فصل: تفسير الآيات (87- 88):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (85- 86):

{وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {و} اذكر {إِسماعيلَ} بن إبراهيم، وكان أكبر من إسحاق، {وإِدريسَ} واسمه: أخنوخ بن شيث بن آدم. قاله النسفي {وذا الكفل} وهو إلياس، أو زكريا، أو يوشع بن نون، قلت: كونه زكريا بعيد؛ لأنه سيذكره بخصُوصه بعدُ. وسُمي ذا الكفل؛ لأنه ذو حظ من الله، والكفل: الحظ. أو تكفل بضعف عمل أنبياء زمانه، أو بصيام النهار وقيام الليل. وقال أبو موسى الأشعري: إنَّ ذا الكفل لم يكن نبيًا، ولكنه كان عبدًا صالحًا، تكفل بعمل رجل صالح عند موته، وكان يُصلي لله تعالى، في كل يوم، مائة صلاة، فأحسن الله عليه الثناء. اهـ. وقال عمر بن عبد الله بن الحارث: إن نبيًا من الأنبياء قال: من تكفل لي أن يصوم النهار ويقوم الليل ولا يغضب؟ فقال شاب: أنا، فمات ذلك النبي، فجلس ذلك الشاب يقضي بين الناس، فجاءه الشيطان في صورة إنسان؛ ليُغضبه وهو صائم، فضرب الباب ضربًا شديدًا، فقال: من هذا؟ فقال: رجل له حاجة، فأرسل له رجلاً، فلم يرض، ثم أرسل معه آخر، فلم يرض، فخرج إليه فأخذ بيده فانطلق معه إلى السوق، ثم خلاه وذهبَ، فسُمي ذا الكفل. اهـ.
{كلٌّ من الصابرين} أي: كل واحد من هؤلاء موصوف بالصبر التام على مشاق التكليف وشدائد النوب، {وأدخلناهم في رحمتنا}؛ في النبوة، أو في الآخرة، {إنهم من الصالحين} أي: الكاملين في الصلاح الذي لا تحوم حوله شائبة الفساد، وهم الأنبياء، فإن صلاحهم معصوم من كدر الفساد. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد مدح الله هؤلاء السادات بخصلتين، من تحقق بهما: التحق بهم، وانخرط في سلكهم: الصبر على مشاق الطاعة، وعلى ترك المعصية، وفي حال البلية. والصلاح، وهو: إصلاح الظاهر بالشريعة، وإصلاح الباطن بنور الحقيقة. فمن تحقق بهاتين الخصلتين كان من المقربين مع النبيين والصديقين. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (87- 88):

{وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {و} اذكر {ذا النُّون} أي: صاحب الحوت، وهو يونس عليه السلام، {إِذ ذهبَ مغاضِبًا} أي: مراغمًا لقومه، فارًا عنهم، وغضب من طول دعوته إياهم، وشدة شكيمتهم، وتمادي إصرارهم، فخرج مهاجرًا عنهم، قبل أن يُؤمر، وقيل: وعدهم بالعذاب فلم يأتهم لميعادهم؛ لأجل توبتهم، ولم يشعر بها، فظن أنه كذبهم، فغضب من ذلك، فهو من باب المغالبة؛ للمبالغة؛ أو لأنه غضب لما رأى منهم من الإصرار، وغضبوا لمفارقته إياهم، وكان من حقه عليه السلام أن يصبر وينتظر الإذن الخاص من الله تعالى، فلما استعجل ابتلي ببطن الحوت، وقال ابن عباس: قال جبريلُ ليونس عليه السلام: انطلق إلى أهل نِينَوى فأنذرهم أن العذاب قد حضرهم، قال: ألتمس دابة، قال: الأمر أعجل من ذلك، فانطلق إلى السفينة فركبها، فاحتبست السفينة فساهموا فسهم، فجاءه الحوت يبصبص بذنبه، فنودي الحوت: إنا لم نجعل يونس لك رزقًا، إنما جعلناه لك حِرزًا، فالتقمه، ومرّ به على الأبُلة، ثم على دجلة، ثم مَرَّ به حتى ألقاه بنينَوَى. اهـ.
وقال وهب بن منبه رضي الله عنه: إنَّ يونس كان عبدًا صالحًا ضَيِّق الخلق، فلما حمل أثقال النبوة تفسخ منها تفسُّخَ الرّبَع تحت الحمل الثقيل، فقذفها وخرج هاربًا عنها، ولذلك أخرجه الله من أولي العزم، قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فاصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم مِنَ الرسل} [الأحقاف: 35]، وقال: {وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحوت} [القَلَم: 48]، أي: لا تلق أمري كما ألقاه. اهـ. وأما قول الحسن: مغاضبًا لربه، فلا يليق بمقام الأنبياء- عليهم السلام- إلا أن يحمل على أن خروجه بلا إذن كأنه مغاضب. والله تعالى أعلم.
ثم قال تعالى: {فظنَّ أن لن نقْدِرَ عليه} أي: لن نضيق عليه، أو لن نقدر عليه بالعقوبة، فهو من القدرة، ويؤيده قراءة من شدَّد، وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: دخلت يومًا على معاوية، فقال: لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة، فغرقت فيها، فلا أرى لنفسي خلاصًا إلا بك، قال: وما هي؟ فقرأ الآية... فقال: أو يظن نبي الله ألا يقدر عليه؟ قال: هذا من القدر لا من القدرة. اهـ.
وقيل: إنه على حذف الاستفهام. أي: أيظن أن لن نقدر عليه، وقيل: هو تمثيل لحاله بحال من ظن أن لن يقدر عليه، أي: تعامل معاملة من ظن أن لن نقدر عليه؛ حيث استعجل الفرار. قلت: لإعلاء مقامه كثرت مطالبته بالأدب، فحين خرج من غير إذن خاص؛ عُدَّ خروجه كأنه ظن ألا تنفذ فيه القدرة، وتمسك عليه السلام بالإذن العام، وهو الهجرة من دار الكفر، وهو لا يكفي في حق أمثاله، فعوقب بالسجن في بطن الحوت.
{فنادى في الظلمات} أي: في الظلمة الشديدة المتكاثفة كقوله: {ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ...} [البَقَرة: 17]، أو في ظلمة بطن الحوت والبحر والليل: {أن لا إِله إِلا أنتَ} أي: بأنه لا إله إلا أنت، أو تفسيرية، أي: قال: لا إله إلا أنت، {سبحانك} أي: أنزهك تنزيهًا لائقًا بك من أن يعجزك شيء، أو: تنزيهًا لك عما ظننتُ فيك، {إِني كنتُ من الظالمين} لنفسي؛ بخروجي عن قومي قبل أن تأذن لي، أو من الظالمين لأنفسهم بتعريضها للهلكة، وعن الحسن: ما نجاه، والله، إلا إقراره على نفسه بالظلم.
{فاستجبنا له} أي: أجبنا دعاءه الذي دعا في ضمن الاعتراف بالذنب على ألطف وجه وأحسنه. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ مَكْرُوبٍ يَدْعُو بِهَذا الدُّعَاءِ إلاّ اسْتُجِيبَ لَهُ» {ونجيناه من الغم}: الذلة والوحشة والوحدة، وذلك بأن قذفه الحوت إلى الساحل بعد أربع ساعات، وقيل: بعد ثلاثة أيام، {وكذلك نُنجي المؤمنين} أي: مثل ذلك الإنجاء الكامل نُنجي المؤمنين من غمومهم، إذا دعوا الله، مخلصين في دعائهم. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اسم الله الذي إذا دُعي به أجب، وإذا سُئل به أعطى» دعوة يونس بن متى، قيل: يا رسول الله، أليونس خاصة؟ قال: «بل هي عامة لكل مؤمن، ألم تسمع قول الله تعالى: {وكذلك ننجي المؤمنين}» وهنا قراءات في {نُنجي}، مذكورة في كتب القراءات، تركتها لطول الكلام فيها.
الإشارة: من تحققت له سابقة العناية لا تُبعده الجناية، ولا تُخرجه عن دائرة الولاية، بل يؤدب في الدنيا بالابتلاء في بدنه أو ماله، على قدر الجناية وعلو المقام، ثم يُرد إلى مقامه. وها هنا حكايات للصوفية- رضي الله عنهم- من هذا النوع، مِنْهَا: حكاية خير النساج رضي الله عنه، قيل له: أكان النسج صنعتك؟ قال: لا، ولكن كنتُ عاهدت الله واعتقدت ألا آكل الرطب، فغلبتني نفسي واشتريت رطلاً منه، فجلستُ لآكله، فإذا رجل وقف عليّ، وخنقني، وقال: يا عبد السوء، أتهرب من مولاك- وكان له عبد اسمه: خير أَبَقَ مِنْه، أَلقى الله شبهه عليَّ- فحملني إلى حانوته، وقال: اعمل عملك، أمرني بعمل الكرباس- وهو القطن- فدليت رجلي لأنسجه، فكأني كنت أعمله سنين، فبقيت معه أشهرًا، فقمتُ ليلة إلى صلاة الغداة، وقلت: إلهي لا أعود، فأصبحت، فإذا الشبه قد زال عني، وعُدتُ إلى صورتي التي كُنتُ عليها، فأُطلقت، فثبت عليّ هذا الاسم، فكان سببُه اتباع شهوتي.
ومنها قضية أبي الخير العسقلاني رضي الله عنه قال: اشتهيتُ السمك سنين، ثم ظهر له من وجه حلال، فلما مد يده ليأكل، أخذت شوكة من عظامه إصبعَه، فذهبت في ذلك، فقال: إلهي هذا لمن مد يده لشهوة من حلال، فكيف بمن مد يده لشهوة من حرام.
ومنها: قضية إبراهيم الخواص رضي الله عنه قال: كنت جائعًا في الطريق، فوافيت الرِّي- اسم بلدة- فخطر ببالي أن لي بها معارف، فإذا دخلتها أضافوني وأطعموني، فلمَّا دخلت البلد رأيت فيها مُنكرًا احتجت أن آمر فيه بالمعروف، فأخذوني وضربوني، فقلتُ في نفسي: من أين أصابني هذا، على جوعي؟ فنُوديت في سري: إنك سكنت إلى معارفك بقلبك، ولم تسكن إلى خالقك.
وأمثال هذا كثير بأهل الخصوصية، يُؤدبون على أقل شيء من سوء الأدب؛ لشدة قربهم، ثم يُردون إلى مقامهم. ومن هذا النوع قصة سيدنا يونس عليه السلام؛ حيث خرج من غير إذن خاص، فأدَّبه، ثم رده إلى النبوة والرسالة، وقد كنتُ سمعت من بعض الأشياخ أن أيوب عليه السلام إنما أصيب في ماله، لأنه كان بجوار ماله كافر، فكان يداريه؛ لأجل ماله، فأصيب فيه وفي بدنه؛ تأديبًا وتكميلاً له. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (89- 90):

{وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {و} اذكر خبر {زكريا إِذ نادى ربَّهُ} في طلب الولد، وقال: {ربِّ لا تذرني فَرْدًا}؛ وحيدًا بلا ولد يرثني، ثم ردّ أمره إليه؛ مستسلمًا، فقال: {وأنت خيرُ الوارثين}، فحسبي أنت، وإِنْ لم ترزقني وارثًا فلا أبالي؛ فإنك خير وارث، {فاستجبنا له} دعاءه، {ووهبنا له يحيى} ولدًا {وأصلحنا له زوجه} أي: أصلحناها للولادة بعد عُقمها، أو أصلحناها للمعاشرة بتحسين خلْقها. وكانت قبل سيئة الخلق، {إنهم} أي: ما تقدم من الأنبياء، {كانوا يُسارعون في الخيرات} أي: إنما استحقوا الإجابة إلى مطالبهم، وأسعفناهم فيما أمَّلوا؛ لمبادرتهم أبواب الخير، ومسارعتهم إلى تحصيلها، مع ثباتهم واستقرارهم في أصل الخير كله، وهو السر في إتيان: {في}، دون إلى، المشعرة بخلاف المقصود؛ من كونهم خارجين عن أصل الخيرات، متوجهين إليها، كما في قوله تعالى: {وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} [آل عِمرَان: 133].
{و} كانوا {يدعوننا رغَبًا ورَهَبًا}؛ طمعًا وخوفًا، وهما مصدران في موضع الحال، أو المفعول له، أي: راغبين في الثواب أو الإجابة، وراهبين من العقاب أو الخيبة، أو للرغبة والرهبة، {وكانوا لنا خاشعين}: متواضعين خائفين، أي: إنما نالوا هذه المراتب العلية، واستحقوا هذه الخصوصية؛ لاتصافهم بهذه الأوصاف الحميدة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: الغالب في وراثة الخصوصية الحقيقية أن تكون لغير ورثة النسب، وأما الخصوصية المجازية، التي هي مقام الصلاح أو العلم، فقد تكون لورثة النسب، وتكون لغيرهم. والخصوصية الحقيقية هي مقام الفناء والبقاء، والتأهل للتربية النبوية، ولا بأس بطلب وارث هذه الخصوصية، لئلا ينقطع النفع بها. وقد قيل، في قول الشيخ ابن مشيش رضي الله عنه: اسمع ندائي بما سمعت به نداء عبدك زكريا، إنه أشار إلى طلب الوارث الروحاني. والله تعالى أعلم.
وقوله تعالى: {إنهم كانوا يسارعون في الخيرات}، فيه إشارة إلى بيان سبب حصول الخصوصية؛ لأن بابها هو المسارعة إلى عمل الخيرات وأنواع الطاعات، وأوكدها ثلاثة: دوام ذكر الله، وحسن الظن بالله، وبعباد الله. وفي الحديث: «خصلتان ليس فوقهما شيء من الخير: حسن الظن بالله، وحسن الظن بعباد الله» وقوله: {ويدعوننا رَغَبًا ورهبًا}، هذه حالة الطالبين المسترشدين المتعطشين إلى الله، يدعونه رغبًا في الوصول، ورهبًا من الانقطاع والرجوع، وقد تكون للواصلين؛ رغبًا في زيادة الترقي، ورهبًا من الوقوف أو الإبعاد. وقال بعضهم: الرغب والرهب حاصلتان لكل مؤمن، إذ لو لم تكن رغبة لكان قنوطًا، وهو كفر، ولو لم تكن رهبة لكان أمنًا، والأمن كفر. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآية رقم (91):

{وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ (91)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {و} اذكر {التي أحصنت فرْجَها} على الإطلاق من الحلال والحرام، والتعبير عنها بالموصول؛ لتفخيم شأنها، وتنزيهها عما زعموه في حقها. {فنفخنا فيها من رُّوحِنَا} أي: أجرينا روح عيسى فيه وهو في بطنها، أو نفخنا في درع جيبها من ناحية روحنا، وهو جبريل عليه السلام، فأحدثنا بذلك النفخ عيسى عليه السلام، وإضافة الروح إليه تعالى؛ لتشريف عيسى عليه السلام، {وجعلناها وابنها} أي قضيتهما، أو حالهما، {آية للعالمين}، فإن من تأمل حالهما تحقق بكمال قدرته تعالى. وإنما لم يقل آيتين، كما قال: {وَجَعَلْنَا الليل والنهار آيَتَيْنِ} [الإسرَاء: 12]؛ لأن مجموعهما آية واحدة، وهي ولادتها إياه من غير فحل. وقيل: التقدير: وجعلناها آية وابنها كذلك، فآيةٌ مفعول المعطوف عليه، فحذف أحدهما لدلالة الآخر عليه. والله تعالى أعلم.
الإشارة: مَنْ حَصَّلَ التقوى في صغره، كان آية في كِبَرِهِ. تقول العامة: الثور الحراث في الربك يبان، وتقول الصوفية: البداية مجلاة النهاية. وقالت الحكماء: الصغر يخدم على الكبر. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (92- 94):

{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94)}
قلت: {أمة}: حال من {أمتكم} أي: متحدة أو متفقة، والعامل فيه ومعنى الإشارة، والإشارة إلى طريق الأنبياء المذكورين قبلُ.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {إِنّ هذه} الطريق والسيرة التي سلكها الأنبياء المذكورون، واتفقوا عليها، وهو التوحيد، هي {أُمتكم} أي: ملتكم التي يجب أن تكونوا عليها، ولا تخرجوا عنها، حال كونها {أمةً واحدةً}، غير مختلفة فيما بين الأنبياء- عليهم السلام- وإن اختلفت شرائعهم. وفي الحديث: «الأنْبِيَاءُ أبناء عَلاَّتٍ، أُمهَاتُهمْ شتَّى، وأبوهم واحد» والعلات: الضرائر، أي: شرائعهم مختلفة، وأبوهم واحد، وهو التوحيد. قال القشيري: {وأنا ربكم فاعبدون} أي: ربيتكم؛ اختيارًا، فاعبدوني؛ شكرًا وافتخارًا. اهـ. والخطاب للناس كافة.
{وتقطعوا أمرهم}، أصل الكلام: وتقطعتم في أمر دينكم وتفرقتم. إلاَّ أن الكلام صرف إلى الغيبة، على طريقة الالتفات؛ ليَنْعي عليهم ما أفسدوه في الدين، والمعنى: فجعلوا أمر دينهم فيما {بينهم} قِطَعًا، وصاروا أحزابًا متفرقة، كأنه يُنْهِي إلى أهل التوحيد قبائح أفعالهم، ويقول: ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين الله، الذي أجمعت عليه كافة الأديان؟ ثم توعدهم بقوله: {كُلٌّ إِلينا راجعون} أي: كل واحد، من الفرق المتقطعة، راجع إلينا بالبعث، فنجازيهم حينئذ بحسب أعمالهم.
ثم فصَّل الجزاء فقال: {فمن يعملْ} شيئًا {من الصالحات وهو مؤمنٌ} بالله ورسله وبما يجب الإيمان به. قال القشيري: (وهو مؤمن، أي: في المآل بأن يختم له به)، وكأنه يشير إلى الخاتمة؛ لأن من لم يختم له بالإيمان لا ثواب لأعماله، والعياذ بالله، {فلا كُفْرَانَ لسَعْيِهِ} أي: لا حرمان لثواب عمله، بل سعيُه مشكور مقبول، فالكفران مَثلٌ في حرمان الثواب، كما أن الشكر مثلٌ في إعطائه، وعبّر عن ذلك بالكفران، الذي هو ستر النعمة وجحدها؛ لبيان كمال تنزهه تعالى عنه. وعبّر عن العمل بالسعي؛ لإظهار الاعتداد به، {وإِنّا له} أي: لسعيه {كاتبون}؛ مُثبتون في صحائف أعمالهم، نأمر الحفظة بذلك، لا نغادر من ذلك شيئًا. والله تعالى أعلم.
الإشارة: الصوفية- رضي الله عنهم-، في حال سيرهم إلى الحضرة وسلوكهم في طريق التربية، مختلفون بحسب الأزمنة والأمكنة والأشخاص. وفي حال نهايتهم- وهو الوصول إلى حضرة الشهود والعيان، وإشراق شمس العرفان، الذي هو مقام الإحسان، ويُعبِّرون عنه بالفناء والبقاء، وهو التوحيد الخاص- متفقون، وفي ذلك يقول القائل:
عباراتنا شتى وحسْنُك واحد ** وكُلٌّ إلى ذاك الجَمَالِ يُشير

لأن ما كان ذوقًا ووجدًا لا يختلف، بل يجده كل من له ذوق سليم. نعم تتفاوت أذواقهم على حسب مشاربهم، ومشاربُهم على حسب إعطائهم نفوسَهم وبيعها لله، وتتفاوت أيضًا بحسب التخلية والتفرغ، وبحسب الجد والاجتهاد، وكلهم على بصيرة من الله وبينة من ربهم: نفعنا الله بذكرهم، وخرطنا في سلكهم، آمين.