فصل: سورة الصافات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.سورة الصافات:

.تفسير الآيات (1- 10):

{وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)}
يقول الحق جلّ جلاله: {والصافات صفاً فالزاجرات زَجْراً فالتاليات ذكراً} أقسم بطوائف الملائكة، الصافِّين أقدامهم في مراتب العبادة، كل على ما أمر به، فالزاجرات السحاب سوقاً إلى ما أراد الله، أو: عن المعاصي بإلهام الخير. أو: الشياطين عن التعرُّض لهم. {فالتاليات ذكراً} لكلام الله تعالى من الكتب المنزلة وغيرها، قاله ابن عباس وابن مسعود وغيرهما. وفيه رد على ابن الصلاح، حيث قال في فتاويه: إن الملائكة لا تقرأ القرآن، وإنما قراءته كرامة أكرم الله بها البشر. قال: فقد ورد أن الملائكة لم تُعط ذلك، فهي حريصة لذلك على استماعه من الإنس، كما نقله عنه في الإتقان، فانظره.
أو: بنفوس العلماء والعمال، الصافات أقدامها في التهجُّد وسائر الصلوات، فالزاجرات بالمواعظ والنصائح، فالتاليات آيات الله، والدراسات شرائعه. أو: بنفوس الغزاة في سبيل الله، التي تصف الصفوف، وتزجر الخيل للجهاد، وتتلو الذكر مع ذلك، لا يشغلهم عنه مبارزة العدو. و{صفاً}: مصدر مؤكد، وكذلك {زجراً}، والفاء تدلُّ على الترتيب، فتفيد فضل المتقدم على المتأخر، فتفيد الفضل للصف، ثم للزجر، ثم للتلاوة، أو بالعكس.
وجواب القسم: {إِنَّ إِلهكم لواحدٌ} لا شريك معه يستحق أن يُعبد، {وربُّ السماواتِ والأرضِ} وهو خبر بعد خبر، أو: خبر عن مضمر، أي: هو {ربُّ السماوات والأرض وما بينهما وربُّ المشارق} أي: مطالع الشمس، وهي ثلاث مائة وستون مشرقاً، وكذلك المغارب. تُشرق الشمس كلّ يوم في مشرق منها، وتغرب في مغرب، ولا تطلع ولا تغرب في واحد يومين. وأما: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرحمن: 17] فإنه أريد مشرقي الصيف والشتاء ومغربيهما. وأما: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [المزمل: 9] فإنه أريد به الجهة، فالمشرق جهة، والمغرب جهة. قال الكواشي: لم يذكر المغارب؛ لأن المشارق تدل عليها.
{إِنا زَيَّنا السماءَ الدنيا} القُربى منكم، تأنيث الأدنى، {بزينة الكواكب} بالإضافة، أي: بأن زينتها الكواكب ومَن قرأ بالتنوين والخفض فبدل، أي: هي الكواكب، ومَن قرأ بالنصب فعلى إضمار أعني، أو: بدل من محل {بزينة} أي: زيَّنَّا الكواكب، أو: على إعمال المصدر منوناً في المفعول، أي: بتزيُّن الكواكب. قال البيضاوي: وركوز الثوابت في الكُوة الثامنة، وما عدا القمر من السيارات في الست المتوسطة بينهما وبين سماء الدنيا إن تحقق لم يقدح في ذلك، فإن أهل الأرض يرونها بأسرها كجواهر مشرقة، متلألئة على سطحها الأزرق. اهـ.
{وحِفْظاً} من الشياطين، كما قال: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلْشَّيَاطِينِ} [الملك: 5] أو: بإضمار فعله، أي: حفظناها حفظاً {من كل شيطانٍ ماردٍ} خارج عن الطاعة، فيُرمي بالشهب. {لا يسَّمَّعون إِلى الملأ الأعلى}: استئناف؛ لبيان حالهم، بعد بيان حفظ السماء منهم، ولا يجوز وصفه لكل شيطان؛ لأنه يقتضي أن يكون الحفظ من شياطين لا يسمعون.
والضمير لكلٍّ باعتبار المعنى؛ لأنه في معنى شياطين، وتعدية {يسمعون} بإلى لتضمُّنه معنى الإصغاء؛ مبالغة في نفيه، وتهويلاً لما يمنعهم عنه. ومَن قرأ بالتشديد فأصله: {يتَسمَّعون} فأدغم. والتسمُّع: طلب السماع. يقال: تسمّع فسمع أو لم يسمع إذا منعه مانع. والملأ الأعلى هم: الملائكة؛ لأنهم في السموات العُلى، والإنس والجن هم الملأ الأسفل؛ لأنهم سكان الأرض {ويُقْذَفُون} يُرمون بالشُهب، {مِن كل جانبٍ} من جميع جوانب السماء، من أيّ جهة صعدوا للاستراق.
{دُحُوراً} مفعول له، أي: ويُقذفون للدحور، وهو الطرد، أو: مدحورين، على الحال، أو: لأن القذف والطرد متقاربان في المعنى، فيكون مصدراً له، فكأنه قيل: ويُقذفون قذفاً، {ولهم عذابٌ} آخر {واصبٌ} دائم، أو شديد، وهو عذاب الآخرة، أو: عذاب الدنيا؛ لأنه دائم الوجوب؛ لأنهم في الدنيا مرجمون بالشهب دائماً، {إِلا مَنْ خَطِفَ الخَطْفَةَ} {مَنْ}: بدل من ضمير {يسمعون}، أي: لا يتسمّع الشياطين إلا الشيطان الذي خَطِفَ الخطفةَ، أي: اختلس شيئاً من كلام الملائكة بسرعة، {فَأَتْبَعه شِهَابٌ ثاقبٌ} أي: نجم مضيء يثقبه، أو يحرقه، أو يخبله، ومنه تكون الغيلان. والله تعالى أعلم.
الإشارة: أقسم الحق تعالى بصفوف الذاكرين، الزاجرين للخواطر عن قلوبهم، في طلب الحضور، التالين لذكر ربهم لرفع الستور، إنه منفرد في ألوهيته، متوحِّد في ربوبيته؛ إذ هو ربُّ كل شيء، ربُّ سموات الأرواح، وربُّ أرض النفوس والأشباح، وربُّ مشارق أنوار العرفان، وهي قلوب أهل العيان، ولم يذكر المغارب؛ لأن شمس القلوب إذا طلعت ليس لها مغيب.
قوله تعالى: {إِنا زَيَّنا السماءَ الدنيا...} إلخ، قال القشيري: زيَّن السماء بالنجوم، وزيَّن قلوب أوليائه بنجوم المعارف والأحوال. اهـ. وقوله تعالى: {وحِفظاً من كل شيطان مارد} قال القشيري: كذلك حفظ القلوب بأنوار التوحيد، فإذا قَرُبَ منها الشيطان رَجَمَهَا بنجوم معارفهم، إلا مَن خَطِفَ الخطفة، كذلك إذا اغتنم الشيطان من الأولياء أن يُلْقِيَ شيئاً من وساوسه؛ تَذَكَّروا، فإذا هم مُبْصِرون. اهـ.
وقال في لطائف المنن: إن الله تعالى إذ تولى وليًّا صان قلبه من الأغيار، وحرسه بدوام الأنوار، حتى لقد قال بعض العارفين: إذا كان سبحانه قد حرس السماء بالكواكب والشُّهب؛ كي لا يسترق السمع منها، فقلبُ المؤمن أولى بذلك، لقول الله سبحانه، فيما يحكيه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم تسعني أرضي ولا سمائي، ووسعني قلب عبدي المؤمن». اهـ. والمراد: المؤمن الكامل، الذي تولّى الله حفظه، وهو الولي العارف.

.تفسير الآيات (11- 21):

{فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آَيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21)}
يقول الحق جلّ جلاله: {فَاسْتَفْتِهِمْ} أي: فاستخبر كفّار مكّة {أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً} أي: أقوى خلقاً وأعظم، أو: أصعب خلقاً وأشقه. {أَم مَّنْ خَلَقْنَا} يعني ما ذكر من السماء والأرض وما بينهما، وما يعمرهما من الملائكة والكواكب، والشُهب الثواقب؟ وجيء ب {مَنْ} تغليباً للعقلاء. ويدلّ عليه قراءة مَن قرأ: {أم من عددنا} بالتشديد والتخفيف. والقصد: الرد على منكري البعث، فإنَّ مَن قدرَ على خلق هذه العوالم، على عظمها، كان على بعثهم أقدر.
ثم ذكر ضعف أصلهم بقوله: {إِنا خلقناهم من طين لازب} لاصق باليد، أو: لازم. وقرئ به، أي: يلزم مَن جاوره ويلصق به. وهذا شاهد عليهم بالضعف؛ لأن ما يصنع من الطين غير موصوف بالصلابة والقوة. أو احتجاج عليهم بأن الطين اللازب الذي خُلقوا منه إنما هو تراب، فمن أين استنكروا أن نخلق من تراب مثله خلقاً آخر؟ حيث قالوا: {أَءِذَا كُنَّا تُرَاباً} [الرعد: 5]، إلخ، وهذا المعنى يعضده ما يتلوه بعدُ؛ من ذكر إنكارهم البعث.
{بل عَجِبْتَ} من تكذيبهم إيَّاك، وإنكارهم البعث، {ويَسْخَرون} هم منك، ومن تعجُّبك، أو: مِن أمر البعث، قال الكواشي: ولَمَّا لم تؤثِّر فيهم البراهين، أَمَرَ نبيَّه عليه الصلاة والسلام بالإضراب عنهم، والإعجاب منهم، حيث لم يؤمنوا به وبالبعث، والمعنى: إنك تعجبت من تكذيبهم، وهم يسخرون منك ومن تعجُّبك. اهـ. قال قتادة: لَمَّا نزل القرآنُ عجب منه النبي صلى الله عليه وسلم، واعتقد أنه لا يسمعه أحد إلا آمن به، فلما سَمِعَه المشركون، ولم يؤمنوا، وسخروا، تعجَّب من ذلك. اهـ. وذكر ابن عطية وغيره: أن الآية نزلت في رُكانة، الذي صرعه صلى الله عليه وسلم، وذكر ابن عبد البر: أنه أسلم يوم الفتح. اهـ.
وقرأ الأخوان {عجبتُ} بضم التاء، أي: استعظمت. والعجَبُ: روعة تعتري الإنسان عند استعظام الشيء؛ لخفاء سببه، وهو في حقه تعالى مُحال، ومعناه: التعجُّب لغيره، أي: كل مَن يرى حالهم يقول: عجبت، ونحوه: قوله صلى الله عليه وسلم: «عجب الله من شاب ليست له صبوة» وهو عبارة عما يُظهره الله في جانب المتعجب منه، من التعظيم أو التحقير، أو: قل يا محمد: عجبتُ ويسخرون.
{وإِذا ذُكِّروا لا يذْكُرون} أي: ودأبهم أنهم إذا وُعظوا بشيء لا يتعظون به. {وإِذا رَأَوْا آيةً} معجزة، كانشقاق القمر، ونحوه، {يَسْتَسْخِرُونَ} يُبالغون في السخرية، ويقولون: إنه سحر، ويستدعي بعضهم بعضاً أن يسخر منها، {وقالوا إِن هذا} ما هذا {إِلا سحر مبينٌ} ظاهر سحريته، {أَإِذَا مِتنا وكنا تُراباً وعظاماً أئِنا لمبعُوثُون} أي: أَنُبعث إذا كنا تُراباً وعظاماً؟ {أوَ آبَاؤُنا الأولون} فمن فتح الواو عطف على محلّ إِنّ واسمها، والهمزة للإنكار، أي: أَوَيُبعث أيضاً آباؤنا الأولون الأقدمون، على زيادة الاستبعاد، يعنون أنهم أقدم، فبعثهم أبْعد وأبطل.
ومَن سَكَّن فَمِنْ عطفِ أحد الشيئين، أي: أيُبعث واحد منا، على المبالغة في الإنكار. {قُلْ نَعَم} تُبعثون {وأنتم داخرون} صاغرون.
{فإِنما هي زَجْرَةٌ واحدة} أي: صيحة واحدة، وهي النفخة الثانية، والفاء: جواب شرط مقدر، أي: إذا كان كذلك فما هي إلا صيحة واحدة، وهي مبهمة، يُفسرها خبرها.
أو: فإنما البعثة زجرة واحدة. والزجرة: الصيحة، من قولك: زجر الراعي الإبلَ والغنمَ: إذا صاح عليها، {فإِذا هم} أحياء {ينظرون} إلى سوء أعمالهم، أو: ينظرون ما يحلُّ بهم.
{وقالوا يا ويلنا} الويل: كلمة يقولها القائل وقت الهلكة، {هذا يومُ الدينِ} اليوم الذي يُدانُ فيه العباد، ويُجازون بأعمالهم. {هذا يومُ الفصلِ} أي: يوم القضاء والفرق بين فرق الهدى والضلالة، {الذي كنتم به تُكذِّبون} يحتمل أن يكون قوله: {هذا يوم الدين} من كلام الكفرة، بعضهم مع بعض، وأن يكون من كلام الملائكة لهم، وأن يكون {يا ويلنا هذا يوم الدين} من كلام الكفرة، وما بعده كلام الملائكة، جواباً لهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: الإنسان فيه عالَمان، عالَم في غاية الضعف والخِسة، وهي بشريته الطينية، أصلها من ماء مهين. وعالَم في غاية القوة والكمال، وهي روحانيته السماوية النوارنية، فإذا حييت الروح بالعلم بالله، واستولت على البشرية، استيلاء النار على الفَحمة، أكسبتها القوة والشرف، وإذا ماتت الروح بالغفلة والجهل، واستولت عليه البشرية أكسبتها الضعف والذل، والعارف الكامل هو الذي ينزل كل شيء في محله، فينزل الضعف في ظاهره، والقوة في باطنه، فظاهره يمتد من الوجود بأسره، وباطنه يمُد الوجود بأسره. فمَن نظر إلى أصل ظاهره تواضع وعرف قدره، ولذلك قال سيدنا علي كرّم الله وجهه: ما لابن آدم والفخر، وأوله نطفة مذرة، وآخره جيفة قذرة، وفيما بينهما يحمل العذرة. اهـ.
ومَن نظر إلى باطنه تاه على الوجود بأسره، لكن من آداب العبد: ألا يُظهر بين يدي سيده إلا ما يناسب العبودية، من الضعف، والذل، والفقر، فإذا تحقّق بوصفه مدَّه اللهُ بوصفه. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (22- 34):

{احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34)}
يقول الحق جلّ جلاله للملائكة يوم القيامة: {احْشُرُوا الذين ظلموا} أي: اجمعوا الذين كفروا {وأزواجَهم} وأَشباهَهم، فيُحشر عابد الصنم مع عبدة الأصنام، وعابد الكواكب مع عبدتها. أو: نساءهم الكافرات، أو: قرناءهم من الشياطين. والواو بمعنى مع، أو: عاطفة. {وما كانوا يعبدون من دون الله} أي: الأصنام، اجمعوها معهم، {فاهْدُوهم إلى صراطِ الجحيم} أي: دُلوهم على طريقها، وعرّفوهم بها. وعن الأصمعي: يقال: هديته في الدين هُدى، وهديته الطريق هداية.
{وقِفُوهُم}: احبسوهم {إِنهم مسؤولون} عن أقوالهم وأفعالهم وعقائدهم، {ما لكم لا تَنَاصَرُون} لا ينصر بعضكم بعضاً. وهذا توبيخ لهم بالعجز عن التناصر، بعدما كانوا يتناصرون في الدنيا، أو: استهزاء بهم. وقيل: هو جواب لأبي جهل، حيث قال يوم بدر: {نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ} [القمر: 44]، وجملة النفي: حال، أي: ما لكم غير متناصرين، {بل هم اليوم مسْتَسْلِمون} منقادون لِما يُراد بهم؛ لعجزهم؛ وانْسِدَادِ أبواب الحيل عليهم، أو: قد أسلم بعضهم بعضاً وخذله.
{وأقْبَل بعضُهم على بعضٍ} أي: التابع على المتبوع {يتساءلون} يتخاصمون، ويسأل بعضهم بعضاً سؤال توبيخ وتسخُّط، {قالوا} أي: الأتباع للمتبوعين: {إِنكم كنتم تأتوننا عن اليمين} أي: تصدوننا عن الحق والإيمان، قاله الحسن. وبيانه: أن العرب كانت تتيمّن بالسانح عن اليمين من الطير، ويناسبه ما ذكره ابن عطية في جملة التأويلات بقوله: ومنها: أن يريد باليمين اليمْن، أي: تأتوننا من جهة النصائح، والعمل الذي يتيمّن به. اهـ. قلت: والأحسن: أن يقدر معلق الجار، أي: تأتوننا وتصرفوننا عن طريق أهل اليمين.
{قالوا} أي: الرؤساء: {بل لم تكونوا مؤمنين} أي: بل أنتم أبيتم الإيمان، وأعرضتم عنه مع تمكُّنكم منه، مختارين للكفر، غير ملجئين إليه، أو: بل أنتم سبقت منكم الضلالة على إغوائنا، وإنما نشأ عن إغوائنا دوام كُفركم لا استئنافه. {وما كان لنا عليكم من سلطانٍ} وقهر، نسلبكم به تمكُّنكم واختياركم، {بل كنتم قوماً طاغين} أي: بل كنتم قوماً مختارين للطغيان، {فحقَّ علينا} أي: لزمنا جميعاً {قولُ ربِّنا إِنا لذائقون} يعني: حقت علينا كلمتُه بأنا ذائقون لعذابه. ولو حكى الوعيد على ما هو لقال: إنكم لذائقون، لكنه عدل به إلى لفظ المتكلم؛ لأنهم يتكلّمون بذلك على أنفسهم. ثم قالوا لضعفائهم: {فأغويناكم} فدعوناكم إلى الغي {إِنا كنا غَاوِينَ} فأردنا إغواءكم لتكونوا مثلنا، {فإِنهم} أي: الأتباع والمتبوعين جميعاً، {في العذاب يومئذٍ مشترِكون} كما كانوا مشتركين في الغواية. {إِنا كذلك نفعل بالمجرمين} المشركين، أي: مثل ذلك الفعل نفعل بكل مجرم.
الإشارة: ويقال على طريق العكس: احْشُروا الذين أحسنوا واتقوا ربهم، وأزواجهم، ومَن انتسب إليهم، فاهدوهم إلى طريق الجنان، وقِفوهم يشفعوا فيمن تعلّق بهم، إنهم مسؤولون عن أصحابهم وعشائرهم، حتى يخلصوهم من ورطة الحساب. ما لكم لا تناصرون، فينصر بعضكم بعضاً في هذا الموطن الهائل، بل هم اليوم منقادون لأمر الله، حتى يأذن لهم في الشفاعة. وفي الحديث: «اتَّخِذُوا يداً عند الفقراءِ، فإن لهم دَوْلَة يومَ القيامة» ودولتهم: الشفاعة فيمن أحبهم وأحسن إليهم. والفقراء هم المتوجهون إلى الله تعالى، حتى وصلوا إلى حضرته، ومَن صَدّ الناسَ عن طريقه وصحبتهم، يتعلّق به المخذول عنهم، فيقول له: {إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين...} الآية.