فصل: تفسير الآيات (97- 98):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (90- 96):

{وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96)}
قلت: من قرأ {كسفًا}؛ بالتحريك: فهو جمع. ومن قرأ بالسكون: فمفرد. و{قبيلاً}: حال من {الله}. وحذف حال الملائكة؛ لدلالة الأول عليه. و{أن يؤمنوا}: مفعول ثان لمنَع. و{إلا أن قالوا}: فاعل {منع}.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وقالوا} أي: كفار قريش، عند ظهور عجزهم، ووضوح مغلوبيتهم بالإعجاز التنزيلي، وغيره من المعجزات الباهرة، معلِّلين بما لا يمكن في العادة وجوده، ولا تقتضي الحكمة وقوعه، من الأمور الخارقة للعادة، كما هو ديدن المبهوت المحجوج، قالوا للنبي- عليه الصلاة والسلام- في جمع من أشرافهم: إن مكة قليلة الماء، ففجر لنا فيها عينًا من ماء، وهو معنى قوله تعالى: {لن نُؤمن لك حتى تَفْجُرَ لنا من الأرض}؛ أرض مكة {يَنْبوعًا}؛ عينًا لا ينشف ماؤها. وينبوع: يفعول، من نبع الماء إذا خرج.
{أو تكون لك جنَّةٌ} أي: بستان يستر أشجاره ما تحتها من العرصة، {من نخيلٍ وعِنَبٍ فتفجرَ الأنهارَ} أي: تجريها بقوة، {خلالها}؛ في وسطها {تفجيرًا} كثيرًا، والمراد: إما إجراء الأنهار خلالها عند سقيها، أو إدامة إجرائها، كما ينبئ عنه الفاء، {أو تُسْقِطَ السماء كما زعمتَ علينا كِسَفًا}؛ قطعًا متعددة، أو قطعًا واحدًا، و{كما زعمت}: يعنون بذلك قوله تعالى: {إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرض أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السمآء} [سبأ: 9]، {أو تأتي بالله والملائكة قَبيلاً} أي: مقابلاً؛ نُعاينه جهرًا، أو ضامنًا وكفيلاً يشهد بصحة ما تدعيه، {أو يكون لك بيتٌ من زُخرفٍ} أي: ذهب. وقرئ به. وأصل الزخرفة: الزينة، {أو تَرْقَى في السماء} أي: في معارجها؛ فحذف المضاف. {ولن نُؤمن لرُقيك} أي: لأجل رُقيك فيها وحده {حتى تنزل} منها {علينا كتابًا} فيه تصديقك، {نقرؤه} نحن، من غير أن يتلقى من قبلك. وعن ابن عباس رضي الله عنه: قال عَبْدُ اللهِ بنُ أُميَّة لرسول صلى الله عليه وسلم- وكان ابن عمته-: لن أؤمن لكَ حَتَّى تتَّخذَ إلى السماء سُلَّمًا، ثم ترقى فيه وأنا أنظر، حتَّى تأتيها، وتأتي معك بصك منشور، معه أربعة من الملائِكَةِ يَشْهَدُونَ أنك كما تقول. اهـ. ثم أسلم عبد الله بعد ذلك. ولم يقصدوا بتلك الاقتراحات الباطلة إلا العناد واللجاج. ولو أنهم أوتوا أضعاف ما اقترحوا من الآيات، ما زادهم ذلك إلا مكابرة. وإلا فقد يكفيهم بعض ما شهدوا من المعجزات، التي تخر لها صُم الجبال.
قال تعالى لنبيه- عليه الصلاة والسلام-: {قلْ}؛ تعجبًا من شدة شكيمتهم. وفي رواية قال: {سبحان ربي}؛ تنزيهًا له من أن يتحكم عليه أو يشاركه أحد في قدرته.
أو تنزيهًا لساحته- سبحانه- عما لا يليق بها، من مِثل هذه الاقتراحات الشنيعة، التي تكاد السماوات يتفطرن منها، أو عن طلب ذلك، تنبيهًا على بطلان ما قالوه، {هل كنتُ إِلا بشرًا} لا مَلَكًا، حتى يتصور مني الرقي في السماء ونحوه، {رسولاً}؛ مأمورًا من قِبل ربي بتبليغ الرسالة، كسائر الرسل. وكانوا لا يأتون قومهم إلا بما يظهره الله على أيديهم، حسبما يلائم حال قومهم، ولم يكن أمر الآيات إليهم، ولا لهم أن يتحكموا على ربهم بشيء منها.
{وما مَنَعَ الناسَ} أي: الذين حكِيتْ أباطيلهم، {أنْ يُؤمنوا إِذ جاءهم الهُدى} أي: الوحي، وهو ظرف لمنع، أو يؤمنوا، أي: وما منعهم وقت مجيء الوحي المقرون بالمعجزات المستدعية للإيمان، أن يؤمنوا بالقرآن وبنبوتك، {إلا أن قالوا} أي: إلا قولهم: {أَبَعثَ اللهُ بشرًا رسولاً}، منكرين أن يكون الرسول من جنس البشر. وليس المراد أن هذا القول صدر من بعضهم؛ فمنع بعضًا آخر منهم، بل المانع هو الاعتقاد الشامل للكل، المستتبع بهذا المقول منهم. وإنما عبَّر عنه بالقول؛ إيذانًا بأنه مجرد قول يقولونه بأفواههم من غير روية، ولا مصداق له في الخارج. وقصر المانع من الإيمان فيما ذكر، مع أن لهم موانع شتى، إما لأنه معظمها، أو لأنه المانع بحسب الحال، أعني: عند سماع الجواب بقوله تعالى: {هل كنتُ إِلا بشرًا رسولاً}؛ إذ هو الذي يتشبثون به حينئذ، من غير أن يخطر ببالهم شبهة أخرى من شبههم الواهية.
{قلْ} لهم من قِبَلنا؛ تثبيتًا للحكمة، وتحقيقًا للحق المزيح للريب: {لو كان} أي: لو وُجد واستقر {في الأرض}؛ بدل البشر {ملائكةً يمشونَ مطمئنين} قارين ساكنين فيها، {لنزَّلنا عليهم من السماء مَلكًا رسولاً} يهديهم إلى الحق؛ لتمكنهم من الاجتماع به والتلقي منه. وأما عامة البشر فهم بمعزل من استحقاق المفاوضة مع الملائكة؛ لأنها منوطة بالتناسُب والتجانس، فبعث الملائكة إليهم مناقض للحكمة التي يدور عليها أمر التكوين والتشريع. وإنما يبعث الملك إلى الخواص، المختصين بالنفوس الزكية، المؤيدة بالقوة القدسية، فيتلقون منهم ويُبلغون إلى البشر.
{قل كفى بالله} وحده {شهيدًا} على أني أديتُ ما عليَّ من مواجب الرسالة، وأنكم فعلتم ما فعلتم من التكذيب والعناد. فهو شهيد {بيني وبينكم}، وكفى به شهيدًا، ولم يقل: بيننا؛ تحقيقًا للمفارقة، وإبانة للمباينة، {إِنه كان بعباده} من الرسل والمرسل إليهم، {خبيرًا بصيرًا}؛ محيطًا بظواهر أعمالهم وبواطنها، فيجازيهم على ذلك. وهو تعليل للكفاية. وفيه تسلية للرسول- عليه الصلاة والسلام- وتهديد للكفار، والله تعالى أعلم.
الإشارة: طلب الكرامات من الأولياء جهل بطريق الولاية، وسوء الظن بهم، إذ لا يشترط في تحقيق الولاية ظهور الكرامة، وأيُّ كرامة أعظم من كشف الحجاب بينهم وبين محبوبهم، حتى عاينوه وشاهدوه حقًا، وارتفعت عنهم الشكوك والأوهام، وصار شهود الحق عندهم ضروريًا، ووجود السِّوَى محالاً ضروريًا، فلا كرامة أعظم من هذه؟ وكلامنا مع العارفين، وأما الصالحون والعباد والزهاد فهم محتاجون إلى الكرامة؛ ليزداد إيقانهم، وتطمئن نفوسهم؛ إذ لم يرتفع عنهم الحجاب، ولم تنقشع عنهم سحابة الأثر.

.تفسير الآيات (97- 98):

{وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98)}
قلت: {على وجوههم}: حال من ضمير {نحشرهم}. و{عُميًا} الخ: حال أيضًا من ضمير {وجوههم}. و{مأواهم}: استئناف، وكذا: {كلما} إلخ.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ومَن يَهدِ اللهُ} إلى الحق الذي جاء من قبله على أيدي الرسل، {فهو المهتد} إليه، وإلى ما يؤدي إليه من الثواب، أو فهو المهتدي إلى كل مطلوب، {ومن يُضلل} أي: يخلق فيه الضلال، كهؤلاء المعاندين، {فلن تجد لهم أولياء من دونه} ينصرونهم من عذابه، أو يُهدونهم إلى طريقه، ويُوصلونهم إلى مطالبهم الدنيوية والأخروية. ووحد الضمير أولاً في قوله: {فهو المهتد}: مراعاة للفظ {من}، وجمع ثانيًا في {لهم}؛ مراعاة لمعناها: تلويحًا بوحدة طريق الحق، وتعدد طرق الضلال.
{ونحشرُهم}، فيه التفات من الغيبة إلى التكلم؛ إيذانًا بكمال الاعتناء بأمر الحشر، أي: ونسوقهم {يوم القيامة على وجوههم} أي: كابين عليها؛ سَحْبًا، كقوله: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النار على وُجُوهِهِمْ} [القمر: 48]، أو: مشيًا إلى المحشر بعد القيام، فقد رُوي أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف يمشون على وجوههم؟ قال: «الذِي أمْشَاهُمْ عَلَى أَقْدَامِهِمْ قَادِرٌ عَلَى أنْ يُمْشِيَهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ» حال كونهم {عُمْيًا وبُكمًا وصُمًّا}؛ لا يُبصرون ما يقر أعينهم، ولا ينطقون بما يُقبل منهم، ولا يسمعون ما يلذ مسامعهم، لمَّا كانوا في الدنيا لا يستبصرون بالآيات والعبر، ولا ينطقون بالحق ولا يستمعونه. ويجوز أن يُحشروا، بعد الحساب، من الموقف إلى النار، مَؤُوفي القوى والحواس. وأن يُحشروا كذلك، ثم تعاد إليهم قواهم وحواسهم، فإنَّ إدراكاتهم بهذه المشاعر في بعض المواطن مما لا ريب فيه.
{مأواهم جهنم}؛ هي مسكنهم، {كلما خَبَتْ}؛ خمدت {زدناهم سعيرًا}؛ توقدًا، أي: كلما سكن لهبها، وأكلت جلودهم ولحومهم، ولم يبق فيهم ما تتعلق به النار وتحرقه، زدناهم توقدًا؛ بأن بدلناهم جلودًا غيرها فعادت ملتهبة ومسعرة. ولعل ذلك عقوبة على إنكارهم البعث مرة بعد مرة، ليروها عيانًا، حيث لم يعلموها برهانًا، كما يُفصح عنه قوله: {ذلك} أي ذلك العذاب {جزاؤهم بأنهم}؛ بسبب أنهم {كفروا بآياتنا} العقلية والنقلية، الدالة على وقوع الإعادة دلالة واضحة. {وقالوا}؛ منكرين البعث أشد الإنكار: {أئذا كُنَّا عظامًا ورُفاتًا أَئِنا لمبعوثون خَلقًا جديدًا} أي: أنوجدُ خلقًا جديدًا بعد أن صِرنا ترابًا؟ و{خلقًا}: إما مصدر مؤكد من غير لفظه، أي: لمبعوثون مبعثًا جديدًا، أو حال، أي: مخلوقين مستأنفين.
الإشارة: من يهده الله إلى صريح المعرفة وسر الخصوصية فهو المهتد إليها، يهديه أولاً إلى صحبة أهلها، فإذا تربى وتهذب أشرقت عليه أنوارها. ومن يُضلله عنها، فلا ينظر ولا يهتدي إلى صحبة أهلها، فيُحشر يوم القيامة محجوبًا عن الله، كما عاش محجوبًا. يموت المرء على ما عاش عليه، ويُبعث على ما مات عليه، لا يُبصر أسرار الذات في مظاهر النعيم، ولا ينطق بالمكالمة مع الرحمن الرحيم، ولا يسمع مكالمة الحق مع المقربين؛ وذلك بسبب إنكاره لأهل التربية في زمانه، وقال: لا يمكن أن يبعث الله من يحيي الأرواح الميتة بالجهل؛ بالمعرفة الكاملة. وفيه إنكار لعموم القدرة الأزلية، وتحجير على الحق. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (99- 100):

{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)}
قلت: {وجعل}: عطف على {قادر}؛ لأنه في قوة قدر، أو استئناف. و{لو أنتم}: الضمير: فاعل بفعل يفسره ما بعده، كقول حاتم:
لَوْ ذَاتُ سِوَارٍ لَطَمَتْني

وفائدة ذلك الحذف والتفسير؛ للدلالة على الاختصاص والمبالغة. وقيل في إعرابه غير هذا.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {أوَ لم يَروا} أي: أوَ لم يتفكروا ولم يعلموا {أنَّ الله الذي خلق السماواتِ والأرضَ} من غير مادة، مع عِظمها، {قادرٌ على أن يخلق مثلهم} في الصِّغر والحقارة. على أن المثل مقحم، أي: على أن يخلقهم خلقًا جديدًا؛ فإنهم ليسوا أشد خلقًا منهم، ولا الإعادة بأصعب من الإبداء، {وجعل لهم} أي: لموتهم وبعثهم {أجلاً} محققًا {لا ريب فيه} وهو: القيامة. {فأبى الظالمون إِلا كفورًا}؛ إلا جحودًا، وضع الظاهر موضع الضمير؛ تسجيلاً عليهم بالظلم وتجاوز الحد فيه.
{قلْ} لهم: {لو أنتم تملكونَ خزائنَ رحمةِ ربي}؛ خزائن رزقه وسائر نعمه التي أفاضها على كافة الموجودات، {إِذًا لأمْسَكْتُم}؛ لبخلتم، {خشيةَ الإِنفاق}؛ مخافة النفاد بالإِنفاق، إذ ليس في الدنيا أحد إلا وهو يختار النفع لنفسه، ولو آثر غيره بشيء فإنما يُؤثره لغرض يفوقه، فهو إذًا بخيل بالإضافة إلى وجود الله سبحانه، إلا من تخلق بخلق الرحمن؛ من الأنبياء وأكابر الصوفية. {وكان الإِنسانُ قَتورًا}؛ مبالغًا في البخل؛ لأن مبني أمره على الحاجة والضنة بما يحتاج إليه، وملاحظة العوض فيما يبذل. يعني: أن طبع الإنسان ومنتهى نظره: أن الأشياء تتناهى وتفنى، وهو لو ملك خزائن رحمة الله لأمسك خشية الفقر، وكذلك يظن أن قدرة الله تقف دون البعث، والأمر ليس كذلك، بل قدرته لا تتناهى، فهو يخترع من الخلق ما يشاء، ويخترع من الأرزاق ما يريد، فلا يخاف نفاد خزائن رحمته. وبهذا النظر تتصل الآية بما قبلها. انظر ابن عطية.
قلت: ويمكن أن تتصل في المعنى بقوله: {أَبعثَ اللهُ بشرًا رسولاً}، فكأنَّ الحق تعالى يقول لهم: لو كانت بيدكم خزائن رحمته، لخصصتم بالنبوة من تريدون، لكن ليست بيدكم، ولو كانت بيدكم؛ تقديرًا، لأمسكتم خشية الإنفاق؛ لأن طبع الإنسان البخل وخوف الفقر، فهو كقوله تعالى: {أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ العزيز الوهاب} [ص: 9]، بعد قوله: {وعجبوا أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌ مِّنْهُمْ} [ص: 4]. والله تعالى أعلم.
الإشارة: الحق تعالى قادر على أن يخلق ألف عالمَ في لحظة، وأن يفنى ألف عالم في لحظة، فلا يعجزه شيء من الممكنات. وكما قدر أن يحيي الإنسان بعد موته الحسي؛ هو قادر على أن يحييه بعد موته المعنوي بالجهل والغفلة، على حسب ما سبق له في المشيئة، وجعل لذلك أجلاً لا ريب فيه، فلا يجحد هذا إلا من كان ظالمًا كفورًا. قل لمن يخصص الولاية بنفسه، أو بأسلافه، ويُنكر أن يفتح الله على قوم كانوا جُهالاً: لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذًا لأمسكتم الخصوصية عندكم؛ خشية أن ينفد ما عندكم، وكان الإنسان قتورًا، لا يُحب الخير إلا لنفسه.

.تفسير الآيات (101- 104):

{وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)}
قلت: قال في الأساس: ثبره الله: أهلكه هلاكًا دائمًا، لا ينتعش بعده، ومن ثَم يدعو أهلُ النار: واثبوراه. وما ثبرك عن حاجتك: ما ثبطك عنها. وهذا مثبَرُ فلانة: لمكان ولادتها، حيث يثبرها النفاس. وفي القاموس: الثبر: الحبْسُ والمنع، كالتثبير والصرف عن الأمر وعن الحبيب، واللعن والطرد. والثبور: الهلاك والويل والإهلاك. اهـ. و{إذا جاءهم}: إما متعلق بآياتنا، أو بقلنا محذوف.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ولقد آتينا موسى تسع آيات بيناتٍ}؛ واضحات الدلالة على نبوته، وصحة ما جاء به من عند الله. وهي: العصا، واليد، والجراد، والقُمل، والضفادع، والدم، والطوفان، والسنون، ونقص الثمرات. وقيل: انفجار الماء من الحجر، ونتق الطور، وانفلاق البحر، بدل الثلاث. وفيه نظر؛ فإن هذه الثلاث لم تكن لفرعون، وإنما كانت بعد خروج سيدنا موسى عليه السلام. وعن صفوان بْن عسال: أن يهوديًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عنها فقال: «ألاَّ تُشْرِكُوا به شَيْئًا، ولا تَسْرقُوا، ولا تَزْنُوا، ولا تَقْتُلُوا النَّفس التِي حَرَّم اللهُ إلاَّ بالحَقِّ، ولا تَسْحُروا، ولا تأكُلُوا الرِّبَا، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سُلْطَانٍ ليَقْتُلَهُ، ولا تَقذفُوا المُحْصَنَة، ولا تَفِرُّوا مِنَ الزَّحْفِ، وعليكم، خاصَّة اليهود، ألاَّ تَعْدُوا في السَّبْتِ» فقبَّل اليهوديُ يَدَه ورجْلَه- عليه الصلاة والسلام.
قلت: ولعل الحق تعالى أظهر لهم تسعًا، وكلفهم بتسع، شكرًا لما أظهر لهم، فأخبر- عليه الصلاة والسلام- السائل عما كلفهم به؛ لأنه أهم، وسكت عما أظهر لهم؛ لأنه معلوم. وإنما قبَّل السائلُ يده؛ لموافقته لما في التوراة، وقد علم أنه ما علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالوحي، وقوله عليه الصلاة والسلام: «وعليكم، خاصة اليهود، ألا تعدوا»، حكم مستأنف زائد على الجواب، ولذلك غيَّر فيه سياق الكلام.
قال تعالى: {فسلْ بني إسرائيل} أي: سل، يا محمد، بني إسرائيل المعاصرين لك عما ذكرنا من قصة موسى؛ لتزداد يقينا وطمأنينة، أو: ليظهر صدقك لعامة الناس، أو: قلنا لموسى: سل بني إسرائيل مِن فرعون، أي: اطلبهم منه؛ ليرسلَهم معك، أو سل بني إسرائيل أن يعضدوك ويكونوا معك. ويؤيد هذا: قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فَسَال}؛ على صيغة الماضي، بغير همز، وهي لغة قريش. {إِذْ جاءهم} أي: آتينا موسى تسع آيات حين جاءهم بالرسالة، أو قلنا له: سل بني إسرائيل حين جاءهم بالوحي. {فقال له فرعونُ} حين أظهر له ما آتيناه من الآيات، وبلغة ما أرسل به: {إِني لأظنك يا موسى مسحورًا} أي: سُحرت فتخبط عقلك.
{قال} له موسى: {لقد علمتَ} يا فرعون، {ما أنزل هؤلاء} الآيات التي ظهرت على يدي {إِلا ربُّ السماوات والأرض}؛ خالقهما ومدبرهما، ولا يقدر عليها غيره، حال كونها {بصائرَ}؛ بينات تبصرك صدقي، ولكنك تعاند وتكابر، وقد استيقنتها أنفسكم، فجحدتم؛ ظلمًا وعلوًا، {وإِني لأظنك يا فرعونُ مثبورًا} أي: مهلكًا مقطوعًا دابرك، أو مغلوبًا مقهورًا، أو مصروفًا عن الخير.
قابل موسى عليه السلام قول فرعون: {إِني لأظنك يا موسى مسحورًا} بقوله: {وإني لأظنك يا فرعون مثبورًا}؛ وشتان ما بين الظنين؛ ظنُّ فرعون إفك مبين، وظن موسى حق اليقين؛ لأنه بوحي من رب العالمين، أو من تظاهر أماراته.
{فأراد فرعون أن يستفزهم} أي: يستخفهم ويزعجهم {من الأرض}؛ أرض مصر، {فأغرقناه ومَنْ معه جميعًا}؛ فعكسنا عليه علمه ومكره، فاستفززناه وقومه من بلده بالإغراق. {وقلنا من بعده} من بعد إغراقه {لبني إسرائيل اسكنُوا الأرضَ} التي أراد أن يستفزكم هو منها. أو أرض الشام. وهو الأظهر، إذ لم يصح أن بني إسرائيل رجعوا إلى مصر بالسكنى. وانظر عند قوله: {وَأَوْرَثْنَاهَا بني إِسْرَائِيلَ} [الشُّعَرَاء: 59] {فإِذا جاء وعد الآخرة} أي: الحياة الآخرة، أو الدار الآخرة، أي: قيام الآخرة، {جئنا بكم لفيفًا}؛ مختلطين إياكم وإياهم، ثم نحكم بينكم ونميز سعداءكم من أشقيائكم. واللفيف: الجماعات من قبائل شتى. والله تعالى أعلم.
الإشارة: لا ينفع في أهل الحسد والعناد ظهور معجزة ولا آية، ولا يتوقف عليها من سبقت له العناية، لكنها تزيد تأييدًا، وطمأنينة لأهل اليقين، وتزيد نفورًا وعنادًا، لأهل الحسد من المعاندين. وبالله التوفيق.