فصل: تفسير الآيات (50- 53):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (45- 49):

{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)}
الهشيم اليابس قاله الفرّاء واحده هشيمة. وقال الزجّاج وابن قتيبة: كل شيء كان رطباً ويبس، ومنه كهشيم المحتظر وهشيم الثريد، وأصل الهشيم المتفتت من يابس العشب. ذرى وأذرى لغتان فرّق قاله أبو عبيدة. وقال ابن كيسان: تذروه تجيء به وتذهب. وقال الأخفش: ترفعه. غادر ترك من الغدر، ومنه ترك الوفاء، ومنه الغدير، وهو ما تركه السيل. الصف الشخص بإزاء الآخر إلى نهايتهم وقوفاً أو جلوساً أو على غير هاتين الحالتين طولاً أو تحليقاً يقال منه: صف يصف والجمع صفوف.
{واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدراً المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملا ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحداً وعرضوا على ربك صفاً لقد جئتمونا كما خلقناكم أوّل مرة بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعداً ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً}.
لما بين تعالى في المثل الأول حال الكافر والمؤمن وما آل إليه ما افتخر به الكافر من الهلاك، بيّن في هذا المثل حال {الحياة الدنيا} واضمحلالها ومصير ما فيها من النعيم والترفه إلى الهلاك و{كماء} قدره ابن عطية خبر مبتدأ محذوف، أي هي أي {الحياة الدنيا كماء}. وقال الحوفي: الكاف متعلقة بمعنى المصدر أي ضرباً {كماء أنزلناه} وأقول إن {كماء} في موضع المفعول الثاني لقوله {واضرب} أي وصيِّر {لهم مثل الحياة الدنيا} أي صفتها شبه ماء وتقدم الكلام على تفسير نظير هذه الجمل في قوله {إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام} في يونس {فأصبح} أي صار ولا يراد تقييد الخبر بالصباح فهو كقوله:
أصبحت لا أحمل السلاح ولا ** أملك رأس البعير إن نفرا

وقيل: هي دالة على التقييد بالصباح لأن الآفات السماوية أكثر ما تطرق ليلاً فهي كقوله {فأصبح يقلب كفيه} وقرأ ابن مسعود: تذريه من أذرى رباعياً. وقرأ زيد بن عليّ والحسن والنخعي والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وابن محيصن وخلف وابن عيسى وابن جرير: الريح على الإفراد. والجمهور {تذروه الرياح}. ولما ذكر تعالى قدرته الباهرة في صيرورة ما كان في غاية النضرة والبهجة إلى حالة التفتت والتلاشي إلى أن فرقته الرياح ولعبت به ذاهبة وجائية، أخبر تعالى عن اقتداره على كل شيء من الإنشاء والإفناء وغيرهما مما تتعلق به قدرته تعالى.
ولما حقر تعالى حال الدنيا بما ضربه من ذلك المثل ذكر أن ما افتخر به عيينه وأضرابه من المال والبنين إنما ذلك {زينة} هذه {الحياة الدنيا} المحقرة، وإن مصير ذلك إنما هو إلى النفاد، فينبغي أن لا يكترث به، وأخبر تعالى بزينة المال والبنين على تقدير حذف مضاف أي مقر {زينة} أو وضع المال والبنين منزلة المعنى والكثرة، فأخبر عن ذلك بقوله {زينة} ولما ذكر مآل ما في الحياة الدنيا إلى الفناء اندرج فيه هذا الجزئي من كون المال والبنين زينة، وأنتج.
أن زينة الحياة الدنيا فإن إذ ذاك فرد من أفراد ما في الحياة الدنيا، وترتيب هذا الإنتاج أن يقال {المال والبنون زينة الحياة الدنيا} وكل ما كان {زينة الحياة الدنيا} فهو سريع الانقضاء فالمال والبنون سريع الانقضاء، ومن بديهة العقل أن ما كان كذلك بقبح بالعاقل أن يفتخر به أو يفرح بسببه، وهذا برهان على فساد قول أولئك المشركين الذين افتخروا على فقراء المؤمنين بكثرة الأموال والأولاد.
{والباقيات الصالحات} قال الجمهور هي الكلمات المأثور فضلها سبحانه الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم. وقال ابن عباس وابن جبير وأبو ميسرة عمرو بن شرحبيل هي الصلوات الخمس. وعن ابن عباس أنه كل عمل صالح من قول أو فعل يبقى للآخرة، ورجحه الطبري وقول الجمهور مروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم من طريق أبي هريرة وغيره. وعن قتادة: كل ما أريد به وجه الله. وعن الحسن وابن عطاء: أنها النيات الصالحة فإنّ بها تتقبل الأعمال وترفع، ومعنى {خير عند ربك ثواباً} أنها دائمة باقية وخيرات الدنيا منقرضة فانية، والدائم الباقي خير من المنقرض المنقضي. {وخير أملاً} أي وخير رجاء لأن صاحبها يأمل في الدنيا ثواب الله ونصيبه في الآخرة دون ذي المال والبنين العاري من الباقيات الصالحات فإنه لا يرجو ثواباً.
ولما ذكر تعالى ما يؤول إليه حال الدنيا من النفاد أعقب ذلك بأوائل أحوال يوم القيامة فقال {ويوم تسير الجبال} كقوله {يوم تمور السماء موراً وتسير الجبال سيراً} وقال: {وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مرّ السحاب} وقال {فقل ينسفها ربي نسفاً فيذرها قاعاً صفصفاً} وقال {وإذا الجبال سيرت} والمعنى أنه ينفك نظام هذا العالم الدنيوي ويؤتى بالعالم الأخروي، وانتصب {ويوم} على إضمار اذكر أو بالفعل المضمر عند قوله {لقد جئتمونا} أي قلنا يوم كذا لقد. وقرأ نافع وحمزة والكسائي والأعرج وشيبة وعاصم وابن مصرّف وأبو عبد الرحمن {نسير} بنون العظمة الجبال بالنصب، وابن عامر وابن كثير وأبو عمرو والحسن وشبل وقتادة وعيسى والزهري وحميد وطلحة واليزيدي والزبيري عن رجاله عن يعقوب بضم التاء وفتح الياء المشددة مبنياً للمفعول {الجبال} بالرفع وعن الحسن كذلك إلاّ أنه بضم الياء باثنتين من تحتها، وابن محيصن ومحبوب عن أبي عمر وتسير من سارت الجبال.
وقرأ أبيّ سيرت الجبال {وترى الأرض بارزة} أي منكشفة ظاهرة لذهاب الجبال والظراب والشجر والعمارة، أو ترى أهل الأرض بارزين من بطنها. وقرأ عيسى {وتُرى الأرض} مبنياً للمفعول {وحشرناهم} أي أقمناهم من قبورهم وجمعناهم لعرصة القيامة.
وقال الزمخشري: فإن قلت: لم جيء بحشرناهم ماضياً بعد تسير وترى؟ قلت: للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير وقبل البروز ليعاينوا تلك الأهوال والعظائم، كأنه قيل: {وحشرناهم} قبل ذلك انتهى. والأولى أن تكون الواو واو الحال لا واو العطف، والمعنى وقد {حشرناهم} أي يوقع التسيير في حالة حشرهم. وقيل: {وحشرناهم} {وعرضوا} {ووضع الكتاب} مما وضع فيه الماضي موضع المستقبل لتحقق وقوعه. وقرأ الجمهور: نغادر بنون العظمة وقتادة تغادر على الإسناد إلى القدرة أو الأرض، وأبان بن يزيد عن عاصم كذلك أو بفتح الدال مبنياً للمفعول واحد بالرفع وعصمة كذلك، والضحاك نغدر بضم النون وإسكان الغين وكسر الدال، وانتصب {صفاً} على الحال وهو مفرد تنّزل منزلة الجمع أي صفوفاً. وفي الحديث الصحيح: «يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد صفوفاً يسمعهم الداعي وينفذهم البصر» الحديث بطوله وفي حديث آخر: «أهل الجنة يوم القيامة مائة وعشرون صفاً أنتم منها ثمانون صفاً» أو انتصب على المصدر الموضوع موضع الحال أي مصطفين. وقيل: المعنى {صفاً} صفاً فحذف صفاً وهو مراد، وهذا التكرار منبيء عن استيفاء الصفوف إلى آخرها، شبه حالهم بحال الجند المعروضين على السلطان مصطفين ظاهرين يرى جماعتهم كما يرى كل واحد لا يحجب أحد أحداً.
{لقد جئتمونا} معمول لقول محذوف أي وقلنا و{كما خلقناكم} نعت لمصدر محذوف أي مجيئاً مثل مجيء خلقكم أي «حفاة عراة غرلاً» كما جاء في الحديث، وخالين من المال والولد و{أنْ} هنا مخففة من الثقيلة. وفصل بينها وبين الفعل بحرف النفي وهو {لن} كما فصل في قوله {أيحسب الإنسان أن لن نجمع} و{بل} للإضراب بمعنى الانتقال من خبر إلى خبر ليس بمعنى الإبطال، والمعنى أن لن نجمع لإعادتكم وحشركم {موعداً} أي مكان وعد أو زمان وعد لإنجاز ما وعدتم على ألسنة الأنبياء من البعث والنشور، والخطاب في {لقد جئتمونا} للكفار المنكرين البعث على سبيل تقريعهم وتوبيخهم.
{ووضع الكتاب} وقرأ زيد بن عليّ {ووضع} مبنياً للفاعل {الكتاب} بالنصب. و{الكتاب} اسم جنس أي كتب أعمال الخلق، ويجوز أن تكون الصحائف كلها جعلت كتاباً واحداً ووضعته الملائكة لمحاسبة الخلق وإشفاقهم خوفهم من كشف أعمالهم السيئة وفضحهم وما يترتب على ذلك من العذاب السرمدي، ونادوا هلكتهم التي هلكوا خاصة من بين الهلكات فقالوا يا ويلنا والمراد من بحضرتهم كأنهم قالوا يا من بحضرتنا انظروا هلكتنا، وكذا ما جاء من نداء ما لا يعقل كقوله
{يا أسفي على يوسف} {يا حسرتي على ما فرطت} {يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا} وقول الشاعر:
يا عجباً لهذه الفليقة ** فيا عجباً من رحلها المتحمل

إنما يراد به تنبيه من يعقل بالتعجب مما حل بالمنادي. و{لا يغادر} جملة في موضع الحال. وعن ابن عباس: الصغيرة التبسم والكبيرة القهقهة. وعن ابن جبير: القبلة والزنا وعن غيره السهو والعمد. وعن الفضيل صبحوا والله من الصغائر قبل الكبائر، وقدمت الصغيرة اهتماماً بها، وإذا أحصيت فالكبيرة أحرى {إلاّ أحصاها} ضبطها وحفظها {ووجدوا ما عملوا حاضراً} في الصحف عتيداً أو جزاء ما عملوا. {ولا يظلم ربك أحداً} فيكتب عليه ما لم يعمل أو يزيد في عقابه الذي يستحقه أو يعذبه بغير جرم. قال الزمخشري: كما يزعم من ظلم الله في تعذيب أطفال المشركين انتهى. ولا يقال: إن ذلك ظلم منه تعالى لأنه تعالى كل مملوكون له فله أن يتصرف في مملوكيه بما يشاء، لا يسأل عما يفعل، والصحيح في أطفال المشركين أنهم يكونون في الجنة خدماً لأهلها نص عليه في البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

.تفسير الآيات (50- 53):

{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50) مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)}
العضد العضو من الإنسان وغيره معروف وفيه لغتان، فتح العين وضم الضاد وإسكانها وفتحها وضم العين والضاد وإسكان الضاد، ويستعمل في العون والنصير. قال الزجاج: والإعضاد التقوّي وطلب المعونة يقال: اعتضدت بفلان استعنت به. الموبق المهلك يقال: وبق يوبق وبقاً ووبق يبق وبوقاً إذا هلك فهو وابق، وأوبقته ذنوبه أهلكته.
{وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلاّ إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدوّ بئس للظالمين بدلاً ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضداً ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقاً ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفاً}.
ذكروا في ارتباط هذه الآية بما قبلها أنه تعالى لما أمر نبيه عليه الصلاة والسلام بمجالسة الفقراء وكان أولئك المتكبرون قد تأنفوا عن مجالستهم، وذكروا للرسول صلى الله عليه وسلم طردهم عنه وذلك لما جبلوا عليه من التكبر والتكثر بالأموال والأولاد وشرف الأصل والنسب، وكان أولئك الفقراء بخلافهم في ذلك ناسب ذكر قصة إبليس بجامع ما اشتركا فيه من التكبر والافتخار بالأصل الذي خلق منه وهذا الذي ذكروه في الإرتباط هو ظاهر بالنسبة للآيات السابقة قبل ضرب المثلين، وإما أنه واضح بالنسبة لما بعد المثلين فلا والذي يظهر في ارتباط هذه الآية بالآية التي قبلها هو أنه لما ذكر يوم القيامة والحشر وذكر خوف المشركين مما سطر في ذلك الكتاب، وكان إبليس هو الذي حمل المجرمين على معاصيهم واتخاذ شركاء مع الله ناسب ذكر إبليس والنهي عن اتخاذ ذريته أولياء من دون الله تبعيداً عن المعاصي، وعن امتثال ما يوسوس به. وتقدم الكلام في استثناء إبليس أهو استثناء متصل أم منقطع، وهل هو من الملائكة أم ليس منهم في أوائل سورة البقرة فأغني عن إعادته، والظاهر من هذه الآية أنه ليس من الملائكة وإنما هو من الجن. قال قتادة: الجن حي من الملائكة خلقوا من نار السموم. وقال شهر بن حوشب: هو من الجن الذين ظفرت بهم الملائكة فأسره بعض الملائكة فذهب به إلى السماء. وقال الحسن وغيره: هو أول الجن وبداءتهم كآدم في الإنس. وقالت فرقة: كان إبليس وقبيله جناً لكن الشياطين اليوم من ذريته فهو كنوح في الإنس. وقال الزمخشري: كان من الجن كلام مستأنف جارٍ مجري التعليل بعد استثناء إبليس من الساجدين كأن قائلاً قال: ما له لم يسجد فقيل {كان من الجن ففسق عن أمر ربه} والفاء للتسبيب أيضاً جعل كونه من الجن سبباً في فسقه، يعني إنه لو كان ملكاً كسائر من سجد لآدم لم يفسق عن أمر الله لأن الملائكة معصومون ألبتة لا يجوز عليهم ما يجوز على الجن والإنس كما قال: {لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون} وهذا الكلام المعترض تعمد من الله عز وعلا لصيانة الملائكة عن وقوع شبهة في عصمتهم، فما أبعد البون بين ما تعمده الله وبين قول من ضادّه فزعم أنه كان ملكاً ورئيساً على الملائكة فعصى فلُعن ومُسخ شيطاناً، ثم وركه على ابن عباس انتهى.
والظاهر أن معنى {ففسق عن أمر ربه} فخرج عما أمره ربه به من السجود. قال رؤبة:
يهوين في نجد وغوراً غائراً ** فواسقاً عن قصدها حوائرا

وقيل: {ففسق} صار فاسقاً كافراً بسبب أمر ربه الذي هو قوله {اسجدوا لآدم} حيث لم يمتثله. قيل: ويحتمل أن يكون المعنى {ففسق} بأمر ربه أي بمشيئته وقضائه لأن المشيئة يطلق عليها أمر كما تقول: فعلت ذلك عن أمرك أي بحسب مرادك، والهمزة في {أفتتخذونه} للتوبيخ والإنكار والتعجب أي أبعد ما ظهر منه من الفسق والعصيان تتخذونه وذريته أولياء من دوني مع ثبوت عداوته لكم تتخذونه ولياً. وقرأ عبيد الله بن زياد على المنبر وهو يخطب {أفتتخذونه وذريته} بفتح الذال، والظاهر أن لإبليس ذرية وقال بذلك قوم منهم قتادة والشعبي وابن زيد والضحاك والأعمش. قال قتادة: ينكح وينسل كما ينسل بنو آدم. وقال الشعبي: لا يكون ذرية إلاّ من زوجة. وقال ابن زيد: إن الله قال لإبليس إني لا أخلق لآدم ذرية إلاّ ذرأت لك مثلها، فليس يولد لولد آدم ولد إلاّ ولد معه شيطان يقرن به. وقيل للرسول صلى الله عليه وسلم: ألك شيطان؟ قال: «نعم ألا أنّ الله تعالى أعانني عليه فأسلم» وسمي الضحاك وغيره من ذرية إبليس جماعة الله أعلم بصحة ذلك، وكذلك ذكروا كيفيات في وطئه وإنساله الله أعلم بذلك، وذهب قوم إلى أنه ليس لإبليس ولد وإنما الشياطين هم الذين يعينونه على بلوغ مقاصده، والمخصوص بالذم محذوف أي {بئس الظالمين بدلاً} من الله إبليس وذريته وقال {للظالمين} لأنهم اعتاضوا من الحق بالباطل وجعلوا مكان ولايتهم إبليس وذريته، وهذا نفس الظالم لأنه وضع الشيء في غيره موضعه.
وقرأ الجمهور {ما أشهدتهم} بتاء المتكلم. وقرأ أبو جعفر وشيبة والسبختياني وعون العقيلي وابن مقسم: ما أشهدناهم بنون العظمة، والظاهر عود ضمير المفعول في {أشهدتهم} على إبليس وذريته أي لم أشاورهم في {خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم} بل خلقتهم على ما أردت، ولهذا قال {وما كنت متخذ المضلين عضداً}. وقال الزمخشري: يعني إنكم اتخذتم شركاء لي في العبادة وإنما كانوا يكونون شركاء فيها لو كانوا شركاء في الإلهية فنفي مشاركتهم في الإلهية بقوله: {ما أشهدتهم خلق السموات والأرض} لا أعتضد بهم في خلقها {ولا خلق أنفسهم} أي ولا أشهدت بعضهم خلق بعض كقوله
{ولا تقتلوا أنفسكم} وما كنت متخذهم أعواناً فوضع {المضلين} موضع الضمير ذماً لهم بالإضلال فإذا لم يكونوا لي {عضداً} في الخلق فما لكم تتخذونهم شركاء في العبادة انتهى. وقيل: يعود على الملائكة والمعنى أنه ما أشهدهم ذلك ولا استعان بهم في خلقها بل خلقتهم ليطيعوني ويعبدوني فكيف يعبدونهم. وقيل: يعود على الكفار. وقيل: على جميع الخلق. وقال ابن عطية: الضمير في {أشهدتهم} عائد على الكفار وعلى الناس بالجملة، فتتضمن الآية الرد على طوائف من المنجمين وأهل الطبائع والمتحكمين والأطباء وسواهم من كل من يتخرص في هذه الأشياء، وقاله عبد الحق الصقلي وتأول هذا التأويل في هذه الآية وأنها رادة على هذه الطوائف، وذكر هذا بعض الأصوليين انتهى.
وقرأ أبو جعفر والجحدري والحسن وشيبة {وما كنت} بفتح التاء خطاباً للرسول صلى الله عليه وسلم. قال الزمخشري: والمعنى وما صح لك الاعتضاد بهم، وما ينبغي لك أن تعتز بهم انتهى. والذي أقوله أن المعنى إخبار من الله عن نبيه وخطاب منه تعالى له في انتفاء كينونته متخذ عضد من المضلين، بل هو مذ كان ووجد عليه السلام في غاية التبرّي منهم والبعد عنهم لتعلم أمته أنه لم يزل محفوظاً من أول نشأته لم يعتضد بمضل ولا مال إليه صلى الله عليه وسلم. وقرأ عليّ بن أبي طالب متخذاً المضلين أعمل اسم الفاعل. وقرأ عيسى {عضداً} بسكون الضاد خفف فعلاً كما قالوا: رجل وسبع في رجل وسبع وهي لغة عن تميم، وعنه أيضاً بفتحتين. وقرأ شيبة وأبو عمر وفي رواية هارون وخارجة والخفاف {عضداً} بضمتين، وعن الحسن {عضداً} بفتحتين وعنه أيضاً بضمتين. وقرأ الضحاك {عضداً} بكسر العين وفتح الضاد.
وقرأ الجمهور {ويوم يقول} بالياء أي الله. وقرأ الأعمش وطلحة ويحيى وابن أبي ليلى وحمزة وابن مقسم: نقول بنون العظمة أي للذين أشركوا به في الدنيا {نادوا شركائي} وليس المعنى أنه تعالى أخبر أنهم شركاؤه ولكن ذلك على زعمكم، والإضافة تكون بأدنى ملابسة ومفعولاً {زعمتم} محذوفان لدلالة المعنى عليهما إذ التقدير زعمتموهم شركائي والنداء بمعنى الاستغاثة، أي استغيثوا بشركائكم والمراد نادوهم لدفع العذاب عنكم أو للشفاعة لكم، والظاهر أن الضمير في {بينهم} عائد على الداعين والمدعوين وهم المشركون والشركاء. وقيل: يعود على أهل الهدى وأهل الضلالة، والظاهر وقوع الدعاء حقيقة وانتفاء الإجابة. وقيل: يحتمل أن يكون استعارة كأن فكرة الكافر ونظره في أن تلك الجمادات لا تغني شيئاً ولا تنفع هي بمنزلة الدعاء وترك الإجابة.
وقرأ الجمهور {شركائي} ممدوداً مضافاً للياء، وابن كثير وأهل مكة مقصوراً مضافاً لها أيضاً، والظاهر انتصاب {بينهم} على الظرف. وقال الفراء: البين هنا الوصل أي {وجعلنا} نواصلهم في الدنيا هلاكاً يوم القيامة، فعلى هذا يكون مفعولاً أول لجعلنا، وعلى الظرف يكون في موضع المفعول الثاني.
وقال ابن عباس وقتادة والضحاك: الموبق المهلك. وقال الزجاج: جعلنا بينهم من العذاب ما يوبقهم. وقال عبد الله بن عمر وأنس ومجاهد: واد في جهنم يجري بدم وصديد. وقال الحسن: عداوة. وقال الربيع بن أنس: إنه المجلس. وقال أبو عبيدة: الموعد.
{ورأى المجرمون النار} هي رؤية عين أي عاينوها، والظن هنا قيل: على موضوعه من كونه ترجيح أحد الجانبين. وكونهم لم يجزموا بدخولها رجاء وطمعاً في رحمة الله. وقيل: معنى {فظنوا} أيقنوا قاله أكثر الناس، ومعنى {مواقعوها} مخالطوها واقعون فيها كقوله {وظنوا أن لا ملجأ من الله إلاّ إليه} {الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم} وقال ابن عطية: أطلق الناس أن الظن هنا بمعنى التيقن، ولو قال بدل ظنوا أيقنوا لكان الكلام متسقاً على مبالغة فيه، ولكن العبارة بالظن لا تجيء أبداً في موضع يقين تام قد ناله الحسن بل أعظم درجاته أن يجيء في موضع علم متحقق، لكنه لم يقع ذلك المظنون وإلاّ فمن يقع ويحس لا يكاد يوجد في كلام العرب العبارة عنه بالظن.
وتأمل هذه الآية وتأمل قول دريد:
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج

وفي مصحف عبد الله ملاقوها مكان {مواقعوها} وقرأه كذلك الأعمش وابن غزوان عن طلحة، والأولى جعله تفسيراً لمخالفة سواد المصحف. وعن علقمة أنه قرأ ملافوها بالفاء مشددة من لففت. وفي الحديث: «إن الكافر ليرى جهنم ويظن أنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة» ومعنى {مصرفاً} معدلاً ومراعاً. ومنه قول أبي كبير الهذلي:
أزهير هل عن شيبة من مصرف ** أم لا خلود لباذل متكلف

وأجاز أبو معاذ {مصرفاً} بفتح الراء وهي قراءة زيد بن عليّ جعله مصدراً كالمضرب لأن مضارعه يصرف على يفعل كيصرف.