فصل: تفسير الآية رقم (59):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (59):

{وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآَيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآَتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)}
قلت: {أنْ نرسل}: مفعول {منعنا}، و{إلا أن كَذَّب}: فاعل. يقول الحق جلّ جلاله: وما صَرَفَنَا عن إرسال الآيات التي اقْتَرَحَتْهَا قريش بقولهم: اجعل لنا الصّفَا ذَهَبًا، إلا تكذيب الأولين بها، فهلكوا، وهم أمثالهم في الطبع، كعاد وثمود، وأنها لو أرسلت لكذبوها، فيهلكوا أمثالهم، كما مضت به سنتُنا، وقد قضينا في أزلنا ألا نستأصلهم؛ لأن فيهم من يُؤمن، أو يلد من يؤمن.
ثم ذكر بعض الأمم المهلكة بتكذيب الآيات المقترحة فقال: {وآتينا ثمودَ الناقةَ} بسبب سؤالهم، {مُبصرةً}؛ بينة ذات إبصار، أو بصائر واضحة الدلالة، يُدركها كلُّ من يبصرها. {فظلموا بها}؛ فكفروا بها، أو: فظلموا أنفسهم بسبب عقرها، فهلكوا، {وما نُرسل بالآياتِ} المقترحة {إِلا تخويفًا} من نزول العذاب المستأصِلِ، فإن لم يخافوا نزل بهم، أو: وما نرسل بالآيات غير المقترحة، كالمعجزات وآيات القرآن، إلا تخويفًا بعذاب الآخرة؛ فإن أمر من بعث إليهم مؤخر إلى يوم القيامة. قاله البيضاوي.
قال في الحاشية: ومقتضى حديث الكسوف، وقوله فيه: ذلك يُخوف بهما عبادة: أن التخويف لا يختص بالخوارق، بل يعم غيرها، مما هو معتاد نفيه، ويأتي غِبا. وفي الوجيز: (بالآيات) أي: العبر والدلالات. وفي الورتجبي: الآيات هي: الشباب والكهولة والشيبة، وتقلب الأحوال بك، لعلك تعتبر بحال، أو تتعظ بوقت. اهـ.
الإشارة: إمساك الكرامات عن المريد السائر أو الولي: رحمة واعتناء به، فلعله؛ حين تظهر له، يقف معها ويستحسن حاله، أو يزكي نفسه ويرفع عنها عصا التأديب، فيقف عن السير، ويُحرم الوصول إلى غاية الكمال، وفي الحكم: (ما أرادت همة سالك أن تقف عندما كشف لها، إلاّ نادته هواتف الحقيقة: الذي تطلب أمامك). وقال الششتري رضي الله عنه:
ومهما ترى كلَّ المراتِبِ تجتلي ** عليْكَ فحُلْ عنها فعَن مِثْلها حُلْنا

وقُلْ ليْس لي في غَيْر ذاتِكَ مَطْلبٌ ** فلا صورةٌ تُجْلى ولا طُرْفَةٌ تُجْنى

ولما نزّه تعالى نفسه في أول السورة عن الجهة، التي تُوهمها قضيةُ الإسراء، صَرَّحَ هنا بأنه محيط بكل مكان وزمان، لا يختص بمكان دون مكان.

.تفسير الآية رقم (60):

{وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآَنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وإِذْ قلنا لك} فيما أوحينا إليك {إِنَّ ربك أحَاطَ بالناس} علماً وقدرة، وأسراراً وأنواراً، كما يليق بجلاله وتجليه، فلا يختص بمكان ولا زمان، بل هو مظهر الزمان والمكان، وقد كان ولا زمان ولا مكان، وهو الآن على ما عليه كان، {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك} في قضية الإسراء، قال ابن عباس: هي رؤيا عين حيث رأى أنوار جبروته في أعلى عليين، وشاهد أسرار ذاته أريناك ذلك في ذلك المكان {إلا فتنةً للناس}؛ اختباراً لهم، من يصدق بذلك ولا يكيف، ومن يجحده من الكفرة. ومن يقف مع ظاهره، فيقع في التجسيم والتحييز، ومن تنهضه السابقة إلى التعشق؛ فيجاهد نفسه حتى تعرج روحه إلى عالم الملكوت، فتكاشف بإحاطة أسرار الذات بكل شيء.
وإنما خص الحق تعالى إحاطته بالناس، مع أنه محيط بكل شيء، كما في الآية الأخرى: {أَلآ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطُ} [فُصِّلَت: 54]؛ لأنهم المقصودون بالذات من هذا العالم، وما خلق إلا لأجلهم. فاكتفى بالإحاطة بهم عن إحاطته بكل شيء.
ثم قال تعالى: {والشجرة الملعونة في القرآن} وهي: شجرة الزقوم، أي: ما جعلناها إلا فتنة للناس. وذلك أن قريشاً لما سمعوا أن في جهنم شجرة الزقوم، سخروا من ذلك، فافتتنوا بها، حيث أنكروها، وكفروا بالقرآن، وقالوا: كيف تكون شجرة في النار، والنار تحرق الشجر؟! وقفوا مع الإلف والعادة، ولم ينفذوا إلى عموم تعلق القدرة. ومن قدر على حفظ وبر السَّمَنْدَل منها، وهو يمشي فيها، قدر على أن يخلق في النار شجرة، ولم تحرقها. وقال أبو جهل: ما أعرف الزقوم إلا التمر بالزبد. فإن قيل: أين لُعِنت شجرة الزقوم في القرآن؟ فالجواب: أن المراد لعنة آكلها، وقيل: إن اللعنة هنا بمعنى الإبعاد، وهي في أصل الجحيم.
قال تعالى: {ونُخوِّفهم} بأنواع التخويف، أو بالزقوم، {فما يزيدُهُم إِلا طغيانًا كبيرًا}؛ عنوًا مجاوزاً للحد.
الإشارة: الأكوان ثابتة بإثباته، ممحوة بأحدية ذاته. فإذا انمحت الأكوان ثبتت وحدة المكون. «كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما كان عليه»، من قامت به الأشياء، وهو وجودها ونور ذاتها، ومحيط بها، كيف تحصره، أو تحيزه، أو تحول بينه وبين موجوداته؟ قيل لسيدنا علي- كرم الله وجهه-: يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين كان ربنا قبل خلق الأشياء؟ فتغير وجهه، وسكت، ثم قال: قولكم: أين؟ يقتضي المكان، وكان الله ولا زمان ولا مكان، وهو الآن على ما عليه كان. اهـ.
وقال الشيخ الشاذلي: (قيل لي: يا عليّ؛ بي قُلْ، وعليّ دُل، وأنا الكل). وفي الحديث: «لاَ تَسُبُّوا الدَهْرَ، فَإنَّ الله هُوَ الدَّهْرُ، بِيَده الليْلُ والنَّهَار»، ولا يفهم هذا على التحقيق إلا أهل الذوق، بصحبة أهل الذوق. وإلا فسلِّم تسلم، واعتقد التنزيه وبطلان التشبيه. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.

.تفسير الآيات (61- 64):

{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64)}
قلت: {طينًاً}: منصوب على إسقاط الخافض، أو: حال من الراجع إلى الموصول، و{أرأيتك}: الكاف للخطاب، لا موضع لها. وتقدم الكلام عليه في سورة الأنعام. و{هذا}: مفعول أرأيت، و{جزاء}: مصدر، والعامل فيه: {جزاؤكم}، فإنَّ المصدر ينصب بمثله أو فعله أو وصفه، وقيل: حال موطئة لقوله: {موفورًا}.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {و} اذكر {إِذْ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إِلا إِبليسَ} امتنع، و{قال أأسجدُ لمن خلقتَ طينًا} أي: من طين؛ فهو أصله من الطين، وأنا أصلي من النار، فكيف أسجد له وأنا خير منه؟! ثم {قال} إبليس: {أَرَأيْتكَ هذا الذي كرمتَ عليَّ} أي: أخبرني عن هذا الذي كرمته عليّ؛ بأمري بالسجود له، لِمَ كرمتَه عليّ؟ {لئن أخرتنِ} أي: والله لئن أخرتنِ {إِلى يوم القيامة لأَحْتَنِكَنّ}؛ لأستأصلن؛ من احتنكت السَّنةُ أموالَهم؛ أي: استأصلتها. أي: لأهلكن {ذريتَه}؛ بالإغواء والإضلال، {إِلا قليلاً}؛ أو: لأميلنهم وأَقُودَنَّهُمْ، مأخوذ من تحنيك الدابة، وهو أن يشد على حنكها بحبل فتنقاد. أي: لأقودنهم إلى عصيانك، إلا قليلاً، فلا أقدر أن أقاوم شكيمتهم؛ لمَا سبق لهم من العناية.
قال ابن عطية: وحَكَمَ إبليس على ذرية آدم بهذا الحكم؛ من حيث رأى الخِلْقَةَ مجوفةً مختلفةَ الأجزاءِ، وما اقترن بها من الشهوات والعوارض؛ كالغضب ونحوه، ثم استثنى القليل؛ لعلمه أنه لابد أن يكون في ذريته من يصلب في طاعة الله. اهـ. قلت: إنما يحتاج إلى هذا: من وقف مع ظاهر الحكمة في عالم الحس، وأما من نفذ إلى شهود القدرة في عالم المعاني: فلا.
{قال} تعالى: {اذهبْ}؛ امض لما قصدته، وهو طرد وتخلية لما بينه وبين ما سولت له نفسه. {فمن تبعك منهم فإِنَّ جهنم جزاؤكم}؛ التفت إلى الخطاب، وكان الأصل أن يقال: جزاؤهم، بضمير الغيبة؛ ليرجع إلى {من تبعك}، لكنه غلب المخاطب؛ ليدخل إبليس معهم، فتُجازون على ما فعلتم {جزاء موفورًا}؛ وافرًا مكملاً، لا نقص فيه. {واستفزز}؛ استخفف، أو اخدع {مَن استطعتَ منهم} أن تستفز {بصوتك}؛ بدعائك إلى الفساد، {وأَجْلِبْ عليهم} أي: صِحْ عليهم، من الجلبة، وهي: الصياح، {بخَيْلكَ ورَجِلكَ}؛ أي: بأعوانك؛ من راكب وراجل، قيل: هو مجاز، أي: افعل بهم جهدك. وقيل: إن له من الشياطين خيلاً ورجالاً. وقيل: المراد: بيان الراكبين في طلب المعاصي، والماشين إليها بأرجلهم. {وشارِكْهمْ في الأموال}؛ بحملهم على كسبها وجمعها من الحرام، والتصرف فيها على ما لا ينبغي، كإنفاقها في المعاصي، {والأولادِ}؛ بالحث على التوصل إلى الولد بالسبب الحرام، كالزنى وشبهه من فساد الأنكحة، وكتسمية الولد عبد شمس وعبد الحارث وعبد العُزّى.
وقال في الإحياء: قال يونس بن زيد: بلغنا أنه يُولد مع أبناء الإنس من أبناء الجن، ثم ينشأون معهم.
قال ابن عطية: وما أدخله النّقَّاشُ؛ من وطء الجن، وأنه يحبل المرأة من الإنس، فضعيف كله. اهـ. قال في الحاشية: وضَعْفُهُ ظاهر، والآية مشيرة لرده؛ لأنها إنما أثبتت المشاركة في الولد، لا في الإيلاء، فإنه لم يرد، ولو قيل به لكان ذريعة لفساد كبير، ولكان شبهة يُدْرَأُ بها الحد، ولا قائل بذلك. وانظر الثعالبي الجزائري؛ فقد ذكر حكاية في المشاركة في الوطء عمن اتفق له ذلك، فالله أعلم. وأما عكس ذلك؛ إيلاء الإنسي الجنية، فأمر لا يحيله العقل، وقد جاء الخبر به في أمر بلقيس. قاله المحشي الفاسي.
{وعِدْهُمْ} بأن لا بعث ولا حساب، أو المواعد الباطلة؛ كشافعة الآلهة. والاتّكال على كرامة الآباء، وتأخير التوبة، وطول الأمل، {وما يعدُهم الشيطانُ إِلا غرورًا} وباطلاً. والغرور: تزيين الخطأ بما يُوهم أنه صواب. قاله البيضاوي.
الإشارة: ينبغي لك أيها الإنسان أن تكون مضادًا للشيطان، فإذا امتنع من الخضوع لآدم فاخضع أنت لأولاد آدم؛ بالتواضع واللين، وإذا كان هو مجتهدًا في إغواء بني آدم بما يقدر عليه، فاجتهد أنت في نصحهم وإرشادهم، وتعليمهم ووعظهم وتذكيرهم، بقدر ما يمكنك، واستعمل السير إليهم بخيلك ورجلك، حتى تنقذهم من غروره وكيده. وإذا كان هو يدلهم على الشرك الجلي والخفي، في أموالهم وأولادهم، فدُلَّهم أنت على التوحيد، والإخلاص، في اعتقادهم وأعمالهم وأموالهم. وإذا كان يعدهم بالمواعد الكاذبة، فعدهم أنت بالمواعد الصادقة؛ كحسن الظن بالله، إن صحبه العمل بما يرضيه. فإن فعلت هذا كنت من عباد الله الذين ليس له عليهم سلطان.

.تفسير الآيات (65- 69):

{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65) رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66) وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)}
قلت: {أفأمنتم}: الهمزة للتوبيخ، والفاء للعطف على محذوف، أي: أنجوتم من البحر فأمنتم.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {إِنَّ عبادي} المخلصين، الذين يتوكلون عليَّ في جميع أمورهم، {ليس لك عليهم سلطانٌ} أي: تسلط وقدرة على إغوائهم؛ حيث التجأوا إليَّ، واتخذوني وكيلاً؛ {وكفى بربك وكيلاً}؛ حافظاً لمن توكل عليه، فيحفظهم منك ومن أتباعك.
ثم ذكر ما يحث على التعلق به، والتوكل عليه في جميع الأحوال الدينية والدنيوية، فقال: {ربكم الذي يُزجي}؛ يجري {لكم الفلك} ويسيرها {في البحر لتبتغوا من فضله} بالتجارة والربح، وجَلْبِ أنواع الأمتعة التي لا تكون عندكم، {إِنه كان بكم رحيمًا} في تسخيرها لكم؛ حيث هيأ لكم ما تحتاجون إليه في سيرها، وسهل عليكم ما يعسر من أسباب معاشكم ومعادكم.
{وإِذا مسَّكم الضرُّ في البحر} يعني: خوف الغرق، {ضَلَّ}؛ غاب عنكم {من تَدْعُون}؛من تعبدون من الآلهة. أو: من تستغيثون به في حوادثكم، {إِلا إِيَّاه} وحده، فإنكم حينئذ لا يخطرُ ببالكم سواه، ولا تدعون، لكشفه، إلا إياه، فكيف تعبدون غيره، وأنتم لا تجدون في تلك الشدة إلا إياه؟ {فلما نجَّاكم} من الغرق {إِلى البر أعرضتم} عن التوحيد، أو عن شكر النعمة، {وكان الإِنسانُ كفورًا} بالنعم، جحودًا لها، إلا القليل، وهو كالتعليل للإعراض.
{أفأمِنْتُم} أي: أنجوتم من البحر، وأمنتم {أن يَخْسف بكم جانبَ البرِّ}؛ بأن يقلبه عليكم وأنتم عليه، أو يخسف بكم في جوفه، كما فعل بقارون، {أو يُرسلَ عليكم حاصبًا} أي: ريحًا حاصبًا، يرميكم بحصباء كقوم لوط، {ثم لا تجدوا لكم وكيلاً}؛ حافظاً لكم منه، فإنه لا رادّ لفعله. {أم أمنتم أن يُعيدكم فيه تارةً أخرى}؛ بأن يخلق فيكم دواعي تحملكم إلى أن ترجعوا لتركبوا فيه؛ {فيُرسلَ عليكم قاصِفًا من الريح} أي: ريحًا شديدة، لا تمر بشيء إلا قصفته، أي: كسرته، {فيُغرقكم}، وعن يعقوب: {فتغرقكم}؛ على إسناده إلى ضمير الريح. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: بنون التكلم في الخمسة. يفعل ذلك بكم {بما كفرتم}؛ بكفركم، أي: بسبب إشراككم، أو كفرانكم نعمة الإنجاء، {ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعًا}؛ مطالبًا يتبعنا بثأركم، كقوله: {وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا} [الشمس: 15]، أو: لا تجدوا نصيرًا ينصركم منه. والله تعالى أعلم.
الإشارة: العباد الذين ليس للشيطان عليهم سلطان، هم الذين أضافهم إلى نفسه؛ بأن اصطفاهم لحضرة قدسه، وشغلهم بذكره وأُنسه، لم يركنوا إلى شيء سواه، ولم يلتجئوا إلاَّ إلى حماه. فلا جرم أنه يحفظهم برعايته، ويكلؤهم بسابق عنايته. فظواهرهم قائمة بآداب العبودية، وبواطنهم مستغرقة في شهود عظمة الربوبية. فلمَّا قاموا بخدمة الرحمن، حال بينهم وبين كيد الشيطان، وقال لهم: ربكم الذي يُزجي لكم فلك الفكرة في بحر الوحدة؛ لتبتغوا الوصول إلى حضرة الأحدية، إنه كان بكم رحيمًا.
ثم إذا غلب عليكم بحر الحقيقة، وغرقتم في تيار الذات، غاب عنكم كل ما سواه، وطلبتم منه الرجوع إلى بر الشريعة، فلما نجاكم إلى البر أعرضتم عن شهود السِّوى، وجحدتم وجوده، لكن القلوب بيد الرحمن، يُقلبها كيف شاء؛ فلا يأمن العارف من المكر، ولو بلغ ما بلغ، ولذلك قال: أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر؛ فتغرقون في الحس، وتشتغلون بعبادة الحس، أو يُرسل عليكم حاصباً: وارداً قَهَّارِيًّا، يُخرجكم عن حد الاعتدال، أم أمنتم أن يُعيدكم في بحر الحقيقة، تارة أخرى، بعد الرجوع للبقاء، فيرسل عليكم واردًا قهاريًا يُخرجكم عن حد الاعتدال، ويحطكم عن ذروة الكمال، ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعًا. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآية رقم (70):

{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ولقد كرَّمنا بني آدم} قاطبة، برهم وفاجرهم، أي: كرمناهم بالصورة الحسنة، والقامة المعتدلة، والتمييز بالعقل، والإفهام بالكلام، والإشارة والخط، والتهدي إلى أسباب المعاش والمعاد، والتسلط على ما في الأرض، والتمتع به، والتمكن من الصناعات، وغير ذلك مما لا يكاد يُحيط به نطاق العبارة. ومن جملته: ما ذكره ابن عباس رضي الله عنه؛ من أن كل حيوان يتناول طعامه بفيه، إلا الإنسان يرفعه إليه بيده، وأما القرد فيده بمنزلة رجله؛ لأنه يطأ بها القاذورات؛ فسقطت حرمتها.
{وحملناهم} أي: بني آدم، {في البر والبحر}؛ على الدواب والسفن؛ فيمشون محمولين في البر والبحر. يقال: حملته حملاً: إذا جعلت له ما يركب. {ورزقناهم من الطيبات}؛ من فنون النعم، وضروب المستلذات ممَّا يحصل بصُنعهم وبغير صنعهم، {وفضلناهم} بالعلوم والإدراكات، مما رَكَّبْنَا فيهم {على كثير ممن خلقنا} وهم: من عدا الملائكة- عليهم السلام-. {تفضيلاً} عظيمًا، فحق عليهم أن يشكروا هذه النعم ولا يكفروها، ويستعملوا قواهم في تحصيل العقائد الحَقِّيَّةِ، ويرفضوا ما هم عليه من الشرك، الذي لا يقبله أحد ممن له أدنى تمييز، فضلاً عمن فُضّل على من عدا الملأ الأعلى، والمستثنى جنس الملائكة، أو الخواص منهم، ولا يلزم من عدم تفضيل الجنس؛ عدم تفضيل جنس بني آدم على الملائكة، عدم تفضيل بعض أجزائه؛ كالأنبياء والرسل، فإنهم أفضل من خواص الملائكة، وخواص الملائكة- كالمقربين مثلاً- أفضل من خواص بني آدم، كالأولياء، والأولياء أفضل من عوام الملائكة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد كرَّم الله هذا الآدمي، وشرفه على خلقه؛ بخصائص جعلها فيه، منها: أنه جعله نسخة من الوجود، فيه ما في الوجود، وزيادة، قد انطوت فيه العوالم بأسرها، من عرشها إلى فرشها، وإلى هذا المعنى أشار ابن البنا، في مباحثه، حيث قال:
يا سابقًا في مَوْكب الإِبْداع ** ولاحِقًا في جَيْش الاخْتِراع

اعْقِل فَاَنْتَ نُسْخَةُ الوُجُود ** لله ما أعلاَك مِن مَوْجُود

أَلَيْس فِيك العرشُ والكرسِيُّ ** والعالم العُلْويُّ والسُّفْلِيُّ

ما الكونُ إِلا رَجلٌ كبيرُ ** وأنتْ كونٌ مِثْلُه صَغِيرُ

وقال آخر:
إذا كنتَ كُرْسِيًّا وعَرْشًا وَجنَّةً ** وَنارًا وأَفْلاَكًا تدَوُر وأَمْلاَكا

وكُنْتَ من السِّرِّ المَصُون حَقِيقة ** وأَدْرَكْتَ هذا بالحقِيقَةِ إِدْرَاكا

فَفِيمَ التَّأَنِّي فِي الحَضِيضِ تُثَبُّطًا ** مُقِيمًا معَ الأسْرَى أمَا آن إِسْرَاكَا

ومنها: أنه جعله خليفة في ملكه، وجعل الوجود بأسره خادمًا له، ومنتفعًا به، الأرض تُقله، والسماء تُظله، والجهات تكتنفه، والحيوانات تخدمه، والملائكة تستغفر له، إلى غير ذلك مما لا يعلمه الخلق. قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض جَمِيعاً مِّنْهُ} [الجاثية: 13].
ومنها: أن جعل ذاته مشتملة على الضدين: النور والظلمة، الكثافة واللطافة، الروحانية والبشرية، الحس والمعنى، القدرة والحكمة، العبودية وأسرار الربوبية، إلى غير ذلك.
ولذلك خصه بحمل الأمانة.
ومنها: أنه جعله قلب الوجود، هو المنظور إليه من هذا العالم، وهو المقصود الأعظم من إيجاد هذا الكون، فهو المنعَّم دون غيره، إن أطاع الله، ألا ترى قوله تعالى: {وَتَرَى الملائكة حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ العرش} [الزُّمَر: 75]، فنعيم الجنان خاص بهذا الإنسان، أو: من التحق به من مؤمني الجان. وقال الورتجبي: كرامة الله تعالى لبني آدم سابقة على كون الخلق جميعًا؛ لأنها من صفاته، واختياره، ومشيئته الأولية. أوجد الخلق برحمته، وخلق آدم وذريته بكرامته، الخلق كلهم في حيزِ الرحمة، وآدم وذريته في حيز الكرامة. الرحمة للعموم، والكرامة للخصوص. خلق الكلَّ لآدم وذريته، وخلق آدم وذريته لنفسه، ولذلك قال: {واصطنعتك لِنَفْسِي} [طه: 41]، جعل آدم خليفته، وجعل ذريته خلفاء أبيهم، الملائكة والجن في خدمتهم، والأمر والنهي والخطاب معهم، والكتاب أُنزل إليهم، والجنة والنار والسماوات والأرض والشمس والقمر والنجوم، وجميع الآيات، خُلِقَ لهم. والخلق كلهم طُفيل لهم، ألا ترى الله يقول لحبيبه صلى الله عليه وسلم: «لولاك ما خلقت الكون»؟ ولهم كرامة الظاهر، وهي: تسوية خلقهم، وظرافة صورهم، وحسن نظرتهم، وجمال وجوههم، حيث خلق فيها السمع والأبصار والألسنة، واستواء القامة، وحسن المشي، والبطش، وإسماع الكلام، والتكلم باللسان، والنظر بالبصر، وجميع ذلك ميراث فطرة آدم، التي صدرت من حسن اصطناع صورته. الذي قال: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]، فنور وجوههم من معادن نور الصفة، وأنوار الصفات نوَّرت آدم وذريته، فتكون نورًا من حيث الصفات والهيئات، والحسن والجمال، متصفون متخلقون بالصفات الأزلية، لذلك قال عليه الصلاة والسلام: «خلَقَ آدَم على صُورَتِهِ»، من حيث التخلق لا من حيث التشبيه. انظر تمامه. والحاصل أنه فضلهم بالخلْق والخلُق، وذلك يجمع محاسن الصورة الظاهرة والباطنة. اهـ. قاله المحشي الفاسي.