فصل: تفسير الآيات (1- 4):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (1- 4):

{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4)}
يقول الحق جلّ جلاله: {يُسبِّح لله ما في السماوات وما في الأرض} أي: يُنزّهه سبحانه جميعُ ما فيهما من المخلوقات عما لا يليق بجناب كبريائه، قال القشيري: المخلوقات بجملتها مُسَبِّحةٌ لله، ولكن لا يَسْمَعُ تسبيحَها مَن فيه طَرَشُ النكرة. اهـ. {له الملكُ وله الحمدُ} لا لغيره؛ إذ هو المبدئ لكلّ شيء، وهو القائم به، والمهيمن عليه، وهو المُولي لأصول النِعم وفروعها، وأمّا ملك غيره فاسترعاء من جنابه، وحمد غيره اعتداد بأنّ نعمة الله جرت على يديه. فتقديم الظرفين للاختصاص. {وهو على كل شيءٍ قديرٌ}؛ لأنّ نسبة ذاته المقتضية للقدرة إلى كل سواء.
{هو الذي خَلَقَكُم} خلقاً بديعاً، حائزاً لجميع الكمالات العلمية والعملية، ومع ذلك {فمنكم كافرٌ} أي: فبعض منكم مختار للكفر كاسباً له، على خلاف ما تستدعيه خِلقته، {ومنكم مؤمن} مختار للإيمان، كاسباً له، على حسب ما تقتضيه خِلقته، وكان الواجب عليكم جميعاً أن تكونوا مختارين للإيمان، شاكرين لنِعم الخلق والإيجاد، وما يتفرّع عليهما من سائر النِعم، فما فعلتُم ذلك مع تمام تمكُّنكم منه، بل تشعّبتم شعباً، وتفرقتم فِرَقاً. وتقديم الكفر لأنه الأغلب والأنسب للتوبيخ. قال القشيري: {فمنكم كافر ومنكم مؤمن} أي: في سابق علمه سمَّاه كافراً، لعلمه أنه يكفر، وكذلك المؤمن. اهـ. قال أبو السعود: حَمْله على ذلك مما لا يليق بالمقام، فانظره. {واللهُ بما تعملون بصير} فيُجازيكم بذلك، فاختاروا منه ما ينفعكم من الإيمان والطاعة، وإياكم وما يرديكم من الكفر والعصيان.
{خَلَقَ السماوات والأرضَ بالحق}؛ بالحكمة البالغة، المتضمنة للمصالح الدينية والدنيوية، حيث جعلها مقرًّا للمكلّفين ليعملوا فيُجازيهم، {وصوَّركم فأّحْسَن صُوَركم} حيث أنشأكم في أحسن تقويم، وأودع فيكم من القُوى والمشاعر الظاهرة والباطنة، ما نيط بها جميع الكمالات البارزة والكامنة، وخصَّكم بخلاصة خَصائص مُبدعاته، وجعلكم أنموذجَ جميع مخلوقاته، فالكائنات كلها منطوية في هذه النشأة.
قال النسفي: أي: خلقكم أحسن الحيوان كلّه، وأبهاه، بدليل: أنّ الإنسان لا يتمنّى أن تكون صورته على خلاف ما يرى من سائر الصور، ومِن حُسن صورته: أنه خلق منتصباً غير منكبٍّ، ومَن كان دميماً، مشوّه الصورة، سمج الخلقة، فلا سماجة ثمَّ، ولكن الحسن على طبقات، فلانحطاطها عمّا فوقها لا تستملح، ولكنها غير خارجة عن حدّ الحُسن. وقال الحكماء: شيئان لا غاية لهما: الجمال والبيان. اهـ. قلت: وما أشار إليه هو الذي نظمه الجيلاني في عينيته، حيث قال:
وكُلُّ قبيحٍ إن نَسَبْتِ لحُسْنِه ** أتتك معاني الحُسْنِ فيه تُسارعُ

يُكَمِّل نُقصانَ القبيحِ جَمَالُه ** فما ثَمَّ نُقصانٌ ولا ثَمَّ بَاشِعُ

{وإِليه المصيرُ} في النشأة الأخرى، لا إلى غيره، فأحسِنوا سرائركم، باستعمال تلك القوى والمشاعر فيما خُلقن له.
{يعلمُ ما في السماوات والأرض ويعلم ما تُسِرُّون وما تُعلنون} أي: ما تُسرونه فيما بينكم، وما تُظهرونه من الأمور، والتصريح به مع اندراجه فيما سبق قبله؛ لأنه الذي يدور عليه الجزاء، ففيه تأكيد للوعد والوعيد، وتشديد لهما.
وقوله تعالى: {واللهُ عليم بذاتِ الصُدور}: تذييل لِما قبله، ومُقَرِّر له، من شمول علمه تعالى لسِرِّهم وعلنهم، أي: هو محيط بجميع المضمرات المستكنة في صدور الناس، بحيث لا يُفارقها أصلاً، فكيف يخفى عليه ما يُسرونه وما يُعلنونه، فحق أن يُتقى ويُحذر. وإظهار الجلالة للإشعار بعلية الحكم، وتأكيد استقلال الجملة. قيل: وتقدّم تقرير القدرة على تقرير العلم؛ لأنّ دلالة المخلوقات على قدرته تعالى بالذات، وعلى علمه بما فيها من الإتقان والاختصاص ببعض الأوصاف، وكل ما ذكره بعد قوله: {فمنكم كافر ومنكم مؤمن} في معنى الوعيد على الكفر، وإنكار أن يُعصى الخالق ولا تُشكر نِعَمه.
قال الطيبي: الفاء في {فمنكم} تفصيلية، والآية كلها واردة لبيان عظمة الله في مُلكِه وملكوته، وذلك أنه تعالى لمّا أثبت لذاته الأقدس التنزيه، وأنّ كل شيء ينزهه ويُقدّسه عما لا يَليق بجلاله، ثم خصّ أنه لوصفه بالمالكية على الإطلاق، وكل كمال وجمال ونعمةٍ وإفضال منه، وهو خالق كل مهتدٍ وضال، ونظم دليل الآفاق مع ليل الأنفس، وبيّن أنَّ إليه المصير، ختم ذلك بإثبات العلم الشامل للكليات والجزئيات، وكرره تكريراً، وأكّده توكيداً، وكأنَّ ذكر العلم في قوله: {والله بما تعملون بصير} استطراد لذكر الخلق وتفصيله، ولإثبات القضاء والقدر، ولمّا فرغ من بيان العظمة جاء بالتهديد والوعيد، وقال: {ألم يأتكم...} الآية. اهـ.
الإشارة: هو الذي خلقكم، فمنكم كافر بطريق الخصوص، ومنكم مؤمن بها، داخل فيها، أي: فمنكم عام ومنكم خاص. قال القشيري: فمنكم كافرٌ، أي: سائر للحق بالخلق، ومنكم مؤمن، أي: مُصدِّقٌ بظهور الحق في الخلق. ثم قسَّم الناسَ على ثلاثة: مَن لا يرى إلاّ الخلق، وهم أهل الفرق، ومَن لا يرى إلاّ الحق، وهم أهل الجمع، ومَن يرى الحق في الخلق، والخلق في الحق، لا يحجبه أحدُهما عن الآخر، فهم أهل جمع الجمع.
خَلَقَ سماواتِ الأرواح ليُعرف بها، وأرض الأشباح ليُعبد بها، وهو الواحد الأحد، وصوَّركم فأحسن صُورَكم، حيث جعلها جامعة للعوالم العلوية والسفلية؛ لأنَّ الله تعالى خلق آدم على صورته، وذاته المقدسة جامعة لمظاهر الصفات والأسماء، وتلك المظاهر كلها مجموعة في الصور الآدمية، بخلاف سائر الكائنات، فما في صورتها إلآَّ بعض الأسماء والصفات، فتأمّله. وإليه المصير، أي: وإلى ذاته ترجع جميع الصور والأشكال، فما خرج شيء عن إحاطة الذات والصفات، يعلم ما تُسرُّون من العقائد الصحيحة، وما تُعلنون من العبادات الخالصة، أو: ما تُسرُّون من الكشوفات الذوقية، وما تُعلنون من العبودية الاختيارية، هذا في خاصة أهل الظاهر وأهل الباطن، أو: ما تُسرُّون من العقائد الفاسدة، وما تُعلنون من الأعمال الخبيثة، أو: ما تُسرُّون من الاتحاد أو الحلول، وما تعلنون من العمل والمعلول، وهذا في طالحي الفريقين.

.تفسير الآيات (5- 7):

{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7)}
يقول الحق جلّ جلاله: لكفار مكة {ألم يأتكم نبأُ الذين كفروا من قبلُ}؟ كقوم نوح، ومَن بعدهم من الأمم المُصرَّة على الكفر، {فذاقوا وبالَ أمرهم} أي: شؤم كفرهم في الدنيا من الهلاك والاستئصال. والوبالُ: الثقل والشدة، وأمرهم: كفرهم، عبّر عنه بالأمر إيذاناً بأنه أمر هائلٌ، وجناية عظيمة، وذاقوا عطف على {كفروا} أي: ألم يأتكم خبر الذين كفروا فذاقوا من غير مهلة ما يسْتتبعُهُ كفرهم في الدنيا؟ {ولهم في الآخرة عذابٌ أليم} لا يُقادَر قدره.
{ذلك} أي: ما ذكر من العذاب الذي ذاقوه في الدنيا، وما سيذوقونه في الآخرة {بأنه}؛ بسبب أن الشأن {كانت تأتيهم رُسُلهم بالبينات}؛ بالمعجزات الظاهرة، {فقالوا أَبَشَرٌ يهدوننا} أي: قال كلُّ قوم من المذكورين في حق رسولهم الذي أتاهم بالمعجزات منكرين كون الرسول من البشر، متعجبين من ذلك {أَبَشرٌ} مِن جنس البشر {يهدوننا}، أنكروا رسالة البشر، ولم ينكروا عبادةَ الحجر، {فكفروا} بالرسل {وتَوَلَّوا} عن التدبُّر فيما أتوا به من البينات، أو: عن الإيمان بهم، {واستغنى اللهُ} أي: أظهر استغناءه عن إيمانهم وطاعتهم، حيث أهلكهم وقطع دابرهم، ولولا استغناؤه تعالى عنها ما فعل ذلك، {والله غنيٌّ} عن العالمين، فضلاً عن إيمانهم وطاعتهم، {حميدٌ} يحمده كلُّ مخلوقٍ بلسان الحال والمقال، أو: مستحق للحمد بذاته، وإن لم يحمده حامد.
ثم ذكر كفرهم بالبعث، فقال: {زَعَمَ الذين كفروا أن لن يُبعثوا}، الزعم: ادّعاء العلم، فيتعدّى إلى مفعولين، سدّ مسدهما {أن} المخففة، أي: أدّعى أهل مكة أنّ الشأن لن يُبعثوا بعد موتهم، {قل بلى وربي لَتُبعثن}، ردًّا لزعمهم وإبطالاً لِما نفوه مؤكَّداً بالقسم، فإن قلْتَ: ما معنى اليمين على شيء أنكروه؟ قلتُ: هو جائز؛ لأنّ التهديد به أعظم موقعاً في القلب، فكأنه قيل: ما تنكرونه والله إنه لواقع لا محالة، {ثم لتُنبَّؤنَّ بما عَمِلتم} أي: لتُحاسبن وتُجزون بأعمالكم، {وذلك} أي: ما ذكر من البعث والحساب {على الله يسيرٌ} هيّن، لتحقق القدرة التامة، وقبول المادة للإعادة.
الإشارة: ألم يأتكم يا معشر المنكِرين على أولياء زمانكم، خبر مَن أنكر قبلكم، ذاقوا وبالَ أمرهم حيث ماتوا محجوبين عن شهوده، مطرودين عن ساحة قربه، ذاقوا وبال أمرهم في الدنيا؛ الجزع والهلع وتسليط الخواطر والشكوك، ولهم في الآخرة عذاب البُعد والحِجاب، وسبب ذلك: إنكار الخصوصية عند بشر مثلهم، فكفروا به، وتولَّوا عنه، والله غني عنهم، وعن توجههم، وعن جميع الخلق، زعم الذين كفروا؛ ستروا الحق بالخلق، أي: احتجبوا بالخلق عن شهود الحق، أن لن يُبعثوا على معتقدهم، قل: بلى وربي لتُبعثن، كما عشتم محجوبين عن رؤية الحق إلاّ نادراً؛ لأنَّ العبد يموت على ما عاش، ويُبعث على ما مات، من معرفةٍ أو نكران، ثم لتُحاسبن على أعمالكم، لا يغادَر منها صغيرة ولا كبيرة، بخلاف العارفين، لا يُرفع لهم ميزان، ولا يتوجه لهم حساب، حيث فَنوا عن أنفسهم، وبقوا بالله، وهم من السبعين ألفاً. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (8- 10):

{فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10)}
قلت: الفاء في قوله: {فأمِنوا} فصيحة، مفصحة عن شرط مقدّر، أي: إذا كان الأمر كما ذكرنا من وقوع البعث لا محالة فآمِنوا وتأهّبوا له.
يقول الحق جلّ جلاله: {فآمِنوا بالله ورسوله} محمد صلى الله عليه وسلم، {والنورِ الذي أنزلنا} وهو القرآن، فإنه بيّن حقائق الأشياء، فيهتَدي به كما يهتدى بالنور. والالتفات في {أنزلنا} لكمال العناية بالإنزال، {والله بما تعملون} من الامتثال وعدمه {خبير}، فيجازيكم عليه. وإظهار اسم الجليل لتربية المهابة، وتأكيد استقلال الجملة.
واذكر {يومَ يجمعكم} أو: لَتنبؤنَّ، أو خبير {يوم يجمعكم ليوم الجمع} وهو يوم يُجمع فيه الأولون والآخرون للحساب والجزاء، {ذلك يوم التغَابُنِ}، مستعار من: تغابن القومُ في التجارة، وهو أن يُغبن بعضُهم بعضاً، لنزول السعداء منازلَ الأشقياء التي كانوا ينزلونها لو كانوا سعداء، ونزول الأشقياء منازل السعداء لو كانوا أشقياء، كما ورد في الحديث. وقد يتغابن الناسُ في ذلك اليوم بتفاوت الدرجات، وذلك هو التغابن الحقيقي، لا التغابن في أمور الدنيا، {ومَن يؤمن بالله ويعمل صالحاً نُكَفِّرْ} بنون العظمة لنافع والشامي، وبياء الغيبة، أي: يُكَفِّر الله {عنه سيئاتِه ونُدْخِلْه جنات} أو: يُدخله الله {جناتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك} أي: ما ذكر من تكفير السيئات وإدخال الجنات {الفوزُ العظيم} الذي لا فوز وراءه؛ لانطوائه على النجاة من أعظم الهلكات، والظفر بأجل الطلبات.
{والذين كفروا وكَذَّبوا بآياتنا أولئك أصحابُ النار خالدين فيها وبئس المصير}؛ المرجع، كأنّ هاتين الآيتين الكريمتين بيان لكيفية التغابن. والله تعالى أعلم.
الإشارة: فأمِنوا بالله ورسوله إيمان العيان، لا إيمان البرهان، أي: قدِّموا إيمان البرهان، ثم سيروا إلى مقام العيان، وآمِنوا بالقرآن، وصَفُّوا مرآة قلوبكم حتى تسمعوه منا بلا واسطة، واذكروا يومَ يجمعكم ليوم الجمع الدائم لأهل الجمع في الدنيا، ذلك يوم التغابن، يغبن الذاكرون الغافلين، والمجتهدون المقصّرين، والعارفون بالله والمحجوبين عنه، وهذا هو الغبن الكبير، ومَن يُؤمن بالله، ثم يَجْهد في شهود الله، ويعمل عملاً صالحاً، وهو العمل بالله، نُكفِّر عنه سيئاته، أي رؤية أعماله ووجوده، أي: نُغَطِّي وصفَه بوصفي، ونعتَه بنعتي، ونُدخله جنات المعارف، تجري من تحتها أنهار العلوم والحِكم، وذلك هو الفوز العظيم، أي: خَلْع الوجود المجازي عنه، وإلباس الوجود الحقيقي هو الفوز العظيم. والذين كفروا بطريق الخصوص، وكذَّبوا بآياتنا، وهم العارفون الدالون على الله، أولئك أصحاب النار، أي: نار الحجاب وجحيم الاحتجاب، خالدين فيها، وبئس المصير الحجاب والاحتجاب.

.تفسير الآيات (11- 13):

{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13)}
يقول الحق جلّ جلاله: {ما أصاب من مُصيبةٍ} دنيوية أو أخروية {إِلاّ بإذن الله} أي: بتقديره وإرادته، كأنها بذاتها متوجهة إلى الإنسان، متوقفة على إذنه تعالى، {ومَن يُؤمن بالله} أي: يُصدِّق بأنّ المقادير كلها بيد الله {يَهْدِ قلبه} للرضا والتسليم، أو الاسترجاع، فيقول: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، أو: يَهْدِ قلبه حتى يعلم أنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليُصيبه، وعن مجاهد: إن ابتلي صبر، وإن أعطي شكر، وإن ظُلم غفر. ونقل ابن عطية عن المفسرين: أنّ المراد: مَن اعترف بالقدر هانت عليه المصيبة، وسلَّم لأمر الله تعالى. {واللهُ بكل شيءٍ عليمٌ} فيعلم ما في القلوب من برد الرضا أو حرارة التدبير.
{وأطيعوا اللهَ} فيما أمركم به، ومن جملته: الرضا بقضائه عن المصائب، {وأطيعوا الرسولَ} فيما سنَّ لكم من الأخلاق الطيبة، وكرر الأمر للتأكيد والإيذان بالفرق بين الطاعتين في الكيفية، {فإِن توليتم} عن طاعتهما {فإنما على رسولنا البلاغُ المبين}، وهو تعليل للجواب المحذوف، أي: فإن تُعرضوا فلا بأس عليه؛ إذ ما عليه إلاّ البلاغ، وقد فعل ذلك بما لا مزيد عليه. وإظهار الرسول مضافاً إلى نون العظمة في مقام إضماره لتشريفه صلى الله عليه وسلم والإشعار بأنّ مدار الحكم، الذين هو وظيفته عليه السلام هو محض التبليغ، ولتشنيع التولِّي عنه.
{اللهُ لا إِله إلاّ هو} لا يستحق العبادة غيره، ف {الله}: مبتدأ، و{لا إله إلا هو}: خبره، {وعلى الله} دون غيره {فليتوكل المؤمنون}، حَثّ رسولَه صلى الله عليه وسلم على التوكُّل عليه حتى ينصره الله، وهي عامة لغيره، وإظهار الجلالة في موضع الإضمار للإشعار بعليّة التوكُّل والأمر به، فإنّ الألوهية مقتضية للتبتُل إليه تعالى بالكلية، وقطع التوكُّل عما سواه بالمرة.
الإشارة: ما من نَفَس تُبديه، إلاَّ وله قَدَر فيك يُمضيه. ما أصاب من مصيبة قلبية أو نفسية، ظاهرة أو باطنة، إلاّ بإذن الله وقَدَرِه، وكذلك ما أصاب من مسرةٍ أو زيادة إلاّ بإذنه تعالى. قال القشيري: أي: أيّ خصلة حَصَلَت فمن قِبَله، خَلْقاً، وبعلمه وإرادته حُكماً، ومَن يؤمن بالله يهدِ قلبه، حتى يهتدي إلى الله في السراء والضراء في الدنيا، وفي الآخرة يهديه إلى الجنة، وقيل: يهديه للأخلاق السنية، وقيل: لاتباع السنّة، واجتنابِ البدعة. اهـ. وقال أبو بكر الورّاق: ومَن يؤمن بالله عند النعمة والرخاء فيعلم أنها من فضل الله يهدِ قلبه للشكر، ومَن يؤمن بالله عن الشدة والبلاء، فيعلم أنها من الله يَهْد قلبه للصبر والرضا. اهـ.
قال في الحاشية الفاسية: والظاهر والمتبادر: أنّ قوله: {ما أصاب...} الآية جمعٌ على الله، ورَدٌّ من الأسباب، والوقوف معها، إلى الوقوف مع قضائه، وإنما يجد ذلك المؤمن بالله، وأمّا غيره فصَدْره ضَيق حرج عن قبول المعرفة، ولذلك قال: {ومَن يؤمن بالله يَهْد قلبه} لمعرفته والأطمئنان به، أي: ومَن لم يؤمن يَصْلى نار القطيعة والبُعد، وحرارة التدبير، ففيه ترغيب في الإيمان وتحذير من الكفر، وأنّ الإيمان تعقبه جنة الرضا والتسليم، عاجلاً، والكفر بضد ذلك، فبَعد أن ذكر الجزاء في الآخرة أشار إلى الجزاء المعجّل من اليقين والرضا للمؤمن، وضده للكافر.
والله أعلم. اهـ.
وأطيعوا اللهَ في الفرائض والرسول في السنن، وقد بقي بعد الرسول خلفاؤه، يسنون السننَ الخاصة، فمَن أعرض عنهم، يقال له: {فإن توليتم...} الآية، وتقدّم في آل عمران وغيرها الكلام على التوكُّل. وبالله التوفيق.