه وقدرته، والصحيح أن جميع ما في هذه الآيات هو مع جبريل بدليل قوله: {ولقد رءاه نزلة أخرى}، فإنه يقتضي نزلة متقدمة. وما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه قبل ليلة الإسراء. ودنا أعم من تدلى، فبين هيئة الدنو كيف كانت قاب قدر، قال قتادة وغيره: معناه من طرف العود إلى طرفه الآخر. وقال الحسن ومجاهد: من الوتر إلى العود في وسط القوس عند المقبض. وقال أبو رزين: ليست بهذه القوس، ولكن قدر الذراعين. وعن ابن عباس: أن القوس هنا ذراع تقاس به الأطوال. وذكر الثعلبي أنه من لغة الحجاز.
{فأوحى}: أي الله، {إلى عبده}: أي الرسول صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس. وقيل: {إلى عبده} جبريل، {ما أوحى}: إبهام على جهة التعظيم والتفخيم، والذي عرف من ذلك فرض الصلوات. وقال الحسن: فأوحى جبريل إلى عبد الله، محمد صلى الله عليه وسلم، ما أوحى، كالأول في الإبهام. وقال ابن زيد: فأوحى جبريل إلى عبد الله، محمد صلى الله عليه وسلم، ما أوحاه الله تعالى إلى جبريل عليه السلام. وقال الزمخشري: {ما أوحى}: أوحى إليه أن الجنة محرمة على الأنبياء حتى تدخلها، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك. {ما كذب} فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم ما رآه ببصره من صورة جبريل: أي ما قال فؤاده لما رآه لم أعرفك، يعني أنه رآه بعينه وعرفه بقلبه، ولم يشك في أن ما رآه حق. انتهى. وقرأ الجمهور: ما كذب مخففاً، على معنى: لم يكذب قلب محمد صلى الله عليه وسلم الشيء الذي رآه، بل صدقه وتحققه نظراً، وكذب يتعدى. وقال ابن عباس وأبو صالح: رأى محمد صلى الله عليه وسلم الله تعالى بفؤاده. وقيل: ما رأى بعينه لم يكذب ذلك قلبه، بل صدقه وتحققه، ويحتمل أن يكون التقدير فيما رأى.
وعن ابن عباس وعكرمة وكعب الأحبار: أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعيني رأسه، وأبت ذلك عائشة رضي الله تعالى عنها، وقالت: أنا سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآيات، فقال لي:
«هو جبريل عليه السلام فيها كلها» وقال الحسن: المعنى ما رأى من مقدورات الله تعالى وملكوته. وسأل أبو ذر رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربك؟ فقال: «نورانى أراه» وحديث عائشة قاطع لكل تأويل في اللفظ، لأن قول غيرها إنما هو منتزع من ألفاظ القرآن، وليست نصاً في الرؤية بالبصر، بلا ولا بغيره. وقرأ أبو رجاء وأبو جعفر وقتادة والجحدري وخالد بن الياس وهشام عن ابن عامر: ما كذب مشدداً. وقال كعب الأحبار: إن الله قسم الرؤية والكلام بين محمد وموسى عليهما الصلاة والسلام، فكلم موسى مرتين، ورآه محمد صلى الله عليه وسلم مرتين. وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: لقد وقف شعري من سماع هذا، وقرأت: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} وذهبت هي وابن مسعود وقتادة والجمهور إلى أن المرئي مرتين هو جبريل، مرة في الأرض، ومرة عند سدرة المنتهى.
وقرأ الجمهور: {أفتمارونه}: أي أتجادلونه على شيء رآه ببصره وأبصره، وعدى بعلى لما في الجدال من المغالبة، وجاء يرى بصيغة المضارع، وإن كانت الرؤية قد مضت، إشارة إلى ما يمكن حدوثه بعد. وقرأ علي وعبد الله وابن عباس والجحدري ويعقوب وابن سعدان وحمزة والكسائي: بفتح التاء وسكون الميم، مضارع مريت: أي جحدت، يقال: مريته حقه، إذا جحدته، قال الشاعر:
لثن سخرت أخا صدق ومكرمة ** لقد مريت أخاً ما كان يمريكا

وعدى بعلى على معنى التضمين. وكانت قريش حين أخبرهم صلى الله عليه وسلم بأمره في الإسراء، كذبوا واستخفوا، حتى وصف لهم بيت المقدس وأمر غيرهم، وغير ذلك مما هو مستقصى في حديث الإسراء. وقرأ عبد الله فيما حكى ابن خالويه، والشعبي فيما ذكر شعبة: بضم التاء وسكون الميم، مضارع أمريت. قال أبو حاتم: وهو غلط. {ولقد رءاه}: الضمير المنصوب عائد على جبريل عليه السلام، قال ابن مسعود وعائشة ومجاهد والربيع. {نزلة أخرى}: أي مرة أخرى، أي نزل عليه جبريل عليه السلام مرة أخرى في في صورة نفسه، فرآه عليها، وذلك ليلة المعراج. وأخرى تقتضي نزلة سابقة، وهي المفهومة من قوله: {ثم دنا} جبريل، {فتدلى}: وهو الهبوط والنزول من علو. وقال ابن عباس وكعب الأحبار: الضمير عائد على الله، على ما سبق من قولهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه مرتين. وانتصب نزلة، قال الزمخشري: نصب الظرف الذي هو مرة، لأن الفعلة اسم للمرة من الفعل. وقال الحوفي وابن عطية: مصدر في موضع الحال. وقال أبو البقاء: مصدر، أي مرة أخرى، أو رؤية أخرى.
{عند سدرة المنتهى}، قيل: هي شجرة نبق في السماء السابعة. وقيل: في السماء السادسة، ثمرها كقلال هجر، وورقها كآذان الفيلة.
تنبع من أصلها الأنهار التي ذكرها الله تعالى في كتابه، يسير الراكب في ظلها سبعين عاماً لا يقطعها. والمنتهى موضع الانتهاء، لأنه ينتهي إليها علم كل عالم، ولا يعلم ما وراءها صعداً إلا الله تعالى عز وجل؛ أو ينتهي إليها كل من مات على الإيمان من كل جيل؛ أو ينتهي إليها ما نزل من أمر الله تعالى، ولا تتجاوزها ملائكة العلو وما صعد من الأرض، ولا تتجاوزها ملائكة السفل؛ أو تنتهي إليها أرواح الشهداء؛ أو كأنها في منتهى الجنة وآخرها؛ أو تنتهي إليها الملائكة والأنبياء ويقفون عندها؛ أو ينتهي إليها علم الأنبياء ويعزب علمهم عن ما وراءها؛ أو تنتهي إليها الأعمال؛ أو لانتهاء من رفع إليها في الكرامة، أقوال تسعة.
{عندها جنة المأوى}: أي عند السدرة، قيل: ويحتمل عند النزلة. قال الحسن: هي الجنة التي وعدها الله المؤمنين. وقال ابن عباس: بخلاف عنه؛ وقتادة: هي جنة تأوي إليها أرواح الشهداء، وليست بالتي وعد المتقون جنة النعيم. وقيل: جنة: مأوى الملائكة. وقرأ علي وأبو الدرداء وأبو هريرة وابن الزبير وأنس وزر ومحمد بن كعب وقتادة: جنه، بهاء الضمير، وجن فعل ماض، والهاء ضمير النبي صلى الله عليه وسلم، أي عندها ستره إيواء الله تعالى وجميل صنعه. وقيل: المعنى ضمه المبيت والليل. وقيل: جنه بظلاله ودخل فيه. وردّت عائشة وصحابة معها هذه القراءة وقالوا: أجن الله من قرأها؛ وإذا كانت قراءة قرأها أكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس لأحد ردّها. وقيل: إن عائشة رضي الله تعالى عنها أجازتها. وقراءة الجمهور: {جنة المأوى}، كقوله في آية أخرى: {فلهم جنات المأوى نزلاً} {إذ يغشى السدرة ما يغشى}: فيه بإبهام الموصول وصلته تعظيم وتكثير للغاشي الذي يغشاه، إذ ذاك أشياء لا يعلم وصفها إلا الله تعالى. وقيل: يغشاها الجم الغفير من الملائكة، يعبدون الله عندها. وقيل: ما يغشى من قدرة الله تعالى، وأنواع الصفات التي يخترعها لها. وقال ابن مسعود وأنس ومسروق ومجاهد وإبراهيم: ذلك جراد من ذهب كان يغشاها. وقال مجاهد: ذلك تبدل أغصانها درّاً وياقوتاً. وروي في الحديث: «رأيت على كل ورقة من ورقها ملكاً قائماً يسبح الله تعالى» وأيضاً: يغشاها رفرف أخضر، وأيضاً: تغشاها ألوان لا أدري ما هي. وعن أبي هريرة: يغشاها نور الخلاق. وعن الحسن: غشيها نور رب العزة فاستنارت. وعن ابن عباس: غشيها رب العزة، أي أمره، كما جاء في صحيح مسلم مرفوعاً، فلما غشيها من أمر الله ما غشي، ونظير هذا الإبهام للتعظيم: {فأوحى إلى عبده ما أوحى}، {والمؤتفكة أهوى فغشاها ما غشى}.
{ما زاغ البصر}، قال ابن عباس: ما مال هكذا ولا هكذا. وقال الزمخشري: أي أثبت ما رآه إثباتاً مستيقناً صحيحاً من غير أن يزيغ بصره أو يتجاوزه، إذ ما عدل عن رؤية العجائب التي أمر برؤيتها ومكن منها، {وما طغى}: وما جاوز ما أمر برؤيته.
انتهى. وقال غيره: {وما طغى}: ولا تجاوز المرئي إلى غيره، بل وقع عليه وقوعاً صحيحاً، وهذا تحقيق للأمر، ونفي للريب عنه. {لقد رأى من أيات ربه الكبرى}، قيل: الكبرى مفعول رأى، أي رأى الآيات الكبرى والعظمى التي هي بعض آيات ربه، أي حين رقي إلى السماء رأى عجائب الملكوت، وتلك بعض آيات الله. وقيل: {من آيات} هو في موضع المفعول، والكبرى صفة لآياته ربه، ومثل هذا الجمع يوصف بوصف الواحدة، وحسن ذلك هنا كونها فاصلة، كما في قوله: {لنريك من آياتنا الكبرى} عند من جعلها صفة لآياتنا. وقال ابن عباس وابن مسعود: أي رفرف أخضر قد سد الأفق. وقال ابن زيد: رأى جبريل في الصورة التي هو بها في السماء.
{أفرأيتم}: خطاب لقريش. ولما قرر الرسالة أولاً، وأتبعه من ذكر عظمة الله وقدرته الباهرة بذكر التوحيد والمنع عن الإشراك بالله تعالى، وقفهم على حقارة معبوداتهم، وهي الأوثان، وأنها ليست لها قدرة. واللات: صنم كانت العرب تعظمه. قال قتادة: كان بالطائف. وقال أبو عبيدة وغيره: كان في الكعبة. وقال ابن زيد: كان بنخلة عند سوق عكاظ. قال ابن عطية: وقول قتادة أرجح، ويؤيده قوله الشاعر:
وفرت ثقيف إلى لاتها ** بمنقلب الخائب الخاسر

انتهى.
ويمكن الجمع بأن تكون أصناماً سميت باسم اللات فأخبر كل عن صنم بمكانه. والتاء في اللات قيل أصلية، لام الكلمة كالباء من باب، وألفه منقلبة فيما يظهر من ياء، لأن مادة ليت موجودة. فإن وجدت مادة من ل وت، جاز أن تكون منقلبة من واو. وقيل: التاء للتأنيث، ووزنها فعلة من لوى، قيل: لأنهم كانوا يلوون عليها ويعكفون للعبادة، أو يلتوون عليها: أي يطوفون، حذفت لامها. وقرأ الجمهور: اللات خفيفة التاء؛ وابن عباس ومجاهد ومنصور بن المعتمر وأبو صالح وطلحة وأبو الجوزاء ويعقوب وابن كثير في رواية: بشدها. قال ابن عباس: كان هذا رجلاً بسوق عكاظ، يلت السمن والسويق عند صخرة. وقيل: كان ذلك الرجل من بهز، يلت السويق للحجاج على حجر، فلما مات، عبدوا الحجر الذي كان عنده، إجلالاً لذلك الرجل، وسموه باسمه. وقيل: سمي برجل كان يلت عنده السمن بالدب ويطمعه الحجاج. وعن مجاهد: كان رجل يلت السويق بالطائف، وكانوا يعكفون على قبره، فجعلوه وثناً. وفي التحرير: أنه كان صنماً تعظمه العرب. وقيل: حجر ذلك اللات، وسموه باسمه. وعن ابن جبير: صخرة بيضاء كانت العرب تعبدها وتعظمها. وعن مجاهد: شجيرات تعبد ببلادها، انتقل أمرها إلى الصخرة. انتهى ملخصاً. وتلخص في اللات، أهو صنم، أو حجر يلت عليه، أو صخرة يلت عندها، أو قبر اللات، أو شجيرات ثم صخرة، أو اللات نفسه، أقوال، والعزى صنم.
وقيل: سموه لغطفان، وأصلها تأنيث الأعز، بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فقطعها، وخرجت منها شيطانة، ناشرة شعرها، داعية ويلها، واضعة يدها على رأسها؛ فجعل يضربها بالسيف حتى قتلها، وهو يقول:
يا عز كفرانك لا سبحانك ** إني رأيت الله قد أهانك

ورجع فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: «تلك العزى ولن تعبد أبدأ» وقال أبو عبيدة: كانت العزى ومناة بالكعبة. انتهى. ويدل على هذا قول أبي سفيان في بعض الحروب للمسلمين: لنا عزى، ولا عزى لكم. وقال ابن زيد: كانت العزى بالطائف. وقال قتادة: كانت بنخلة، ويمكن الجمع، فإنه كان في كل مكان منها صنم يسمى بالعزى، كما قلنا في اللات، فأخبر كل واحد عن ذلك الصنم المسمى ومكانه. {ومناة}: قيل: صخرة كانت لهذيل وخزاعة، وعن ابن عباس: لثقيف. وقيل: بالمشكك من قديد بين مكة والمدينة، وكانت أعظم هذه الأوثان قدراً وأكثرها عدداً، وكانت الأوس والخزرج تهل لها هذا اضطراب كثير في الأوثان ومواضعها، والذي يظهر أنها كانت ثلاثتها في الكعبة، لأن المخاطب بذلك في قوله: {أفرأيتم} هم قريش. وقرأ الجمهور: ومناة مقصوراً، فقيل: وزنها فعلة، سميت مناة لأن دماء النسائك كانت تمنى عندها: أي تراق. وقرأ ابن كثير: ومناءة، بالمد والهمز. قيل: ووزنها مفعلة، فالألف منقلبة عن واو، نحو: مقالة، والهمزة أصل مشتقة من النوء، كانوا يستمطرون عندها الأنواء تبركاً بها، والقصر أشهر. قال جرير:
أزيد مناة توعد بأس تيم ** تأمل أين تاه بك الوعيد

وقال آخر في المد والهمز:
ألا هل أتى تيم بن عبد مناءة ** على النأي فيما بيننا ابن تميم

واللات والعزى ومناة منصوبة بقوله: {أفرأيتم}، وهي بمعنى أخبرني، والمفعول الثاني الذي لها هو قوله: {ألكم الذكر وله الأنثى} على حد ما تقرر في متعلق أرأيت إذا كانت بمعنى أخبرني، ولم يعد ضمير من جملة الاستفهام على اللات والعزى ومناة، لأن قوله: {وله الأنثى} هو في معنى: وله هذه الإناث، فأغنى عن الضمير. وكانوا يقولون في هذه الأصنام: هي بنات الله، فالمعنى: ألكم النوع المحبوب المستحسن الموجود فيكم، وله النوع المذموم بزعمكم؟ وهو المستثقل. وحسن إبراز الأنثى كونه نصاً في اعتقادهم أنهن إناث، وأنهن بنات الله تعالى، وإن كان في لحاق تاء التأنيث في اللات وفي مناة، وألف التأنيث في العزى، ما يشعر بالتأنيث، لكنه قد سمى المذكر بالمؤنث، فكان في قوله: {الأنثى} نص على اعتقاد التأنيث فيها. وحسن ذلك أيضاً كونه جاء فاصلة، إذ لو أتى ضميراً، فكان التركيب ألكم الذكر وله هن، لم تقع فاصلة.
وقال الزجاج: وجه تلفيق هذه الآية مع ما قبلها، فيقول: أخبروني عن آلهتكم، هل لها شيء من القدرة والعظمة التي وصف بها رب العزة في الآي السالفة؟ انتهى. فجعل المفعول الثاني لأفرأيتم جملة الاستفهام التي قدرها، وحذفت لدلالة الكلام السابق عليها، وعلى تقديره يبقى قوله: {ألكم الذكر وله الأنثى} متعلقاً بما قبله من جهة المعنى، لا من جهة المعنى الإعراب، كما قلناه نحن. ولا يعجبني قول الزجاج: وجه تلفيق هذه الآية مع ما قبلها، ولو قال: وجه اتصال هذه، أو وجه انتظام هذه مع ما قبلها، لكان الجيد في الأدب، وإن كان يعني هذا المعنى.
وقال ابن عطية: {أفرأيتم} خطاب لقريش، وهي من رؤية العين، لأنه أحال على أجرام مرئية، ولو كانت أرأيت التي هي استفتاء لم تتعد. انتهى. ويعني بالأجرام: اللات والعزى ومناة، وأرأيت التي هي استفتاء تقع على الأجرام، نحو: أرأيت زيداً ما صنع؟ وقوله: ولو كانت أرأيت التي هي استفتاء، يعني الذي تقول النحاة فيه إنها بمعنى أخبرني، لم تتعد؛ والتي هي بمعنى الاستفتاء تتعدى إلى اثنين، أحدهما منصوب، والآخر في الغالب جملة استفهامية. وقد تكرر لنا الكلام في ذلك، وأوله في سورة الأنعام. ودل كلام ابن عطية على أنه لم يطالع ما قاله الناس في أرأيت إذا كانت استفتاء على اصطلاحه، وهي التي بمعنى أخبرني. والظاهر أن {الثالثة الأخرى} صفتان لمناة، وهما يفيدان التوكيد. قيل: ولما كانت مناة هي أعظم هذه الأوثان، أكدت بهذين الوصفين، كما تقول: رأيت فلاناً وفلاناً، ثم تذكر ثالثاً أجل منهما فتقول: وفلاناً الآخر الذي من شأنه. ولفظة آخر وأخرى يوصف به الثالث من المعدودات، وذلك نص في الآية، ومنه قول ربيعة بن مكرم:
ولقد شفعتهما بآخر ثالث

وقول ربيعة مخالف للآية، لأن ثالثاً جاء بعد آخر. وعلى قول هذا القائل أن مناة هي أعظم هذه الأوثان، يكون التأكيد لأجل عظمها. ألا ترى إلى قوله: ثم تذكر ثالثاً أجل منهما؟ وقال الزمخشري: والأخرى ذم، وهي المتأخرة الوضيعة المقدار، كقوله تعالى: {قالت أخراهم لأولاهم} أي وضعاؤهم لرؤسائهم وأشرافهم. ويجوز أن تكون الأولية والتقدم عندهم للات والعزى. انتهى. ولفظ آخر ومؤنثه أخرى لم يوضعا للذم ولا للمدح، إنما يدلان على معنى غير، إلا أن من شرطهما أن يكونا من جنس ما قبلهما. لو قلت: مررت برجل وآخر، لم يدل إلا على معنى غير، لا على ذم ولا على مدح. وقال أبو البقاء: والأخرى توكيد، لأن الثالثة لا تكون إلا أخرى. انتهى. وقيل: الأخرى صفة للعزى، لأنها ثانية اللات؛ والثانية يقال لها الأخرى، وأخرت لموافقة رؤوس الآي. وقال الحسن بن الفضل: فيه تقديم وتأخير تقديره: والعزى الأخرى، ومناة الثالثة الذليلة، وذلك لأن الأولى كانت وثناً على صورة آدمي، والعزى صورة نبات، ومناة صورة صخرة.
فالآدمي أشرف من النبات، والنبات أشرف من الجماد. فالجماد متأخر، ومناة جماد، فهي في أخريات المراتب. والإشارة بتلك إلى قسمتهم، وتقديرهم: أن لهم الذكران، ولله تعالى البنات. وكانو يقولون: إن هذه الأصنام والملائكة بنات الله تعالى.
قال ابن عباس وقتادة: ضيزى: جائرة؛ وسفيان: منقوصة؛ وابن زيد: مخالفة؛ ومجاهد ومقاتل: عوجاء؛ والحسن: غير معتدلة؛ وابن سيرين: غير مستوية، وكلها أقوال متقاربة في المعنى. وقرأ الجمهور: {ضيزى} من غير همز، والظاهر أنه صفة على وزن فعلى بضم الفاء، كسرت لتصح الياء. ويجوز أن تكون مصدراً على وزن فعلى، كذكرى، ووصف به. وقرأ ابن كثير: ضئزى بالهمز، فوجه على أنه مصدر كذكرى. وقرأ زيد بن علي: ضيزى بفتح الضاد وسكون الياء، ويوجه على أنه مصدر، كدعوى وصف به، أو وصف، كسكرى وناقة خرمى. ويقال: ضوزى بالواو وبالهمز، وتقدّم في المفردات حكاية لغة الهمز عن الكسائي. وأنشد الأخفش:
فإن تنأ عنها تقتضيك وإن تغب ** فسهمك مضؤوز وأنفك راغم

{إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان}: تقدّم تفسير نظيرها في سورة هود، وفي سورة الأعراف. وقرأ الجمهور: {إن يتبعون} بياء الغيبة؛ وعبد الله وابن عباس وابن وثاب وطلحة والأعمش وعيسى بن عمر: بتاء الخطاب، {إلا الظن}: وهو ميل النفس إلى أحد معتقدين من غير حجة، {وما تهوى}: أي تميل إليه بلذة، وإنما تهوى أبداً ما هو غير الأفضل، لأنها مجبولة على حب الملاذ، وإنما يسوقها إلى حسن العاقبة العقل. {ولقد جاءهم من ربهم الهدى}: توبيخ لهم، والذي هم عليه باطل واعتراض بين الجملتين، أي يفعلون هذه القبائح؛ والهدى قد جاءهم، فكانوا أولى من يقبله ويترك عبادة من لا يجدي عبادته.
{أم للإنسان ما تمنى}: هو متصل بقوله: {وما تهوى الأنفس}، بل للإنسان، والمراد به الجنس، {ما تمنى}: أي ما تعلقت به أمانيه، أي ليست الأشياء والشهوات تحصل بالأماني، بل لله الأمر. وقولكم: إن آلهتكم تشفع وتقرب زلفى، ليس لكم ذلك. وقيل: أمنيتهم قولهم: {ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى} وقيل: قول الوليد بن المغيرة: {لأوتين مالا وولداً} وقيل: تمنى بعضهم أن يكون النبي. {فللّه الآخرة والأولى}: أي هو مالكهما، فيعطي منهما ما يشاء، ويمنع من يشاء، وليس لأحد أن يبلغ منهما إلا ما شاء الله. وقدّم الآخرة على الأولى، لتأخرها في ذلك، ولكونها فاصلة، فلم يراع الترتيب الوجودي، كقوله: {وإن لنا للآخرة والأولى}