فصل: تفسير الآيات (26- 30):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (18- 22):

{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21) لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)}
قلت: {لمن نُريد}: بدل من ضمير {له}؛ بدل بعض من كل. و{كُلاًّ}: مفعول {نُمد}، و{هؤلاء}: بدل منه. و{كيف}: حال، و{درجات} و{تفضيلاً}: تمييز.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {مَن كان يُريد} بعمله الدنيا {العاجلةَ}، مقصورًا عليها همه، {عجَّلنا له فيها ما نشاء لمن نُريد} التعجيل له. قيَّد المعجل والمعجل له بالمشيئة والإرادة؛ لأنه لا يجد كل متمن ما يتمناه، ولا كل واحد جميع ما يهواه. قاله البيضاوي: {ثم جعلنا له} في الآخرة {جهنم يصلاها}؛ يدخلها ويحترق بها، حال كونه {مذمومًا مدحورًا}؛ مطرودًا من رحمة الله. والآية في الكفار، وقيل: في المنافقين، الذين يغزون مع المسلمين لقصد الغنائم. والأصح: أنها تعم كل من اتصف بهذا الوصف.
{ومَن أراد الآخرةَ وسعى لها سعيها}؛ عمل لها عملها اللائق بها، وهو: الإتيان بما أمر به، والانتهاء عما نهى عنه، لا التقرب بما يخترعون بآرائهم. وفائدة اللام في قوله: {لها}: اعتبار النية والإخلاص. والحال أن العامل {مؤمن} إيمانًا صحيحًا لا شرك معه ولا تكذيب، فإنه العمدة، {فأولئك} الجامعون للشروط الثلاثة {كان سعيهم مشكورًا} عند الله، مقبولاً مثابًا عليه؛ فإن شُكر الله هو الثواب على الطاعة.
{كُلاًّ نُّمدُّ} أي: كل واحد من الفريقين نُمد بالعطاء مرة بعد أخرى، {هؤلاء} المريدين للدنيا، {وهؤلاء} المريدين للآخرة، نُمد كلا {من عطاء ربك} في الدنيا، {وما كان عطاءُ ربك} فيها {محظورًا}؛ ممنوعًا من أحد، لا يمنعه في الدنيا مؤمن ولا كافر، تفضلاً منه تعالى. {انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض} في الرزق والجاه، {وللآخِرةُ أكبرُ درجاتٍ وأكبرُ تفضيلاً} من الدنيا، فينبغي الاعتناء بها دونها، والتفاوت في الآخرة حاصل للفريقين، فكما تفاوتت الدرجات في الجنة تفاوتت الدركات في النار.
وسبب التفاوت: زيادة اليقين، والترقي في أسرار التوحيد لأهل الإيمان، أو الانهماك في الكفر والشرك لأهل الكفران. ولذلك قال تعالى: {لا تجعلْ مع الله إِلهًا آخر} تعبده. والخطاب لكل سامع، أو للرسول صلى الله عليه وسلم، والمراد أمته، {فتقعد}؛ فتصير حينئذ {مذمومًا مخذولاً}؛ جامعًا على نفسك الذم من الملائكة والمؤمنين، والخذلان من الله. ومفهومه: أن الموحد يكون ممدوحًا منصورًا في الدارين.
الإشارة: قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ، فَرَّقَ اللهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأتِهِ مِنَ الدُّنْيا إلاَّ مَا قُسِمَ لَهُ. وَمَنْ كَانَتِ الآخِرةُ نِيَّتَهُ، جَمَعَ الله عليه أَمْرَهُ، وجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِه، وأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ صَاغِرَةٌ»، واعلم أن الناس على قسمين؛ قوم أقامهم الحق لخدمته، وهم: العباد والزهاد، وقوم اختصهم بمحبته، وهم: العارفون بالله؛ أهل الفناء والبقاء، قال تعالى: {كلا نُمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورًا انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض}؛ في الكرامات والأنوار، وفي المعارف والأسرار.
وفضلُ العارفين على غيرهم كفضلِ الشمس على سائر الكواكب، هذا في الدنيا، {وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً}، يقع ذلك بالترقي في معارج أسرار التوحيد، وبتفاوت اليقين في معرفة رب العالمين. وقال القشيري في تفسير الآية: منهم من لا يغيب عن الحضرة لحظة، ثم يجتمعون في الرؤية، ويتفاوتون في النصيبِ لكلٍّ. وليس كلُّ أحد يراه بالعين الذي يراه به صاحبه. وأنشدوا:
لو يَسْمَعُون كما سمعتُ حديثها ** خَرُّوا لِعَزَّةَ رُكَّعًا وسجودا

وقال الورتجبي: فضَّل العابدين بعضهم على بعض في الدنيا بالطاعات، وفضَّل العارفين بعضهم على بعض بالمعارف والمشاهدات، فالعباد في الآخرة في درجات الجنان متفاوتون، والعارفون في درجات وصال الرحمن متفاوتون. وقال القشيري أيضًا: من كانت مشاهدته اليوم على الدوام، كانت رؤيته غدًا على الدوام، ومن لا فلا. اهـ. وقد تقدم تفاوت الناس في الرؤية بأبسط من هذا، عند قوله تعالى: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار} [الأنعام: 103]. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (23- 25):

{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)}
قلت: {قضى}، هنا، بمعنى حكم وأوجب وأمر، لا بمعنى القضاء؛ إذ لو كان كذلك لما عُبد غير الله. وفي مصحف ابن مسعود: {ووصى ربك ألا تعبدوا}. و(أن): مفسرة، أو مصدرية، أي: بأن لا تعبدوا، و{إما}: إن الشرطية دخلت علهيا {ما} المؤكدة. و{فلا تقل}: جوابها. وتوحيد ضمير الخطاب في {عندك}، وفيما سبق- مع أن ما سبق ضمير الجمع-؛ للاحتراز عن التباس المراد، فإنَّ المقصود نهي كل أحد عن تأفيف والديه ونهرهما. ولو قوبل الجمع بالجمع، أو بالتثنية، لم يحصل هذا المرام.
و{أفُّ}: اسم فعل، معناها: قول مكروهُ، يقال عند الضجر ونحوه. قال الهروي: أي: لا تقل لهما ما يكون فيه أدنى تبرم، ويقال لكل ما يضجر منه ويستثقل: أُفّ لَهُ. وقال في القاموس: أَفّ، يَؤُفُّ، ويَئِفُّ: تأففَ من كَرْبٍ أوْ ضَجَر. وأُفّ: كلمة تكره، وأفف تأفِيفًا، وتَأَفَّفَ، قالها، ولغتها أربعون، ثم ذكرها. وحركتها للبناء، وتنوينها للتنكير.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وقضى ربُّك}؛ أَمر أمْرًا مقطوعًا به، ب {ألاَّ تعبدوا إِلا إِياه}؛ لأن غاية التعظيم لا يكون إلا لمن له غاية العظمة ونهاية الإنعام، وهو الله وحده، {و} أحسنوا {بالوالدين إِحسانًا}؛ لأنهما السبب الظاهر في وجود العبد، وبهما قامت نعمة الإمداد من التربية والحفظ في مظاهر الحكمة، وإلاَّ فما ثَمَّ إلا تربية الحق تعالى، ظهرت في مظاهر الوالدين، لكن أمر بشكر الواسطة؛ من لم يشكر الناس لم يشكر الله.
ثم أمر ببرهما، فقال: {إِما يبلغنَّ عندك الكبَرَ أحدُهما أو كلاهما} أي: مهما بلغ زمن الكِبَرِ، وهما عندك في كفالتك، هما أو أحدهما، {فلا تقلْ لهما أُفٍّ} أي: فلا تضجر فيما يستقذر منهما ويستثقل من مؤنتهما، ولا تنطق بأدنى كلمة توجعهما، فأحرى ألا يقول لهما ما فوق ذلك. فالنهي عن ذلك يدل على المنع من سائر أنواع الإيذاء؛ قياسًا بطريق الأخرى. وقال في الإحياء: الأُفّ: وسخ الظفر، والتف: وسخ الأذن، أي: لا تصفهما بما تحت الظفر من الوسخ، فأحرى غيره، وقيل: لا تتأذّ بهما كما يتأذى بما تحت الظفر. اهـ.
{ولا تنهرهما}؛ ولا تزجرهما عما لا يعجبك بإغلاظٍ، فإن كان لإرشاد ديني فبرفق ولين. {وقل لهما قولاً كريمًا}؛ جميلاً لينًا لا غلظ فيه، {واخفض لهما جناحَ الذل}؛ أَلِنْ لهما جانبك الذليل، وتذلل لهما وتواضع. استعار للذل جناحًا، وأضافه إليه؛ مبالغة؛ فإنَّ الطير إذا تذلل أرخى جناحه إلى الأرض، كذلك الولد، ينبغي أن يخضع لأبويه، ويلين جانبه، ويتذلل لهما غاية جهده. وذلك {مِنَ الرحمة} أي: من إفراط الرحمة لهما والرقة والشفقة عليهما.
{وقل ربِّ ارحمهما} أي: وادع الله أن يرحمهما برحمته الباقية، ولا تكتف برحمتك الفانية، وإن كانا كافرين؛ لأن من الرحمة أن يهديهما للإسلام، فقل اللهم ارحمهما {كما ربياني صغيرًا} أي: رحمة مثل رحمتهما عليّ وتربيتهما وإرشادهما لي في صغري، وفاء بعهدك للراحمين. فالكاف في محل نصب؛ على أنه نعت لمصدر محذوف، أي: رحمة مثل تربيتهما، أو مثل رحمتهما لي، على أن التربية رحمة. ويجوز أن يكون لهما الرحمة والتربية معًا، وقد ذكر أحدهما في أحد الجانبين والآخر في الآخر، كما يلوح له التعرض لعنوان الربوبية، كأنه قيل: رب ارحمهما، ورَبِّهِمَا كما ربياني صغيرا. ويجوز أن يكون الكاف للتعليل، كقوله: {واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 198].
ولقد بالغ الحق تعالى في التوصية بالوالدين؛ حيث شفع الإحسان إليهما بتوحيده سبحانه، ونظمهما في سلك القضاء بعبادته، ثم ضيق في برهما حتى لم يُرخص في أدنى كلمة تتفلت من المتضجر، وختمها بأن جعل رحمته التي وسعت كلَّ شيء مشبهة بتربيتهما. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «رِضَا اللهِ في الوَالِدَين، وَسَخَطُهُ في سَخَطِهِمَا» ورُوي: أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أبَويَّ بَلَغَا مِنْ الكِبَر إلى أنِّي ألي منهما ما وَلَيَا مِنِّي في الصغر، فهل قضيتهما حقهما؟ قال: «لا؛ فإنهما كانا يفعلان ذلك وهما يحبان بقاءك، وأنت تفعل ذلك وأنت تريد موتهما» ورُوي أن شيخًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن ابني هذا له مال كثير، ولا ينفق عليّ من ماله شيئًا، فنزل جبريل وقال: إن هذا الشيخ أنشأ في ابنه أبياتًا، ما قُرعَ سَمْعٌ بمثلها، فاستنشدها، فأنشدها الشيخ، فقال:
غَذَوْتُك مَوْلُودًا ومُنْتُك يَافعًا ** تُعلُّ بما أُجْرِي عليك وتَنْهَلُ

إذَا لَيْلةٌ ضَافَتْك بالسُّقْمِ لَم أَبِتْ ** لسُقْمِكَ إلا باكِيًا أَتَملْمَلُ

كَأَنِّي أنا الْمَطْرُوقُ دُونَكَ بالذي ** طُرِقتَ به دُونى وعَيْنِيَ تمْهَلُ

فَلَمَّا بَلَغْتَ السِّنَّ والغَايَةَ الَّتي ** إليْها مَدَى مَا كُنْتُ فِيك أُؤَمِّلُ

جَعَلْتَ جزَائي غلْظَةً وفَظَاظَةً ** كأَنّك أنتَ المُنْعمُ الْمُتَفَضِّلُ

فَلَيْتَكَ إذ لَمْ تَرْعَ حَقَّ أُبوَّتي ** فَعَلْتَ كَمَا الجَارُ المجاورُ يَفْعَلُ

ومن تمام برهما: زيارتهما بعد موتهما، والدعاء لهما، والتصدق عليهما، ففي الحديث: «إنما الميت في قبره كالغريق، ينتظر دعوة تلحقه من ابنه أو أخيه أو صديقه، فإذا لحقته كانت أحب إليه من الدنيا وما فيها» وروى مالك في الموطأ عن سعيد بن المسيب أنه قال: (كان يقال: إن الرجل ليرفع بدعاء ولده من بعده، وأشار بيده نحو السماء)، وهو مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم: من طريق أبي هريرة قال: «إن الله ليرفع العبد الدرجة، فيقول: يا رب، أنَّى لي بها؟! فيقول: باستغفار ابنك لك»
، وسأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم: هل بقي من بر أبويَّ شيء أبرهما به، بعد موتهما؟ فقال: «نعم... الصلاة عليهما- أي: الترحم والاستغفار لهما-، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما».
قال تعالى: {ربكم أعلمُ بما في نفوسكم} من قصد البر إليهما، واعتقاد ما يجب لهما من التوقير. وكأنه تهديد على أن يُضمر لهما كراهة واستثقالاً، {إِن تكونوا صالحين}؛ قاصدين للصلاح، أو طائعين لله، {فإِنه كان للأوابين}: التوابين، أو الرجّاعين إلى طاعته، {غفورًا} لما فرط منهم عند حرج الصدر؛ من إذاية ظاهرة أو باطنة، أو تقصير في حقهما. ويجوز أن يكون عامًا لكل تائب، ويندرج فيه الجاني على أبويه اندراجًا أوليًا. والله تعالى أعلم.
الإشارة: كل ما أوحى الله تعالى به في حق والدي البشرية، يجري مثله في والد الروحانية، وهو الشيخ، ويزيد؛ لأنه أوكد منه؛ لأنَّ أب البشرية كان السبب في خروجه إلى دار الدنيا، معرضًا للعطب أو السلامة، وأب الروحانية كان سببًا في خروجه من ظلمة الجهل إلى نور العلم والوصلة، وهما السبب في التخليد في النعيم الذي لا يفنى ولا يبيد. وقد تقدم في سورة النساء تمام هذه الإشارة. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (26- 30):

{وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28) وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وآتِ ذا القُربى حقه} أي: أعط ذا القربة حقه؛ من البر، وصلة الرحم، وحسن المعاشرة. وقال أبو حنيفة: إذا كانوا محاويج فقراء: أن ينفق عليهم. وقيل: الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أن يُؤتى قرابته من بيت المال، {و} آت {المسكينَ} حقه {وابنَ السبيل}؛ الغريب، من برهما والإحسان إليهما، {ولا تبذرْ تبذيرًا}؛ بصرف المال فيما لا ينبغي، وإنفاقه على وجه السرف. قال ابن عزيز: التبذير في النفقة: الإسراف فيها، وتفريقها في غير ما أحل الله. اهـ. وأصل التبذير: التفريق. رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لسعد، وهو يتوضأ: «مَا هذَا السَّرَفُ»؟ فقال: أَو فِي الوُضُوءِ سَرَفٌ؟ فقال: «نَعَمْ، وإِنْ كنْتَ عَلَى نَهَرٍ جَارٍ».
{إِنَّ المبذّرين كانوا إِخوانَ الشياطين} أي: أمثالهم في الشر؛ فإن التضييع والإتلاف شر. أو: على طريقتهم، أو: أصدقاؤهم وأتباعهم؛ لأنهم يطيعونهم في الإسراف، رُوي أنهم كانوا ينحرون الإبل ويتياسرون عليها- أي: يتقامرون- من الميسر، وهو القمار- ويُبذرون أموالهم- في السمعة، فنهاهم الله تعالى عن ذلك، وأمرهم بالإنفاق في القرابات. {وكان الشيطانُ لربِّه كفورًا}؛ مبالغاً في الكفر، فينبغي ألا يطاع.
{وإِما تُعْرِضنَّ عنهم} أي: وإن أعرضت عما ذكر من ذوي القربى والمسكين وابن السبيل؛ حياء من الرد، حيث لم تجد ما تُعطيهم، {ابتغاءَ رحمةٍ من ربك ترجوها} أي: لطلب رزق تنتظره يأتيك لتعطيهم منه، {فقلْ لهم قولاً ميسورًا}؛ فقل لهم قولاً لينًا سهلاً، بأن تعدهم بالعطاء عند مجيء الرزق، وكان صلى الله عليه وسلم إذا سأله أحد، ولم يجد ما يعطيه، أعرض عنه، حياء منه. فَأُمِرَ بحسن القول مع ذلك، مثل: رزقنا الله وإياكم، والله يُغنيكم من فضله، وشبه ذلك.
ثم أمره بالتوسط في العطاء، فقال: {ولا تجعل يدكَ مغلولةً إِلى عُنقك} أي: لا تمسكها عن الإنفاق كل الإمساك، {ولا تبسطها كل البسط}، وهو استعارة لغاية الجود، فنهى الحقُّ تعالى عن الطرفين، وأمر بالتوسط فيهما، كقوله: {إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ...} [الفُرقان: 67] الآية. {فتقعُدَ ملومًا محسورًا} أي: فتصير، إذا أسرفت، ملومًا عند الله وعند الناس؛ بالإسراف وسوء التبذير، محسورًا: منقطعًا بك، لا شيء عندك. وهو من قولهم: حسر السفر بالبعير: إذا أتعبه، ولم يُبْقِ له قوة. وعن جابر رضي الله عنه: بينا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ، أتاهُ صبي، فقال له: إن أُمِّي تَسْتَكْسِيكَ الدِّرْعَ الذي عَليْكَ، فَدَخَلَ دَارَهُ ونَزَعَ قَمِيصَهُ وأعْطَاهُ، وقَعَدَ عُرْيَانًا، وأذَّن بلالٌ، وانتظره للصلاة، فلم يخرُجْ، فأنزل الله: {ولا تجعل يدك} الآية.
ثم سلاَّه بقوله: {إِنَّ ربك يبسط الرزق}؛ يوسعه {لمن يشاءُ ويَقْدِرُ}؛ يضيقه على من يشاء.
فكل ما يصيبك من الضيق فإنما هو لمصلحة باطنية، {إِنه كان بعباده خبيرًا بصيرًا}؛ يعلم سرهم وعلانيتهم، فيعلم مِنْ مصالحهم ما يخفى عليهم؛ فيرزقهم على حسب مصالحهم، ويضيق عليهم على قدر صبرهم. والحاصل: أنه يُعطي كل واحد ما يَصلح به، والله أعلم.
الإشارة: أمر الحق- جلّ جلاله- رسوله صلى الله عليه وسلم، وخلفاءه ممن كان على قدمه، أن يعطوا حق الواردين عليهم من قرابة الدين والنسب، والمساكين والغرباء، من البر والإحسان حسًا ومعنى؛ كتعظيم ملاقاته، وإرشادهم إلى ما ينفع بواطنهم، والإنفاق عليهم، من أحسن ما يجد، حسًا ومعنى، وخصوصًا الإخوان في الله. فكل ما يُنفق عليهم فهو قليل في حقهم، ولا يُعد سرفًا، ولو أنفق ملء الأرض ذهبًا. قال في القوت: دعا إبراهيمُ بن أدهم الثوريَّ وأصحابَه إلى طعام، فأكثر منه، فقال له سفيانُ: يا أبا إسحاق؛ أما تخاف أن يكون هذا سرفًا؟ فقال إبراهيم: ليس في الطعام سرف. اهـ. قلت: هذا إن قدَّمه إلى الإخوان الذاكرين الله؛ قاصدًا وجه الله، وأما إن قدمه؛ مفاخرة ومباهاة دخله السرف. قاله في الحاشية الفاسية، ومثله في تفسير القشيري، وأنه لا سَرف فيما كان لله، ولو أنفق ما أنفق. بخلاف ما كان لدواعي النفس ولو فلسًا. اهـ. وأما الخروج عن المال كله فمذموم، إلا من قوي يقينه، كالصدِّيق، ومن كان على قدمه. وكذلك الاستقراض على الله، واشتراؤه بالدَّين من غير مادة معلومة، إن كان قوي اليقين، وجرّب معاملته مع الحق، فلا بأس بفعل ذلك؛ وإلاَّ فليكف؛ لئلا يتعرض لإتلاف أموال الناس فيتلفه الله. وبالله التوفيق.