فصل: تفسير الآيات (73- 77):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (71- 72):

{يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)}
قلت: يجوز في {أعمى}- الثاني-: أن يكون وصفًا كالأول، وأن يكون من أفعل التفضيل، وهو أرجح؛ لعطف {وأضل} عليه، الذي هو للتفضيل. وقال سيبويه: لا يجوز أن يقال: هو أعمى من كذا، وإنما يقال: هو أشد عمى، لكن إنما يمتنع ذلك في عمى البصر، لا في عمى القلب. قاله ابن جزي.
يقول الحقّ جلّ جلاله: واذكر {يوم ندعو كلَّ أناس بإِمامهم}؛ بنبيهم. فيقال: يا أُمَّةَ فلان، يا أمة فلان، احضروا للحساب. أو: بكتاب أعمالهم، فيقال: يا صاحب الخير ويا صاحب الشر، فهو مناسب لقوله: {فمن أُوتي...} إلخ.
وقال محمد بن كعب القرظي: بأسماء أمهاتهم، فيكون جمع أم، كخف وخفاف، لكن في الحديث: «إِنكُم تُدْعَوْنَ يَوْمَ القِيَامَةِ بأسمَائِكُمْ وأسمَاءِ آبَائِكًمْ»، ولعل ما قاله القرظي مخصوص بأولاد الزنا. وفي البيضاوي: قيل: بأمهاتهم، والحكمة في ذلك: إجلال عيسى وإظهار شرف الحسن والحسين، وألا يُفتضح أولاد الزنى. اهـ.
وقال أبو الحسن الصغير: قيل لأبي عمران: هل يدعى الناس بأمهاتهم يوم القيامة أو بآبائهم؟ قال: قد جاء في ذلك شيء أنهم يدعون بأمهاتهم فلا يفتضحوا. وفي البخاري- باب يدعى الناس بآبائهم-، وساق حديث ابن عمر: «يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ القِيَامَةِ. يُقَالُ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلاَنٍ ابنُ فُلاَن»، فظاهر الحديث أنهم يدعون بآبائهم، وهو الراجح، إلا فيمن لا أب له. والله تعالى أعلم.
ثم قال تعالى: {فمن أوتي كتابه بيمينه} أي: فمن أوتي صحيفة أعماله، يومئذ، من أولئك المدعوين بيمينه؛ إظهارًا لخطر الكتاب، وتشريفًا لصاحبه، وتبشيرًا له من أول الأمر، {فأولئك يقرؤون كتابهم} المؤتى لهم. والإشارة إلى مَن: باعتبار معناها؛ لأنها واقعة على الجمع؛ إيذانًا بأنهم حزب مجتمعون على شأنٍ جليل، وإشعارًا بأن قراءتهم لكتبهم يكون على وجه الاجتماع، لا على وجه الانفراد؛ كما في حال الدنيا. وأتى بإشارة البعيد؛ إشعارًا برفع درجاتهم، أي: أولئك المختصون بتلك الكرامة، التي يُشْعِرُ بها الإيتاء المذكور، يقرأون كتابهم {ولا يُظلمون فتيلاً}؛ ولا ينقصون من أجور أعمالهم المرسومة في صحيفتهم أدنى شيء، فإن الفتيل- وهو: قشر النواة- مَثلٌ في القلة والحقارة.
ثم ذكر أهل الأخذ بالشمال فقال: {ومَن كان في هذه} الدنيا، التي فَعَل بهم ما فعل من فنون التكريم والتفضيل، {أعمى}؛ فاقد البصيرة، لا يهتدي إلى رشده، ولا يعرف ما أوليناه من نعمة التكرمة والتفضيل، فضلاً عن شكرها والقيام بحقوقها، ولا يستعمل ما أودعنا فيه؛ من العقل والقوى، فيما خلق له من العلوم والمعارف، {فهو في الآخرة أعمى} كذلك، لا يهتدي إلى ما ينجيه مما يرديه؛ لأن النجاة من العذاب والتنعم بأنواع النعم الأخروية مرتب على العمل في الدنيا، ومعرفة الحق، ومن عمي عنه في الدنيا فهو في الآخرة أشد عمى عما ينجيه، {وأضلُّ سبيلاً} عنه؛ لزوال الاستعداد الممكن لسلوك طريق النجاة.
وهذا بعينه هو الذي أخذ كتابه بشماله، بدلالة ما سبق من القبيل المقابل، ولعل العدول عن التصريح به إلى ذكره بهذا العنوان؛ للإشعار بالعلة الموجبة له، فإنَّ العمى عن الحق والضلال هو السبب في الأخذ بالشمال، وهذا كقوله في الواقعة: {وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المكذبين الضآلين} [الواقِعَة: 92]، بعد قوله: {وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين} [الواقِعَة: 90]. والله تعالى أعلم.
الإشارة: يدعو الحق تعالى، يوم القيامة، الأمم إلى الحساب بأنبيائها ورسلها، ثم يدعوهم، ثانيًا، للكرامة بأشياخها وأئمتها التي كانت تدعوهم إلى الحق على الهَدْي المحمدي. فيقال: يا أصحاب فلان، ويا أصحاب فلان، اذهبوا إلى الجنة، لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون. وهذا في حق أهل الحق والتحقيق، الدالين على سلوك الشريعة، والتمسك بأنوار الحقيقة؛ ذوقًا وكشفًا، فكل من تبعهم وسلك منهاجهم، كان من السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب، وهم: أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. وأما من لم يكن من حزبهم، ولم يدخل تحت تربيتهم، فإن استعمل عقله وقُواه فيما يُنجيه يوم القيامة؛ كان من الذين يُؤتون كتابهم بيمينهم، ولا يظلمون فتيلاً. ومن أهمل عقله واستعمل قواه في البطالة والهوى، كان من القبيل الذي عاش في الدنيا أعمى، ويكون في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً، والعياذ بالله.

.تفسير الآيات (73- 77):

{وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75) وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)}
قلت: {وإن}: مخففة من الثقيلة في الموضعين، واسمها: ضمير الشأن، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية، أي: إن الشأن قاربوا أن يفتنوك. و{سُنَّة}: مفعول مطلق، أي: سنَّ الله ذلك سنة.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وإِن كادُوا} أي: كفار العرب، {ليَفتنونُك عن الذي أوحينا إِليك}؛ من أمرنا ونهينا، ووعدنا ووعيدنا، {لتفتريَ علينا غيره}؛ لتقول ما لم أقل لك، مما اقترحوا عليك. نزلت في ثقيف، إذ قالوا للنَّبي صلى الله عليه وسلم: لا نَدْخُلُ في أَمْركَ حتى تُعْطِينَا خِصَالاً نَفْتَخِرُ بها على العَرَبِ: لا نُعشَّرُ، وَلا نُحشَّرُ، وَلاَ نَحْنِي في صَلاَتِنَا، وكُلُّ رِبًا لنَا فهُو لنَا، وكلُّ رِبًا عَلَيْنَا فهو مَوْضُوعٌ، وأنْ تُمَتِّعنا باللات سَنَةً، وأن تُحَرِّمَ وَادِيَنا كما حرمت مكة، فإذا قالت العَرَبُ: لِمَ فَعَلْتَ؟ فقُل: الله أَمَرَنِي بذلك. فأبى عليهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وخيب سعيهم. فالآية، على هذا، مدنية. وقيل: في قريش، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لا نُمكنك من استلام الحجر، حتى تلمّ بآلهتنا، وتمسّها بيدك. وقيل: قالوا: اقبل بعض أمرنا، نقبل بعض أمرك، والآية، حينئذ، مكية كجميع السورة.
{وإِذًا لاتخذوكَ خليلاً} أي: لو فعلت ما أرادوا منك لصرت لهم وليًا وحبيبًا، ولخرجت من ولايتي، {ولولا أن ثبتناك} على ما أنت عليه من الحق؛ بعصمتنا لك، {لقد كِدتَ تركنُ إليهم شيئًا قليلاً} من الركون، الذي هو أدنى ميل، أي: لولا أن عصمناك، لقاربت أن تميل إليهم؛ لقوة خدعهم، وشدة احتيالهم. لكن عصمتنا منعتك من المقاربة. وهو صريح في أنه- عليه الصلاة والسلام- ما هَمَّ بإجابتهم، مع قوة الداعي إليها، ولا قارب ذلك. وهو دليل على أن العصمة بتوفيق الله وحفظه، قاله البيضاوي. وفيه رد على ابن عطية، حيث قال: قيل: إنه هَمَّ بموافقتهم، لكن كان ذلك خطرة، والصواب: عدم ذلك؛ لأن التثبيت والعصمة مانعٌ من ذلك.
وقد أجاد القشيري في ذلك، ونصه: ضربنا عليكَ سرادقات العصمة، وآويناكَ في كنف الرعاية، وحفظناك عن خطر اتباع هواك، فالزَّلَلُ منك محال، والافتراءُ في نعتك غير موهوم، ولو جَنَحْتَ لحظةً إلى جانب الخلاف لَتَضَاعَفَتْ عليكَ شدائدُ البلاء؛ لكمالِ قَدْرِك وعُلُوِّ شأنك؛ فإنَّ كل مَنْ هو أعلى درجةً فَذَنْبُه- لو حصل- أشدُّ تأثيرًا. {ولولا أن ثبتناك...} الآية: لو وكلناك ونَفسَكَ، ورفعنا عنك ظِلَّ العصمة، لقاربت الإلمام بشيء مما لا يجوز من مخالفة أمرنا، ولكِنَّا أفردناك بالحفظ، بما لا تتقاصر عنكَ آثاره، ولا تَغْرُبُ عن ساحتك أنواره. {إِذًا لأذقناك ضِعْفَ الحياة وضَعْف الممات}، هبوط الأكابر على قدر صعودهم. اهـ.
{إِذًا} أي: لو قاربت أن تركن إليهم أدنى ركون {لأذقناك ضِعف} عذاب {الحياة} {وضِعْفَ} عذاب {الممات}، أي: مِثْلِيْ ما يُعَذِّبُ غيرك في الدنيا والآخرة؛ لأن خطأ الخطير أخطر.
وكأن أصل الكلام: عذابًا ضعفًا في الحياة، وعذابًا ضعفًا في الممات، أي: مضاعفًا، ثم حذف الموصوف، وأقيمت الصفة مقامه، ثم أضيفت إضافة موصوفها. وقيل: الضعف من أسماء العذاب. وقيل: المراد بضعف الحياة: عذاب الآخرة؛ لأن حياته دائمة، وبضعف الممات: عذاب القبر. {ثم لا تجدُ لك علينا نصيرًا} يدفع عنك العذاب.
{وإِن كادوا} أي: كاد أهل مكة {لَيَسْتفزُّونك}؛ ليزعجونك بعداوتهم ومكرهم {من الأرض} التي أنت فيها. وهي: أرض مكة، {ليُخرِجوك منها وإِذًا لا يلبثون خِلافَكَ إِلاَّ قليلاً}؛ إلا زمنًا قليلاً. وقد كان كذلك، فإنهم أُهلكوا ببدر بعد هجرته صلى الله عليه وسلم، وقيل: نزلت في اليهود؛ فإنهم حَسَدوا مقام النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فقالوا: الشام مقام الأنبياء، فإن كنت نبيًا فالحَقْ بها حتى نؤمن بك. فوقع ذلك في قلبه صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فقالوا: الشام مقام الأنبياء، فإن كنت نبيًا فالحَقْ بها حتى نؤمن بك. فوقع ذلك في قلبه صلى الله عليه وسلم، فخرج من مرحلة، فَنَزَلت، فرَجَعَ صلى الله عليه وسلم، ثم قتل منهم بني قريظة، وأجلى بني النضير بقليل، {سُنَّة مَن قد أرسلنا قَبلك من رُسلنا} أي: عادته تعالى: أن يُهلك من أُخْرِجَتْ رسلهم من بين أظهرهم، فقد سنَّ ذلك في خلقه، وأضافها إلى الرسل؛ لأنها سُنت لأجلهم. {ولا تجد لسُنَّتنا تحويلاً} أي: تغييرًا وتبديلاً.
الإشارة: من شأن العارف الكامل أن يأخذ بالعزائم، ويأمر بما يقتل النفوس، ويوصل إلى حضرة القدوس، وهو كل ما يثقل على النفوس، فإن أتاه من يفتنه ويرده إلى الهوى، حفظته العناية، واكتنفته الرعاية، فيقال له: وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك؛ وحي إلهام، لتفتري علينا غيره، فتأمر بالنزول إلى الرخص والتأويلات وإذًا لاتخذوك خليلاً. ولولا أن ثبتناك؛ بالحفظ والرعاية، لقد كدت تركنُ إليهم شيئًا قليلاً، وهي: خواطر تخطر ولا تثبت. إذًا لأذقناك ضعف الحياة، وهو: الذل والحرص والطمع. وضعف الممات، وهو: السقوط عن مقام المقربين، أهل الرَّوح والريحان. وإن كادوا ليستفزونك من أرض العبودية، ليخرجوك منها إلى إظهار الحرية؛ من العز والجاه، وإذًا لا يلبثون خلافك ممن اتبعك إلا قليلاً؛ لأن من رجع إلى مباشرة الدنيا والحس قلَّ مدده، فيقل انتفاعه، فلا يتبعه إلا القليل. هذه سُنة الله في أوليائه، ولن تجد لسنة الله تحويلاً.

.تفسير الآيات (78- 79):

{أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)}
قلت: الدلوك: الميل. واشتقاقه من الدَّلْك؛ لأن من نظر إليها حينئذ يدلك عينه. واللام للتأقيت بمعنى: عند. و{قرآن}: عطف على {الصلاة}، أو منصوب بفعل مضمر، أي: اقرأ قرآن لفجر، أو على الإغراء.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {أقم الصلاةَ لدلُوكِ} أي: عند زوال {الشمس}، وهو إشارة إلى إقامة الصلوات الخمس، فدلوك الشمس: زوالها؛ وهو إشارة إلى الظهر والعصر، وغسق الليل: ظلمته، وهو إشارة إلى المغرب والعشاء، {وقرآنَ الفجر}؛ صلاة الصبح، وإنما عبَّر عن صلاة الصبح بقرآن الفجر؛ لأن القرآن يُقرأ فيها أكثر من غيرها؛ لأنها تُصلي بسورتين طويلتين، ثم مدحها بقوله: {إِنَّ قرآن الفجر كان مشهودًا}؛ تشهده ملائكةُ الليل وملائكة النهار، أو: يشهده الجم الغفير من المصلين، أو فيه شواهد القدرة؛ من تبدل الظلمة بالضياء، والنوم، الذي هو آخو الموت، بالانتباه.
ثم أمر بقيام الليل فقال: {ومن الليل} أي: بعض الليل {فتهجدْ به} أي: اترك الهجود، الذي هو النوم فيه، للصلاة بالقرآن، {نافلةً لك} أي: فريضة زائدة لك على الصلوات الخمس، أو فريضة زائدة لك؛ لاختصاص وجوبها بك، أو نافلة زائدة لك على الفرائض؛ غير واجبة. وكأنه، لما أمر بالفرائض، أمر بعدها بالنوافل. وتطوعه- عليه الصلاة والسلام-؛ لزيادة الدرجات، لا لجبر خلل أو تكفير ذنب؛ لأنه مغفور له ما تقدم وما تأخر. ومن: للتبعيض، والضمير في به: للقرآن. والتهجد: السهر، وهو: ترك الهجود، أي: النوم. فالتفعل هنا للإزالة؛ كالتأثم والتحرج، لإزالة الإثم والحرج.
ثم ذكر ثوابه في حقه- عليه الصلاة والسلام- فقال: {عسى أنْ يبعثك ربك مقامًا محمودًا} عندك وعند جميع الناس، وهي: الشفاعة العظمى. وفيه تهوين لمشقة قيام الليل. رَوى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المَقَام المحمُود هُوَ المَقَامُ الذي أَشْفَعُ فِيهِ لأمَّتِي» وقال ابن عباس رضي الله عنه: مقامًا محمودًا يحمده فيه الأولون والآخرون، ويشرف فيه على جميع الخلائق، يسأل فيُعطى، ويشفع فيُشَفَّع. وعن حذيفة: يُجْمع الناس في صعيد واحد، فلا تتكلم فيه نفس إلا بإذنه، فأول مدعو محمدٌ صلى الله عليه وسلم، فيقول: «لبيك وسعديك. والشر ليس إليك، والمَهدي من هديت، وعبدك بين يديك، وبك وإليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، تباركت وتعاليت، سبحانك رب البيت» ثم يأذن له في الشفاعة. والله تعالى أعلم.
وقال ابن العربي المعافري في أحكامه: واخْتُلِفَ في وجه كون قيام الليل سببًا للمقام المحمود على قولين، فقيل: إن البارئ تعالى يجعل ما يشاء من فضله سببًا لفضله، من غير معرفة منا بوجه الحكمة.
وقيل: إن قيام الليل فيه الخلوة به تعالى، والمناجاة معه دون الناس، فيعطي الخلوة به والمناجاة في القيامة، فيكون مقامًا محمودًا، ويتفاضل فيه الخلق بحسب درجاتهم. وأجلُّهم فيه؛ درجةً: نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فيعطى من المحامد ما لم يُعط قبل، ويُشَفَّع فيَشْفَع. اهـ. قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي: وقد يقال: إن ذلك مرتب على قوله: {أقم الصلاة...} الآية، ولا يخص بقيام الليل، والصلاةُ، مطلقًا مفاتحةٌ للدخول على الله ومناجاةٌ له، ولذلك جاء في حديث الشفاعة افتتاحه بأن «يخر ساجدًا حامدًا، فيؤذن حينئذ بالشفاعة». ومن تواضع رفعه الله. اهـ.
الإشارة: قوم اعتنوا بإقامة صلاة الجوارح، وهم: الصالحون الأبرار، وقوم اعتنوا بإقامة صلاة القلوب، التي هي الصلاة الدائمة، وهم العارفون الكبار، وقوم اعتنوا بسهر الليل في الركوع والسجود، وهم العباد والزهاد والصالحون، أولو الجد والاجتهاد. وقوم اعتنوا بسهره في فكرة العيان والشهود، وهم المقربون عند الملك الودود. الأولون يُوفون أجرهم على التمام بالحور والولدان، والآخرون يُكشف لهم الحجاب ويتمتعون بالنظر على الدوام، الأولون محبون، والآخرون محبوبون، الأولون يشفعون في أقاربهم ومن تعلق بهم، والآخرون قد يشفع واحد منهم في أهل عصره. وما ذلك على الله بعزيز.

.تفسير الآيات (80- 81):

{وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80) وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وقل} يا محمد: {ربِّ أَدْخلني} في الأمور كلها {مُدْخلَ صدقٍ}؛ بأن أدخل فيها بك لا بنفسي، {وأَخرجني} منها {مُخرجَ صدقٍ} كذلك، مصحوبًا بالفهم عنك، والإذن منك في إدخالي وإخراجي. وقيل: أدخلني قبري مدخل صدق راضيًا مرضيًا، وأخرجني منه عند البعث مخرج صدق، أي: إخراجًا مرضيًا مُلقى بالكرامة. فيكون تلقينًا للدعاء بما وعده من البعث، المقرون بالإقامة للمقام المحمود، التي لا كرامة فوقها. وقيل: المراد: إدخال المدينة، والإخراج من مكة. وقيل: إدخاله- عليه الصلاة والسلام- مكة؛ ظاهرًا عليها، وإخراجه منها؛ آمنًا من المشركين. وقيل: إدخاله الغار، وإخراجه منه سالمًا. وقيل: إدخاله فيما حمله من أعباء الرسالة، وإخراجه منه مؤديًا حقه. وقيل: إدخاله في كل ما يلائمه من مكان أو أمر، وإخراجه منه بالحفظ والرعاية، بحيث يدخل بالله ويخرج بالله. وهو الراجح كما قدمناه.
{واجعل لي من لدنك} أي: من مستبْطَن أمورك، {سُلطانًا نصيرًا} أي حجة ظاهرة، تنصرني على من يخالفني ويعاديني، أو: عزًا ناصرًا للإسلام، مظهرًا له على الكفر. فأجيبتْ دعوته- عليه الصلاة والسلام- بقوله: {فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الغالبون} [المائدة: 56]، {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ} [التّوبَة: 33]، {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض...} [النُّور: 55] الآية، وبقوله: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون} [الصَّافات: 171، 172] الآية. وذلك حين يظهر الحق، ويزهق الباطل، كما قال: {وقل جاء الحق} أي: الإسلام أو الوحي، {وزهق الباطلُ}؛ ذهب، وهلك الكفر والشرك، وتسويلات الشيطان؛ {إِنَّ الباطلَ} كائنًا ما {كان زهوقًا} أي: شأنه أن يكون مضمحلاً غير ثابت. وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَكَّةَ يَوْمَ الفَتْح، وحَوْلَ البَيْتِ ثَلاثُمِائةٍ وَسِتُّون صَنَمًا، فَجَعَل يَطْعَنُ بمخْصَرةٍ كانت بيَده في عين كُل واحد، ويقول: «جاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ الباطِلُ»، فَيَنْكَبُّ لِوَجْهِهِ، حَتَّى أَلْقَى جمِيعها، وَبَقِيَ صَنَمُ خُزَاعَة فوْقَ الكَعْبَةِ، وكَانَ من صُفْرٍ، فقال: «يا عَلِيُّ، ارْمِ بِهِ»؛ فصعَدَ إليه، ورَمَى به، فَكَسَرَهُ. اهـ.
الإشارة: إذا تمكن العارفون من شهود حضرة القدس ومحل الأنس، وصارت معشش قلوبهم؛ كان نزولهم إلى سماء الحقوق وأرض الحظوظ بالإذن والتمكين، والرسوخ في اليقين. فلم ينزلوا إلى سماء الحقوق بسوء الأدب والغفلة، ولا إلى أرض الحظوظ بالشهوة والمتعة، بل دخلوا في ذلك بالله ولله، ومن الله وإلى الله، كما في الحكم. ثم قال: {وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق}؛ ليكون نظري إلى حولك وقوتك إذا أدخلتني، وانقيادي إليك إذا أخرجتني. {واجعل لي من لدنك سلطانًا نصيرًا} ينصرني ولا ينصر عليّ، ينصرني على شهود نفسي، حتى أغيب عنها وعن متعتها وهواها، ويفنيني عن دائرة حسي، حتى تتسع عليّ دائرة المعاني عندي، وأفضي إلى فضاء الشهود والعيان، فحينئذ يَزهق الباطل، وهو ما سوى الله، ويجيء الحق، وهو وجود الحق وحده، فأقول حينئذ: {وقل جاء الحق وزَهَقَ الباطل إِنَّ الباطل كان زهوقًا}، وإنما أثبته الوهم والجهل، وإلا فلا ثبوت له؛ ابتداء وانتهاء.