فصل: تفسير الآيات (20- 26):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (20- 26):

{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20) وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آَلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26)}
{ويوم يعرض}: أي يعذب بالنار، كما يقال: عرض على السيف، إذا قتل به. والعرض: المباشرة، كما تقول: عرضت العود على النار: أي باشرت به النار. وقال الزمخشري: ويجوز أن يراد عرض النار عليهم من قولهم: عرضت الناقة على الحوض، يريدون عرض الحوض عليها، فقلبوا. ويدل عليه تفسير ابن عباس: يجاء بهم إليها فيكشف لهم عنها. انتهى. ولا ينبغي حمل القرآن على القلب، إذ الصحيح في القلب أنه مما يضطر إليه في الشعر. وإذا كان المعنى صحيحاً واضحاً مع عدم القلب، فأي ضرورة ندعو إليه؟ وليس في قولهم: عرضت الناقة على الحوض، ولا في تفسير ابن عباس ما يدل على القلب، لأن عرض الناقة على الحوض، وعرض الحوض على الناقة، كل منهما صحيح؛ إذ العرض أمر نسبي يصح إسناده لكل واحد من الناقة والحوض. وقرأ الجمهور: أذهبتم على الخبر، أي فيقال لهم: أذهبتم، ولذلك حسنت الفاء في قوله: {فاليوم تجزون}. وقرأ قتادة، ومجاهد، وابن وثاب، وأبو جعفر، والأعرج، وابن كثير: بهمزة بعدها مدة مطولة، وابن عامر، بهمزتين حققهما ابن ذكوان، ولين الثانية هشام، وابن كثير في رواية. وعن هشام: الفصل بين المحققة والملينة بألف، وهذا الاستفهام هو على معنى التوبيخ والتقرير، فهو خبر في المعنى، فلذلك حسنت الفاء، ولو كان استفهاماً محضاً لم تدخل الفاء. والطيبات هنا: المستلذات من المآكل والمشارب والملابس والمفارش والمراكب والمواطئ، وغير ذلك مما يتنعم به أهل الرفاهية.
وهذه الآية محرضة على التقلل من الدنيا، وترك التنعم فيها، والأخذ بالتقشف، وما يجتزي به رمق الحياة عن رسول الله في ذلك ما يقتضي التأسي به. وعن عمر في ذلك أخبار تدل على معرفته بأنواع الملاذ، وعزة نفسه الفاضلة عنها. أتظنون أنا لا نعرف خفض العيش؟ ولو شئت لجعلت أكباداً وصلاء وصلائق، ولكن استبقي حسناني؛ فإن الله عز وجل وصف أقواماً فقال: {أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم}. والصلاء الشواء والصفار المتخذ من الخردل والزبيب، والصلائق: الخبز الرقاق العريض. قال ابن عباس: وهذا من باب الزهد، وإلا فالآية نزلت في كفار قريش؛ والمعنى: أنه كانت تكون لكم طيبات الآخرة لو آمنتم، لكنكم لم تؤمنوا، فاستعجلتم طيباتكم في الحياة الدنيا. فهذه كناية عن عدم الإيمان، ولذلك نزلت عليه: {فاليوم تجزون عذاب الهون}؛ ولو أريد الظاهر، ولم يكن كناية عن ما ذكرنا، لم يترتب عليه الجزاء بالعذاب. وقرئ: الهوان، وهو والهون بمعنى واحد ثم بين تلك الكناية بقوله: {بما كنتم تستكبرون}: أي تترفعون عن الإيمان؛ {وبما كنتم تفسقون}: أي بمعاصي الجوارح وقدم ذنب القلب، وهو الاستكبار على ذنب الجوارح؛ إذ أعمال الجوارح ناشئة عن مراد القلب.
ولما كان أهل مكة مستغرقين في لذات الدنيا، معرضين عن الإيمان وما جاء به الرسول، ذكرهم بما جرى للعرب الأولى، وهم قوم عاد، وكانوا أكثر أموالاً وأشد قوة وأعظم جاهاً فيهم، فسلط عليهم العذاب بسبب كفرهم، وضرب الأمثال. وقصص من تقدم تعرف بقبح الشيء وتحسينه، فقال لرسوله: واذكر لقومك، أهل مكة، هوداً عليه السلام، {إذ أنذر قومه} عاداً عذبهم الله {بالأحقاف}. قال ابن عباس: واد بين عمان ومهرة. وقال ابن إسحاق: من عمان إلى حضرموت. وقال ابن زيد: رمال مشرقة بالشحر من اليمن. وقيل: بين مهرة وعدن. وقال قتادة: هي بلاد الشحر المواصلة للبحر اليماني. وقال ابن عباس: هي جبل بالشام. قال ابن عطية: والصحيح أن بلاد عاد كانت باليمن، ولهم كانت {إرم ذات العماد} وفي ذكر هذه القصة اعتبار لقريش وتسلية للرسول، إذ كذبه قومه، كما كذبت عاد هوداً عليه السلام. والجملة من قوله: {وقد خلت النذر}: وهو جمع نذير، {من بين يديه ومن خلفه}، يحتمل أن تكون حالاً من الفاعل في: {النذر من بين يديه}، وهم الرسل الذين تقدموا زمانه، ومن خلفه الرسل الذين كانوا في زمانه، ويكون على هذا معنى {ومن خلفه}: أي من بعد إنذاره؛ ويحتمل أن يكون اعتراضاً بين إنذار قومه وأن لا تعبدوا. والمعنى: وقد أنذر من تقدمه من الرسل، ومن تأخر عنه مثل ذلك، فاذكرهم.
{قالوا أجئتنا}: استفهام تقرير، وتوبيخ وتعجيز له فيما أنذره إياهم من العذاب العظيم على ترك إفراد الله بالعبادة. {لتأفكنا}: لتصرفنا، قاله الضحاك؛ أو لتزيلنا عن آلهتنا بالإفك، وهو الكذب، أي عن عبادة آلهتنا، {فأتنا بما تعدنا}: استعجال منهم بحلول ما وعدهم به من العذاب. ألا ترى إلى قوله: {بل هو ما استعجلتم به}؟ {قال إنما العلم عند الله}: أي علم وقت حلوله، وليس تعيين وقته إليّ، وإنما أنا مبلغ ما أرسلني به الله إليكم. ولما تحقق عنده وعد الله، وأنه حال بهم وهم في غفلة من ذلك وتكذيب، قال: {ولكني أراكم قوماً تجهلون}: أي عاقبة أمركم لا شعور لكم بها، وذلك واقع لا محالة. وكانت عاد قد حبس الله عنها المطر أياماً، فساق الله إليهم سحابة سوداء خرجت عليهم من واد يقال له المغيث، فاستبشروا. والضمير في {رأوه} الظاهر أنه عائد على ما في قوله: {بما تعدنا}، وهو العذاب، وانتصب عارضاً على الحال من المفعول. وقال ابن عطية، ويحتمل أن يعود على الشيء المرئي الطالع عليهم، الذي فسره قوله: {عارضاً}.
وقال الزمخشري: {فلما رأوه}، في الضمير وجهان: أن يرجع إلى ما تعدنا، وأن يكون مبهماً، قد وضح أمره بقوله: {عارضاً}، إما تمييز وإما حال، وهذا الوجه أعرب وأفصح. انتهى. وهذا الذي ذكر أنه أعرب وأفصح ليس جارياً على ما ذكره النحاة، لأن المبهم الذي يفسره ويوضحه التمييز لا يكون إلا في باب رب، نحو: رب رجلاً لقيته، وفي باب نعم وبئس على مذهب البصريين، نحو: نعم رجلاً زيد، وبئس غلاماً عمرو.
وأما أن الحال يوضح المبهم ويفسره، فلا نعلم أحداً ذهب إليه، وقد حضر النحاة المضمر الذي يفسره ما بعده، فلم يذكروا فيه مفعول رأي إذا كان ضميراً، ولا أن الحال يفسر الضمير ويوضحه. والعارض: المعترض في الجو من السحاب الممطر، ومنه قول الشاعر:
يا من رأى عارضاً أرقت له ** بين ذراعي وجبهة الأسد

وقال الأعشى:
يا من رأى عارضاً قد بث أرمقه ** كأنها البرق في حافاتها الشعل

{مستقبل أوديتهم}: هو جمع واد، وأفعلة في جمع فاعل. الاسم شاذ نحو: ناد وأندية، وجائز وأجوزة. والجائز: الخشبة الممتدة في أعلى السقف، وإضافة مستقبل وممطر إضافة لا تعرف، فلذلك نعت بهما النكرة. {بل هو ما استعجلتم}: أي قال لهم هو ذلك، أي بل هو العذاب الذي استعجلتم به، أضرب عن قولهم: {عارض ممطرنا}، وأخبر بأن العذاب فاجأهم، ثم قال: {ريح}: أي هي ريح بدل من هو. وقرأ: ما استعجلتم، بضم التاء وكسر الجيم، وتقدمت قصص في الريح، فأغنى عن ذكرها هنا. {تدمر}: أي تهلك، والدمار: الهلاك، وتقدم ذكره. وقرأ زيد بن عليّ: تدمر، بفتح التاء وسكون الدال وضم الميم. وقرئ كذلك إلا أنه بالياء ورفع كل، أي يهلك كل شيء، وكل شيء عام مخصوص، أي من نفوسهم وأموالهم، أو من أمرت بتدميره. وإضافة الرب إلى الريح دلالة على أنها وتصريفها مما يشهد بباهر قدرته تعالى، لأنها من أعاجيب خلقه وأكابر جنوده. وذكر الأمر لكونها مأمورة من جهته تعالى. وقرأ الجمهور: لا ترى بتاء الخطاب، إلا مساكنهم، بالنصب؛ وعبد الله، ومجاهد، وزيد بن علي، وقتادة، وأبو حيوة، وطلحة، وعيسى، والحسن، وعمرو بن ميمون: بخلاف عنهما؛ وعاصم، وحمزة: لا يرى بالياء من تحت مضمومة إلا مساكنهم بالرفع. وأبو رجاء، ومالك بن دينار: بخلاف عنهما. والجحدري، والأعمش، وابن أبي إسحاق، والسلمي: بالتاء من فوق مضمومة مساكنهم بالرفع، وهذا لا يجيزه أصحابنا إلا في الشعر، وبعضهم يجيزه في الكلام. وقال ذو الرمة:
كأنه جمل همّ وما بقيت ** إلا النخيرة والألواح والعصب

وقال آخر:
فما بقيت إلا الضلوع الجراشع

وقرأ عيسى الهمداني: لا يرى بضم الياء إلا مسكنهم بالتوحيد. وروي هذا عن الأعمش، ونصر بن عاصم. وقرئ: لا ترى، بتاء مفتوحة للخطاب، إلا مسكنهم بالتوحيد مفرداً منصوباً، واجتزئ بالمفرد عن الجمع تصغيراً لشأنهم، وأنهم لما هلكوا في وقت واحد، فكأنهم كانوا في مسكن واحد. ولما أخبر بهلاك قوم عاد، خاطب قريشاً على سبيل الموعظة فقال: {ولقد مكانهم}، وإن نافية، أي في الذي ما مكناهم فيه من القوة والغنى والبسط في الأجسام والأموال؛ ولم يكن النفي بلفظ ما، كراهة لتكرير اللفظ، وإن اختلف المعنى.
وقيل: إن شرطية محذوفة الجواب، والتقدير: إن مكناكما فيه طغيتم. وقيل: إن زائدة بعدما الموصولة تشبيهاً بما النافية وما التوقيتية، فهي في الآية كهي في قوله:
يرجى المرء ما إن لا يراه ** وتعرض دون أدناه الخطوب

أي مكناهم في مثل الذي مكناكم، فيه، وكونها نافية هو الوجه، لأن القرآن يدل عليه في مواضع كقوله: {كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثاراً} وقوله: {هم أحسن أثاثاً ورئياً} وهو أبلغ في التوبيخ وأدخل في الحث في الاعتبار. ثم عدد نعمه عليهم، وأنها لم تغن عنهم شيئاً، حيث لم يستعملوا السمع والأبصار والأفئدة فيما يجب أن يستعمل. وقيل: ما استفهام بمعنى التقرير، وهو بعيد كقوله: {من شيء}، إذ يصير التقدير: أي شيء مما ذكر أغنى عنهم من شيء، فتكون من زيدت في الموجب، وهو لا يجوز على الصحيح، والعامل في إذ أغنى. ويظهر فيها معنى التعليل لو قلت: أكرمت زيداً لإحسانه إليّ، أو إذ أحسن إليّ. استويا في الوقت، وفهم من إذ ما فهم من لام التعليل، وإن إكرامك إياه في وقت إحسانه إليك، إنما كان لوجود إحسانه لك فيه.

.تفسير الآيات (27- 35):

{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آَلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28) وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآَمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)}
{ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى}: خطاب لقريش على جهة التمثيل لهم، والذي حولهم من القرى: مأرب، وحجر، ثمود، وسدوم. ويريد من أهل القرى: {وصرفنا الآيات}، أي الحجج والدلائل والعظاة لأهل تلك القرى، {لعلهم يرجعون} عن ما هم فيه من الكفر إلى الإيمان، فلم يرجعوا. {فلولا نصرهم}: أي فهلا نصرهم حين جاءهم الهلاك؟ {الذين اتخذوا}: أي اتخذوهم، {من دون الله قرباناً}: أي في حال التقرب وجعلتهم شفعاء. {آلهة}: وهو المفعول الثاني لا تخذوا، والأول الضمير المحذوف العائد على الموصول. وأجاز الحوفي وابن عطية وأبو البقاء أن يكون قرباناً مفعولاً ثانياً لا تخذوا آلهة بدل منه. وقال الزمخشري: وقرباناً حال، ولا يصح أن يكون قرباناً مفعولاً ثانياً وآلهة بدل منه، لفساد المعنى. انتهى. ولم يبين الزمخشري كيف يفسد المعنى، ويظهر أن المعنى صحيح على ذلك الإعراب. وأجاز الحوفي أيضاً أن يكون قرباناً مفعولاً من أجله.
{بل ضلوا عنهم}: أي غابوا عن نصرتهم. وقرأ الجمهور: إفكهم، بكسر الهمزة وإسكان الهاء وضم الكاف؛ وابن عباس في رواية: بفتح الهمزة. والإفك مصدر إن. وقرأ ابن عباس أيضاً، وابن الزبير، والصباح بن العلاء الأنصاري، وأبو عياض، وعكرمة، وحنظلة بن النعمان ابن مرة، ومجاهد: إفكهم، بثلاث فتحات: أي صرفهم؛ وأبو عياض، وعكرمة أيضاً: كذلك، إلا أنهما شددا الفاء للتكثير؛ وابن الزبير أيضاً، وابن عباس، فيما ذكر ابن خالويه: آفكهم بالمد، فاحتمل أن يكون فاعل. فالهمزة أصلية، وأن يكون أفعل، فالهمزة للتعدية، أي جعلهم يأفكون، ويكون أفعل بمعنى المجرد. وعن الفراء أنه قرئ: أفكهم بفتح الهمزة والفاء وضم الكاف، وهي لغة في الأفك؛ وابن عباس، فيما روى قطرب، وأبو الفضل الرازي: آفكهم اسم فاعل من آفك، أي صارفهم، والإشارة بذلك على من قرأ: إفكهم مصدراً إلى اتخاذ الأصنام آلهة، أي ذلك كذبهم وافتراؤهم. وقال الزمخشري: وذلك إشارة إلى امتناع نصرة آلهتهم لهم وضلالهم عنهم، أي وذلك إثر إفكهم الذي هو اتخاذهم إياها آلهة، وثمرة شركهم وافترائهم على الله الكذب من كونه ذا شركاء. انتهى. وعلى قراءة من جعله فعلاً معناه: وذلك الاتخاذ صرفهم عن الحق، وكذلك قراءة اسم الفاعل، أي صارفهم عن الحق. ويحتمل أن تكون ما مصدرية، أي وافتراؤهم، وأن تكون بمعنى الذي والعائد محذوف، أي يفترونه.
{وإذ صرفنا إليكم نفراً من الجن يستمعون القرآن}: ومناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه لما بين أن الإنسي مؤمن وكافر، وذكر أن الجن فيهم مؤمن وكافر؛ وكان ذلك بأثر قصة هود وقومه، لما كان عليه قومه من الشدة والقوة. والجن توصف أيضاً بذلك، كما قال تعالى: {قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين}
وإن ما أهلك به قوم هود هو الريح، وهو من العالم الذي لا يشاهد، وإنما يحس بهبوبه. والجن أيضاً من العالم الذي لا يشاهد. وإن هوداً عليه السلام كان من العرب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم من العرب، فهذه تجوز أن تكون مناسبة لهذه الآية بما قبلها. وفيها أيضاً توبيخ لقريش وكفار العرب، حيث أنزل عليهم هذا الكتاب المعجز، فكفروا به، وهم من أهل اللسان الذي أنزل به القرآن، ومن جنس الرسول الذي أرسل إليهم. وهؤلاء جن، فليسوا من جنسه، وقد أثر فيهم سماع القرآن وآمنوا به وبمن أنزل عليه، وعلموا أنه من عند الله، بخلاف قريش وأمثالها، فهم مصرون على الكفر به.
{وإذ صرفنا}: وجّهنا إليك. وقرأ: صرفنا، بتشديد الراء، لأنهم كانوا جماعة، فالتكثير بحسب الحال. {نفراً من الجن}، والنفر دون العشرة، ويجمع على أنفار. قال ابن عباس: كانوا سبعة، منهم زوبعة. والذي يجمع اختلاف الروايات، أن قصة الجن كانت مرتين.
إحداهما: حين انصرف من الطائف، وكان خرج إليهم يستنصرهم في قصة ذكرها أصحاب السير. فروى أن الجن كانت تسترق السمع؛ فلما بعث الرسول، حرست السماء، ورمي الجن بالشهب، قالوا: ما هذا إلا أمر حدث. وطافوا الأرض، فوافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي نخلة، وهو قائم يصلي؛ فاستمعوا لقراءته، وهو لا يشعر؛ فأنبأه الله باستماعهم.
{والمرة الأخرى}: أن الله أمره أن ينذر الجن ويقرأ عليهم فقال: «إني أمرت أن أقرأ على الجن فمن يتبعني»، قالها ثلاثاً، فأطرقوا إلا عبد الله بن مسعود، قال: لم يحضره أحد ليلة الجن غيري. فانطلقنا حتى إذا كنا في شعب الحجون، خط لي خطاً وقال: «لا تخرج منه حتى أعود إليك»، ثم افتتح القرآن. وسمعت لغطاً شديداً حتى خفت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه حتى ما أسمع صوته، ثم تقطعوا تقطع السحاب، فقال لي: «هل رأيت شيئاً»؟ قلت: نعم، رجالاً سوداً مستثفري ثياب بيض، فقال: «أولئك جن نصيبين». وكانوا اثني عشر ألفاً، والسورة التي قرأها عليهم: اقرأ باسم ربك وفي آخر هذا الحديث قلت: يا رسول الله، سمعت لهم لغطاً، فقال: «إنهم تدارؤا في قتيل لهم فحكمت بالحق». وقد روي عن ابن مسعود أنه لم يحضر أحد ليلة الجن، والله أعلم بصحة ذلك.
{فلما حضروه}: أي القرآن، أي كانوا بمسمع منه، وقيل: حضروا الرسول، وهو التفات من إليك إلى ضمير الغيب. {قالوا انصتوا}: أي اسكتوا للاستماع، وفيه تأديب مع العلم وكيف يتعلم. وقرأ الجمهور: {فلما قضى}: مبنياً للمفعول؛ وأبو مجلز، وحبيب بن عبد الله بن الزبير: قضى، مبنياً للفاعل، أي قضى محمد ما قرأ، أي أتمه وفرغ منه.
وقال ابن عمر، وجابر بن عبد الله: قرأ عليهم سورة الرحمن، فكان إذا قال: {فبأي آلاء ربكما تكذبان}، قالوا: لا شيء من آيات ربنا نكذب ربنا لك الحمد. {ولوا إلى قومهم منذرين}: تفرقوا على البلاد ينذرون الجن. قال قتادة: ما أسرع ما عقل القوم. انتهى. وعند ذلك وقعت قصة سواد بن قارب، وخنافر وأمثالهما، حين جاءهما رياهما من الجن، وكان سبب إسلامهما.
{من بعد موسى}: أي من بعد كتاب موسى. قال عطاء: كانوا على ملة اليهود، وعن ابن عباس: لم تسمع الجن بأمر عيسى، وهذا لا يصح عن ابن عباس. كيف لا تسمع بأمر عيسى وله أمة عظيمة لا تنحصر على ملته؟ فيبعد عن الجن كونهم لم يسمعوا به. ويجوز أن يكونوا قالوا: {من بعد موسى} تنبيهاً لقومهم على اتباع الرسول، إذ كان عليه الصلاة والسلام قد بشر به موسى، فقالوا: ذلك من حيث أن هذا الأمر مذكور في التوراة، {مصدقاً لما بين يديه} من التوراة والإنجيل والكتب الإلهية، إذ كانت كلها مشتملة على التوحيد والنبوة والمعاد، والأمر بتطهير الأخلاق. {يهدي إلى الحق}: أي إلى ما هو حق في نفسه صدق، يعلم ذلك بصريح العقل. {وإلى صراط مستقيم}: غابر بين اللفظين، والمعنى متقارب، وربما استعمل أحدهما في موضع لا يستعمل الآخر فيه، فجمع هنا بينهما وحسن التكرار. {أجيبوا داعي الله}: هو الرسول، والواسطة المبلغة عنه، {وآمنوا به}: يعود على الله.
{يغفر لكم من ذنوبكم}: من للتبعيض، لأنه لا يغفر بالإيمان ذنوب المظالم، قال معناه الزمخشري. وقيل: من زائدة، لأن الإسلام يجب ما قبله، فلا يبقى معه تبعة. {ويجركم من عذاب أليم}: وهذا كله وظواهر القرآن تدل على الثواب، وكذا قال ابن عباس: لهم ثواب وعليهم عقاب، يلتقون في الجنة ويزدحمون على أبوابها. وقيل: لا ثواب لها إلا النجاة من النار، وإليه كان يذهب أبو حنيفة. {فليس بمعجز في الأرض}: أي بفائت من عقابه، إذ لا منجا منه، ولا مهرب، كقوله: {وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هرباً} وروي عن ابن عامر: وليس لهم بزيادة ميم. وقرأ الجمهور: {ولم يعي}، مضارع عيي، على وزن فعل، بكسر العين؛ والحسن: ولم يعي، بكسر العين وسكون الياء، ووجهه أنه في الماضي فتح عين الكلمة، كما قالوا في بقي: بقا، وهي لغة لطيئ. ولما بنى الماضي على فعل بفتح العين، بنى مضارعه على يفعل بكسر العين، فجاء يعني. فلما دخل الجازم، حذف الياء، فبقي يعي بنقل حركة الياء إلى العين، فسكنت الياء وبقي يعي. وقرأ الجمهور: {بقادر}: اسم فاعل، والباء زائدة في خبر أن، وحسن زيادتها كون ما قبلها في حيز النفي. وقد أجاز الزجاج: ما ظننت أن أحداً بقائم، قياساً على هذا، والصحيح قصر ذلك على السماع، فكأنه في الآية قال: أليس الله بقادر؟ ألا ترى كيف جاء ببلى مقرراً لإحياء الموتى لا لرؤيتهم؟ وقرأ الجحدري، وزيد بن علي، وعمرو بن عبيد، وعيسى، والأعرج: بخلاف عنه؛ ويعقوب: يقدر مضارعاً.
{أليس هذا بالحق}: أي يقال لهم، والإشارة بهذا إلى العذاب. أي كنتم تكذبون بأنكم تعذبون، والمعنى: توبيخهم على استهزائهم بوعد الله ووعيده وقولهم: {وما نحن بمعذبين} {قالوا بلى وربنا}، تصديق حيث لا ينفع. وقال الحسن: إنهم ليعذبون في النار وهم راضون بذلك لأنفسهم، يعترفون أنه العدل، فيقول لهم المجاوب من الملائكة عند ذلك: {فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل}: الفاء عاطفة هذه الجملة على الجملة من أخبار الكفار في الآخرة، والمعنى بينهما مرتبط: أي هذه حالهم مع الله. فلا تستعجل أنت واصبر، ولا تخف إلا الله. وأولو العزم: أي أولو الجد من الرسل، وهم من حفظ له شدة مع قومه ومجاهدة. فتكون من للتبعيض، وقيل: يجوز أن تكون للبيان، أي الذين هم الرسل، ويكون الرسل كلهم أولي العزم؛ وأولو العزم على التبعيض يقتضي أنهم رسل وغير رسل؛ وعلى البيان يقتضي أنهم الرسل، وكونها للتبعيض قول عطاء الخراساني والكلبي، وللبيان قول ابن زيد. وقال الحسن بن الفضل: هم الثمانية عشر المذكورة في سورة الأنعام، لأنه قال عقب ذكرهم: {فبهادهم اقتده} وقال مقاتل: هم ستة: نوح صبر على أذى قومه طويلاً، وإبراهيم صبر على النار، وإسحاق صبر نفسه على الذبح، ويعقوب صبر على الفقد لولده وعمي بصره وقال فصبر جميل، ويوسف صبر على السجن والبئر، وأيوب على البلاء. وزاد غيره: وموسى قال قومه: {إنا لمدركو قال كلا إن معي ربي سيهدين} وداود بكى على خطيئته أربعين سنة، وعيسى لم يضع لبنة على لبنة وقال: إنها معبر، فاعبروها ولا تعمروها.
{ولا تستعجل لهم}: أي لكفار قريش بالعذاب، أي لا تدع لهم بتعجيله، فإنه نازل بهم لا محالة وإن تأخر، وإنهم مستقصرن حينئذ مدة لبثهم في الدنيا، كأنهم {لم يلبثوا إلا ساعة}. وقرأ أبي: من النهار؛ وقرأ الجمهور: من نهار. وقرأ الجمهور: بلاغ، بالرفع، والظاهر رجوعه إلى المدة التي لبثوا فيها، كأنه قيل: تلك الساعة بلاغهم، كما قال تعالى: {متاع قليل} فبلاغ خبر مبتدأ محذوف. قيل: ويحتمل أن يكون بلاغ يعني به القرآن والشرع، أي هذا بلاغ، أي تبليغ وإنذار. وقال أبو مجلز: بلاغ مبتدأ وخبره لهم؛ ويقف على فلا تستعجل، وهذا ليس بجيد، لأن فيه تفكيك الكلام بعضه من بعض، إذ ظاهر قوله: لهم، أنه متعلق بقوله: فلا تستعجل لهم، والحيلولة الجملة التشبيهية بين الخبر والمبتدأ. وقرأ الحسن، وزيد بن علي، وعيسى: بلاغاً بالنصب، فاحتمل أن يراد: بلاغاً في القرآن، أي بلغوا بلاغاً، أو بلغنا بلاغاً.
وقرأ الحسن أيضاً: بلاغ بالجر، نعتاً لنهار. وقرأ أبو مجلز، وأبو سراح الهذلي: بلغ علي الأمر، للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يؤيد حمل بلاغ رفعاً ونصباً على أنه يعني به تبليغ القرآن والشرع. وعن أبي مجلز أيضاً: بلغ فعلاً ماضياً. وقرأ الجمهور: يهلك، بضم الياء وفتح اللام، وابن محيصن، فيما حكى عنه ابن خالويه: بفتح الياء وكسر اللام؛ وعنه أيضاً: بفتح الياء واللام، وماضيه هلك بكسر اللام، وهي لغة. وقال أبو الفتح: هي مرغوب عنها. وقرأ زيد بن ثابت: يهلك، بضم الياء وكسر اللام. {إلا القوم الفاسقون}: بالنصب، وفي هذه الآية وعيد وإنذار.