فصل: تفسير الآية رقم (58):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (45- 49):

{وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآَنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48) وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49)}
قلت: {أن يفقهوه}: مفعول من أجله، أي كراهة أن يفقهوه، و{نفورًا}: مصدر في موضع الحال. والضمير في {به}: يعود على ما، أي: نحن أعلم بالأمر الذي يستمعون به من الاستهزاء والسخرية.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وإِذا قرأتَ القرآنَ} الناطق بالتنزيه والتسبيح، ودعوتهم إلى العمل بما فيه؛ من التوحيد، ورفض الشرك، وغير ذلك من الشرائع، {جعلنا} بقدرتنا ومشيئتنا المبنية على دواعي الحِكَمِ الخفية {بينَك وبين الذين لا يُؤمنون بالآخرة}، خَصَّ الآخرة بالذكر من بين سائر ما كفروا به؛ دلالة على أنها معظم ما أمروا بالإيمان به، وتمهيدًا لما سينقل عنهم من إنكار البعث، أي: جعلنا بينك وبينهم {حجابًا} يمنعهم عن فهمه والتدبر فيه، {مستورًا} عن الحس، خفيًا، معنويًا، وهو الران الذي يَسْبَحُ على قلوبهم من الكفر، والانهماك في الغفلة. أو: ذا ستر، كقوله: {وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} [مريَم: 61]، أي: آتيًا، فهو ساتر لقلوبهم عن الفهم والتدبر.
نَفَى عنهم فقه الآيات، بعد ما نفى عنهم فقه الدلالات المنصوبة في الأشياء؛ بيانًا لكونهم مطبوعين على الضلالة، كما صرح به في قوله: {وجعلنا على قلوبهم أَكِنَّةً}؛ أغطيةً تكنها، وتحول بينها وبين إدراك الحق وقبوله. فعلنا ذلك بهم؛ كراهة {أنْ يفقهوه}، {و} جعلنا {في آذانهم وقرًا}؛ ثقلاً وصممًا يمنعهم من استماعه. ولمَّا كان القرآن معجزًا من حيث اللفظ والمعنى، أثبت لمنكريه ما يمنع عن فهم المعنى وإدراك اللفظ. قاله البيضاوي.
{وإِذ ذكرتَ ربك في القرآن وحده} أي: واحدًا غير مشفوع به آلهتهم، {وَلَّوْا على أدبارهم نُفورًا}؛ هَرَبا من استماع التوحيد، والمعنى: وإذا ذكرت في القرآن وحدانية الله تعالى، فرَّ المشركون عن ذلك؛ لما في ذلك من رفض آلهتهم وذمها. قال تعالى: {نحن أعلم بما يستمعون به} أي: بالأمر الذي يستمعون به؛ من الاستهزاء، وكانوا يستمعون القرآن على وجه الاستهزاء، {وإِذْ هم نجوى} أي: ونحن أعلم بغرضهم، حين همَّ جماعة ذات نجوى، يتناجون بينهم ويخفون ذلك. ثم فسر نجواهم بقوله: {إذْ يقول الظالمون}، وضع الظالمين موضع الضمير؛ للدلالة على أن تناجيهم بقولهم هذا محض ظلم، أي: إذ يقولون: {إِن تتبعون إِلا رجلاً مسحورًا}؛ مجنونًا قد سُحر حتى زال عقله.
{انظر كيف ضربوا لك الأمثال}، مثلوك بالساحر، والشاعر، والكاهن، والمجنون، {فضلُّوا} عن الحق في جميع ذلك، {فلا يستطيعون سبيلاً} إلى الهدى، أو إلى الطعن فيما جئتَ به بوجه؛ فهم يتهافتون، ويخبطون، كالمتحير في أمره لا يدري ما يفعل. ونزلت في الوليد بن المغيرة وأصحابه من الكفار.
{وقالوا أئذا كنا عظامًا ورُفاتًا أئنا لمبعوثون خلقًا جديدًا}، أنكروا البعث، واستبعدوا أن يجعلهم خلقًا جديدًا، بعد فنائهم وجعلهم ترابًا. والرفات: الذي بلي، حتى صار غبارًا وفتاتًا. و{أئذا}: ظرف، والعامل فيه: ما دل عليه قوله: {لمبعوثون}، لا نفسه؛ لأن ما بعد إن والهمزة، لا يعمل فيما قبله، أي: أنُبعث إذا كنا عظامًا... الخ. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد تقدم في سورة الأنعام تفسير الأكنة التي تمنع من فهم القرآن والتدبر فيه، والتي تمنع من الشهود والعيان، فراجعه، إن شئت. وفي الآية تسلية لمن أوذي من الصوفية فرُمِيَ بالسحر أو غيره. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (50- 52):

{قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)}
قلت: {قريباً}: خبر كان، أو ظرف له؛ على أن كان تامة، أي: عسى أن يقع في زمن قريب. و{أن يكون}: إما: اسم {عسى} وهي تامة، أو خبرها، والاسم مضمر، أي: عسى أن يكون البعث قريبًا، أو: عسى أن يقع في زمن قريب. و{يوم يدعوكم}: منصوب بمحذوف؛ اذكروا يوم يدعوكم. أو: بدل من {قريب}؛ على أنه ظرف. انظر أبا السعود. و{بحمده}: حال من ضمير {تستجيبون}، أي: منقادين له، حامدين له، لما فعل بكم.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {قلْ} يا محمد لمن أنكر البعث: {كُونوا حجارة أو حديدًا أو خلقًا} آخر {ممَا يكْبُرُ} أي: يعظم {في صدوركم} عن قبول الحياة، فإنكم مبعوثون ومُعادون لا محالة، أي: لو كنتم حجارة أو حديدًا، أو شيئًا أكبر عندكم من ذلك، وأبعد من الحياة، لقدرنا على بعثكم؛ إذ القدرة صالحة لكل ممكن. ومعنى الأمر هنا: التقدير، وليس للتعجيز، كما قال بعضهم. انظر ابن جزي، {فسيقولون مَن يُعيدنا} إلى الحياة مرة أخرى، مع ما بيننا وبين الإعادة، من مثل هذه المباعدة؟ {قل الذي فطركم أول مرةٍ} ولم تكونوا شيئًا؛ لأن القادر على البدء قادر على الإعادة، بل هي أهون، {فسيُنْغِضُون}؛ يُحركون {إِليك رؤوسَهم}؛ تعجبًا واستهزاءً، {ويقولون}؛ استهزاء: {متى هو} أي: البعث، {قل عسى أن يكون قريبًا}، فإنَّ كل ما هو آتٍ قريب.
واذكروا {يومَ يدعوكم}؛ يناديكم من القبور على لسان إسرافيل، {فتستجيبونَ} أي: فتبعثون من القبور {بحمده}؛ بأمره، أو ملتبسين بحمده، حامدين له على كمال قدرته، عند مشاهدة آثارها، ومعاينة أحكامها، كما قيل: إنم يقومون ينفضون التراب عن رؤوسهم، ويقولون: سبحانك اللهم وبحمدك، {وتظنون إِن لبثتم}؛ ما لبثتم في الدنيا {إِلا قليلاً}؛ لما ترون من الهول، أو تستقصرون مدة لبثكم في القبور، كالذي مرَّ على قرية. والله تعالى أعلم.
الإشارة: مَن كان قلبه أقسى من الحجارة والحديد، واستغرب أن يُنقذه الله من شهوته، وأن يخرجه من وجود جهالته وغفلته، فقُل لهم: كونوا حجارة أو حديدًا، أو خلقًا أكبر من ذلك، فإن الله قادر على أن يُحيي قلوبكم بمعرفته، ويُلينها بعد القساوة، بسبب شرب خمرته. فسيقولون: من يُعيدنا إلى هذه الحالة؟ قل: الذي فطركم على توحيده أول مرة، حين أقررتم بربوبيته، يوم أخذ الميثاق. فسَيُنْغضون إليك رؤوسهم؛ تعجبًا واستغرابًا، ويقولون: متى هو هذا الفتح؟! قل: عسى أن يكون قريبًا؛ يوم يدعوكم إلى حضرته بشوق مقلق، أو خوف مزعج، بواسطة شيخ عارف، أو بغير واسطة، فتستجيبون بحمده ومنته، وتظنون إن لبثتم في أيام الغفلة إلا قليلاً؛ فتلين قلوبكم، وتطمئن نفوسكم، وتنشرح صدوركم، وتحسن أخلاقكم، فلا تخاطبون العباد إلا بالتي هي أحسن.

.تفسير الآيات (53- 55):

{وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وقل لعبادي} المؤمنين: {يقولوا} للمشركين الكلمة {التي هي أحسنُ} ولا تخاشنوهم، {إِن الشيطان يَنْزَغُ بينهم}؛ يهيج بينهم الجدال والشر، فلعل المخاشنة لهم تُفضي إلى العناد وازدياد الفساد. وكان هذا بمكة، قبل الأمر بالقتال، ثم نُسخ. وقيل: في الخطاب من المؤمنين بعضهم لبعض، أمرهم أن يقولوا، فيما بينهم، كلامًا لينًا حسنًا. {إِن الشيطانَ ينزَغ بينهم} العداوة والبغضاء؛ {إِنَّ الشيطان كان للإِنسان عدوًا مبينًا}؛ ظاهر العداوة.
يقولون لهم في المخاطبة الحسنة: {ربكم أعلمُ إِن يشأ يرحمْكُم} بالتوبة والإيمان، {أو إِن يشأ يُعذِّبكُم} بالموت على الكفر. وهذا تفسير للكلمة التي هي أحسن، وما بينهما اعتراض، أي: قولوا هذه الكلمة ونحوها، ولا تصرحوا بأنهم من أهل النار؛ فإنه يثير الشر، مع أن ختام أمرهم غيب. {وما أرسلناك عليهم وكيلاً}؛ موكولاً إليك أمرهم، فتجبرهم على الإيمان، وإنما أَرْسلْنَاكَ مبشرًا ونذيرًا، فَدارهِم، ومُر أصحابك باحتمال الأذى منهم. رُوي أن المشركين أفرطوا في إيذائهم؛ فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت، وقيل: شتم رجل عمر رضي الله عنه، فهمَّ به، فأمره الله بالعفو.
{وربك أعلمُ بمن في السماوات والأرض} وبأحوالهم، فيختار منهم لنبوته وولايته من يشاء. وهو رد لاستبعاد قريش أن يكون يتيم أبي طالب نبيًا، وأن يكون العُراة الجياع أصحابه. {ولقد فضّلنا بعض النبيين على بعض} بالفضائل النفسانية، والتفرغ من العلائق الجسمانية، لا بكثرة الأموال والأتباع، حتى يستبعدوا نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لقلة ماله، وضعف أصحابه؛ فإن سيدنا داود عليه السلام كان مثله في قلة ماله وأتباعه، ثم قواه بالملك والنبوة. ولذا قال: {وآتينا داود زبورًا}؛ وقيل: هو إشارة إلى تفضيل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإنه مذكور في الزبور، وهو أنه خاتم الأنبياء، وأمته خير الأمم، وأنهم يرثون الأرض بالفتح عليهم؛ قال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور مِن بَعْدِ الذكر أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالحون} [الأنبياء: 105]. والله تعالى أعلم.
الإشارة: من أوصاف الصوفية- رضي الله عنهم- أنهم هينون لينون كلَّفة حرير، لا ينطقون إلا بالكلام الحسن، ولا يفعلون إلا ما هو حسن، ويفرحون ولا يحزنون وينبسطون ولا ينقبضون. من رأوه مقبوضًا بسطوه، ومن رأوه حزينًا فرّحوه، ومن رأوه جاهلاً أرشدوه بالتي هي أحسن. وهم متفاوتون في هذا الأمر، مفضل بعضهم على بعض في الأخلاق والولاية، فكل من زاد في الأخلاق الحسنة زاد تفضيله عند الله. وفي الحديث: «إنَّ الرَّجلُ لَيُدرِكُ؛ بحُسْن الخلُق، دَرَجََة الصَائِم النهار، القَائِمِ اللَّيْل» وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (56- 57):

{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)}
قلت: {أولئك}: مبتدأ، و{الذين يدعون}: صفته، و{يبتغون}: خبره. وضمير {يدعون}: للكفار، وفي {يبتغون}: للآلهة المعْبُودين، وقيل: الضمير في {يدعون} و{يبتغون}: للأنبياء المذكورين قبلُ في قوله: {فضَّلنا بعض النبيين على بعض}، والوسيلة: ما يتوسل به ويتقرب إلى الله، و{أيهم}: بدل من فاعل {يبتغون}، و{أيّ}: والوسيلة: ما يتوسل به ويتقرب إلى اللهِ، و{أيهم}: بدل من فاعل {يبتغون}، و{أيّ}: موصولة، أي: يبتغي من هو أقرب إليه تعالى-الوسيلة-، فكيف بمن دونه؟ أو ضمَّنَ معنى يبتغون: يحرصون، أي: يحرصون أيهم يكون إليه تعالى أقرب؟
يقول الحقّ جلّ جلاله: {قلْ} لهم: {ادعوا الذين زعمتم} أنهم آلهة تعبدونهم {من دونه} كالملائكة والمسيح وعُزير، أو كالأصنام والأوثان، {فلا يملكون}؛ لا يستطيعون {كشف الضر عنكم}، كالمرض والفقر والقحطِ، {ولا تحويلاً} لذلك عنكم إلى غيركم، قال تعالى: {أولئك الذين يدعون} أنهم آلهة، هم في غاية الافتقار إلى الله والتوسل إليه، كلهم {يبتغون إِلى ربهم الوسيلةَ} أي: التقرب بالطاعة، ويحرصون {أيهم أقربُ} إلى الله من غيره، فكيف يكونون آلهة؟ أو: أولئك الذين يدعونهم آلهة، يطلبون إلى ربهم الوسيلة بالطاعة، يطلبها أيهم أقرب، أي: الذي هو أقرب، فكيف بغير الأقرب؟ {ويرجون رحمته ويخافون عذابه} كسائر العباد، فكيف يزعمون أنهم آلهة؟ {إن عذاب ربك كان محذورًا}؛ مخوفًا، أي: حقيقًا بأن يحذره كل أحد، حتى الرسل والملائكة. أعاذنا الله من جميعه. رمين.
الإشارة: كل ما دخل عالم التكوين لزمته القهرية والعبودية، فهو عاجز عن إصلاح نفسه، فكيف يصلح غيره؟ ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه، فكيف يدفع عن غيره؟ فارفع همتك، أيها العبد، إلى مولاك، وأنزل حوائجك كلها به دون أحد سواه، فكل ما سواه مفتقر إليه، والفقير المضطر لا ينفع نفسه، فكيف ينفع غيره؟ والله يتولى هداك.

.تفسير الآية رقم (58):

{وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وإِن من قرية} أي: أهلها، {إلا نحن مُهلكوها قبلَ يوم القيامة}؛ بالموت والاستئصال، {أو مُعذبوها عذابًا شديدًا}؛ بالقتل وغيره، {كان ذلك في الكتاب}؛ في اللوح المحفوظ {مسطورًا}؛ مكتوبًا. وقال في المستخرج: وإن من قرية إلا نحن مهلكوها؛ الصالحة بالإفناء، والطالحةُ بالبلاء، أو معذبوها بالسيف؛ إذا ظهر فيهم الزنى والربا. اهـ. قال ابن جزي: رُوي أن هلاك مكة بالحبشة، والمدينة بالجوع، والكوفة بالترك، والأندلس بالخيل. ثم قال: وأما هلاك قرطبة وأشبيلية وطُليطلة وغيرها، فبأخذ الروم لها. اهـ. قلت: قد استولى العدو على الأندلس كلها فهو خرابها. أعاد الله عمارتها بالإسلام. آمين.
وقال في حُسْن المحاضرة: وأخرج الحاكم في المستدرك عن كعب قال: الجزيرة آمنة من الخراب حتى تخرب أرمينية- والجزيرة أرض بالبصرة، وموضع باليمامة، لا جزيرة الأندلس- ثم قال: ومصر آمنة من الخراب حتى تخرب الجزيرة: والكوفة آمنة من الخراب حتى تخرب مصر، ولا تكون الملحمة حتى تخرب الكوفة، ولا تفتح مدينة الكفر حتى تكون الملحمة، ولا يخرج الدجال حتى تُفتح مدينة الكفر. قال: وأخرج الديلمي في مسند الفردوس، وأورده القرطبي في التذكرة من حديث حذيفة مرفوعًا: يبدو الخراب في أطراف الأرض، حتى تخرب مصر، ومصر آمنة من الخراب حتى تخرب البصرة، وخراب البصرة من العراق، وخراب مصر من جفاف النيل، وخراب مكة من الحبشة، وخراب المدينة من الجوع، وخراب اليمن من الجراد، وخراب الأُبُلَّةِ من الحِصار، وخراب فارس من الصعاليك، وخراب الترك من الديلم، وخراب الديلم من الأرمن، وخراب الأرمن من الخَرز، وخراب الخرز من الترك، وخراب الترك من الصواعق، وخراب السند من الهند، وخراب الهند من الصين، وخراب الصين من الرمل، وخراب الحبشة من الرجفة، وخراب العراق من القحط. اهـ.
قلت: وسكت عن المغرب، ولعله المعنِيُّ بقوله عليه الصلاة والسلام: «لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الحَقِّ حَتَّى يَأتِي أمْرُ اللهِ» زاد في رواية: وهم أهل المغرب، ورجحه صاحب المدخل، قال: لأنهم متمسكُون بالسنة أكثر من المشرق. والله تعالى أعلم بغيبه.
الإشارة: القرية محل تقرر السر، وهو القلب، فإما أن يُهلكه الله بالتلف والضلال، وإما أن يُعذبه عذابًا شديدًا؛ بالمجاهدات والمكابدات، ثم ينعمه نعيمًا كبيرًا بالمشاهدات والمناجاة. كان ذلك في الكتاب مسطورًا، فريق في الجنة وفريق في السعير.