فصل: تفسير الآيات (99- 111):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (75- 82):

{وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ (82)}
يقول الحق جلّ جلاله: {ولقد نادانا} أي: دعانا {نوحٌ} حين أيس من قومه بقوله: {أَنِّى مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ} [القمر: 10] أو: دعانا؛ لِنُنجيه من الغرق، {فَلَنِعْمَ المجيبون} أي: فأجبناه أحسن الإجابة، ونصرناه على أعدائه، وانتقمنا منهم بأبلغ ما يكون، فوالله لَنِعْمَ المجيبون نحنُ، فحذف القسم؛ لدلالة اللام عليه. وحذف المخصوص، والجمع؛ دليل العظمة والكبرياء. {ونجيناه وأهلَه} ومَن آمن به وأولاده المؤمنين {من الكَرْبِ العظيم} وهو غمّ الغرق، أو: إذاية قومه، {وجعلنا ذريتَه هم الباقين} وقد فني غيرهم. قال قتادة: الناسُ كلهم من ذرية نوح، وكان لنوح عليه السلام ثلاثة أولاد: سام وهو أبو العرب وفارس والروم وحام وهو أبو السودان، من المشرق إلى المغرب ويافث وهو أبو الترك ويأجوج ومأجوج وقد نظمه بعضهم، فقال:
العرب والروم وفارس اعلمن ** أولاد سام فيهم الخير كَمَن

من نسل حام نشا السودان ** شرقاً وغرباً ذا له برهان

يأجوج مأجوج من الصقالبة ** ليافث لا خير فيهم قاطبه

{وتركنا عليه في الآخِرِين} أي: وأبقينا عليه الثناء الحسن في الأمم الآخِرِين، الذين يأتون بعده من الأنبياء والأمم إلى يوم القيامة، {سلامٌ على نوح}: مبتدأ وخبر، استئناف، {في العالمين} يعني: أنهم يُسلمون عليه تسليماً، ويدعون له، أي: ثبتت هذه التحية فيهم، ولا يخلو أحد منهم منها، كأنَّ الله أثبت التسليم على نوح وأدامه في الملائكة والثقلين، يسلّمون عليه عن آخرهم. {إِنا كذلك نجزي المحسنين} فنُكرمهم ونُحييهم، وهو تعليل لما فعل بنوح من التكرمة السنية، بأنه مجازاة له على إحسانه، {إِنه من عبادنا المؤمنين} علّل كونه محسناً بأنه كان عبداً مؤمناً؛ ليريك جلاله محلّ الإيمان. {ثم أغرقنا الآخَرِين} أي: الكافرين.
ذكر في كتاب حياة الحيوان، عن القشيري: أن العقرب والحية أتيا نوحاً عليه السلام فقالتا: احملنا معك، ونحن نعاهدك ألا نضر أحداً ذكرك، فحملهما. فمَن قرأ، حين يخاف مضرتهما، حين يمسي وحين يصبح: سلام على نوح في العالمين، ومحمد في المرسلين، إنا كذلك نجزي المحسنين، إنه من عبادنا المؤمنين، ما ضرتاه. اهـ. وقال نبينا عليه الصلاة والسلام: «مَن قال حين يُمسي وحين يُصبح: أعوذ بكلمات الله التامات من شرِّ ما خَلَقَ، لم يضره شيء».
الإشارة: إذا تحقق الإيمان والإحسان في عبد أُعطي ثلاث خصال: نفوذ الدعوة، والثناء الحسن بعده، والبركة في الذرية، كل ذلك مقتبس من قضية نوح عليه السلام.

.تفسير الآيات (83- 87):

{وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آَلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87)}
قلت: {أَئِفكاً}: مفعول له، و{آلهة}: مفعول {تُريدون}، أي: أتريدون آلهة من دون الله إفكاً وزُوراً. وإنما قدَّم المفعول به على الفعل للعناية له، وقدّم المفعول له على المفعول به؛ لأنه كان الأهم عنده أن يكافحهم بأنهم على إفك وباطل في شركهم، ويجوز أن يكونَ {إفكاً} مفعولاً به، أي: أتريدون إفكاً. ثم فسّر الإفك بقوله: {آلهة دون الله} على أنها إفك في نفسها، أو: حالاً، أي: أتريدون آلهة من دون الله آفكين.
يقول الحق جلّ جلاله: {وإِنَّ من شيعتهِ} أي: نوح {لإِبراهيمَ} أي: ممن شايعه على أصول الدين، وإن اختلفا في الفروع، أو: شايعه على التصلُّب في دين الله، ومصابرة المكذِّبين. وكان بين نوح وإبراهيم ألفان وستمائة وأربعون سنة، وما كان بينهما إلا نبيَّان: هود، وصالح. {إِذْ جاء ربَّه}: متعلق بما في الشيعة من معنى المشايعة، أي: وممن شايعه على دينه إبراهيم، حين جاء ربه {بقلبٍ سليمٍ} من الشرك، أو: من آفات القلوب، ومعنى المجيء بقلبه ربه: أنه أخلص لله قلبه، وعلم ذلك منه.
{إِذْ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون} {إذ}: بدل من الأولى، أو: ظرف لجاء، أو: لسليم، {أئِفكاً آلهةً دون الله تريدون} أتريدون آلهة تعبدونها من دون الله إفكاً وزوراً وباطلاً. {فما ظَنُّكُم بربِّ العالمين} يفعل بكم إذا لقيتموه، وقد عبدتم غيره، فما تقولون، وكيف بكم في مقام الخجل الذي بين أيديكم، وإن كنتم اليوم غائبين عنه؟ أو: أيّ شيء ظنكم بمَن هو حقيق بالعبادة؛ لكونه رب العالمين، حتى تركتم عبادته، وأشركتم معه غيره، أَو أمنتم عذابه؟
الإشارة: لا يكون العبد إبراهيميًّا حنيفيًّا حتى يقدس قلبه مما سوى الله، ويرفض كلَّ ما عبده الناسُ من دون الله، كحب الدنيا، والرئاسة، والجاه، فيجيء إلى الله بقلب سليم، أي: مقدس من شوائب الطبيعة، فهو سالم مما دون الله؛ لاتصاله بالله. قال القشيري: {بقلب سليم} لا آفة فيه. ويقال: لديغٍ مِن محبة الأغيار، أو: من الحظوظ، أو: من الاختيار والمنازعة. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (88- 98):

{فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آَلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98)}
يقول الحق جلّ جلاله: {فَنَظَر} إبراهيم {نظرةً في النجوم} وذلك أن قومه كانوا يتعاطون علم النجوم، فعاملهم بما يعلمون؛ لئلا ينكروا عليه تخلُّفه. وكانوا يقولون: إذا طلع سهيل مقابل الزهرة سَقِمَ مَن نظر إليه، فاعتلّ عليهم؛ لأنه نظر إليه ليتركوه. وذلك أنه كان لهم من الغد عيد ومجمع، وكانوا يدخلون على أصنامهم، فيقربون إليها القرابين، ويضعون بين أيديها الطعام، قبل خروجهم إلى عيدهم، لتبارك عليه، فإذا قَدِمُوا أكلوه. فلما نظر إلى النجوم، قال: {إِني سقيمٌ} إني مشارف للسقم وهو الطاعون، وكان أغلب الأسقام عليهم، وكانوا يخافون العدوى ليتفرقوا عنه، فهربوا منه إلى عيدهم، وتركوه في بيت الأصنام، ليس معه أحد، ففعل بالأصنام ما فعل. قيل: إن علم النجوم كان حقًّا ثم نُسخ الاشتغال به.
والكذب حرام إلا إذا عرّض. والذي قاله إبراهيم عليه السلام مِعْراض من الكلام، أي: سأسقم، أو: مَنْ في عنقه الموت سقيم، أو: سقيم مما أرى من مخالفتكم وعبادتكم الأصنام. وعلى كل حال لم يلم إبراهيمُ بشيء من الكذب، وإنما عرّض. وأيضاً: إنما كان لمصلحة، وقد أُبيح لها، كالجهاد ونحوه. وفي الحديث: «ما كذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات، ما منها واحدة إلا وهو يناضل عن دينه؛ قوله: {إِني سقيم}، وقوله: {فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} [الأنبياء: 63]، وقوله لسارة: هي أختي».
قال السدي: خرج معهم إلى بعض الطريق، فوقع في نفسه كيده آلهتهم، فقال: إني سقيم أشتكي رجلي. {فتولوا عنه مدبرين} أعرضوا عنه مولين الأدبار، {فراغَ إِلى آلهتهم} فمال إليها سرًّا، وكانت اثنين وسبعين صنماً من خشب، وحديد، ورصاص، ونحاس، وفضة، وذهب، وكان كبيرهم من ذهب، في عنقه ياقوتتان، {فقال} لها، استهزاء: {ألا تأكلون} من الطعام الذي وُضع عندكم، {ما لكم لا تنطقون}؟ والجمع بالواو والنون؛ لأنه خاطبها خطاب مَن يعقل. {فَرَاغَ عليهم} فمال إليهم سرًّا، فضربهم {ضرباً باليمين} أي: ضرباً شديداً بالقوة؛ لأن اليمين أقوى الجارحتين وأشدّهما، أو: بالقوة والمتانة، أو: بسبب الحلف الذي سبق منه بقوله: {وَتَاللهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم} [الأنبياء: 57].
{فأقبلوا إِليه} إلى إبراهيم {يَزِفُّونَ}: يسرعون، من: الزفيف، وهو الإسراع. وكان قد رآه بعضهم يكسرها. فأخبرهم، فلما جاء مَن لم يره قال لمَن رآه: {مَن فَعَلَ هَذَا بِئَالِهَتِنَآ} [الأنبياء: 59] فأجابوه على سبيل التعريض: {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء: 60]، ثم قالوا بأجمعهم: نحن نعبدها وأنت تكسرها؟ فأجابهم بقوله: {قال أتعبدون ما تنحتون}: ما تنجزونه بأيديكم من الأصنام؟ {واللهُ خلقكم وما تعملون} أي: وخلق ما تعملونه من الأصنام: أو: {ما} مصدرية، أي: وخلق أعمالكم. وهو دليلنا في خلق الأفعال لله تعالى، أي: الله خالقكم وخالق أعمالكم، فلِمَ تعبدون غيره؟!.
{قالوا ابْنُوا له} أي: لأجله {بُنياناً} من الحجر، طوله ثلاثون ذراعاً، وعرضه عشرون ذراعاً، {فَأَلْقُوه في الجحيم} في النار الشديدة، وقيل: كل نار بعضها فوق بعض فهو جحيم. فبنوه وملؤوه حطباً، وأضرموه ناراً، {فأَرادوا به كيداً} بإلقائه في النار، {فجعلناهم الأسفلين} المقهورين عند إلقائه، حين خرج من النار سالماً، فعلاهم بالحُجة والنصرة. قيل: ذكر أسفل: هنا؛ لمناسبة ذكر البناء، بخلاف سورة الأنبياء. {وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ} [الأنبياء: 70].
الإشارة: كلُّ عبدٍ مأمور بكسر صنمه، وهو: ما تَرْكَنُ إليه نفسُه من حظٍّ، أو هوىً، أو علم، أو عمل، أو حال، أو مقام. وفي الإشارات عن الله تعالى: لا تركنن لشيء دوننا، فإنه وبال عليك، وقاتلٌ لك، فإن ركنتَ إلى العلم تتبعناه عليك، وإن أويتَ إلى العمل رددناه إليك، وإن وثقت بالحال وقفناك معه، وإن أنست بالوجد استدرجناك فيه، وإن لحظت إلى الخلق وكلناك إليهم، وإن اعتززت بالمعرفة نكرناها عليك، فأيّ حيلة لك، وأيّ قوة معك؟ فارضنَا لك ربًّا حتى نرضاك لنا عبداً. اهـ. ولا بأس أن يتعلّل لنفسه، ويحتال عليه بحيل، كما تعلّل الخليل للقعود لكسر الأصنام، لعلها تُوافقه على ترك ما تهواه وتركن إليه، كما قال القائل:
فاحتلْ على النفس فرُبّ حيله ** أنفع في النصرة من قبيله

.تفسير الآيات (99- 111):

{وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111)}
قلت: {معه}: يتعلق بمحذوف، أي: بلغ السعي يسعى معه، ولا يتعلق ببلغ؛ لأنه يقتضي الاشتراك في البلوغ، ولا بالسعي؛ لأن المصدر لا يتقدم عليهم عموله، إلا أن يُقال: يتسع في الظروف ما لا يتسع في غيرها.
يقول الحق جلّ جلاله: {وقال} إبراهيمُ: {إِني ذاهبٌ إِلى ربي} إلى موضع أمرني ربي بالذهاب إليه، وهو الشام، أو: إلى مرضاة ربي، بامتثال أمره بالهجرة أو: إلى المكان الذي أتجرّد فيه إلى عبادة ربي، {سَيَهدين} أي: سيرشدني إلى ما فيه صلاح ديني، أو: إلى مقصدي، وإنما بتَّ القول لسبق وعده؛ لأن الله وعده بالهداية، أو: لفرط توكله، أو: للبناء على عادته معه. ولم يكن كذلك حال موسى عليه السلام حيث عبَّر بما يقتضي الرجاء.
ثم قال: {ربِّ هَبْ لي من الصالحين} بعض الصالحين، يُعينني على الدعوة والطاعة، ويُونسي في الغربة. يريد الولد؛ لأن لفظ الهبة غلب على الولد. {فبشَّرناه بغلامٍ حليم} انطوت البشارة على ثلاث: على أنّ الولد ذكر، وأنه يبلغ أوانَ الحُلم؛ لأن الصبيَّ لا يُوصف بالحلم، وأنه يكون حليماً، وأيّ حليم أعظم من حلمه، حيث عرض عليه أبوه الذبح وهو مراهق، فقال: {سَتَجِدُنِى إِن شَآءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102]، ثم استسلم. وقيل: ما نعت الله نبيًّا بالحلم إلا إبراهيم وابنَه؛ لمَعَزَّةِ وجوده.
{فلما بلغ معه السعيَ} أي: فلما وُجدَ وبلغ أن يسعى مع أبيه في أشغاله وحوائجه، أي: الحدّ الذي يقدر على السعي مع ابنه، وكان إذ ذاك ابن ثلاث عشرة سنة. وقيل: سبع سنين. {قال يا بُني إِني أرى في المنام أَنِّي أَذْبَحُك} أي: قيل له في المنام: اذبح ابنك. ورؤيا الأنبياء وحي، كاليقظة. قال الكواشي: لم يرَ أنه يذبحه في النوم، ولكنه أُمر في النوم بذبحه، بدليل قوله: {افعل ما تؤمر}. وقيل: رأى أنه يُعالج ذبحه، ولم يرَ إراقة الدم. وقال قتادة: رؤيا الأنبياء حق، إذا رأوا شيئاً فعلوه. وفي رؤيا ذلك في النوم وتحققه إياه حتى عمل بما رأى، إيذان بأن الأنبياء قد تجوهرت نفوسهم، فلا مجال للكذب فيما يُوحى إليهم، وفيما يصدر عنهم، فهم صادقون مصدِّقون، فليس للشيطان عليهم سبيل، وإيذان بأن مَن كان في منامه صادقاً كان يقظته أولى بالصدق. اهـ.
وإنما لم يقل: {رأيت}؛ لأنه رأى مرة بعد أخرى، فقد قيل: رأى ليلة التروية كأنّ قائلاً يقول له: إن الله يأمرك بذبح ابنك هذا، فلما أصبح روَّى في ذلك من الصباح إلى الرواح؛ ليعلم أَمِنَ اللهِ هذا الحلم، أم لا، فسُمِّي يوم التروية، فلما أمسى رأى مثل ذلك، فعرف أنه من الله، فسُمِّي يوم عرفة، ثم رأى مثله في الليلة الثالثة، فهمَّ بنحره، فسُمِّي يوم النحر.
واخْتُلِف مَن المخاطب المأمور بذبحه، فقال أهل الكتابين: هو إسحاق، وبه قال عمر، وعليّ، وابن مسعود، والعباس، وابنه عبد الله، وكعب الأحبار، وسعيد بن جبير، وقتادة، ومسروق، وعكرمة، والقامس بن أبي بَرّة، وعطاء، ومقاتل، والزهري، والسدي. قال سعيد بن جبير: أُريَ إبراهيم ذبح إسحاق في المنام، فسار به على البراق مسيرة شهر في غداة واحدة، حتى أتى المنحر بمِنى، فلما صرف عنه الذبح، وأمره أن يذبح الكبش، وذبحه، سار به مسيرة شهر في روحة واحدة، طُويت له الأودية والجبال. اهـ.
واحتج أهل هذا القول بأنه ليس في القرآن أن إبراهيم بُشِّر بولد إلا بإسحاق، وقال هنا: {فبشرناه بغلام} فتعيَّن أنه إسحاق؛ إذ هو المبَشَّر به في غير هذه الآية، وبأن الذي كان يسعى معه في حوائجه وأشغاله إنما هو إسحاق، وأما إسماعيل فإنما كان بمكة غائباً عنه، ولم يثبت في الصحيح أن إبراهيم قَدِمَ مكة إلا ثلاث مرات وإسماعيل متزوج. وبما رُوي أن موسى عليه السلام قال: يا رب؛ الناس يقولون: إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فبمَ ذلك؟ فقال: إن إبراهيم لم يعدل بي شيئاً قط إلا اختارني، وإن إسحاق جاد لي بالذبح، وهو لي بغير ذلك أجود، وإن يعقوب كلما زدته بلاءً زاد لي حسن ظن. وقال يوسف للملك: أترغب أن تأكل معي، وأنا والله يوسف بن يعقوب، نبي الله، ابن إسحاق، ذبيح الله، ابن إبراهيم، خليل الله. وبما رُوي أن نبينا عليه الصلاة والسلام سُئل: أي النسب أشرف؟ فقال: «يوسف صدِّيق الله، ابن يعقوب إسرائيل الله، ابن إسحاق ذبيح الله، ابن إبراهيم خليل الله» وفي الجامع الصغير: «الذبيح إسحاق» رواه الدارقطني عن ابن مسعود، والبزار وابن مردويه عن العباس، وأبي هريرة.
وقال آخرون: هو إسماعيل، وبه قال عُمر، وأبو الطفيل عامر بن واثلة، وسعيد بن المسيب، والشعبي، ويوسف بن مهران، ومجاهد، وابن عباس أيضاً، وغيرهم. واحتجُّوا بأن البشارة بإسحاق متأخرة عن قصة الذبح. وبقوله عليه السلام: «أنا ابن الذبيحين» فأحدهما: جده إسماعيل، والآخر: أبوه، فإن عبد المطلب نذر أن يذبح ولداً إن سَهُل له حفر زمزم، أو بلغ بنوه عشراً، فلما سَهُل، أقرع بينهم، فخرج السهم على عبد الله، فَفَدَاه بمائة من الإبل، ولذلك سنت الدية مائة. وبأن ذلك كان بمكة، وكان قرنا الكبش معلَّقين بالكعبة حتى احترقا معها في أيام ابن الزبير، ولم يكن إسحاق ثمة. اهـ.
وقد يُجاب بأن البشارة أولاً كانت بولادته، والثانية بنبوته، أو: بسلامته. وبأن الثانية تفسير للأولى، كأنه قال بعدما فرغ من ذكر المبشر به: وكانت تلك البشارة بإسحاق. قاله الفاسي في حاشيته.
وعن الحديث بأن العم يُطلق عليه أباً، كقوله تعالى: {نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ ءَابَآئِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة: 133] وكان عمًّا له، وتقدّم عن ابن جبير أن إبراهيم سار بابنه على البراق إلى مكة وحيث كان الذبح بها بقي القربان فيها. والله تعالى أعلم بغيبه.
ولَمَّا قال له: {إِني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر} به {ستجدني إِن شاء الله من الصابرين} على الذبح. رُوي أن إبراهيم قال لابنه: انطلق بنا نُقرب قرباناً لله تعالى، فأخذ سكيناً وحبلاً، ثم انطلق معه، حتى إذا ذهب بين الجبال، قال له الغلام: يا أبتِ أين قربانك؟ فقال: {يا بُني إِني أرى في المنام...} الآية، فقال: يا أبت خذ بناصيتي، واجلس بين كتفي، حتى لا أؤذيك إذا أصابتني الشفرة، ولا تذبحني وأنا ساجد، واقرأ على أمي السلام، وإن رأيت أن تردّ قميصي إلى أمي فافعل، عسى أن يسليها عني. قال إبراهيم: نِعْمَ العون أنت على أمر الله تعالى. فربطه إبراهيم عليه السلام ثم جعل يُقبّله، وهو يبكي، والابن يبكي، حتى استنقعت الدموع تحت خده.
{فلما أَسْلَمَا} أي: انقادا لأمر الله وخضعا. وعن قتادة: أسلم هذا ابنه، وهذا نفسه. {وتَلَّه للجبين} صرعه على جنبه، ووضع السكين على حلقه، فلم تعمل، ثم وضع السكين على قفاه فانقلب السكين، ونودي: يا إبراهيم قد صدّقتَ الرؤيا. رُوي أنَّ ذلك المكان عند الصخرة التي بمِنى. وجواب لما محذوف، أي: فلما أسلما رُحما وسَعدا. وقال بعض الكوفيين: الجواب: {وتله} والواو: زائِدة. وقال الكسائي: الجواب: {وناديناه} والواو زائدة. وقال الخليل وسيبويه: الجواب محذوف، أي: فلما أسلما سَلِما. وقدّر الراضي: فلما أسلما كان من لطف الله ما لا يوصف. اهـ.
{وناديناه أن يا إِبراهيمُ قد صَدَّقْتَ الرؤيا} أي: حققت ما أمرناك به في المنام، من تسليم الولد للذبح، وبالعزم والإتيان بالمقدمات، {إِنا كذلك نجزي المحسنين} تعليل لما خوّلهما من الفرج بعد الشدة. والحاصل: أن الجزاء هو الوقاية من الذبح، مع إمرار السكين، ولم تقطع، جزاء على إحسانهما، وقد ظهرت الحكمة بصدقهما، فإن المقصود إخلاء السر من عادة الطبيعة، لا تحصيل الذبح، رُوي أنه لما أمرّ السكين فلم تقطع، تعجّب. فنُودي: يا إبراهيمُ كان المقصود من هذا استسلامكما، لا ذبح ولدك.
{إِنَّ هذا لَهُوا البلاءُ المبينُ} الاختبار البيّن، الذي يتميز فيه المخلصون من غيرهم. أو: المحنة البيّنة الصعبة، فإنه لا محنة أصعب منها. {وفديناه بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}: ضخم الجثة سمين. قال ابن عباس: هو الكبشُ الذي قرّبه هابيل فقُبل منه، وكان يرعى في الجنة حتى فُدِي به ولد إبراهيم. وعنه: لو تمت تلك الذبيحة لصارت سُنَّة، وذَبَحَ الناسُ أولادهم. رُوي أن الكبش هرب من إبراهيم عند الجمرة، فرماه؛ سبع حصيات، حتى أخذه، فبقيت سُنَّة في الرمي.
قلت: والجمهور: أن الشيطان تعرض له عند ذهابه لذبح ولده، ثلاث مرات، فرماه سبع حصات عند كل مرة، فبقيت سُنَّة في الرمي. ورُوي أنه لما ذبحه، قال جبريل: الله أكبر، فقال الذبيح: لا إله إلا الله، والله أكبر، فقال إبراهيم: الله أكبر ولله الحمد، فبقيت سُنَّة صبيحة العيد.
قال البيضاوي: واحتج به من جوّز النسخ قبل الفعل، فإنه عليه السلام كان مأموراً بالذبح، لقوله: {افعل ما تؤمر} ولم يحصل. اهـ. قال سيدي عبد الرحمن الفاسي في الحاشية: وَلَمَّا بذل إبراهيم وسعه، وفعل ما يفعله الذابح من ضجعه على شقه، وإمرار الشفرة على حلقه، لم يكن هذا من النسخ قبل الفعل، وإن كان ورود النسخ قبل الفعل جائز، لكن هذه الآية ليست منه في شيء؛ لأنه عليه السلام باشر الفعل بقدر الإمكان وبذل المجهود، ولم يكن منه تقصر، ولو لم يمنع مانع القدرة الإلهية لتمّ الذبح المأمور به، لهذا قال تعالى: {صَدَّقْتَ الرؤيا} وإنما احتيج إلى الفداء لتحصيل حقيقة الذبح فيه نيابة عن المفدي شرعاً، وعلامة على غاية القبول والرضا عنهما، وعوض عن ذلك ما هو كرامة لهما، ولمَن بعدهما إلى غابر الدهر. اهـ.
وقيل: إن هذه الآية نُسخ بها الأمر بالذبح قبل التمكين من الفعل، بناءً على أن إبراهيم لم يمر الآلة. وعزاه المحلي في جميع الجوامع لمذهب أهل السنة. وعليه ينزل الفداء، ثم قال: والحق: إن الآية من المنسخ قبل تمام الفعل وكماله، لا قبل الأخذ فيه ومعالجته. ثم اعترض كلام ابن عطية، وقال: فيه تدافع، فانظره.
{وتركنا عليه في الآخِرِين} أي: الثناء الحسن في الأمم الآخرين، {سلامٌ على إبراهيم} سبق بيانه في نوح {كذلك نجزي المحسنين} لم يقل: إنا كذلك، هنا، كما في غيره؛ لأنه قد سبق في القصة، فاكتفى هنا عن ذكره. {إِنه من عبادنا المؤمنين} فيه تنويه بشأن الإيمان؛ لأنه أساس لكل ما يُبنى عليه من معرفةٍ وإحسان.
الإشارة: قال إني ذاهب إلى ربي بالتوجه والعزم، سيهدين إلى صريح معرفته، ومكافحة رؤيته، ودوام شهوده. فالذهاب إليه يُفضي إلى الذهاب فيه، وهو غيبة العبد عن شهود نفسه، بشهود محبوبه، وهذه الحالة متبوعة للامتحان؛ إذ امتحان كل عبد على قدر مقامه، فكلما علا المقام عَظُمَ الامتحان. فامتحن الخليل بأربع محن: تسليم بدنه للنيران، وولده للقربان، ورمي آخر عند البيت في يد الرحمن، وذهاب زوجه للجبّار، فوقع اللطف في الجميع، واصطفى خليلاً للرحمن. وأيضاً: الحق غيور، لا يُحب أن يرى في قلب خليله أو وليّه شيئاً سواه، فأمر بذبح ولده؛ لإخراجه من قلبه، كما فرّق بين يوسف ووالده، وامتحن حبيبَه صلى الله عليه وسلم في عائشة صدِّيقته، وهذه عادة الله مع أصفيائه.
قال القشيري: يُقال في القصة: أنه رآه راكباً على فرس أشهب، فاستحسنه، ونظر إليه بقلبه، فأُمر بذبحه، فلما أخرجه من قلبه، واستسلم لذبحه، ظَهَرَ الفداء. وقيل له: كان المقصودُ من هذا فراغَ قلبك منه، لا ذبحه. ويقال في القصة: أنه أمَرَ أباه أن يَشُدّ يديه ورِجْلَيه؛ لئلا يضطربَ إذا مَسَّهُ ألمُ الذبح، فيُعاتَب، ثم لمَّا هَمَّ بذبحِه قال: افتح القيدَ عني، فإني لا أتحرك، فإني أخشى أن أُعاتب، فيقول: أمشدودَ اليد جئتني؟ وأنشدوا:
ولو بيدِ الحبيبِ سُقِيتُ سُمًّا ** لكان السُّمُّ من يدهِ يطيب

قيل: إن الولد كان أشدَّ بلاء، لأنه وَجَدَ الذبح من يد أبيه، ولم يتعوَّد منه إلا التربية بالجميل، فكان البلاء منها أشد؛ إذ لم يتوقعه منها. وقيل: بل إبراهيم أشد بلاء؛ لأنه كان يحتاج أن يذبح ابنه بيده، ويعيش بعده، ولم يأتِ الولد بالدعوى، بل قال: إن شاء الله، فتأدّب بلفظ الاستثناء. ثم قال: ويقال: إنَّ الله ستر عليهما ما عَلِمَ أنه أريد منهما في حال البلاء، وإنما كشف لهما بعد مُضِيِّ وقت المحنة، لئلا يَبْطُلُ معنى الابتلاء، وهو توجُّع القلب بالقهرية، وكذلك لما ألقي في النار أخفي عنه المراد منه، وهو السلامة منها ليحصل معنى الابتلاء. وهكذا يكون الحال في حال البلاء، يسند عيون التهدي إلى الحال. وكذلك كان حال نبينا صلى الله عليه وسلم في الإفك، وأيوب عليه السلام، وإنما تبيّن الأمر بعد ظهور أجر المحنة وزوالها، وإلاَّ لم تكن حينئذ محنة، ولكن مع استعجام الحال وانبهامه؛ إذ لو كشف الأمر عن صاحبه لم يكن حينئذ بلاء. اهـ. ملخصاً.