فصل: تفسير الآيات (4- 8):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (2- 3):

{وَآَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)}
قلت: {ذرية}: منادى، أي: يا ذرية من حملنا مع نوح، والمراد: بني إسرائيل. وفي ندائهم بذلك: تلطف وتذكير بالنعم، وقيل: مفعول أول بتتخذوا، أي: لا تتخذوا ذرية من حملنا مع نوح من دوني وكيلاً، فتكون كقوله: {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الملائكة والنبيين أَرْبَاباً} [آل عِمرَان: 80].
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وآتينا موسى الكتابَ} التوراة {وجعلناه} أي: التوراة {هُدًى لبني إِسرائيل}، وقلنا: {ألاّ تتخذوا من دوني وكيلاً} تُفوضون إليه أموركم، وتُطيعونه فيما يأمركم. بل فوضوا أموركم إلى الله، واقصدوا بطاعتكم وجه الله، يا {ذريةَ مَنْ حملنا مع نوح}، فاذكروا نعمة الإنجاء من الغرق، وحملَ أسلافكم في سفينة نوح، {إِنه كان عبدًا شكورًا}؛ يحمد الله ويشكره في جميع حالاته. وفيه إيماء بأن إنجاءه ومن معه كان ببركة شكره، وَحَثٌّ للذرية على الاقتداء به. والله تعالى أعلم.
الإشارة: المقصود من إرسال الرسل وإنزال الكتب هو، إفراد الوجهة إلى الحق، ورفعُ الهمة عن الخلق، حتى لا يبقى الركون إلا إليه، ولا الاعتماد إلا عليه، وهو مقتضى التوحيد. قال تعالى: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ فاتخذه وَكِيلاً} [المُزمّل: 9]. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (4- 8):

{وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وقضينا إلى بني إِسرائيل} أي: أخبرناهم وأوحينا إليهم {في الكتاب}؛ التوراة، وقلنا: والله {لتُفسدنَّ في الأرض مرتين} إلخ. أو: قضينا عليهم {في الكتاب}؛ اللوح المحفوظ، {لتُفسدنَّ في الأرض مرتين} إلخ. أو: قضينا عليهم {في الكتاب}: اللوح المحفوظ، {لتُفسدُنَّ في الأرض مرتين} أي: إفسادتين، أُولاهُمَا: مخالفة أحكام التوراة وقتل أشعياء، وقيل: أرمياء. وثانيتهما: قتل زكريا ويحيى، وقَصْدُ قتل عيسى عليه السلام، {ولتَعلُنَّ عُلوًّا كبيرًا}؛ ولتستكبرن عن طاعة الله، أو لتظلمن الناس وتستعلون عليهم علوًا كبيرًا.
{فإِذا جاء وعدُ}؛ عقاب {أُولاهما} أي: أول مرتي الإفساد؛ بأن أفسدوا في الأرض المرة الأولى {بعثنا عليكم عبادًا لنا}؛ بختنصر وجنوده {أُولي بأس شديد}؛ ذوي قوة وبطش في الحرب شديد، {فجاسوا}؛ فترددوا لطلبكم {خلال الديار}؛ وسطه؛ للقتل أو الغارة، فقتلوا كبارهم وسبوا صغارهم، وحرقوا التوراة، وخربوا المسجد. وفي التذكرة للقرطبي: أنه سلط عليهم في المرة الأولى بخُتنصر، فسباهم، ونقل ذخائر بيت المقدس على سبعين ألف عَجَلَة، وبقوا في يده مائة سنة. ثم رحمهم الله تعالى وأنقذهم من يده، على يد ملك من ملوك فارس، ثم عصوا، فسلط عليهم ملك الروم قيصر. اهـ. قال تعالى: {وكان وعدًا مفعولاً} أي: وكان وعد عقابهم وعدًا مقضيًا لابد أن يُفعل.
{ثم رددنا لكم الكرّة} أي: الدولة والغلبة {عليهم} أي: على الذين بُعثوا عليكم، فرجع المُلك إلى بني إسرائيل، واستنقذوا أسراهم، فقيل: على يد بهْمَن بن إسفنديار؛ ملك فارس، فاستنقذهم، ورد أسراهم إلى الشام، وملَّكَ دَانْيال عليهم، فاستولوا على من كان فيها من أتباع بختنصر، وقيل: على يد داود عليه السلام حين قتل جالوت. قال تعالى: {وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثرَ نفيرًا} أي: عددًا مما كنتم. والنفير: من ينفر مع الرجل من قومه، وقيل: جمع نَفر، وهم: المجتمعون للذهاب إلى الغزو.
ثم قال تعالى لهم: {إِنْ أحسنتم} بفعل الطاعة والعمل الصالح، {أَحْسَنْتُمْ لأنفسكم}؛ لأن ثوابه لها، {وإِن أسأتم فلها}؛ فإنَّ وبالها عليها. وذكر باللام للازدواج. {فإِذا جاء وعدُ الآخرة} أي: وعد عقوبة المرة الأخيرة، بأن أفسدوا في المرة الآخرة، بعثنا عليكم عبادًا لنا آخرين، أُولي بأس شديد {ليَسُؤوا وجوهكم}، يجعلوها تظهر فيها آثار السوء والشر، كالكآبة والحزن، كقوله: {سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ} [المُلك: 27] {وليدخلوا المسجد}؛ بيت المقدس {كما دخلوه أول مرة وليُتبروا}؛ وليُهلكوا {ما عَلوا} عليه {تتبيرًا}؛ إهلاكًا، أو مدة علوهم. قال البيضاوي: وذلك بأن الله سلَّط عليهم الفرس مرة أخرى، فغزاهم ملكُ بابِل، اسمه حَرْدُون، وقيل: حَرْدوس، قيل: دخل صاحب الجيش مَذبح قرابينهم، فوجد دمًا يغلي، فسأل عنه، فقالوا: دم قربان لم يُقبل منا.
فقال: ما صدقتموني، فقتل عليه ألوفًا منهم، فلم يهدأَ الدم. ثم قال: إن لم تصدقوني ما تركت منكم أحدًا، فقالوا: دم يحيى، فقال: لِمثل هذا ينتقم منكم ربكم، ثم قال: يا يحيى، قد علم ربي وربك ما أصاب قومك، فاهدأ بإذن الله، قبل ألاَّ أُبقي منهم أحدًا، فهدأ. اهـ.
وقال السهيلي في كتاب التعريف والإعلام: المبعوث في المرة الأولى هم أهل بابل، وكان إذ ذاك عليهم بختنصر، حين كذّبوا أرمياء وجرحوه وحبَسوه. وأما في المرة الأخيرة: فقد اختلف فيمن كان المبعوث عليهم، وأن ذلك كان بسبب قتل يحيى بن زكريا. فقيل: بختنصر، وهذا لا يصح؛ لأن قتل يحيى كان بعد رفع عيسى، وبختنصر كان قبل عيسى بزمان طويل. اهـ. وقول الجلال السيوطي: وقد أفسدوا في الأُولى بقتل زكريا، فبعث عليهم جالوت وجنوده، ولا يصح؛ لأنه يقتضي أن داود تأخر عن زكريا، وهو باطل.
ثم قال تعالى لبني إسرائيل: {عسى ربُكم أن يرحَمكم} بعد المرة الأخرى ويجبر كسركم، {وإِن عُدتُم عُدْنَا} إلى عقوبتكم، وقد عادوا بتكذيب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقصد قتله، فعاد إليهم بتسليطه عليهم، فقتل من بني قريظة سبعمائة في يوم واحد، وسبى ذراريهم، وباعهم في الأسواق، وأجلى بني النضير، وضرب الجزية على الباقين. هذا في الدنيا، {وجعلنا جهنم للكافرين} منهم ومن غيرهم {حصيرًا}؛ محبسًا، لا يقدرون على الخروج منها، أبدَ الآباد. وقيل: بساطًا كبسط الحصير، كقوله: {لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ} [الأعرَاف: 41]. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد قضى الحقُّ جلّ جلاله ما كان وما يكون في سابق علمه، فما من نفَس تُبديه إلا وله قدر فيك يُمضيه. فالواجب على العبد أن يكون ابن وقته، إذا أصبح نظر ما يفعل الله به. فأسرار القدر قد استأثر الله بعلمها، وأبهم على عباده أمرَها، فلو ظهرت لبطل سر التكليف. ولذلك لما سُئل عنه سيدنا علي- كرم الله وجهه- قال للسائل: (بحر عميق لا تطيقه)، فأعاد عليه السؤال، فقال: (طريق مظلم لا تسلكه)؛ لأنه لا يفهم سر القضاء والقدر، إلا من دخل مقام الفناء والبقاء، وفرَّق بين القدرة والحكمة، وبين العبودية والربوبية، فإذا تحقق العارف بالوحدة، عِلَمَ أنَّ الحق تعالى أظهر من خلقه مظاهر أَعدهم للإكرام، وأظهر خلقًا أعدهم للانتقام، وأبهم الأمر عليهم، ثم خلق فيهم كسبًا واختيارًا فيما يظهر لهم، وكلفهم؛ لتقوم الحجة عليهم، وتظهر صورة العدل فيهم. {ولا يظلم ربك أحدًا}. فالقدرة تُبرز ما سبق في الأزل، والحكمة تستر أسرار القدر. لكن جعل للسعادة علامات كالتوفيق والهداية للإيمان، وللشقاوة علامات؛ كالخذلان والكفران. نعوذ بالله من سوء القضاء وحرمان الرضا. آمين.

.تفسير الآيات (9- 10):

{إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10)}
قلت: {وأنَّ الذين}: إما عطف على {أن} الأولى، أو على {ويُبشر} بإضمار يخبر.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {إِنَّ هذا القرآن يَهدي للتي}؛ للطريق التي {هي أقومُ} الطرق وأعدلها، {ويُبشِّرُ المؤمنين الذين يعملون} الأعمال {الصالحاتِ أنَّ لهم أجرًا كبيرًا} وهو: الخلود في النعيم المقيم، وزيادة النظر إلى وجهه الكريم. {و} يخبر {أنَّ الذين لا يُؤمنون بالآخرة أعتدنا} أي: أعددنا {لهم عذابًا أليمًا}، أو: ويُبشر المؤمنين ببشارتين: ثوابهم، وعقاب أعدائهم.
الإشارة: لا شك أن القرآن يهدي إلى طريق الحق؛ إما إلى طريق تُوصل إلى نِعم جنانه، أو إلى طريق تُوصل إلى شهوده ودوام رضوانه، فالأولى طريق الشرائع والأحكام، والثانية طريق الحقائق والإلهام، لكن لا يدرك هذا من القرآن إلا من صفت مرآة قلبه بالمجاهدة والذكر الدائم، ولذلك أمر شيوخُ التربية المريد بالاشتغال بالذكر المجرد، حتى يُشرق قلبه بأنوار المعارف، ويرجع من الفناء إلى البقاء، ثم بعد ذلك يُمر بالتلاوة، ليذوق حلاوة القرآن، ويتمتع بأنواره وأسراره، وقد أنكر بعضُ من لا معرفة له بطريق التربية على الفقراء هذا الأمر- أعني: ترك التلاوة في بدايتهم-؛ محتجًا بهذه الآية، ولا دليل فيها عليهم، لأن كون القرآن يهدي للتي هي أقوم يعني: التمسك والتدبر في معانيه، دليل فيها عليهم؛ لأن كون القرآن يهدي للتي هي أقوم يعني: التمسك والتدبر في معانيه، ولا يصح ذلك على الكمال إلا بعد تصفية القلوب، كما هو مجرب، ولا ينكر هذا إلا من لا ذوق له في علوم القوم، وربما يُذكر وجود التربية من أصلها، ويسد البابَ في وجوه الناس، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

.تفسير الآيات (11- 14):

{وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12) وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)}
قلت: {دعاءه}: مفعول مطلق. والإضافة في قوله: {آية الليل} و{آية النهار}: بيانية، أي: فمحونا الآية التي هي الليل، وجعلنا الآية التي هي النهار مبصرة. وإذا أريد بالآيتين السشمس والقمر؛ تكون للتخصيص، أي: وجعلنا نيري الليل والنهار آيتين، أو: وجعلنا الليل والنهار ذوي آيتين... إلخ، و{كل شيء}: منصوب بفعل مضمر، يفسره ما بعده، وكذا: {وكل إنسان} و{يلقاه منشورًا}: صفتان لكتاب.
يقول الحق جلّ جلاله: {ويدعُ الإنسانُ} على نفسه وولده وماله {بالشرِّ} عند الغضب والقنط. {دعاءَهُ بالخير}؛ مثل دعائه بالخير. وهو ذم له يدل على عدم صبره، وربما وافق وقت الإجابة فيهلك، {وكان الإِنسانُ عَجُولاً}؛ يُسارع إلى كل ما يخطر بباله، لا ينظر عاقبته. ويجوز أن يريد بالإنسان الكافر، وبالدعاء استعجاله بالعذاب؛ استهزاء، كقول النضر بن الحارث: اللهم انصر خير الحزبين؛ {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء} [الأنفال: 32] الآية. وقيل: المراد بالإنسان: آدم عليه السلام، فإنه لما انتهى الروح إلى سُرَّته ذهب ليقوم، فسقط، وهو بعيد. فإذا نزلت بالإنسان قهرية فلا يقنط ولا يستعجل، فإنَّ وقت الفرج محدود، فالليل والنهار مطيتان، يُقربان كل بعيد، ويبليان كل جديد، ويأتيان بكل موعود.
ولذا قال تعالى إثره: {وجعلنا الليلَ والنهارَ آيتين} دالتين على كمال قدرتنا، وباهر حكمتنا، يتعاقبان على الإنسان، يُقربان له كل بعيد، ويأتيان له بكل موعود. {فمحونا آيةَ الليل} أي: فمحونا الآية التي هي الليل؛ بأن جعلناها مظلمة، لتسكنوا فيه، {وجعلنا آية النهار مُبصرةً} أي: مضيئة مشرقة لتبتغوا؛ من فضله، أو: وجعلنا نيري الليل والنهار آيتين، وهما: الشمس والقمر، {فمحونا آية الليل}، وهو القمر؛ بأن جعلناه أطلس، لا نور فيه من ذاته، بل نوره مستمد من نور الشمس، {وجعلنا آية النهار}، وهي الشمس {مبصرةً} للناس، أو مبصرًا فيها بالضوء الذاتي، {لتبتغوا فضلاً من ربكم}؛ لتطلبوا في بياض النهار أسباب معاشكم، {ولتعلموا}؛ باختلافهما وبحركتهما، {عددَ السنينَ والحسابَ}؛ وحساب الأوقات من الأشهر والأيام، في معاملتكم وتصرفاتكم، {وكلَّ شيء} تفتقرون إليه في أمر الدين والدنيا {فصَّلناه تفصيلاً}؛ بيَّناه تبيينًا لا لبس فيه، أو: وكل شيء يظهر في الوجود، فصّلناه وقدّرناه في اللوح المحفوظ تفصيلاً، فلا يظهر في عالم الشهادة إلا ما فُصل في عالم الغيب.
{وكل إِنسانٍ ألزمناه طائره} أي: حظه وما قُدر له من خير وشر، فهو لازم {في عُنقه}؛ لا ينفك عنه. ويقال لكل ما لزم الإنسان: قد لزم عنقه. وإنما قيل للحظ المقدر في الأزل من الخير والشر: طائر؛ لقول العرب: جرى لفلان الطائر بكذا من الخير والشر، على طريق الفأل والطيرة، فخاطبهم الله بما يستعملون، وأعلمهم أن ذلك الأمر الذي يجعلونه بالطائر هو ملزم لأعناقهم، لا محيد لهم عنه، كالسلسلة اللازمة للعنق، يُجر بها إلى ما يُراد منه.
ومثله: {ألآا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ الله} [الأعرَاف: 131]، وقال مجاهد: «ما من مولود يولد إلا في عنقه ورقة، مكتوب فيها شقي أو سعيد». أو: وكل إنسان ألزمناه عمله؛ يحمله في عنقه، {ونُخرج له يوم القيامة كتابًا} مكتوب فيه عمله، وهو صحيفته. {يلقاه منشورًا}، ويقال له: {اقرأ كتابك كفى بنفسك اليومَ عليك حسيبًا}؛ محاسبًا، لا تحاسبك إلا نفسك، أو: رقيبًا وشهيدًا على عملك، أو: لا يَعُد عليك أعمالك إلا نفسك. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ينبغي للإنسان أن يكون داعيًا بلسانه، مفوضًا لله في قلبه، لا يعقد على شيء من الحظوظ والمآرب، فقد يدعو بالخير في زعمه، وهو شر في نفس الأمر في حقه، وقد يدعو بالشر وهو خير. وقد تأْتيه المضار من حيث يرتقب المسار، وقد تأتيه المسار من حيث يخاف الضرر؛ {والله يعلم وأنتم لا تعلمون}. فالتأني والسكون من علامة العقل، والشَّرَّةُ والعَجَلَة من علامة الحمق. فما كان من قسمتك لابد يأتيك في وقته المقدر له، وما ليس من قسمتك لا يأتيك، ولو حرصت كل الحرص. فكل شيء سبق تفصيله وتقديره، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلوم إلا نفسه.

.تفسير الآيات (15- 17):

{مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {مَن اهتدى} وآمن بالله وبما جاءت به الرسل {فإِنما يهتدي لنفسه}؛ لأن ثواب اهتدائه له، لا يُنجي اهتداؤه غيره، {ومن ضلَّ} عن طريق الله {فإِنما يضلُّ عليها}؛ لأن إثم إضلاله على نفسه، لا يضر به غيره في الآخرة {ولا تزر} أي: لا تحمل نفس {وازرةٌ}؛ آثمة {وِزرَ} نفس {أخرى} أي: ذنوب نفس أخرى، بل إنما تحمل وزرها، إلا من كان إمامًا في الضلالة، فيحمل وزره ووزر مَن تبعه، على ما يأتي في آية أخرى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13].
ومن كمال عدله تعالى: أنه لا يُعذِّب حتى يُنذر ويُعذر على ألسنة الرسل، كما قال تعالى: {وما كنا مُعذبين} أحدًا في الدنيا ولا في الآخرة {حتى نبعث رسولاً} يُبين الحجج ويمهد الشرائع، ويلزمهم الحجة.
وفيه دليل على أن لا حُكم قبل الشرع، بل الأمر موقوف إلى وروده، فمن بلغته دعوته، وخالف أمره، واستكبر عن أتباعه، عذبناه بما يستحقه. وهذا أمر قد تحقق بإرسال آدم عليه السلام ومن بعده من الأنبياء الكرام- عليهم السلام- في جميع الأمم، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً} [النحل: 36]، {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24]، فإن دعوتهم إلى الله قد انتشرت، وعمت الأقطار، واشتهرت، انظر إلى قول قريش الذين لم يأتهم نبي بعد إسماعيل عليه السلام: {مَا سَمِعْنَا بهذا في الملة الآخرة} [ص: 7]؛ فإنه يُفهم منه أنهم سمعوه في الملة الأولى، فمن بلغته دعوة أحد منهم، بوجه من الوجوه فقصَّر، فهو كافر مستحق للعذاب. فلا تغتر بقول كثير من الناس بنجاة أهل الفترة، مع إخبار النبي صلى الله عليه وسلم أن آباءهم، الذين مضوا في الجاهلية، في النار، وأن ما يدحرج من الجُعَل، خير منهم، إلى غير ذلك من الأخبار. قاله البقاعي.
وقال الإمام أبو عبد الله الحليمي- أحد أجلاء الشافعية، وعظماء أئمة الإسلام- في أول منهاجه، في باب: من لم تبلغه الدعوة: وإنما قلنا: إن من كان منهم عاقلاً مميزًا إذا رأى ونظر، إلا أنه لا يعتقد دينًا فهو كافر؛ لأنه، وإن لم يكن سمع دعوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فلا شك أنه سمع دعوة أحد من الأنبياء قبله، على كثرتهم وتطاول أزمان دعوتهم، ووفور مُددِ الذين آمنوا واتبعوهم، والذين كفروا بهم وخالفوهم، فإنَّ الخبر قد يبلغ على لسان المخالف، كما يبلغ على لسان الموافق، وإذا سمع آيَّةَ دعوة كانت إلى الله تعالى، فترك أن يستدل بعقله، كان مُعْرِضًا عن الدعوة فكفر، والله أعلم. وإن أمكن أن يكون لم يسمع قط بدين، ولا بدعوة نبي، ولا عرف أن في العالم من يُثبت إلهًا، وما نرى أن ذلك يكون، فأمره على الاختلاف، يعني: عند من يُوجب الإيمان بمجرد العقل، ومن لا يُوجبه إلا بانضمام النقل. اهـ.
وقال الزركشي، في آخر باب النيات، من شرحه على المنهاج: وقد أشار الشافعي إلى عسر تصور عدم بلوغ الدعوة، حيث قال: وما أظن أحدًا إلا بلغته الدعوة، إلا أن يكون قوم من وراء النهر. وقال الدميري: وقال الشافعي: ولم يبق أحد لم تبلغه الدعوة. انتهى؛ على نقل شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي رضي الله عنه.
ثم قال تعالى: {وإِذا أردنا أن نُهلك قريةً} أي: تعلقت إرادتنا بإهلاكها؛ لإنفاذ قضائنا السابق، ودنا وقتُ إهلاكها، {أمرنا مُتْرفيها}؛ منعميها، بمعنى رؤسائها؛ بالطاعة على لسان رسول بعثناه إليهم، ويدل على ذلك ما قبله وما بعده، فإن الفسق هو الخروج عن الطاعة، لقوله: {ففسقُوا فيها}؛ خرجوا عن أمرنا. وقيل: أمرناهم: ألهمناهم الفسق وحملناهم عليه، أو: جعلنا لهم أسباب حملهم على الفسق؛ بأن صببنا عليهم من النعم ما أبطرهم، وأفضى بهم إلى الفسوق، {فحقَّ عليها القولُ}؛ وجب عليها كلمة العذاب السابق بحلوله، أو بظهور معاصيهم. {فدمرناها تدميرًا}؛ أهلكناها بإهلاك أهلها وتخريبها. {وكم أهلكنا} أي: كثيرًا أهلكنا {من القُرون} أي: الأمم {من بعد نوح}؛ كعاد وثمود وأصحاب الأيكة، {وكفى بربك بذنوب عباده خبيرًا بصيرًا}؛ عالمًا ببواطنها وظواهرها، فيعاقب عليها أو يعفو. وبالله التوفيق.
الإشارة: من اهتدى إلى حضرة قدسنا فإنما يهتدي لينعم نفسه بأسرار قدسنا، ومن ضل عنها فإنما يضل عليها؛ حيث حرمها لذيذ المعرفة. فإن كان في رفقة السائرين، ثم غلبه القضاء، فلا يتعدى وبال رجوعه إلى غيره، بل ما كان يصل إليه من المدد يرجع إلى أصحابه، وما كنا معذبين أحدًا؛ بإسدال الحجاب بيننا وبينه، حتى نبعث من يُعَرِّف بنا، ويكشف الحجاب بيننا وبين من يريد حضرتنا. والمراد بالحجاب: حجاب الوهم؛ بإثبات حس الكائنات، فلو انهتك حجاب الوهم لوقع العيان على فقد الأعيان، ولو أشرق نورُ الإيقان لغطى وجودَ الأكوان. وإذا أردنا أن نتلف قلوبًا أمرنا أربابها بالتنعم بالحظوظ والشهوات، فخرجوا عن طريق المجاهدة والرياضة، فحق عليها القول بغم الحجاب، فدمرناها تدميرًا، أي: تركناها تجول في أودية الخواطر والشكوك، فتلفت وهلكت، نعوذ بالله من شر الفتن ودرك المحن.