فصل: تفسير الآيات (27- 30):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (27- 30):

{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)}
يقول الحق جل جلاله: {أوَلَمْ يَرَوا أَنَّا نسوقُ الماءَ}: المطر {إلى أرض الجُرُز} أي: التي جُرِزَ نباتها، أي: قُطِعَ، ولم يَبْقَ منه شيء؛ إما لعدم الماء، أو لأنه رُعِيَ. يقال: جرزت الجراد الزرع؛ إذ استأصلته، وفي القاموس: وأرض جرز: لا تنبت، أو أكل نباتها، أو لم يصبها مطر. ثم قال: وأرض جارزة: يابسة غليظة، وفيه أربع لغات: جُرْز وجُرُز وجَرَز وجُرَز. ولا يقال للتي لا تنبت؛ كالسباخ: جرز، بدليل قوله: {فنُخرج به} أي: بالماء، {زرعاً تأكل منه} أي: الزرع، {أنعامُهم}؛ كالتبن والورق، {وأنفسُهم}؛ كالحب والتمر، المراد بالزرع: كل ما يُزرع ويُستنبت، {أفلا يُبصرون}، فيستدولون به على قدرته على إحياء الموتى؟.
{ويقولون متى هذا الفتحُ} أي: النصر، أو الفصل بالحكومة؛ من قوله: {رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا} [الأعراف: 89]. وكان المسلمون يقولون: إن الله سيفتح لنا على المشركين، أو يفتح بيننا وبينهم، فإذا سمع المشركون، قالوا: متى هذا الفتح؟ أي: في أي وقت يكون {إن كنتم صادقين} في أنه كائن؟.
{قل يومَ الفتح} أي: يوم القيامة هو يوم الفصل بين المؤمنين وأعدائهم. أو: يوم نصرهم عليهم. أو: يوم بدر، أو يوم فتح مكة، {لا ينفعُ الذين كفروا إيمانُهم}؛ لفوات محله، الذي هو الإيمان بالغيب، {ولا هم يُنْظَرون}؛ يُمْهِلون، وهذا الكلام لم ينطبق؛ جواباً عن سؤالهم؛ ظاهراً، ولكن لمّا كان غرضهم في السؤال عن وقت الفتح استعجالاً منهم، على وجه التكذيب والاستهزاء، أُجيبوا على حسب ما عُرف من غرضهم من سؤالهم، فقيل لهم: لا تستعجلوا به ولا تستهزئوا، فكأني بكم وقد حصلتم في ذلك اليوم وآمنتم، فلم ينفعكم الإيمان، واستنظرتم عند درك العذاب فلم تُمهلوا. ومن فسره بيوم بدر أو بيوم الفتح، فهو يريد المقتولين منهم؛ فإنهم لا ينفعهم إيمانهم في حال الفعل، كما لم ينفع فرعون إيمانه عند دَرَك الغرق. {فأَعْرِضْ عنهم وانتظرْ} النصر وهلاكهم، {إنهم مُنتظِرون} الغلبة عليكم وهلاككم.
قال عليه الصلاة والسلام: «من قرأ {الم تَنزِيلُ} في بيته، لم يدخل الشيطان به ثلاثة أيام».
الإشارة: أولم يروا أنا نسوق الماء الذي تحيا به القلوب على يد المشايخ، إلى القلوب الميتة بالجهل والغفلة، فنخرج به ثمار الهداية إلى الجوارح، تأكل منه، من لذة حلاوته، جوارحُهم وقلوبُهم أفلا يبصرون؟. ويقول أهل الإنكار لوجود هذا الماء: متى هذا الفتح، إن كنتم صادقين في أنه موجود؟ قل: يوم الفتح الكبير- وهو يَوْمَ يَرْفَعُ اللهُ أولياءه في أعلى عليين- لا ينفع الذين كفروا بالخصوصية، في دار الدنيا، إيمانُهم في الالتحاق بهم، ولا هم يُمهلون حتى يعلموا مثل عملهم، فأعرض عنهم اليوم، واشتغل بالله، وانتظر هذا اليوم، إنهم منتظرون لذلك.
قال القشيري: {أو لم يروا..} الآية. الإشارة فيه: نَسْقي حَدَائِقَ وصلهم، بعد جفاف عُودِها، فيعود عُودُها مورِقاً بعد ذبوله، حاكياً حالُه حالَ حصوله، {ويقولون متى هذا الفتح..} استبعدوا يومَ التلاق، وجحدوه، فأخبرهم أنه ليس لهم إلا الحسرة والمحنة إذا شهدوه. قوله تعالى: {فأعرض عنهم..} أي: باشتغالك بنا، وإقبالك علينا، وانقطاعك إلينا، وانتظر زوائد وَصْلِنا وعوائدَ لطفنا، إنهم منتظرون هواجِمَ مقتنا وخفايا مكرنا. وعن قريب وَجَدَ كُلٌّ مُنْتَظَرَهُ مُخْتَضَراً. اهـ. وبالله التوفيق، وصلى الله على سيدنا محمد، عين الوصول إلى التحقيق، وعلى آله المبينين سواء الطريق، وسلم.

.سورة الأحزاب:

.تفسير الآيات (1- 3):

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3)}
يقول الحق جلّ جلاله: {يا أيها النبي} أي: المُشرِّف؛ حالاً، المفخم؛ قدراً، العلي؛ رتبة؛ لأن النبوة مشتقة من النَّبْوَةَ، وهو الارتفاع. أو: يا أيها المخبرُ عنا، المأمون على وحينا، المبلغ خطابنا إلى أحبابنا. وإنما لم يقل: يا محمد، كما قال: يا آدم، يا موسى؛ تشريفاً وتنويهاً بفضله، وتصريحُه باسمه في قوله: {مُّحَمَدٌ رَّسُولُ اللهِ} [الفتح: 29]، ونحوه، ليعلم الناس بأنه رسول الله. {اتقِ الله} أي: اثبت على تقوى الله، {ولا تُطع الكافرين والمنافقين}؛ لا تساعدهم على شيء، واحترس منهم؛ فإنهم أعداء لله وللمؤمنين.
رُوي أن أبا سُفيان بن حرب، وعكرمة بن أبي جهل، وأبا الأعور السُّلمي، نزلوا المدينة على ابن أُبيّ، رأس المنافقين، بعد أُحد، وقد أعطاهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم الأمان على أن يكلموه، فقام معهم عبد الله بن أبي سَرْح، وطُعْمَة بن أُبيْرق، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم، وعنده عمر بن الخطاب: ارفض ذكر آلهتنا؛ اللات، والعزى، ومناة، وقل: إن لها شفاعة ومنفعة لِمن عَبَدَها، وندعك وَرَبَّك. فشقّ على النبي صلى الله عليه وسلم قولهم، فقال عمر: ائذن لنا، يا رسول الله، في قتلهم، فقال صلى الله عليه وسلم: «إني قد أعطيتهم الأمان» فقال عمر: اخرُجوا في لعنة الله وغضبه، فخرجوا من المدينة، فنزلت.
أي: اتق الله في نقض العهد، ولا تُطع الكافرين من أهل مكة، كأَبي سفيان وأصحابه، والمنافقين من أهل المدينة، فيما طلبوا، {إن الله كان عليماً} بخبث أعمالهم، {حكيماً} بتأخير الأمر بقتالهم.
{واتبع ما يوحى إليك من ربك} في الثبات على التقوى، وترك طاعة الكافرين والمنافقين. أو: كل ما يوحى إليك من ربك، {إن الله كان بما تعملون خبيراً} أي: لم يزل عالماً بأعمالهم وأعمالكم. وقيل: إنما جمع؛ لأن المراد بقوله: {اتبع}: هو وأصحابه، وقرأ بالغيب، أبو عمرو، أي: بما يعمل الكافرون والمنافقون، من كيدهم لكم ومكرهم. {وتوكل على الله}؛ أَسْنِدْ أمرك إليه، وكِلْهُ إلى تدبيره. {وكفى بالله وكيلاً}؛ حافظاً موكولاً إليه كل أمر. وقال الزجاج: لفظه، وإن كان لفظ الخبر، فالمعنى: اكتفِ بالله وكيلاً.
الإشارة: أُمر بتقوى الله، وبالغيبة عما يشغل عن الله، وبالتوكل على الله، فالتقوى أساس الطريق، والغيبة عن الشاغل: سبب الوصول إلى عين التحقيق، والتوكل زاد رفيق. قال القشيري بعد كلام: يا أيها المُرقَّى إلى أعلى المراتب، المُتَلقَّى بأسنى القُرَب والمناقب؛ اتقِ الله أن تلاحظ غَيْراً معنا، أو تُساكِن شيئاً دوننا، أو تُثبت شيئاً سوانا، {ولا تطع الكافرين}؛ إشفاقاً منك عليهم، وطمعاً في إيمانهم، بموافقتهم في شيء مما أرادوه منك. والتقوى رقيب على الأولياء، تمنعهم، في أنفاسهم وسكناتهم وحركاتهم، أن ينظروا إلى غيره، أو يُثْبِتُوا معه سواه، إلا منصوباً بقدرته، مصرَّفاً بمشيئته، نافذاً فيه حُكْمُ قضيته.
التقوى لجامٌ يمنعك عمَّا لا يجوز، زمامٌ يقودك إلى ما تُحب، سوطٌ يسوقك إلى ما أمر به، حِرْزٌ يعصمك من تَوَصُّل عقابه إليك، عوذَةٌ تشفيك من داء الخطايا. التقوى وسيلةٌ إلى ساحة كرمه، ذريعةٌ يُتَوصَّلُ بها إلى عفوه وجوده. {واتبع ما يوحى إليك...}؛ لا تبتدع، واقتِد بما نأمرك، ولا تقتدِ، باختيارك، غَيْرَ ما نختار لك، ولا تُعَرِّج- أي: تقم- في أوطان الكسل، ولا تجنجْ إلى ناحية التواني، وكن لنا لا لك، وقم بنا لا بِكَ. {وتوكل} انسلخْ عن إهابك لنا، واصدق في إيابك إلينا، وتشاغلك عن حُسْبَانِكَ معنا، واحذرْ ذهابَكَ عنا، ولا تُقَصِّرْ في خطابك معنا. ويقال: التوكل: تَخلُّقُ، ثم تَخلُّقٌ، ثم تَوَثُقٌ، ثم تَمَلُّقٌ، تحققٌ في العقيدة، وتخلقٌ بإقامة الشريعة، وتَوثُّقٌ بالمقسوم من القضية، وتملقٌ بين يديه بحُسْن العبودية. ويقال: التوكل: استواءُ القلب في العدم والوجود. اهـ.

.تفسير الآيات (4- 5):

{مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)}
يقول الحق جلّ جلاله: {ما جعل اللهُ لرجلِ من قلبين في جوفه}؛ فيؤمن بأحدهما ويكفر بالآخر، أو: يتقي بأحدهما ويعصي بالآخر، أو: يُقبل على الله بأحدهما ويُقبل على الدنيا بالآخر، بل ما للعبد إلا قلب واحد، إن أقبل به على الله؛ أدبر عمن سواه، وإن أقبل به على الدنيا، أدبر عن الله. قيل: الآية مثل المنافقين، أي: إنه لا يجتمع الكفر والإيمان، وقيل: لا تستقر التقوى ونقض العهد في قلب واحد. وقال ابن عطية: يظهر من الآية، بجملتها، أنها نفي لأشياء كانت العرب تعتقدها في ذلك القوت، وإعلام بحقيقة الأمر فيها، فمنها: أن العرب كانت تقول: الإنسان له قلب يأمره وقلب ينهاه، وكان تَضَادُّ الخواطر يحملها على ذلك.. إلخ كلامه.
قال النسفي: والمعنى: أنه تعالى لم يجعل للإنسان قلبين؛ لأنه لا يخلو: إما أن يفعل بأحدهما مثل ما يفعل بالآخر من أفعال القلوب، فأحدهما فَضْلَةٌ، غير مُحْتاَج إليه، وإما أن يفعل بهذا غير ما يفعل بذلك، فيؤدي إلى اتصاف الجملة بكونه مريداً كارهاً، عالماً ظانّاً، موقناً شاكّاً في حالة واحدة. اهـ.
وكانت العرب تعتقد أيضاً أن المرأة المظاهَرَ منها: أُمًّا، فردّ ذلك بقوله: {وما جعل أزواجَكم اللائي تُظاهرون منهن أمهاتِكم} أي: ما جمع الزوجية والأمومة في امرأة واحدة؛ لتضاد أحكامهما؛ لأن الأم مخدومة، والمرأة خادمة.
وكانت تعتقد أن الدّعي ابن، فردّ عليهم بقوله: {وما جعل أدعياكم أبناءكم} أي: لم يجعل المُتَبَنَّى من أولاد الناس ابناً لمَن تبناه؛ لأن البنوة أصالة في النسب، والدعوة إلصاق عارض بالتسمية، لا غير، ولا يجتمع في شيء واحد أن يكون أصيلاً وغير أصيل.
ونزل هذا في زيد بن حارثة، وهو رجل من كلب، سُبي صغيراً، فاشتراه حكيم بن حزام، لعمته خديجة، فلما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهبته له، فطلبه أبوه وعمه، وجاءا بفدائه، فخُيَّر، فاختار رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فاعتقه وتبنّاه. وكانوا يقولون: زيد بن محمد، فلما تزوج النبيُّ صلى الله عليه وسلم زينب؛ وكانت تحت زيد- على ما يأتي- قال المنافقون: تزوج محمد امرأة ابنه وهو ينهى عنه، فأنزل الله هذه الآية.
وقيل: كان المنافقون يقولون: لمحمد قلبان، قلب معكم، وقلب مع أصحابه. وقيل: كان أبو مَعْمَر أحفظ العرب، فقيل: ذو القلبين، فأكذب اللهُ قولَهم. والتنكير في رجل، وإدخال مِن الاستغراقية على {قلبين}، وذكر الجوف للتأكيد. و{اللائي}: جمع التي. وفيها قراءات: {اللاء}؛ بالهمزة مع المد والقصر، وبالتسهيل، وبالياء، بدلاً من الهمز.
وأصل {تظاهرون}: تتظاهرون، فأدغم. وقرأ عاصم بالتخفيف؛ منْ: ظَاَهَر. ومعنى الظهار: أن تقول للزوجة: أنت عليّ كظهر أمي. مأخوذ من الظهر، وتعديته بمن؛ لتضمنه معنى التجنُّب؛ لأنه كان طلاقاً في الجاهلية. وهو في الإسلام يقتضي الحرمة حتى يُكفَّر، كما يأتي في المجادلة. والأدعياء: جمع دعي، فقيل: بمعنى مفعول، وهو الذي يُدعى ولداً، وجمعه على أَفْعِلاَء: شاذ؛ لأن بابه ما كان منه بمعنى فاعل؛ كتقي وأتقياء، وشقي وأشقياء. ولا يكون في ذلك نحو رَمِيَّ وسَمي، على الشذوذ. وكأنه شبهه بفعيل بمعنى فاعل، فَجُمِعَ جَمْعَهُ.
{ذلكم قولُكُم بأفواهكم}؛ إذ إن قولكم للزوجة: أُمًّا، والدعيّ: هو ابن، قول تقولونه بألسنتكم لا حقيقة له، إذ الابن يكون بالولادة، وكذا الأم. {واللهُ يقولُ الحقِّ}؛ ما له حقيقة عينية، مطابقة له ظاهراً وباطناً {وهو يهدي السبيلَ}؛ سبيل الحق.
ثم بيّن ذلك الحَقَّ، وهدى إلى سبيله، فقال: {أدعوهم لآبائهم}؛ انسبوهم إليهم. {هو}، أي: الدعاء {أقْسَطُ}؛ أعدل {عند الله}. بيّن أن دعاءهم لآبائهم هو أدخل الأمرين في العدل. وقيل: كان الرجل في الجاهلية إذا أعجبه ولد الرجل؛ ضمّه إليه، وجعل له مثل نصيب الذكر من أولاده، من ميراثه. وكان ينسب إليه، فيقال: فلان بن فلان. {فإن لم تعلموا آباءهم} أي: فإن لم تعلموا لهم آباء تنسبونهم إليهم، {فإِخوانُكُم في الدين ومواليكم} أي: فهم إخوانكم في الدين، وأولياؤكم فيه. فقولوا: هذا أخي، وهذا مولاي، ويا أخي، ويا مولاي، يريد الأخوة في الدين والولاية فيه، {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به} أي: لا إثم عليكم فيما فعلتموه من ذلك، مخطئين جاهلين، قبل ورود النهي، أو بعده، نسياناً. {ولكن ما تعمَّدَتْ قلوبُكم} أي: ولكن الإثم فيما تعمِّدتموه بعد النهي. أو: لا إثم عليكم إذا قلتم لولد غيركم: يا بنيّ، على سبيل الخطأ، أو: الشفقة، ولكن إذا قلتموه متعمدين على وجه الانتساب. {وكان الله غفوراً رحيماً}؛ لا يؤاخذكم بالخطأ، ويقبل التوبة من المعتمِّد.
الإشارة: العبد إنما له قلب واحد، إذا أقبل به على مولاه؛ أدبر عن ما سواه، وملأه اللهُ تعالى بأنواع المعارف والأسرار، وأشرقت عليه الأنوار، ودخل حضرة الحليم الغفار، وإذا أقبل به على الدنيا؛ أدبر عن الله، وحُشي بالأغيار والأكدار، وأظلمت عليه الأسرار، وطبع فبه صور الكائنات، فّحُجِبَ عن المُكَوِّنِ. وكان مأوى للخواطر والوساوس، فلم يَسْوَ عند الله جناح بعوضة. قال القشيري: القلب إذا اشتغل بشيء؛ اشتغل عما سواه، فالمشتغلُ بما مِنَ العَدَمِ؛ منفصلٌ عَمن له القِدَمُ، والمتصل بقلبه بِمَنْ نَعْتُهُ القِدَم؛ مشتغلٌ عمِّا من العدم، والليل والنهار لا يجتمعان، والغيبُ والغيرُ لا يلتقيان. اهـ.
وقوله تعالى: {وما جعل أزواجكم...} الآية، يمكن أن تكون الإشارة فيها إلى أنَّ مَنْ ظاهَرَ الدنيا، وتباعد عنها؛ لا يحل له أن يرجع، ويتخذّها أُمًّا؛ في المحبة والخدمة. وقوله تعالى: {وما جعل أدعياءكم أبناءكم..}: تشير إلى أنه لا يحل أن يَدَّعِيَ الفقيرُ حالاً، أو مقاماً، ما لم يتحقق به، وليس هو له، أوْ: يَنْسِبَ حِكْمَةً أوْ عِلْماً رفيعاً لنفسه، وهو لغيره، {ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله}. وقوله: {فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين..}: إخوان الدين أّوْلَى، وإخوان الطريق أحب وأصفى. قال القشيري: وقرابةُ الدين، في الشكلية، أولى من قرابة النَّسَب، وأنشدوا.
وَقَالُوا قَرِيبٌ مِنْ أبٍ وَعُمُومَةٍ ** فَقُلْتُ وَإخْوَانُ الصَّفَاءِ الأقارِبُ

مَنَاسِبُهُمْ شَكْلاً وَعِلْماً وأُلفة ** وَإنْ بَاعَدَتْنَا فِي الأُصُولِ التَّنَاسُبُ

.تفسير الآية رقم (6):

{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6)}
يقول الحق جلّ جلاله: {النبيُّ أولى بالمؤمنين} أي: أحق بهم في كل شيء من أمور الدين والدنيا، وحكمه أنفذ عليهم {من أنفسهم}، فإنه لا يأمرهم، ولا يرضى منهم إلا بما فيه صلاحهم ونجاحهم، فيجب عليهم أن يبذلوها دونه. ويجعلوها فداء منه. وقال ابن عباس وعطاء: يعني: إذا دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى شيء، ودعتهم أنفسهم إلى شيء، كانت طاعةُ النبي صلى الله عليه وسلم أولى. أو: هو أولى بهم، أي: أرأف، وأعطف عليهم، وأنفع لهم، كقوله: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128] وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: «ما من مؤمن إلا وأنَا أوْلَى الناس به في الدنيا والاخرة، اقرؤوا إن شئتم: {النبيُّ أوْلَى بالمؤمنين من أنْفُسِهِمْ} فأيُّمَا مُؤْمِن هَلَكَ، وتركَ مالاً؛ فلورَثَته ما كانوا، ومَن تَرَكَ دَيْناً أو ضَيَاعاً فليَأتني، فإني أنا مَوْلاه».
وفي قراءة ابن مسعود {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم}. وقال مجاهد: كل نبي أبو أمته، ولذلك صار المؤمنون إخوة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أبوهم في الدين، وأزواجه أمهاتهم، في تحريم نكاحهن ووجوب تعظيمهن، وهن فيما وراء ذلك- كالإرث وغيره- كالأجنبيات، ولهذا لم يتعدَّ التحريم إلى بناتهن.
{وأولوا الأرحام} أي: ذوو القرابات {بعضهم أوْلى ببعض} في المواريث. وكان المسلمون في صدر الإسلام يتوارثون بالولاية في الدين وبالهجرةِ، لا بالقرابة، ثم نسخ، وجعل التوارث بالقرابة. ذلك {في كتاب الله} أي: في حُكْم الله وقضائه، أو: في اللوح المحفوظ، أو: فيما فرض الله، فهم أولى بالميراث، {من المؤمنين} بحق الولاية في الدين، {و} من {المهاجرين} بحق الهجرة. وهذا هو الناسخ. قال قتادة: كان المسلمون يتوارثون بالهجرة، ولا يرث الأعرابي المسلم من المهاجر شيئاً. فنزلت. وقال الكلبي: آخى النبيُّ صلى الله عليه وسلم بين الناس، فكان يؤاخي بين الرجلين، فإذا مات أحدهما ورثه الآخر، دون عصبته، حتى نزلت: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله}؛ في حكمه، {من المؤمنين والمهاجرين}، ويجوز أن يكون {من المؤمنين}: بياناً لأولي الأرحام، أي: وأولو الأرحام، من هؤلاء بعضهم أولى بأن يرث بعضاً من الأجانب، {إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً} أي: لكن فعلكم إلى أوليائكم معروفاً، وهو أن تُوصوا لمَن أحببتم من هؤلاء بشيء، فيكون له ذلك بالوصية، لا بالميراث؛ فالاستثناء منقطع. وعَدّى {تفعلوا} بإلى، لأنه في معنى تُسْنِدُوا، والمراد بالأولياء: المؤمنون، والمهاجرون: المتقدمون الذين نسخ ميراثهم. {كان ذلك} أي: التوارث بالأرحام {في الكتاب مسطوراً} أي: اللوح المحفوظ، أو: القرآن. وقيل: في التوراة.
الإشارة: متابعته عليه الصلاة والسلام، والاقتباس من أنواره، والاهتداء بهديه، وإيثار محبته، وأمره على غيره؛ لا ينقطع عن المريد أبداً، بدايةً ونهايةً؛ إذ هو الواسطة العظمى، وهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأرواحهم وأسرارهم.
فكل مدد واصل إلى العبد فهو منه صلى الله عليه وسلم، وعلى يده، وكل ما تأمر به الأشياخ من فعل وترك في تربية المريدين، فهو جزء من الذي جاء به. وهم في ذلك بحسب النيابة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم خلفاء عنه. وكل كرامة تظهر فهي معجزة له صلى الله عليه وسلم، وكل كشف ومشاهدة فمن نوره صلى الله عليه وسلم، قال ابن العربي الحاتمي رضي الله عنه: اعلم أن كل وَليّ لله تعالى إنما يأخذ ما يأخذ بِوَاسِطَةِ رُوحَانِيَّةِ النبي صلى الله عليه وسلم، فمنهم مَن يعرف ذلك، ومنهم مَن لا يعرفه، ويقول: قال لي الله، وليس إلا تلك الروحانية. اهـ. وهو موافق لما أشار إليه الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه، حيث قال: الوليّ إنما يكاشف بالمثال، كما يرى مثلاً البدر في الماء بواسطته، وكذلك الحقائق الغيبية، والأمور الإشهادية مجلوة وظاهرة في بصيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وله عياناً لا مثالاً. والوليّ لقربه منه ومناسبته له؛ لهديه بهديه، ومتابعته له يُكاشف بمثال ذلك فيه، فظهر الفرق وثبتت مزية النبي صلى الله عليه وسلم، وانتفى اللبس بين النبوة والولاية. قاله شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن العارف.
قال القشيري: {النبي أَوْلَى بالمؤمنين من أنفسهم} الإشارة: تقديم سُنّته على هواك، والوقوف عند إشارته دون ما يتعلقُ به مُناك، وإيثار مَن تتوسل به نسباً وسبباً على أعِزَّتكَ ومَن والاك، {وأولوا الأرحام..} الآية: ليكنْ الأجانبُ منك على جانب، ولتكن صلتك للأقارب وصلةُ الرحم ليس لمقاربة الدار وتعاقب المزار، وليكن بموافقة القلوب، والمساعدة في حالتي المكروه والمحبوب.
أرْوَاحُنا في مكانٍ واحد وإن كانت ** أشْبَاحُناَ بِشَآمٍ أوْ خُرَاسَانِ. اهـ.