فصل: تفسير الآيات (16- 17):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (16- 17):

{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)}
يقول الحق جل جلاله: {تتجافى} أي ترتفع وتتنحى {جُنُوبهم عن المضاجع}؛ عن الفُرش ومواضع النوم للصلاة والذكر. قال سهل: وَهَب لقوم هِبَةً، وهو ان أَذِن لهم في مناجاته، وجعلهم من أهل وسيلته ثم مدحهم عليه فقال: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع}، {يَدْعُونَ} أي: داعين {ربَّهم خوفاً}، أي: لأجل خوفهم من سخطه {وطمعاً} في رحمته، وهم المجتهدون أو المتفكرون في الليل. وسيأتي في الإشارة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسيرها: «هو قيامُ العبد من الليل». وعن ابن عطاء: أبت جنوبهم أن تسكن على بساط الغفلة، وطلبت بساط القربة، وعن أنس: كان أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء الأخيرة، فنزلت فيهم. وقال ابن عمر رضي الله عنه: قال صلى الله عليه وسلم: «من عَقَب- أي: أحيا- ما بين المغرب والعشاء؛ بُني له في الجنة قصران مسيرة عام، وفيهما من الشجر ما لو نزلهما أهل المشرق والمغرب لأوسعهم فاكهة. وهي صلاة الأوابين وغفلة الغافلين. وإن من الدعاء المستجاب الذي لا يُرد: الدعاء بين المغرب والعشاء». اهـ. وقيل: هم الذين يَصلُّونَ العَتَمَةَ، ولا ينامون عنها.
{ومما رزقناهم ينفقون} في طاعة الله، يعني: أنهم جمعوا بين قيام الليل وسخاوة النفس. {فلا تعلم نفس ما أُخْفِيَ لهم من قُرة أعين} أي: لا يعلم أحد ما أعد الله لهم من الكرامة، مما تقرّ به العينُ من نعيم الأشباح ونعيم الأرواح. وقرأ حمزة ويعقوب: {أَخْفَى}؛ على المضارع. {جزاء بما كانوا يعملون}، وعن الحسن: في القوم أعمالهم في الدنيا؛ فأخفى الله لهم ما لا عين رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر. وفيه دليل على أن المرادَ الصلاةُ في جوف الليل؛ ليكون الجزاء وفاقاً. قاله النسفي.
وفي حديث أسماء، عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذَا جَمَعَ الله الأَوَّلِينَ والآخِرِين، يوم القيامة، جاء مُنَادٍ يُنادِي بصوت يسمعه الخلائق كلهم: سيعلم أهل الجمع، اليوم، مَنْ أَوْلَى بالكرم، ثم يرجع فينادي: ليقم الذين كانت لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، فيقومون، وهم قليل. ثم يرجع فينادي: ليقم الذين كانوا يحمدون الله في السراء والضراء، فيقومون، وهم قليل، يسرحون جميعاً إلى الجنة. ثم يحاسب سائر الناس» وفي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: «يقول الله- عز وجل-: أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» قال أبو هريرة: واقرؤوا، إن شئتم: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين}.
وقال في البدور السافرة: أخرج الترمذي، عن أبي سعيد الخدري؛ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ في الجّنَّة مَائَةَ دَرَجَةٍ، لَوْ أَنَّ العَالَمِينَ اجتَمَعُوا في إحدَاهُنَّ لَوَسعَتْهُمُ». اهـ. وقال ابن وهب: أخبرني عبد الرحمن بن زياد أنه سمع عُتبة بن عُبيد، الضبي، يذكر عمن حدَّثه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة مائة درجة، بين كل درجتين ما بين السماء والأرض، أول درجة منها دورُها وبيوتها وأبوابها وسرُرُها ومغاليقها، من فضة، والدرجة الثانية: دورها وبيوتها وسُرُرها ومغاليقها من ذهب، والدرجة الثالثة: دورها وبيوتها وأبوابها وسُرُرها ومغاليقها من ياقوت ولؤلؤ وزبرجد. وسَبْع وتسعون درجة، لا يعلم ما هي إلا الله تعالى». اهـ.
وقيل: المراد بقرة الأعين: النظر إلى وجه الله العظيم. قلت: قرة عين كل واحد: ما كان بغيتَه وهِمَّته في الدنيا، فمن كانت همته القصور والحور، أعطاه ما تقر به عينه من ذلك، ومن كانت بغيته وهمته النظرة، أعطاه ما تقر به عينه من ذلك، على الدوام. قال أبو سليمان: شتان بين مَنْ هَمُّهُ القصور والحور، ومن همه الحضور ورفعُ الستور. جعلنا الله من خواصهم. آمين.
الإشارة: قوم تتجافى جنوبهم عن المضاجع الحسية إلى العبادة الحسية، وهم العُبّاد والزهاد من الصالحين، فلا تعلم نفس ما أُخفي لهم؛ من نعيم الصقور، والحور، والولدان، وغير ذلك. وقوم تتجافى قلوبهم عن مضاجع نوم الغفلة إلى حال الانتباه واليقطة، وعن مضاجع الرغبة إلى حال العفة والحرية، ثم عن مضاجع الفَرْقِ، إلى حال الجمع، ثم من الجمع إلى جمع الجمع. فهؤلاء على صلاتهم دائمون، وفي حال نومهم عابدون، وعلى كل حال إلى ربهم سائرون، وفي معاريج بحر عرفانهم سائحون، فلا تعلم نفس ما أُخفي لهؤلاء من دوام النظرة، والعكوف في الحضرة، واتصال الحبرة. فعبادة هؤلاء قلبية، سرية؛ خفية عن الكرام الكاتبين، بين فكرة وشهود، وعبرة واستبصار، الذرة منها تعدل أمثال الجبال من أعمال الجوارح، وقد ورد: (تفكر ساعة أفضل من عبَادَةِ سَبْعينَ سَنَة). هذا تفكر الاعتبار، وأما تفكر الشهود والاستبصار، فكل ساعة، أفضل من ألف سنة، كما قال الشاعر:
كُلُّ وَقْتٍ مِنْ حَبِيبِي ** قَدْرُهُ كَأَلْفِ حَجَّه

أي: سنة، ومع هذا لا يُخلون أوقاتهم من العبادة الحسية، شكراً، وقياماً بآداب العبودية، وهي في حقهم كمال، كما قال الجنيد: عبادة العارفين تاج على الرؤوس. اهـ. وفي مثل هؤلاء ورد الخبر: «إن أهل الجنة بينما هم في نعيمهم، إذ سطع عليهم نور من فَوق، أضاءت منه منازلهم، كما تضيء الشمس لأهل الدنيا، فنظروا إلى رجالٍ مِنْ فوقهم، أهل عليين يرونهم كما يُرى الكوكب الدري في أفق السماء، وقد فُضِّلُوا عليهم في الأنوار والنعم، كما فضل القمر على سائر النجم، فينظرون إليهم، يطيرون على نجب، تسرح بهم في الهواء، يزورون ذا الجلال الإكرام، فينادون هؤلاء: يا أخواننا، ما أنصفتمونا، كنا نُصلي كما تُصلون، ونصوم كما تصومون، فما هذا الذي فضلتمونا به؟ فإذا النداء من قِبل الله تعالى: كانوا يجوعون حين تشبعون، ويعطشون حين تروون، ويعرون حين تكسون، ويذكرون حين تسكتون، ويبكون حين تضحكون، ويقومون حين تنامون، ويخافون حين تأمنون، فلذلك فُضِّلوا عليكم اليوم»
فذلك قوله تعالى: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون}. اهـ.
قال القشيري: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع}، في الظاهر، عن الفراش، قياماً بحقِّ العبادة والجهد والتِهجد، وفي الباطن: بِتَبَاعُدِ قلوبِهم عن مضاجعات الأحوال، ورؤية قَدرِ النفس، وتوهم المقام؛ لأن ذلك بجملته، حجابٌ عن الحقيقة، وهو للعبد سُمٍّ قاتل، فلا يساكنون أعمالهم، ولا يلاحظون أحوالهم، ويفارقون مآلِفَهم، ويَهجُرون معارفهم. والليل زمان الأحباب، قال الله تعالى: {لِتَسْكُنُواْ فِيهِ} [القصص: 73] يعني: عن كلّ شُغل وحديث سوى حديث معبودكم ومحبوبكم، والنهارُ زمان أهل الدنيا. قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً} [النبأ: 11].. انظر بقية كلامه.

.تفسير الآيات (18- 20):

{أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)}
يقول الحق جل جلاله: {أفمن كان مؤمناً} بالله ورسله {كمن كان فاسقاً}؛ خارجاً عن الإيمان {لا يستوون} أبداً عند الله تعالى. وأفرد أولاً؛ مراعاةً للفظ من، وجمع ثانياً مراعاة لمعناها. ثم فصّل حالهم بقوله: {أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جناتُ المأوى} أي: المسكن الحقيقي، وأما الدنيا، فإنها منزل انتقال وارتحال، لا محالة، وقيل: المأوى: جنة من الجنان. قال ابن عطية سميت جنة المأوى لأن أرواح المؤمنين تأوي إليها. اهـ. أي: في الدنيا؛ لأنها في حواصل طير خضر، كما ورد في الشهداء، وأما الصدِّيقون فإنها تشكل على صور أجسادها، تسرح حيث شاءت. {نُزُلاً بما كانوا يعملون} أي: عطاء معجلاً بأعمالهم. والنُزُل: ما يقدم للنازل، ثم صار عاماً.
{وأما الذين فسقوا فمأواهم النارُ} أي: هي ملجأهم ومنزلُهم، {كلما أرادوا أن يخرجوا منها أُعيدوا فيها}، فلا خروج منها، ولا موت، {وقيل} لهم: {ذُوقُوا عذابَ النار الذي كنتم به تُكذِّبون}، هذا دليل على أن المراد بالفاسق: الكافر؛ إذ التكذيب يقابل الإيمان. قال ابن جزي: فإن قيل: لِمَ وصف، هنا، العذاب، وأعاد عليه الضمير، ووصف، في سبأ، النار وأعاد عليها الضمير، فقال: {عَذَابَ النار التي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ} [سبأ: 42]؟ فالجواب من ثلاثة أوجه: الأول: أنه خص العذاب في السجدة بالوصف؛ اعتناء به؛ لَمَّا تكرر ذكره في قوله: {لنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر..}، الثاني: أنه تقدم في السجدة ذكر النار، فكان الأصل أن يذكرها بعد ذلك بلفظ المضمر، لكنه جعل الظاهر مكان المضمر، فكما لا يوصف المضمر؛ لم يوصف ما قام مقامه، وهو النار، فوصف العذاب، ولم يصف النار، الثالث- وهو الأقوى: أنه امتنع في السجدة وصف النار، فوصف العذاب، وإنما امتنع وصفها؛ لتقدم ذكرها، فإنك إذا ذكرت شيئاً ثم كررت ذكره لم يجز وصفه، كقولك: رأيت رجلاً فأكرمت الرجل. فلا يجوز وصفه لما يوهم أنه غيره. اهـ.
الإشارة: أفمن كان مصدقاً بطريق الخصوص، داخلاً فيها، شارباً من خمرتها، كمن كان فاسقاً خارجاً عنها، مشتغلاً بنفسه، غريقاً في هواه، لا يستوون أبداً. أما الذين آمنوا بها، وصدقوا أهلها، ودخلوا في تربيتهم، فلهم جنات المعارف، هي مأواهم ومعشش قلوبهم، إليها يأوون، وفيها يسكنون، وأما الذين فسقوا وخرجوا عن تربيتهم، فمأواهم نار القطيعة، وعذاب الحرص، وغم الحجاب، كلما أرادوا أن يخرجوا منها أُعيدوا فيها؛ إذ لا خروج منها إلا بصحبة أهلها. وقيل لهم: ذوقوا وبال الإنكار، وحرمان الخصوصية، التي كنتم بها تكذبون.

.تفسير الآيات (21- 22):

{وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)}
يقول الحق جل جلاله: {ولنذيقنَّهم من العذاب الأدنى} أي: عذاب الدنيا؛ من القتل، والأسر في بدر، أو ما مُحنوا به من السَّنَةِ، سَبْعَ سنين. {دون العذاب الأكبر} أي: قبل عذاب الآخرة، الذي هو أكبر، وهو الخلود في النار. وعن الداراني: العذاب الأدنى: الخذلان، والعذاب الأكبر: الخلود في النيران. وقيل: الأدنى: عذاب القبر، والأكبر: النار. {لعلهم يرجعون}؛ يتوبون عن الكفر.
{ومن أظلم} أي: لا أحد أظلم {ممن ذُكِّر} أي: وُعظ {بآياتِ ربه}؛ القرآن، {ثم أعرض عنها} اي: تولى عنها، ولم يتدبر في معناها. و{ثم}؛ للاستبعاد؛ فإن الإعراض عن مثل هذه في ظهورها، وإنارتها، وإرشادها إلى سواء السبيل، والفوز بالسعادة العظمى، بعد التذكر بها، مُسْتَبْعَدٌ في العقل، كما تقول لصاحبك: وجدت تلك الفرصة ثم لم تنتهِزْها-؛ استبعاداً لتركه الانتهاز. {إنا من المجرمين منتقمون}، ولم يقل: منه، تسجيلاً عليه بإعراضه بالإجرام، ولأنه إذا جعله أظلم مِنْ كل ظالم، ثم توعد المجرمين، عامة، بالانتقام، دلّ على إصابة الأظلم أوفَرُ نصيب الانتقام، ولو قال بالضمير لم يفد هذه الفائدة.
الإشارة: ولنذيقن أهل الغفلة والحجاب، من العذاب الأدنى، وهو الحرص والطمع والجزع والهلع، قبل العذاب الأكبر، وهو غم الحاجب وسوء الحساب. قال القشيري: قومٌ: الأدنى لهم: مِحَنُ الدُنيا، والأكبر: عقوبة العُقبى. وقومٌ: الأدنى لهم: فترةٌ تُداخلهم في عبادتهم والأكبر: قسوةٌ تُصيبهم في قلوبهم. وقومٌ: الأدنى لهم: وقفة مع سلوكهم تمسهم. والأكبرُ: حَجْبَةٌ عن مشاهدتهم بسرهم- قلت: الأول في حق العوام، والثاني: في حق الخواص، وهم العباد والزهاد. والثالث: في حق أهل التربية من الواصلين- ثم قال: ويقال: الأدنى: الخذلان في الزلة، والأكبر: الهجران في الوصلة. ويقال: الأدنى: تكدّرُ مَشَارِبِهم، بعد صفوها، والأكبر: تَطَاوُلُ أيامِ الحَجْب، من غير تبيين آخرها. وأنشدوا:
تَطَاوَلَ بُعْدُنَا يا قومُ حتى ** لقد نَسَجَتْ عليه العنكبوتُ

. اهـ. ببعض المعنى.
أذقناهم ذلك؛ لعلهم يرجعون إلى الله، في الدنيا؛ بالتوبة واليقظة. فإن جاء من يُذكِّرهم بالله؛ من الداعين إلى الله، ثم أعرضوا عنه، فلا أحد أظلم منهم، ولا أعظم جُرماً. إنا من المجرمين منتقمون.

.تفسير الآيات (23- 25):

{وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25)}
يقول الحق جل جلاله: {ولقد آتينا موسى الكتابَ}؛ التوراة {فلا تكن في مِرْيةٍ}؛ شك {من لقائه}؛ من لقاء موسى الكتاب، أو: من لقائك موسى ليلة المعراج، أو: يوم القيامة، أو: من لقاء موسى ربَّه في الآخرة، كذا عن النبي صلى الله عليه وسلم، {وجعلناه هدى لبني إسرائيل}؛ وجعلنا الكتاب المنزَّل على موسى عليه السلام هُدىً لقومه {وجعلنا منهم أئمةً يَهْدُون} الناس، ويدعون إلى الله وإلى ما في التوراة من دين الله وشرائعه، {بأمرنا} إياهم بذلك، أو بتوفيقنا وهدايتنا لمن أردنا هدايته على أيديهم، {لمّا صبروا} على مشاق تعليم العلم والعمل به. أو: على طاعة الله وترك معصيته. وقرأ الأَخَوَان: بكسر اللام، أي: لصبرهم عن الدنيا والزهد فيها. وفيه دليل على أن الصبر؛ ثمرته إمامة الناس والتقدم في الخير. {وكانوا بآياتنا}؛ التوراة {يُوقنون}؛ يعلمون علماً لا يخالجه شك ولا وَهْم؛ لإمْعانِهم النظر فيها، أو هِبَةٌ من الله تعالى: {إن ربك هو يَفْصِلُ}؛ يقضي {بينهم يومَ القيامة} أي: بين الأنبياء وأممهم، أو: بين المؤمنين والمشركين، {فيما كانوا فيه يختلفون} من الدين، فيظنه المُحِقُّ من المبطل.
الإشارة: أئمة الهدى على قسمين: أئمة يهدون إلى شرائع الدين، وأئمة يهدون إلى التعرف بذات رب العالمين، أئمة يهدون إلى معرفة البرهان وأئمة يهدون إلى معرفة العيان. الأولون: من عامة أهل اليمين، والآخرون: من خاصة المقربين. الأولون صبروا على حبس النفس على ذل التعلم، والآخرون صبروا على حبس النفس على الحضور مع الحق على الدوام. صبروا على مجاهدة النفوس، حتى وردوا حضرة القُدُّوس. قال القشيري، في شأن القسم الثاني: لمّا صبروا على طلبنا؛ سَعِدوا بوجودنا، وتعدّى ما نالوا من أفضالنا إلى متَّبِعِيهم وانبسط شعاعُ شموسهم على جميع أهلِيهم، فهم للخلق هُداةً، وفي الدين عيون، وللمسترشدين نجوم. اهـ.
وفي الإحياء: للإيمان ركنان: أحدهما اليقين، والآخر: الصبر: والمراد باليقين: المعارف القطعية، الحاصلة بهداية اللهِ عَبْدَهُ إلى أصول الدين، والمراد بالصبر، العمل بمقتضى اليقين؛ إذ النفس تعرف أن المعصية ضارة والطاعة نافعة. ولا يمكن ترك المعصية والمواظبة على الطاعة إلا بالصبر. فيكون الصبر نصف الإيمان لهذا الاعتبار. اهـ. وقوله تعالى: {إن ربك هو يفصل بينهم..} قال القشيري: يحكم بينهم، فيُبين المقبول من المردود، والمهجور من الموصول، والرّضي من الغَويّ، والعدو من الوليّ. فكم من بَهجةٍ دامت هناك! وكم من مهجةٍ ذابت كذلك. اهـ.

.تفسير الآية رقم (26):

{أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26)}
قلت: فاعل {يهد}: هو الله، بدليل قراءة زيد عن يعقوب {نهد} بالنون، ولا يجوز أن يكون الفاعل، {كم}؛ لأن الاستفهام له صدر الكلام، فلا يَعْمَلُ فيه بما قَبْله.
يقول الحق جل جلاله: {أَوَ لَمْ يَهْدِ لهم} أي: يُبين لهم الله تعالى ما يعتبرون به، فينظروا {كم أهلكنا مِن قبلهِم من القرون}؛ كعاد وثمود، وقوم لوط، {يمشون} يعني: قريشاً، {في مساكنهم} حين يمرون على ديارهم، ومنازُلُهمْ، خاوية، في متاجرهم إلى الشام، {إن في ذلك لآياتٍ} دالة على قدرتنا، وقهريتنا {أفلا يسمعون} المواعظ، فيتعظون بها؟.
الإشارة: قال القشيري: لم يعتبروا بمنازل أقوام كانوا في حَبْرَةٍ، فصاروا في عَبرةً كانوا في سرورِ، فآلوا إلى ثبور، فجميع ديارهم وتراثِهم صارت لأغيارهم، وصُنوفُ أموالهم عادت إلى أشكالهم، سكنوا في ظِلالهم، ولم يعتبروا بمن مضى من أمثالهم، وفي مثلهم قيل:
نِعَمٌ كانت على قو ** مٍ زمانا ثم فاتت

هكذا النعمةُ والإح ** سانُ قد كانت وكانت