فصل: تفسير الآيات (29- 38):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (29- 38):

{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)}
إخراج أضغانهم، وهو حقودها: إبرازها للرسول والمؤمنين؛ والظاهر أنها من رؤية البصر لعطف العرفان عليه، وهو معرفة القلب. واتصل الضمير في أريناكهم، وهو الأفصح، وإن كان يجوز الانفصال. وفي هاتين الجملتين تقريب لشهرتهم، لكنه لم يعينهم بأسمائهم، إبقاء عليهم وعلى قراباتهم، واكتفاء منهم بما يتظاهرون به من اتباع الشرع، وإن أبطنوا خلافه. {ولتعرفنهم من لحن القول}: كانوا يصطلحون فيما بينهم من ألفاظ يخاطبون بها الرسول، مما ظاهره حسن ويعنون به القبيح، وكانوا أيضاً يصدر منهم الكلام يشعر بالاتباع، وهم بخلاف ذلك، كقولهم عند النصر: {إنا كنا معكم} وغير ذلك، كقولهم: {لئن رجعنا إلى المدينة} وقوله: {إن بيوتنا عورة} والظاهر الإراءة والمعرفة بالسيماء، وجود المعرفة في المستقبل بلحن القول. واللام في: {ولتعرفنهم}، لام جواب القسم المحذوف. {والله يعلم أعمالكم}: خطاب عام يشمل المؤمن والكافر؛ وقيل: خطاب للمؤمنين فقط.
وقرأ الجمهور: {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم}، ونبلو: بالنون والواو؛ وأبو بكر: بالياء فيهن وأويس، ونبلو: بإسكان الواو وبالنون؛ والأعمش: بإسكانها وبالياء، وذلك على القطع، إعلاماً بأن ابتلاءه دائم. ومعنى: {حتى نعلم المجاهدين}: أي نعلمهم مجاهدين قد خرج جهادهم إلى الوجود، وبأن مسكهم الذي يتعلق به ثوابهم. {إن الذين كفروا}: ناس من بني إسرائيل، وتبين هداهم: معرفتهم بالرسول من التوراة، أو منافقون كأن الإيمان قد داخل قلوبهم ثم نافقوا؛ والمطعمون: سفرة بدر؛ وتبين الهدى: وجوده عند الداعي إليه، أو مشاعة في كل كافر؛ وتبين الهدى من حيث كان في نفسه، أقوال. {وسيحبط أعمالهم}: أي التي كانوا يرجون بها انتفاعاً، وأعمالهم التي كانوا يكيدون بها الرسول ودين الإسلام.
{يا أيها الذين أمنوا}: قيل نزلت في بني إسرائيل، أسلموا وقالوا لرسول الله: قد آثرناك وجئناك بنفوسنا وأهلنا، كأنهم منوا بذلك، فنزلت فيهم هذه الآية. وقوله: {يمنون عليك أن أسلموا} فعلى هذا يكون: {ولا تبطلوا أعمالكم} بالمن بالإسلام. وعن ابن عباس: بالرياء والسمعة، وعنه: بالشرك والنفاق؛ وعن حذيفة: بالكبائر، وقيل: بالعجب، فإنه يأكل الحسنات، كما تأكل النار الحطب. وعن مقاتل: بعصيانكم للرسول. وقيل: أعمالكم: صدقاتكم بالمن والأذى. {وماتوا وهم كفار}: عام في الموجب لانتفاء الغفران، وهو وفاتهم على الكفر. وقيل: هم أهل القليب. وقيل: نزلت بسبب عدي بن حاتم، رضي الله عنه، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبيه قال: وكانت له أفعال بر، فما حاله؟ فقال: «في النار»، فبكى عدي وولى، فدعاه فقال له: «أبي وأبوك وأبو إبراهيم خليل الرحمن في النار»، فنزلت.
{فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم}: وهو الصلح. وقرأ الجمهور: وتدعوا، مضارع دعا؛ والسلمي: بتشديد الدال، أي تفتروا؛ والجمهور: إلى السلم، بفتح السين؛ والحسن، وأبو رجاء، والأعمش، وعيسى، وطلحة، وحمزة، وأبو بكر: بكسرها.
وتقدم الكلام على السلام في البقرة في قوله: {ادخلوا في السلام كافة} وقال الزمخشري: وقرئ: ولا تدعوا من ادعى القوم، وتداعوا إذا ادعوا، نحو قولك: ارتموا الصيد وتراموا. انتهى. والتلاوة بغير لا، وكان يجب أن يأتي بلفظ التلاوة فيقول: وقرئ: وتدعوا معطوف على تهنوا، فهو مجزوم، ويجوز أن يكون مجزوماً بإضمار إن. {وأنتم الأعلون}: أي الأعليون، وهذه الجملة حالية؛ وكذا: {والله معكم}. ويجوز أن يكونا جملتي استئناف، أخبر أولاً بقوله: {أنتم الأعلون}، فهو إخبار بمغيب أبرزه الوجود، ثم ارتقى إلى رتبة أعلى من التي قبلها، وهي كون الله تعالى معهم. {ولن يتركم}، قال ابن عباس: ولن يظلمكم؛ وقيل: لن يعريكم من ثواب أعمالكم؛ وقيل: ولين ينقصكم. وقال الزمخشري، وقال أبو عبيد: {ولن يتركم}: من وترت الرجل، إذا قتلت له قتيلاً من ولد أو أخ أو حميم أو قريب؛ قال: أو ذهبت بماله؛ قال: أو حربته، وحقيقته أفردته من قريبه أو ماله من الوتر وهو الفرد. فشبه إضاعة عمل العامل وتعطيل ثوابه بوتر الواتر، وهو من فصيح الكلام، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله»، أي أفرد عنهما قتلاً ونهباً.
{إنما الحياة الدنيا لعب ولهو}: وهو تحقير لأثر الدنيا، أي فلا تهنوا في الجهاد. وأخبر عنها بذلك، باعتبار ما يختص بها من ذلك؛ وأما ما فيها من الطاعة وأمر الآخرة فليس بذلك. {يؤتكم أجوركم}: أي ثواب أعمالكم من الإيمان والتقوى، {ولا يسألكم أموالكم}. قال سفيان بن عيينة: أي كثيراً من أموالكم، إنما يسألكم ربع العشر، فطيبوا أنفسكم. وقيل: لا حاجة إليها، بل يرجع ثواب إنفاقكم إليكم. وقيل: إنما يسألكم أمواله، لأنه هو المالك لها حقيقة، وهو المنعم بإعطائها. وقيل: الضمير في يسألكم للرسول، أي لا يسألكم أجراً على تبليغ الرسالة، كما قال: {قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين} {إن يسألكموها جميعاً فيحفكم}: أي يبالغ في الإلحاح. {تبخلوا ويخرج أضغانكم}: أي تطعنون على الرسول وتضيق صدوركم كذلك، وتخفون ديناً يذهب بأموالكم. وقرأ الجمهور: ويخرج أضغانكم جزماً على جواب الشرط، والفعل مسند إلى الله، أو إلى الرسول، أو إلى البخل. وقرأ عبد الوارث، عن أبي عمرو: ويخرج، بالرفع على الاستئناف بمعنى: وهو يخرج. وحكاها أبو حاتم، عن عيسى؛ وفي اللوامح عن عبد الوارث، عن أبي عمرو: وتخرج، بالتاء وفتحها وضم الراء والجيم؛ أضغانكم: بالرفع، بمعنى: وهو يخرج أو سيخرج أضغانكم، رفع بفعله. وقرأ ابن عباس، ومجاهد، وابن سيرين، وابن محيصن، وأيوب بن المتوكل، واليماني: وتخرج، بتاء التأنيث مفتوحة؛ أضغانكم: رفع به؛ ويعقوب: ونخرج، بالنون؛ أضغانكم: رفعاً، وهي مروية عن عيسى، إلا أنه فتح الجيم بإضمار أن، فالواو عاطفة على مصدر متوهم، أي يكف بخلكم وإخراج أضغانكم.
وهذا الذي خيف أن يعتري المؤمنين، هو الذي تقرب به محمد بن سلمة إلى كعب بن الأشرف، وتوصل به إلى قتله حين قاله له: إن هذا الرجل قد أكثر علينا وطلب منا الأموال.
{ها أنتم هؤلاء}: كررها التنبيه توكيداً، وتقدم الكلام على هذا التركيب في سورة آل عمران. وقال الزمخشري: هؤلاء موصول بمعنى الذين صلته تدعون، أي أنتم الذين تدعون، أو أنتم يا مخاطبون هؤلاء الموصوفون؛ ثم استأنف وصفهم كأنهم قالوا: وما وصفنا فقيل: تدعون لتنفقوا في سبيل الله. انتهى. وكون هؤلاء موصولاً إذا تقدمها ما الاستفهامية باتفاق، أو من الاستفهامية باختلاف. {في سبيل الله}، قيل: للغزو، وقيل: الزكاة، واللفظ أعم. {ومن يبخل}: أي بالصدقة وما أوجب الله عليه؛ {فإنما يبخل على نفسه}: أي لا يتعدى ضرره لغيره. وبخل يتعدى بعلى وبعن. يقال: بخلت عليه وعنه، وصليت عليه وعنه؛ وكأنهما إذا عديا بعن ضمناً معنى الإمساك، كأنه قيل: أمسكت عنه بالبخل.
{والله الغني وأنتم الفقراء}: أي الغني مطلقاً، إذ يستحيل عليه الحاجات. وأنتم الفقراء مطلقاً، لافتقاركم إلى ما تحتاجون إليه في الدنيا، وإلى الثواب في الآخرة. {وإن تتولوا}: عطف على: {وإن تؤمنوا وتتقوا}، أي وإن تتولوا، أي عن الإيمان والتقوى. {يستبدل قوماً غيركم}: أي يخلق قوماً غيركم راغبين في الإيمان والتقوى، غير متولين عنهما، كما قال: {ويأت بخلق جديد} وتعيين أولئك القوم، وأنهم الأنصار، أو التابعون، أو أهل اليمن، أو كندة والنخع، أو العجم، أو فارس والروم، أو الملائكة، أقوال. والخطاب لقريش، أو لأهل المدينة، قولان. وروى أبو هريرة أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن هذا، وكان سلمان إلى جنبه، فوضع يده على فخذه وقال: «قوم هذا والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطاً بالثريا لتناوله رجال من فارس» وإن صح هذا الحديث، وجب المصير في تعيين ما انبهم من قوله: {قوماً غيركم} إلى تعيين الرسول. {ثم لا يكونوا أمثالكم}: أي في الخلاف والتولي والبخل.

.سورة الفتح:

.تفسير الآيات (1- 10):

{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)}
هذه السورة مدنية، وعن ابن عباس أنها نزلت بالمدينة، ولعل بعضاً منها نزل، والصحيح أنها نزلت بطريق منصرفه صلى الله عليه وسلم من الحديبية، سنة ست من الهجرة، فهي تعد في المدني. ومناسبتها لما قبلها أنه تقدم: {وإن تتولوا} الآية، وهي خطاب لكفار قريش، أخبر رسوله بالفتح العظيم، وأنه بهذا الفتح حصل الاستبدال، وآمن كل من كان بها، وصارت مكة دار إيمان. ولما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلح الحديبية، تكلم المنافقون وقالوا: لو كان محمد نبياً ودينه حق، ما صد عن البيت، ولكان فتح مكة. فأكذبهم الله تعالى، وأضاف عز وجل الفتح إلى نفسه، إشعاراً بأنه من عند الله، لا بكثرة عدد ولا عدد، وأكده بالمصدر، ووصفه بأنه مبين، مظهر لما تضمنه من النصر والتأييد. والظاهر أن هذا الفتح هو فتح مكة. وقال الكلبي، وجماعة: وهو المناسب لآخر السورة التي قبل هذه لما قال: {ها أنتم هؤلاء تدعون} الآية، بين أنه فتح لهم مكة، وغنموا وحصل لهم أضعاف ما أنفقوا؛ ولو بخلوا، لضاع عليهم ذلك، فلا يكون بخلهم إلا على أنفسهم. وأيضاً لما قال: {وأنتم الأعلون والله معكم} بين برهانه بفتح مكة، فإنهم كانوا هم الأعليين. وأيضاً لما قال: {فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم} كان فتح مكة حيث لم يلحقهم وهن، ولادعوا إلى صلح، بل أتى صناديد قريش مستأمنين مستسلمين مسلمين. وكانت هذه البشرى بلفظ الماضي، وإن كان لم يقع، لأن إخباره تعالى بذلك لابد من وقوعه، وكون هذا الفتح هو فتح مكة بدأ به الزمخشري. وقال الجمهور: هو فتح الحديبية؛ وقاله: السدي، والشعبي، والزهري. قال ابن عطية: وهو الصحيح. انتهى. ولم يكن فيه قتال شديد، ولكن ترام من القوم بحجارة وسهام. وعن ابن عباس: رموا المشركين حتى أدخلوهم ديارهم. وعن الكلبي: ظهروا عليهم حتى سألوه الصلح. قال الشعبي: بلغ الهدى محله، وظهرت الروم على فارس، ففرح المسلمون بظهور أهل الكتاب على المجوس، وأطعموا كل خيبر.
وقال الزهري: لم يكن فتح أعظم من فتح الحديبية، اختلط المشركون بالمسلمين وسمعوا كلامهم، وتمكن الإسلام من قلوبهم، وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير، وكثر بهم سواد الإسلام. قال القرطبي: فما مضت تلك السنون إلا والمسلمون قد جاءوا إلى مكة في عشرة آلاف. وقال موسى بن عقبة: قال رجل منصرفهم من الحديبية: ما هذا الفتح؟ لقد صدونا عن البيت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بل هو أعظم الفتوح، قد رضي المشركون أن يدفعوكم عن بلادكم بالراح، ويسألونكم القضية، ويرغبوا إليكم في الأمان، ورأوا منكم ما كرهوا» وكان في فتحها آية عظيمة وذلك أنه نزح ماؤها حتى لم يبق فيها قطرة، فتمضمض رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مجه فيها، فدرت بالماء حتى شرب جميع من كان معه.
وقيل: فجاش الماء حتى امتلأت، ولم ينفد ماؤها بعد.
وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف يكون فتحاً، وقد أحصروا فنحروا وحلقوا بالحديبية؟ قلت: كان ذلك قبل الهدنة، فلما طلبوها وتمت كان فتحاً مبنياً. انتهى. وفي هذا الوقت اتفقت بيعة الرضوان، وهو الفتح الأعظم، قاله جابر بن عبد الله والبراء بن عازب، وفيه استقبل فتح خيبر وامتلأت أيدي المؤمنين خيراً، ولم يفتحها إلا أهل الحديبية، ولم يشركهم أحد من المتخلفين عن الحديبية. وقال مجاهد: هو فتح خيبر. وفي حديث مجمع بن جارية: شهدنا الحديبية، فلما انصرفنا، إذ الناس يهزون الأباعر، فقيل: ما بال الناس؟ قالوا: أوحى الله للنبي صلى الله عليه وسلم، قال: فخرجنا نرجف، فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم عند كراع الغميم، فلما اجتمع الناس، قرأ النبي صلى الله عليه وسلم: {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً}. قال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: أوفتح هو يا رسول الله؟ قال: «نعم، والذي نفسي بيده إنه لفتح» فقسمت خيبر على أهل الحديبية، ولم يدخل فيها أحد إلا من شهد الحديبية. وقال الضحاك: الفتح: حصول المقصود بغير قتال، وكان الصلح من الفتح، وفتح مكة بغير قتال، فتناول الفتحين: الحديبية ومكة. وقيل: فتح الله تعالى له بالإسلام والنبوّة والدعوة بالحجة والسيف، ولا فتح أبين منه وأعظم، وهو رأس الفتوح كلها، إذ لا فتح من فتوح الإسلام إلا وهو تحته ومتشعب منه. وقيل: قضينا لك قضاءً بيناً على أهل مكة أن تدخلها أنت وأصحابك من قابل، ليطوفوا بالبيت من الفتاحة، وهي الحكومة، وكذا عن قتادة.
قال الزمخشري: فإن قلت: كيف جعل فتح مكة علة للمغفرة؟ قلت: لم يجعل علة للمغفرة، ولكن لاجتماع ما عدد من الأمور الأربعة وهي: المغفرة، وإتمام النعمة، وهداية الصراط المستقيم، والنصر العزيز؛ كأنه قيل: يسرنا لك فتح مكة، ونصرناك على عدوّك، لنجمع لك بين عز الدارين وأغراض العاجل والآجل. ويجوز أن يكون فتح مكة من حيث أنه جهاد للعدوّ، وسبب للغفران والثواب والفتح والظفر بالبلد عنوة أو صلحاً، بحرب أو بغير حرب، لأنه منغلق ما لم يظفر، فإذا ظفر به وحصل في اليد فقد فتح. انتهى. وقال ابن عطية: المراد هنا: أن الله فتح لك لكي يجعل ذلك علامة لغفرانه لك، فكأنها صيرورة، ولهذا قال عليه السلام: «لقد أنزلت عليّ الليلة سورة هي أحب إليّ من الدنيا» انتهى. ورد بأن لام القسم لا تكسر ولا ينصب بها، ولو جاز بحال لجاز: ليقوم زيد، في معنى: ليقومّن زيد. انتهى. أما الكسر، فقد علل بأنه شبهت تشبيهاً بلام كي، وأما النصب فله أن يقول: ليس هذا نصباً، لكنها الحركة التي تكون مع وجود النون، بقيت بعد حذفها دلالة على الحذف، وبعد هذا، فهذا القول ليس بشيء، إذ لا يحفظ من لسانهم: والله ليقوم، ولا بالله ليخرج زيد، بكسر اللام وحذف النون، وبقاء الفعل مفتوحاً.
{ويتم نعمته عليك}، بإظهارك على عدوّك ورضاه عنك، وبفتح مكة والطائف وخيبر {نصراً عزيزاً}، أي بالظفر والتمكن من الأعداء بالغنيمة والأسر والقتل نصراً فيه عز ومنعة. وأسندت العزة إليه مجازاً، والعزيز حقيقة هو المنصور صلى الله عليه وسلم. وأعيد لفظ الله في: {وينصرك ألله نصراً}، لما بعد عن ما عطف عليه، إذ في الجملتين قبله ضمير يعود على الله، وليكون المبدأ مسنداً إلى الاسم الظاهر والمنتهى كذلك. ولما كان الغفران وإتمام النعمة والهداية والنصر يشترك في إطلاقها الرسول صلى الله عليه وسلم وغيره بقوله تعالى: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} وقوله: {إنهم لهم المنصورون} وكان الفتح لم يبق لأحد إلا للرسول صلى الله عليه وسلم، أسنده تعالى إلى نون العظمة تفخيماً لشأنه، وأسند تلك الأشياء الأربعة إلى الاسم الظاهر، واشتركت الخمسة في الخطاب له صلى الله عليه وسلم، تأنيساً له وتعظيماً لشأنه. ولم يأت بالاسم الظاهر، لأن في الإقبال على المخاطب ما لا يكون في الاسم الظاهر.
{هو الذين أنزل السكينة}: وهي الطمأنينة والسكون؛ قيل: بسبب الصلح والأمن، فيعرفون فضل الله عليهم بتيسير الأمن بعد الخوف، والهدنة بعد القتال، فيزدادوا يقيناً إلى يقينهم. وقيل: السكينة إشارة إلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الشرائع، ليزدادوا إيماناً بها إلى إيمانهم، وهو التوحيد؛ روي معناه عن ابن عباس. وقيل: الوقار والعظمة لله ولرسوله. وقيل: الرحمة ليتراحموا، وقاله ابن عباس. {ولله جنود السموات والأرض}: إشارة إلى تسليم الأشياء إليه تعالى، ينصر من شاء، وعلى أي وجه شاء، ومن جنده السكينة ثبتت قلوب المؤمنين. {ليدخل}: هذه اللام تتعلق، قيل: بإنا فتحنا لك. وقيل: بقوله: {ليزدادوا}. فإن قيل: {ويعذب} عطف عليه، والازدياد لا يكون سبباً لتعذيب الكفار، أجيب عن هذا بأنه ذكر لكونه مقصوداً للمؤمن، كأنه قيل: بسبب ازديادكم في الأيمان يدخلكم الجنة ويعذب الكفار بأيديكم في الدنيا. وقيل: بقوله: {وينصرك الله}: أي بالمؤمنين. وهذه الأقوال فيها بعد. وقال الزمخشري: {ولله جنود السموات والأرض}، يسلط بعضها على بعض، كما يقتضيه علمه وحكمته. ومن قضيته أن صلح قلوب المؤمنين بصلح الحديبية، وإن وعدهم أن يفتح لهم، وإنما قضى ذلك ليعرف المؤمنون نعمة الله فيه ويشكرون، فيستحقوا الثواب، فيثيبهم، ويعذب الكافرين والمنافقين، لما غاظهم من ذلك وكرهوه. انتهى. ولا يظهر من كلامه هذا ما تتعلق به اللام؛ والذي يظهر أنها تتعلق بمحذوف يدل عليه الكلام، وذلك أنه قال: {ولله جنود السموات والأرض}.
كان في ذلك دليل على أنه تعالى يبتلي يتلك الجنود من شاء، فيقبل الخير من قضى له بالخير، والشر من قضى له بالشر. {ليدخل المؤمنين} جنات، ويعذب الكفار. فاللام تتعلق بيبتلي هذه، وما تعلق بالابتلاء من قبول الإيمان والكفر. {ويكفر}: معطوف على ليدخل، وهو ترتيب في الذكر لا ترتيب في الوقوع. وكان التبشير بدخول الجنة أهم، فبدئ به. ولما كان المنافقون أكثر ضرراً على المسلمين من المشركين، بدئ بذكرهم في التعذيب.
{الظانين بالله السوء}: الظاهر أنه مصدر أضيف إلى ما يسوء المؤمنين، وهو أن المشركين يستأصلونهم ولا ينصرون، ويدل عليه: {عليهم دائرة السوء}، و{بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول المؤمنون إلى أهليكم أبداً} وقيل: {ظن السوء}: ما يسوء المشركين من إيصال الهموم إليهم، بسبب علو كلمة الله، وتسليط رسوله قتلاً وأسراً ونهباً. ثم أخبر أنهم يستعلي عليهم السوء ويحيط بهم، فاحتمل أن يكون خبراً حقيقة، واحتمل أن يكون هو وما بعده دعاء عليهم. وتقدم الكلام على هذه الجملة في سورة براءة. وقيل: {ظن السوء} يشمل ظنونهم الفاسدة من الشرك، كما قال: {إن يتبعون إلا الظن} ومن انتفاء رؤية الله تعالى الأشياء وعلمه بها كما قال: {ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً} بطلان خلق العالم، كما قال: {ذلك ظن الذين كفروا} وقيل: السوء هنا كما تقول: هذا فعل سوء. وقرأ الحسن: السوء فيهما بضم السين.
{وكان الله عزيزاً حكيماً}: لما تقدم تعذيب الكفار والانتقام منهم، ناسب ذكر العزة. ولما وعد تعالى بمغيبات، ناسب ذكر العلم، وقرن باللفظتين ذكر جنود السموات والأرض؛ فمنها السكينة التي للمؤمنين والنقمة للمنافقين والمشركين، ومن جنود الله الملائكة في السماء، والغزاة في سبيل الله في الأرض. وقرأ الجمهور: {لتؤمنوا}، وما عطف عليه بتاء الخطاب؛ وأبو جعفر، وأبو حيوة، وابن كثير، وأبو عمرو: بياء الغيبة؛ والجحدري: بفتح التاء وضم الزاي خفيف؛ وهو أيضاً، وجعفر بن محمد كذلك، إلا أنهم كسروا الزاي؛ وابن عباس، واليماني: بزاءين من العزة؛ وتقدم الكلام في وعزّروه في الأعراف. والظاهر أن الضمائر عائدة على الله تعالى، وتفريق الضمائر يجعلها للرسول صلى الله عليه وسلم، وبعضها لله تعالى، حيث يليق قول الضحاك. {بكرة وأصيلاً}، قال ابن عباس: صلاة الفجر وصلاة الظهر والعصر.
{إن الذين يبايعونك}: هي بيعة الرضوان وبيعة الشجرة، حين أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم الأهبة لقتال قريش، حين أرجف بقتل عثمان بن عفان، فقد بعثه إلى قريش يعلمهم أنه جاء معتمراً لا محارباً، وذلك قبل أن ينصرف من الحديبية، بايعهم على الصبر المتناهي في قتال العدو إلى أقصى الجهد، ولذلك قال سلمة بن الأكوع وغيره: بايعنا على الموت. وقال ابن عمر، وجابر: على أن لا نفر.
والمبايعة: مفاعلة من البيع، {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} وبقي اسم البيعة بعد على معاهدة الخلفاء والملوك. {إنما يبايعون الله} أي صفقتهم، إنما يمضيها ويمنح الثمن الله عز وجل. وقرأ تمام بن العباس بن عبد المطلب: إنما يبايعون لله، أي لأجل الله ولوجهه؛ والمفعول محذوف، أي إنما يبايعونك لله.
{يد الله فوق أيديهم}. قال الجمهور: اليد هنا النعمة، أي نعمة الله في هذه المبايعة، لما يستقبل من محاسنها، فوق أيديهم التي مدوها لبيعتك. وقيل: قوة الله فوق قواهم في نصرك ونصرهم. وقال الزمخشري: لما قال: {إنما يبايعون الله}، أكد تأكيداً على طريقة التخييل فقال: {يد الله فوق أيديهم}، يريد أن يد رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تعلو يدي المبايعين، هي يد الله، والله تعالى منزه عن الجوارح وعن صفات الأجسام. وإنما المعنى: تقرير أن عقد الميثاق مع الرسول صلى الله عليه وسلم كعقده مع الله تعالى من غير تفاوت بينهما، كقوله تعالى: {من يطع الرسول فقد أطاع الله} و{من نكث فإنما ينكث على نفسه}، فلا يعود ضرر نكثه إلا على نفسه. انتهى. وقرأ زيد بن علي: ينكث، بكسر الكاف. وقال جابر بن عبد الله: ما نكث أحد منا البيعة إلا جد بن قيس، وكان منافقاً، اختبأ تحت إبط بعيره، ولم يسر مع القوم فحرم. وقرأ الجمهور: {عليه الله}: بنصب الهاء. وقرئ: بما عهد ثلاثياً. وقرأ الحميدي: {فسيؤتيه}؛ بالياء؛ والحرميان، وابن عامر، وزيد بن علي: بالنون. {أجراً عظيماً}: وهي الجنة، وأو في لغة تهامه