فصل: تفسير الآيات (11- 15):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.سورة السجدة:

.تفسير الآيات (1- 3):

{الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)}
قلت: {تنزيل}: إما خبر عن (الام)، إن جُعِلَ اسماً للسورة، أو: خبر عن محذوف، أي: هذا تنزيل. أو: مبتدأ، خبره: {لا ريب فيه}. وعلى الأول {لا ريب}: خبر بعد خبر، و{من رب العالمين}: خبر ثالث. أو: خبر عن {تنزيل}، و{لا ريب فيه}: معترض. والضمير في {فيه}: راجع إلى مضمون الجملة، كأنه قيل: لا ريب في ذلك، أي: كونه منزلاً من رب العالمين، و{أم}: منقطعة بمعنى: {بل}.
يقول الحق جل جلاله: {الام}؛ أيها المصطفى المقرب، هذا الذي تتلوه هو {تنزيلُ الكتاب لا ريبَ فيه}، لأنه معجز للبشر، ومثله أبعد شيء عن الريب، وهو {من ربِّ العالمين} لا محالة. {أم يقولون افتراه}، أي: اختلقه محمد من عنده، وهو إنكار لقولهم، وتعجيب منه؛ لظهور أمره في عجزهم عن الإتيان بسورة منه. قال تعالى: {بل هو الحقُّ} الثابت {من ربك}، ولم تفتره، كما زعموا؛ تعنتاً وجهلاً، أنزله عليك {لتُنذر قوماً} أي: العرب، {ما أتاهم من نذير من قَبلك}، بل طالت عليهم الفترة من زمن إسماعيل وعيسى- عليهما السلام- {لعلهم يهتدون} إلى الصواب من الدين. والترجي مصروفٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما كان {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ} [طه: 44] مصروفاً إلى موسى وهارون.
الإشارة: (الام) الألف: أَلِفَ المحبون قُربى، فلا يصبرون عني. اللام: لمع نوري لقلوب السائرين، فزاد شوقهم إليّ. الميم: مَلَك الواصلون ملكي وملكوتي، فلا يغيبون عني. تنزيل الكتاب، إذا طال أمد لقاء الأحباب، فأعزّ شيء على المحبين كتاب الأحباب. أنزلت على أحبابي كتابي، وحَمَلتْ إليهم بالرسل خطابي، ولا عليهم إن قرع أسماعَهم عتابي، فإنهم مني في أمان من عذابي. {أم يقولون افتراه}، إنكار الأعداء على المحبين سُنَّة لازمة. فإن أُلبِسَ الحق على الأعداء فلا يضركم، ولا عليكم، فإنَّ صحبة الحبيب للحبيب أَلَدُّ ما تكون عند فقد الرقيب. قاله القشيري.

.تفسير الآيات (4- 6):

{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6)}
يقول الحق جل جلاله: {اللهُ الذي خلق السماوات والأرضَ وما بينهما في} مقدار {ستةِ أيام ثم استوى على العرش} أي: استولى بقهريه ذاته. وسئل مالك عنه، فقال: الاستواء معلوم، والكيفية مجهولة، والسؤال عن هذا بدعة. اهـ. ولم تتكلم الصحابة على الاستواء، بل أمسكوا عنه، ولذلك قال مالك: السؤال عنه بدعة. وسيأتي شيء في الإشارة. {ما لكم من دونه}؛ من دون الله {من وليٍّ ولا شفيعٍ} أي: إذا جاوزتم رضاه لم تجدوا لأنفسكم ولياً، أي: ناصراً ينصركم، ولا شفيعاً يشفع لكم، {أفلا تتذكرون}؛ تتعظون بمواعظ الله.
{يُدبّرُ الأمرَ} أي: أمر الدنيا. وما يكون من شؤونه تعالى في ملكه، فهو كقوله: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29]، أي: يُبديه لا يبتديه. وهو إشارة إلى القضاء التفصيلي، الجزئي، لا الكلي، فإنه كان دفعة. يكون ذلك التدبير {من السماء إلى الأرض}، فيدبر أمر الدنيا بأسباب سماوية، نازلة آثارها إلى الأرض. {في يوم كان مقداره ألفَ سنةٍ مما تعدُّون} من أيام الدنيا.
قال الأقليشي: جاء في حديث: «إن بُعد ما بين السماء والأرض، وما بين سماء إلى سماء، مسيرة خمسمائة سنة» وفي حديث آخر: «إن بين ذلك نَيِّفاً وسبعين سنة»، وإنما وقع الاختلاف في ذلك بالنسبة إلى سير الملائكة. وإن سرعة بعضها أكثر من سرعة بعض. كما يقول القائل: من موضع كذا إلى كذا مسيرة شهر للفارس وشهرين للراجل، وعليه يخرج قوله تعالى: {يُدَبِّرُ الأمر مِنَ السمآء إِلَى الأرض ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ}. وقال في آية أخرى: {خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4]. وهكذا الوجود مَنْ علوه إلى سفله، مِنْ الملائكة من يقطعه في مدةٍ ما، ويقطعه غيره في أكثر منها أو أقل. اهـ. وقيل: المعنى: أنه يدبر أمر الدنيا إلى أن تقوم الساعة، ثم يعرج إليه ذلك الأمر، فيحكم فيه في يوم كان مقداره ألف سنة، أو خمسين ألف سنة. فقد قيل: إن مواقف يوم القيامة خمسون موقفاً، كل موقف ألف سنة. وقد حكى هذا ابن عطية، فقال: يُدبر الأمر في مدة الدنيا، ثم يعرج إليه يوم القيامة. ويوم القيامة: مقداره ألف سنة؛ من عَدِّنا. وهو على الكفار قدر خمسين ألف سنة؛ لِهوله، حسبما في سورة المعارج. اهـ.
قلت: والتحقيق، في الفرق بين الآيتين، أن الحق تعالى، حيث لم يختص بمكان دون مكان، وكانت الأمكنة في حقه تعالى كلها واحدة، وهو موجود معها وفيها بعلمه وأسرار ذاته، كان العروج إنما هو إليه على كل حال، بعدت المسافة أو قربت. لكن لما علقَ العروج بتدبير الأمور وتنفيذها، قرّب المسافة؛ ليعلم العبد أن القضاء نافذ فيه بسرعة.
ولمَّا عَلَّقَ عروج الملائكة والروح إلى مطلق الذات المقدسة بَعَّدَ المسافة؛ زيادة في علو شأنه ورفعة قدره. وكل هذا العروج في دار الدنيا. على قول من عَلَّقَ {في يوم} بتَعْرج في سورة المعارج. فتأمله.
{ذلك عالمُ الغيب والشهادة}، أي: ذلك الموصوف بتلك الصفات العظام هو عالم ما غاب عن الأبصار من عجائب أسرار عالم الملكوت، وما شوهد في عالم الحس من عجائب عالم الملك. {العزيزُ}؛ الغالب أمره وتدبيره، {الرحيم}؛ البالغ لطفُه وتيسيره.
الإشارة: اعلم أن الحق تعالى تجلى بهذه الكائنات، قطعة من نور ذاته، على ترتيب وتمهيل. فتجلى بالعرش، ثم بالماء، فكان عرشه على الماء، ثم بالكرسي، ثم بالأرض، ثم بالسموات، ولما أكمل أمر مملكته تجلى بنور صمداني رحماني من بحر جبروته، استوى به على عرشه؛ لتدبير ملكه، ثم تجلى بآدم على صورة ذلك التجلي. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله خلق آدم على صورته» وفي رواية: «على صورة الرحمن» وبذلك التجلي يتجلى يوم القيامة لفصل عباده، ولرؤيته- باعتبار العامة-، وهذا التجلي كله، من جهة معناه، متصل بسائر التجليات، جزئي من جهة تشكيله للمعنى الكلي، والفرق بينه وبين التجليات الظاهرة للحس: أن التجلي المستولي غَيْرُ مُرْتَدٍ برداء الحس؛ إذ لا عبودية فيه، ولا قهرية تلحقه. ولأنه لم يظهر للعيان حتى يحتاج إلى رداء، لأن كنزه ما زال مدفوناً، حيث ارتفع فوق تجليات الأكوان. فتأمل، وسَلِّمْ، إن لم تفهم، ولا تبادر بالإنكار حتى تصحب الرجال، فيخوضون بك بحر الأحدية الحقيقية، فتفهم أسرار التوحيد. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (7- 10):

{الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9) وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10)}
قلت: {الذي}: صفة للعزيز، أو: خبر عن مضمر. ومن قرأ {خَلَقَهُ}؛ بالفتح؛ فصفة لكل، ومن سَكَّنَهُ، فبدل منه، أي: أَحْسَنَ خَلْقَ كل شَيْءٍ.
يقول الحق جل جلاله في وصف ذاته: {الذي أحسن كلَّ شيءٍ خلقه} أي: أبدع خلق كل شيء، أتقنه على وفق حكمته. أو: أتقن كل شيء من مخلوقاته، فجعلهم في أحسن صورة. ثم {بدأ خَلْقَ الإنسان}؛ آدم {من طين ثم جعل نسله}؛ ذريته {من سلالةٍ} أي: نطفة مسلولة من سائر البدن، {من ماءٍ} أي: مَنِيٍّ، وهو بدل من سلالة، {مِّهِينٍ}؛ ضعيف حقير. {ثم سوّاه} أي: سوّى صورته في أحسن تقويم، {ونفخ فيه من روحه}، أضافه إلى نفسه، تشريفاً، إشارة إلى أنه خلق عجيب، وأن له شأناً ومناسبة إلى حضرة الربوبية، ولذلك قيل: من عرف نفسه عرف ربه. وقد تقدم في سورة الإسراء، في الكلام على الروح، وجه المعرفة منه. {وجعل لكم السمعَ والأَبْصارَ والافئدة} لتسمعوا كلامه، وتُبصروا آثار قدرته وعجائب حكمته، وتعقلوا، فتعرفوا صانعكم ومُدبرَ أمرِكم. {قليلاً ما تشكرون} أي: تشكرون شكراً قليلاً على هذه النعم؛ لقلة التدبر فيها.
{وقالوا}؛ منكرين للبعث: {أئذا ضللنا في الأرض}، أي: صِرْنَا تراباً، وذهبنا مختلطين بتراب الأرض، لا نتميز منه، كما يضل الماء في اللبن. أو: غبنا في الأرض بالدفن فيها، يقال: ضَلَلَ؛ كضرب، وضِلل؛ كفرح. وانتصب الظرف في {أإذا} بقوله: {أئنا لفي خلق جديد}. أي: أُنبعث، ونُجدد، إذا ضللنا في الأرض؟ والقائل لهذه المقالة أُبيّ بن خلف، وأسند إليهم؛ لرضاهم بذلك، {بل هم بلقاء ربهم كافرون}؛ جاحدون. لَمّا ذكر كفرهم بالبعث؛ أضرب عنه إلى ما هو أبلغ، وهو أنهم كافرون بجميع ما يكون في العاقبة، لا بالبعث وحده. وقال المحشي: أي: ليس لهم جحود قدرته تعالى على الإعادة؛ لأنهم يعترفون بقدرته، ولكنهم اعتقدوا ألاَّ حساب عليهم، وأنهم لا يَلْقَوْنَ الله تعالى، ولا يصيرون إلى جزائه. اهـ. والله تعالى أعلم.
الإشارة: كل ما أظهر الحق تعالى: من تجلياته الكونية؛ فهي في غاية الإبداع والاتفاق في أصل نشأتها، كما قال صاحب العينية:
وَكُلُّ قَبِيح إنْ نَسَبْتَ لحُسْنِه ** أَتَتْكَ مَعَانِي الحُسْنِ فِيهِ تُسَارعُ

يُكَمِّلُ نُقْصَانَ القَبِيحِ جَمَالُهُ ** فَمَا ثَمّ نُقْصَانٌ وَلاَ ثَمَّ بَاشِعُ

وأكملُها وأعظمُها: خلقةُ الإنسان، الذي خُلِقَ على صورة الرحمن، حيث جعل فيه أوصافه؛ من قدرة، وإرادة، وعلم، وحياة، وسمع، وبصر، وكلام، وهيأه لحضرة القدس ومحل الأنس، وسخّر له جميع الكائنات، وهيأه لحمل الأمانة، إلى غير ذلك مما خص به عبده المؤمن. وأما الكافر فهو في أسفل سافلين. قال الورتجبي: ذكر حسن الأشياء، ولم يذكر هنا حسن الإنسان؛ غيرةً، لأنه موضع محبته، واختياره الأزلي، كقول القائل:
وكم أبصرتُ مِن حُسْنٍ ولكن ** عليك من الورى وقع اختياري

قال الواسطي: الجسم يستحسن المستحسنات، والروح واحديةٌ فردانيةٌ، لا تستحسن شيئاً. وقال ابن عطاء في قوله: {ثم سواه...}: قوّمه بفنون الآداب، ونفخ فيه من روحه الخاص، الذي، به، فَضَّله على سائر الأرواح، لما كان له عنده من محل التمكين، وما كان فيه من تدبير الخلافة، ومشافهة الخطاب- بعد أن قال الورتجبي-: أخص الخصائص هو ما سقط من حُسْنِ تَجلِّي ذاته في صورته، كما ذكر بقوله: {ونفخ فيه من روحه}. اهـ.

.تفسير الآيات (11- 15):

{قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15)}
يقول الحق جل جلاله: {قل يتوفاكم مَلَكُ الموتِ الذي وُكِّل بكم}؛ بقبض أرواحكم فتموتون،، {ثم إلى ربكم تُرجعون}؛ بالبعث للحساب والعقاب. وهذا معنى لقاء الله الذي أنكروه. والتوفي: استيفاء الروح، أي: أخذها، من قولك: توفيت حقي من فلان، إذا أَخَذْتُه وافياً من غير نقصان. وعن مجاهد: زُويت الأرض لملك الموت، وجُعلت مثل الطست، يتناول منها حيث يشاء. وعن مقاتل والكلبي: بلغنا أن اسم ملك الموت عزرائيل وله أربعة أجنحة: جناح بالمشرق وجناح بالمغرب، والخلق بين رجليه ورأسه وجسده كما بين السماء والأرض، وله الدنيا مثل راحة اليد، فهو يقبض أنفس الخلائق بمشارق الأرض ومغاربها، وله أعوان من ملائكة الرحمة وملائكة العذاب. وعن معاذ بن جبل: أن لملك الموت حربة، تبلغ ما بين المشرق والمغرب، وهو يتصفح وجوه الموتى، فما من أهل بيت إلا وهو يتصفحهم كل يوم مرتين- وفي حديث آخر، خمس مرات، فإذا رأى إنساناً قد انقضى أجله؛ ضربه بتلك الحربة. وقال: الآن يُزار بك عسكر الأموات.
فإن قيل: ما الجمع بين قوله: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} [الأنعام: 61] و{تَوَفَّاهُمُ الملائكة} [النساء: 97] و{قُل يَتَوَفَاكُم مَّلَكُ المَوتِ} وقوله: {الله يَتَوَفَّى الأنفس} [الزمر: 42]؟ فالجواب: أن توفي الملائكة، القبضُ والنزعُ، وتوفي ملك الموت الدعاء والأمر، يدعو الأرواح فتجيبه، ثم يأمر أعوانه بقبضها، ثم يذهبون بها إلى عليين، وقبض الحق تعالى: خَلْقُ الموتِ فيه: والحاصل: أنَّ قبض الملك: المباشرة، وقبض الحق: الإخراجُ؛ حقيقةً.
قال الورتجبي: قال الحسن: ملك الموت هو الموكل بأرواح بني آدم، وملك الفناء موكل بأرواح البهائم. فانظر فيه. وأما حديث ملكي الموت والحياة، فقال العراقي: لم أجد له أصلاً. ويعني بملك الحياة: كون الأرواح أنفاسَ ملك الحياة؛ كما في الإِحْيَاء. ومذهب أهل السُنَّة قاطبة: أن ملك الموت هو الّذي يقبض جميع الأرواح، من بني آدم والبهائِم وسائر الحيوانات. وبه قال مالك وأشهب. وذهب قوم إلى أن أرواح البهائم وسائر الحيوانات إنما تَقبض أرواحَهَا أعوانُ ملك الموت. وذهب قوم إلى أن الموت في حق غير بني آدم، إنما هو عَدَمٌ مَحْضٌ، كيبس الشجر وجفاف الثياب، فلا قبض لأرواحها وهو أعم من كونها تُبعث أو: لا؛ بأن تعاد عن عدم بخلاف المكلف فإن روحه لا تعدم، خلافاً للملاحدة، فإنهم جعلوا الموت كله عدماً محضاً، كجفاف العود الأخضر، وهو كفر.
هذا وقد اختلف في كون الموت ضد الحياة، فيكون معنىً وجودياً، أو هو عدم الحياة، فيكون عدماً، وعلى كلا القولين فألأرواح باقية بعد مفارقة الأبدان، منعّمة أو معذبة.
{ولو ترى} يا محمد {إذِ المجرمون} وهو الذين قالوا: {أئذا ضللنا في الأرض...} إلخ، و{لو} و{إذ} للماضي، وإنما جاز هنا؛ لأن المُتَرَقَّبَ محقق الوقوع، و{ترى} هنا، تامة لا مفعول لها، أي: لو وقعت منك رؤيةٌ {إذ المجرمون ناكسوا رؤوسِهم} أي: وقت كون المجرمين ناكسي رؤوسهم من الذل والحياء والندم، {عند ربهم}؛ عند حساب ربهم، قائلين: {ربنا أبصَرْنا وسَمِعْنا} أي: صدَّقنا الآن وعدك ووعيدك، وأبصرنا ما حدثَتْنَأ به الرسلُ، وسمعنا منك تصديق رسلك، {فارجعنا} إلى الدنيا {نعملْ صالحاً} من الإيمان والطاعة، {إِنا موقنون} بالبعث والحساب الآن.
وجواب {لو}: محذوف، أي: لرأيت أمراً فظيعاً.
{ولو شئنا لآتَيْنَا كلَّ نفسٍ هُداها} أي: ما تهتدي به إلى الإيمان والطاعة، أي: لو شئنا لأعطيناه في الدنيا، كل نفس ما عندنا من اللُطف الذي، لو كان منهم اختيارُ ذلك، لاهتدوا. لكن لم نعطهم ذلك اللطف؛ لِمَا علمنا منهم اختيار الكفر وإيثاره. وهو حجة على المعتزلة؛ فإن عندهم: قد شاء الله أن يعطي كل نفس ما به اهتدت، وقد أعطاها، لكنها لم تهتد وأَوّلوا الآية بمشيئة الجبر، وهو فاسد. قال تعالى: {ولكن حقَّ القولُ مني لأملأنّ جهنمَ من الجِنّة والناس أجمعين}، أي: ولكن وجب القول مني لأعمرنّ جهنم من الجِنَّة والناس، الذين علمت منهم أنهم يختارون الكفر والتكذيب. وفي تخصيص الجن والإنس: إشارة إلى أنه عصم الملائكة من عمل يستوجبون به جهنم. وفي الآية ما يقتضي تخصيص أهل النار بالجن والإنس، فيرد ما يُذكر أنه كان قبل آدم أُمم كفروا، ولا يصح ذلك، إلا أن يكونوا من الجن.
{فذُوقُوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا} أي: باشروا وبال ترككم العمل للقاء يومكم هذا، وهو الإيمان به. {إِنا نَسيناكم}: تركناكم في العذاب، {وذوقوا عذابَ الخُلْدَ} أي: العذاب الدائم الذي لا انقطاع له {بما كنتم تعملون} من الكفر والمعاصي.
ثم ذكر ضدهم بقوله: {إنما يُؤمن بآياتنا}؛ القرأن {الذين إذا ذُكَّروا بها خَرّوا سُجَّداً}؛ سجدوا لله؛ تواضعاً وخشوعاً، وشكروا على ما رزقهم من الإسلام، {وسبَّحوا بحمد ربهم} أي: نزَّهوا الله عما لا يليق به، وأثنوا عليه؛ حامدين له، {وهم لا يستكبرون} عن الإيمان والسجود له. جعلنا الله منهم بمنِّه، آمين.
الإشارة: أهل الفَرْقِ من أهل الحجاب، يتوفاهم ملك الموت، وأهل الجمع مع الله من أهل العيان؛ يتولى قبض أرواحهم ذو الجلال الإكرام؛ كما قيل في الأخفياء من الأولياء؛ الذين اختص الله تعالى بعلمهم- أنه يتولى قبض أرواحهم بيده، فتطيب أجسادهم به فلا يعدوا عليها الثرى حتى يُبعثوا بها مُشْرِقَةً بنور البقاء المجعول فيهم، بالرجوع إليه من الفناء، فيكون بقلوبهم بَقَاءُ الأبد مع الباقي الأحد عز وجل. وقد ورد في الخبر؛ «من واظب على قراءة آية الكرسي، دُبر كل صلاة، كان الذي يتولى قبض روحه ذو الجلال الإكرام»
يعني: من تدبر معناها. والمراد بذلك خطفتها بالتجلي، واستغراقها في الشهود، وغيبتها عن الغير في ذلك الوقت الهائل، فيغيب عن الواسطة في شهود الموسوط، مع وجود الواسطة؛ لعموم الآية. والله تعالى أعلم.
قال القشيري: لولا غفلةُ القلوب لما أحال قبض أرواحهم على مَلَكِ الموت؛ لأنَّ مَلَكَ الموتِ لا أَثَرَ منه في أحد، وما يحصل في التوفِّي فمن خصائص قدرة الحق، ولكنهم غفلوا عن شهود حقائق الربِّ، فخاطبهم على قدر أفهامهم، وعلَّقَ بالأغيار قلوبهم. وكلَّ يُخاطبه بما يحتمل على قدر قوته وضعفه. اهـ. وقال في قوله: {ولو ترى إذ المجرمون....} الآية: مَلَكَتْهُم الدهشةُ وَغَلبتهم الحجة، فاعترفوا، حينَ لا عُذْرَ، واعترفوا، حينَ لا اعتراف. اهـ.
قوله تعالى: {ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها..}. قال القشيري: لو شاء سَهَّل سبيلَ الاستدلال، وأدَام التوفيق لكلِّ أحدٍ، ولكن تَعلَّقَتْ المشيئةُ بإغواء قوم، وأردنا أن يكون للنار قُطان، كما يكون للجنة سُكان، لما علمنا يوم خلقناهما أنه ينزلهما قومٌ وقومٌ. فَمن المحال أن نريد ارتفاعَ معلومنا، إذ لو لم يقع، ولم يحصل؛ لم يكن عِلْماً. فإذا لا أكون إلها. ومن المحال أن أُريد ذلك. ويقال: من يتسلَّطْ عليه من يحبه؛ لم يجد في مُلْكِه ما يكرهه. يا مسكين أفنيت عُمْرَك في النكد والعناء، وأمضيت أيامك في الجهد والرجاء، غيَّرت صفتك، وأكثرتَ مجاهدتك، فما تفعل فيما مضى، كيف تبدله؟ وما تصنع في مشيئتي، وبأي وسع ترُدُّها؟ وأنشدوا:
شكا إليك ما وَجَدْ ** من خَانَهُ فيك الجَلَدْ

حيرانُ لو شئتَ اهتدى ** ظمآنُ لو شئتَ وَرَدْ

. اهـ.
قوله تعالى: {إنما يؤمن...} الآية، خروا سُجداً بظواهرهم في التراب، وبسرائرهم، بالخضوع لهيبة الكريم الوهاب، فسجود الجبهة وسيلة لسجود القلب، فإذا سجدت الجبهة وتكبر القلب على عباد الله، كانت وسيلة بلا غاية. وبالله التوفيق.