فصل: تفسير الآيات (60- 65):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (60- 65):

{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)}
يقول الحق جلّ جلاله، في توبيخ الكفرة يوم القيامة: {أَلَمْ أعهدْ إِليكم يا بني آدمَ ألا تعبدوا الشيطان إِنه لكم عدو مبين} يقال: عهِد إليه: إذا وصّاه. وهذا العهد إما على ألسنة الرسل، أو: يوم: {ألست بربكم}، أو: ما نصبه لهم من الحُجج العقلية، والدلائل السمعية، الآمرة بعبادته، الزاجرة عن عبادة غيره. وعبادة الشيطان: طاعته فيما يُوسوس به إليهم، ويُزيِّنه لهم. {وأن اعبدوني}: عطف على {ألاَّ تعبدوا}، أي: عهدنا إليكم ألاَّ تُطيعوا الشيطان ووحّدوني، وأطيعوني، {هذا صراطٌ مستقيم} إشارة إلى ما عهد إليهم فيه من معصية الشيطان، وطاعة الرحمن، أي: هذا طريق بليغ في الاستقامة، لا طريق أقوم منه. وفيه إشارة إلى جنايتهم على أنفسهم بعد النصح التام، فلا حجة بعد الإعذار، ولا ظلم بعد التذكير والإنذار.
{ولقد أضلَّ منكم جبلاً} أي: خلقاً {كثيراً} وفيه لغات مذكورة في كتب القراءات أي: ولقد أتلف الشيطان عن طريقي المستقيم خلقاً كثيراً، بأن أشركوا معي غيري، {أفلم تكونوا تعقِلون} قرّعهم على تركهم الانتفاع بالعقل، الذي ركّبه فيهم، حيث استعملوه فيما يضرهم، من تدبير حظوظهم وهواهم. {هذه جهنم التي كنتم تُوعدون} بها، {اصْلَوْها اليومَ بما كنتم تكفرون} أي: ادخلوا واحترقوا فيها، بكفركم وإنكاركم لها.
{اليوم نَخْتِمُ على أفواهِهِم} أي: نمنعهم من الكلام، {وتُكلِّمُنا أيديهم وتشهدُ أرجُلُهم بما كانوا يكسِبُون} يُروى: أنهم يجحدون، ويُخاصمون، فتشهد عليهم جيرانهم، وأهاليهم، وعشائرهم، فيحلفون: ما كانوا مشركين، فحينئذ يُختم على أفواههم، وتتكلم أيديهم وأرجلهم. وفي الحديث: «يقول العبد يوم القيامة: إني لا أُجيزُ عليّ إلا شاهداً من نفسي، فيُخْتم على فِيهِ، ويُقال لأركانه: انْطِقي، فتنطِقُ بأعماله، ثم يُخَلِّي بينه وبين الكلام، فيقول: بُعداً لكُنَّ، وسُحْقاً، فعنكُنّ كنت أُناضِلُ».
الإشارة: كل مَن آثر حظوظه ومُناه، ولم يقدر على مجاهدة هواه، حتى مات محجوباً عن الله، يلحقه شيء من هذا التقريع. والصراط المستقيم: هو طريق التربية، التي توصِّل إلى الحضرة، التي قام ببيانها الأولياء العارفون بالله. ولقد أضلَّ الشيطانُ عنها خلقاً كثيراً، حملهم على طلب الدنيا والرئاسة والجاه، فلم يقدروا على التفرُّغ لذكر الله، ولم يحُطوا رؤوسهم لمَن يُعَرِّفهم بالله، فيُقال لهم: هذه نار القطيعة التي كنتم تُوعدون، إن بقيتم مع حظوظكم ورئاستكم، اصلوها اليوم بكفركم بطريق التربية، اليوم نختم على أفواههم، فلا مناجاة بينهم وبين حبيبهم، وتُكلمنا أيديهم، وتشهد أرجلهم بلسان الحال أو المقال بما كانوا يكسبون من التقصير.
قال القشيري: قوله: {وتُكلمنا أيديهم...} إلخ، فأمَّا الكفار فشهادةُ أعضائِهم عليهم مؤبدة، وأما العُصَاةُ من المؤمنين فقد تشهد عليهم أعضاؤهم بالعصيان، ولكن تشهد عليهم بعض أعضائهم بالإحسان، وأنشدوا:
بيني وبينك يا ظلومُ الموقِفُ ** والحاكم العَدْلُ الجوادُ المُنْصِفُ

وفي بعض الأخبار المرويةِ: أن عَبْداً شهدت أعضاؤه عليه بالزَّلَّة، فتطير شَعرة من جفن عينه، فتشهد له بالشهادة. فيقول الحق تعالى: يا شعرة جَفْنِ عبدي احتَجّي عن عبدي، فتشهد له بالبكاء من خوفه، فيغفر له، وينادي منادٍ: هذا عتيقُ الله بشَعْرَة. اهـ.

.تفسير الآيات (66- 68):

{وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68)}
يقول الحق جلّ جلاله: {ولم نشاءُ لطَمَسْنَا على أعيُنِهِم} اليوم، أي: أعميناهم وأذهبنا أبصارهم. والطمس: سد شق العين حتى تعود ممسوخة. {فاستَبَقُوا الصِّرَاطَ} على حذف الجار، وإيصال الفعل، أي: فاستبقوا إلى الطريق الذي اعتادوا سلوكه، وبادَروا إليه؛ لِما يلحقهم من الخوف، {فأنَّى يُبصرون} فكيف يُبصرون حينئذ من جهة سلوكهم، فيضلون في طريقهم عن بلوغ أملهم.
{ولو نشاء لَمَسَخْناهم} قردة، وخنازير، أو حجارة، {على مكانتهم}: على منازلهم، وفي ديارهم، حيث يأمنون من المكاره. والمكانة والمكان واحد، كالمقامة والمقام. {فما استطاعوا مُضيًّا ولا يرجِعُون} فلم يقدروا على ذهاب ومجيء، أو: مُضِياً أمامهم، ولا يرجعون خلفهم. والمعنى: أنهم لكفرهم ونقضهم ما عهد إليهم أحقاء بأن نفعل بهم ذلك، لكنا لم نفعل؛ لشمول الرحمة لهم، واقتضاء الحكمة إمهالهم.
{ومن نُعَمِّرْهُ} نُطِل عمره {نُنكِّسْهُ في الخلقِ} نقلبه فيه. وقرأ عاصم وحمزة بالتشديد. والنكس والتنكيس: جعل الشيء أعلاه أسفله. والمعنى: مَن أطلنا عمره نكَسنا خلقه، وهو نوع من المسخ، فصار بدل القوة ضعفاً، وبدل الشباب هرماً، وذلك أنا خلقناه على ضعف في جسده، وخلو من عقل وعلم، ثم جعلناه يتزايدُ إلى أن يبلغ أشده، ويستكمل قوته، ويعْقل، ويعلم ما له وعليه، فإذا انتهى نكّسناه في الخلق، فجعلناه يتناقصُ حتى يرجع إلى حال شبيهة بحال الصبيّ، في ضعف جسده، وقلّة عقله، وخلوّه من العلم، كما ينكس السهم، فيجعل أعلاه أسفله. قال تعالى: {وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [النحل: 70]. قال ابن عباس: مَن قرأ القرآن أي وعمل به لم يرد إلى أرذل العمر. {أفلا يعقلون} أنّ مَن قدر أن ينقلهم من الشباب إلى الهرم، ومن القوة إلى الضعف، ومن رجاحة العقل إلى الخرف وقلة التمييز، قادرٌ على أن يطمسَ على أعينهم، ويمسخهم على مكانتهم، ويبعثهم بعد الموت.
الإشارة: ولو نشاء لطمسنا على أعينهم، فلا يهتدون إلى طريق السلوك، ولا يسلكونها، فيبقوا في الحجاب على الدوام. ولو نشاء لمسخنا قلوبهم على مكانتهم، من رجاحة العقل والفهم، فلا يتدبّرون إلا في الأمور الحسية، فلا يستطيعون مُضيًّا في بلاد المعاني، ولا رجوعاً عن الحسيّات. ومَن نُعَمّره من هؤلاء نُنكّسْهُ في الخلق، فيلحقه الخرف والضعف، وأما مَن اهتدى إلى طريق السير، وسلك بلاد المعاني، فلا يزيده طول العمر إلا رجاحةً في العقل، وقوةً في العلم، وتمكيناً في المعاني والمعرفة.
قال القشيري: ومَن نُعَمِّرْهُ ننكِّسْه في الخلق: نرده إلى العكس، فكما كان يزداد في القوة، يأخذ في النقصان، إلى أن يبلغَ أرذلَ العُمر، فيصير إلى مثل حال الطفولية من الضعف، ثم لا يبقى بعد النقصان شيءٌ، كما أنشدوا:
طوى العصران ما نشراه مني ** فأبلى جدتي نشرٌ وطي

أراني كلَّ يومٍ في انتقاصٍ ** ولا يبقى مع النقصان شي

وهذا في الجثة والمباني، دون الأحوال والمعاني، فإن الأحوال في حق الجثة في الزيادة إلى بلوغ حَد الخَرَفِ، فيَخْتَلُّ رأيُه وعَقْلُه. وأصحاب الحقائق تشيب ذوائبُهم، ولكنَّ محابَّهم ومعانيَهم في عنفوان شبابها، وطراوة جدَّتها. اهـ.

.تفسير الآيات (69- 70):

{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)}
يقول الحق جلّ جلاله: {وما علَّمناه الشِّعْرَ} أي: وما علّمنا نبينا محمداً الشعر، حتى يقدر أن يقول شعراً، فيُتهم على القرآن، أو: وما علّمناه بتعلُّم القرآن الشعر، على معنى: أن القرآن ليس بشعر، فإنه غير مقفّى ولا موزون، وليس معناه ما يتوقاه الشعراء من التخييلات المرغبة والمنفرة ونحوها. فأين الوزن فيه؟ وأين التقفيه؟ فلا مناسبة بينه وبين كلام الشعراء، {وما ينبغي له} أي: وما يليق بحاله، ولا يتأتى له لو طلبه، أي: جعلناه بحيث لو أراد قَرْضَ الشعر لم يتأتّ له، ولم يسهل، كما جعلناه أُميًّا لم يهتدِ إلى الخط؛ لتكون الحجة أثبت، والشبهة أدحض.
وأما قوله عليه الصلاة والسلام: «أَنَا النَّبِيُّ لاَ كَذِبْ، أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ»، وقوله: «هَلْ أَنْتِ إِلاَّ إِصبعٌ دَمِيتِ، وفِي سَبِيلِ الله ما لَقِيتِ»، فهو مما اتفق وزنه من غير قصد، كما يتفق في خطاب الناس ورسائلهم ومحاوراتهم، ولا يسمى شعراً إلا ما قصد وزنه.
ولَمَّا نفى القرآن أن يكون من جنس الشعر، قال: {إِن هو إِلا ذِكْرٌ} أي: ما الذي يُعلِّم ويقوله إلا ذكر من الله، يُوعظ به الإنس والجن، {وقرآنٌ} أي: كتاب سماوي، يُقرأ في المحاريب، ويُتلى في المتعبّدات، ويُنال بتلاوته والعملِ به أعلا الدرجات. فكم بينه وبين الشعر، الذي هو من همزات الشيطان؟!.
أنزلناه إليك {لتُنذر به} يا محمد، أو: لينذر القرآن {من كان حَيًّا} بالإيمان، أو عاقلاً متأملاً؛ فإن الغافل كالميت، أو: مَن سبق في علم الله أن يحيى؛ فإن الحياة الأبدية بالإيمان، وتخصيص الإنذار به؛ لأنه المنتفع به، {ويَحِقَّ القولُ} أي: تجب كلمة العذاب {على الكافرين} المُصرِّين على الكفر، وجعلهم في مقابلة مَن كان حَيًّا إشعار بأنهم بكفرهم في حكم الأموات، كقوله: {ومَآ أَنتَ بِمُسْمَعٍ مَّن في الْقُبُورِ} [فاطر: 22].
الإشارة: أما النبي عليه الصلاة والسلام فنفى الله عنه صنعة الشِّعر، والقوة عليه، لئلا يُتهم فيما يقوله، وأما الأولياء فكثير منهم تكون له القوة عليه، ويصرف ذلك في أمداح الخمرة الأزلية، والحضرة القدسية، أو في الحضرة النبوية، وينالون بذلك تقريباً، ورتبة كبيرة، وأما قوله عليه الصلاة والسلام: «لأنْ يمتَلئَ جَوْفُ أحدِكم قَيْحاً يَرِيهُ خَيرٌ من أن يمتَلئ شِعْراً» فالمراد به شعر الهوى، الذي يشغل عن ذكر الله، أو يصرف القلب عن حضرة الله. قيل لعائشة رضي الله عنها: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثّل بشيء من الشعر؟ فقالت: لم يتمثّل بشيء من الشعر إلا بيت طرفة، أخي بني قيس:
سَتُبْدِي لَكَ الأَيَّامُ ما كُنتَ جاهلاً ** وَيَأتِيكَ بالأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَوَّدِ

وربما عكسه فقال: «ويأتيك مَن لم تزود بالأخبار». وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (71- 73):

{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73)}
يقول الحق جلّ جلاله: {أَوَ لَم يَرَوا} أي: أعموا ولم يعلموا {أَنا خلقْنا لهم مما عَمِلَت أيدينا} أي: أظهرته قدرتنا، ولم يقدر على إحداثه غيرُنا. وذِكْر الأيدي، وإسناد العمل إليها، استعارة، تُفيد مبالغة في الاختصاص والتفرُّد بالإيجاد، {أنعاماً} خصَّها بالذكر؛ لِمَا فيها من بدائع الحكمة والمنافع الجمة. {فهم لها مالكون} أي: خلقناها لأجلهم، فملكناها إياهم، فهم يتصرفون فيها تصرُّف المالك، مختصُّون بالانتفاع بها. أو: فهم لها حافظون قاهرون.
{وذَلَّلناها لهم} وصيَّرناها منقادة لهم. وإلا فمَن كان يقدر عليها لولا تذليلُه وتسخيره لها. وبهذا أمر الراكب أن يشكر هذه النعمة، ويسبح بقوله: {سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف: 13] {فمنها رَكوبهم} أي: مركوبهم، وهو ما يُركب منها، وقرئ بضم الراء، أي: ذو ركوبهم. أو: فمن منافعها ركوبهم. {ومنها يأكلون} ما يأكلون لحمه، أي: سخرناها لهم ليركبوا ظهرها ويأكلوا لحمها. {ولهم فيها منافعُ} من الجلود، والأوبار، والأصواف، وغير ذلك، {ومشَارِبُ} من اللبن، على تلوُّنه من المضروب وغيره، وهو جمع: مشرب، بمعنى: موضع الشرب. أو: المصدر، أي: الشرب. {أفلا يشكرون} نِعَم الله في ذلك؟ إذ لولا إيجاده لها ما أمكن الانتفاع بها.
الإشارة: قوم نظروا إلى ما منَّ الله إليهم من المبرة والإكرام، فانقادوا إليه بملاطفة الإحسان، فعرفوا المنعِّم، وشكروا الواحد المنّان، فسخّر لهم الكون وما فيه، وقوم لم ينجع فيهم سوابغ النعم، فسلّط عليهم المصائب والنقم، فانقادوا إليه قهراً بسلاسل الامتحان، «عَجِبَ ربك من قوم يُساقون إلى الجنة بالسلاسل»، وكل هؤلاء سبقت لهم من الله العناية. وقوم لم ينجح فيهم نِعَمٌ ولا نِقَم، قد سبق لهم الخذلان، فأصرُّوا على العصيان، ولم يشكروا الله على ما أسدى من سوابغ الإحسان.

.تفسير الآيات (74- 76):

{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76)}
يقول الحق جلّ جلاله: {واتخذوا من دون الله آلهةٌ} أشركوها معه في العبادة، بعدما رأوا منه تلك القدرة الباهرة، والنعم المتظاهرة، وتحقّقوا أنه المنفرد بها، فعبدوا الأصنام، {لعلهم يُنصَرُون} بها إذا حزبهم أمْرٌ. والأمر بالعكس، {لا يستطيعون نَصْرَهم} أبداً، {وهم لهم} أي: الكفار للأصنام {جُندٌ} أي: أعوان وشيعة {مُحْضَرُونَ} يخدمونهم، ويذبّون عنهم، ويعكفون على عبادتهم، أو: اتخذوهم لينصروهم عند الله، ويشفعوا لهم، والأمر على خلاف ما توهّموا، فهم يوم القيامة جند معدّون لهم، محضرون لعذابهم؛ لأنهم يجعلون وقوداً للنار، التي يحترقون بها.
ثم سلّى نبيه مما يسمع بقوله: {فلا يَحْزُنك قَولُهم} فلا يُهمنَّك تكذيبهم، وأذاهم وما تسمع منهم من الإشراك والإلحاد. {إِنا نعلم ما يُسِرُّون} من عداوتهم وكفرهم، {وما يُعلِنُون} فيجازيهم عليه، فحقّ مثلك أن يتسلّى بهذا الوعيد، ويستحضر في نفسه صورة حاله وحالهم في الآخرة، حتى ينقشع عنهم الهمّ، ولا يرهقه حزن. وهو تعليل للنهي على طريق الاستئناف، ولذلك لو قرئ أنّا بالفتح، على حذف لام التعليل، لجاز، خلافاً لمَن أنكره وأبطل صلاة مَن قرأ به. انظر النسفي.
الإشارة: كل مَن ركن إلى شيء دون الله، فهو في حقه صنم، كائناً ما كان، عِلماً، أو عملاً، أو حالاً، أو غير ذلك. ولذلك قال القطب ابن مشيش لأبي حسن الشاذلي رضي الله عنهما لَمَّا قال: بِمَ تلقى الله يا أبا الحسن؟ فقال له: بفقري، قال: إذاً تلقاه بالصنم الأعظم، أي: وإنما يلقى الله بالله، ويغيب عما سواه. وقوله تعالى: {فلا يحزنك قولهم} فيه تسلية لمَن أُوذي في جانب الله. قال القشيري: إذا عَلِمَ العبدُ أنه بمرأىً من الحق، هان عليه ما يقاسيه، لاسيما إذا كان في الله. اهـ.

.تفسير الآيات (77- 83):

{أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)}
يقول الحق جلّ جلاله: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسانُ أَنَّا خَلقناه من نُطفةٍ} مَذِرة، خارجة من الإحليل، الذي هو قناة النجاسة، {فإِذا هو خَصِيم مبين} بيّن الخصومة، أي: فهو على مهانة أصله، ودناءة أوله، يتصدّى لمخاصمة ربه، ويُنكر قدرته على إحياء الميت بعدما رمّت عظامه. وهي تسلية ثانية له صلى الله عليه وسلم، وتهوين ما يقولونه في جانب الحشر، وهو توبيخ بليغ؛ حيث عجّب منه، وجعله إفراطاً في الخصومة بيّناً فيها.
رُوي أن أَبيّ بن خلف أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم بالٍ، ففتَّه بيده، وقال: يا محمد؛ أتُرى الله يحيي هذا بعدما رمّ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «نعم ويبعثك ويدخلك جهنم» فنزلت الآية.
{وضَرَبَ لنا مثلاً} أمراً عجيباً، بأن جَعَلنا مثل الخلق العاجزين، فنعجز عما عجزوا عنه؛ من إحياء الموتى، {ونَسِيَ خَلْقَه} من المنيّ المهين، فهو أغرب من إحياء العظم الرميم. و{خلقه}: مصدر مضاف للمفعول، أي: خلقنا إياه، {قال مَن يحيي العظامَ وهي رميمٌ} بالٍ مفتت، وهو اسم لما بَلِيَ من العظام، لا صفة، ولذلك لم يؤنّث. وقد وقع خبراً لمؤنث، وقيل: صفة بمعنى مفعول، من: رممته، فيكون كقتيل وجريح. وفيه دليل على أن العظم تحله الحياة، فإذا مات صار نجساً، وهو مذهب مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة: لا تحلّه الحياة، فهو طاهر كالشعر والعصب.
{قُل يُحْييها الذي أنشأها} خلقها {أولَ مرة} أي: ابتداء، {وهو بكل خَلْقٍ} مخلوق {عليمٌ} لا يخفى عليه أجزاؤه، وإن تفرقت في البر أو البحر، فيجمعه، ويُعيده كما كان.
ثم ذكر برهان إحيائه الموتى بقوله: {الذي جعل لكم من الشَّجَرِ الأخضر} كالمَرْخ والعَفَار، {ناراً فإِذا أنتم منه تُوقِدُون} تقدحون، ولا تشكون أنها نار خرجت منه، فمَن قدر على إحداث النار من الشجر الأخضر، مع ما فيه من المائية، المضادة للنار، كان أقدر على إيجاد الحياة والغضاضة فيما غضا ويبس، وهي الزناد عند العرب، وأكثرها من المَرْخ والعَفار، وفي أمثالهم: في كلّ شجر نار، واستمجد المرخُ والعفار أي: استكثر في هذين الصنفين. وكان الرجل يقطع منهما غصنين مثل السوَاكين، وهما خضراوان، يقطر منهما الماء، فيسحق المرخ وهو ذكر على العفار وهي أنثى فينقدح النار بإذن الله تعالى. وعن ابن عباس رضي الله عنه: ليس من الشجر شجرة إلا وفيها نار، إلا العناب؛ لمصلحة الدقّ للثياب.
والمرخُ ككتف: شجر سريع الورى. قاله في الصحاح. وهو المسمى عندنا بالكُلخ. وفي القاموس: عَفار كسحاب: شجر يتخذ منه الزناد. قال ابن عطية: النار موجودة في كل عود، غير أنها في المتحلحَل، المفتوح المسام، أوجد، وكذلك هو المَرْخ والعَفار. اهـ.
{أَوَليس الذي خلق السماواتِ والأرضَ} مع كبر جرمهما، وعظم شأنهما {بقادرٍ على أن يَخْلُقَ مِثْلَهم} مثل أجسامهم في الصِّغر والحقارة، بالإضافة إلى السموات والأرض، أو: أن يعيدهم مثل ما كانوا عليه في الذات والصفات؛ لأن المعاد مثل المبْدأ، بل أسهل، {بَلى} أي: قُل: بَلى هو قادر على ذلك، {وهو الخلاَّقُ} كثير الخلق والاختراع، {العليمُ} بأحوال خلقه، أو: كثير المخلوقات والمعلومات.
{إِنما أمْرُهُ} شأنه {إِذا أراد شيئاً} بكونه {أن يقولَ له كُن فيكون} فيحدث، أي: فهو كائن موجود، لا محالة. وهو تمثيل لتأثير قدرته في الأشياء، بأمر المطاع للمطيع في حصول المأمور، من غير امتناع وتوقف، من غير أن يحتاج إلى كاف ولا نون، وإنما هو بيان لسرعة الإيجاد، كأنه يقول: كما لا يثقل عليكم قول {كن}، فكذلك لا يصعب على الله إنشاؤكم وإعادتكم. قال الكواشي: ثم أومأ إلى كيفية خلقه الأشياء المختلفة في الزمان المتحد، وذلك ممتنع على غيره، فقال: {إِنما أمره...} الآية، فيحدث من غير توقف، فمَن رفع {فيكونُ}، فلأنه جملة من مبتدأ وخبر، أي: فهو يكون. ومَن نصب فللعطف على {يقول}. والمعنى: أنه ليس ممن يلحقه نصَب ولا مشقة، ولا يتعاظمه أمر، بل إيجاد المعدومات، وإعدام الموجودات، عليه أسرع من لمح البصر. اهـ.
{فسبحان} تنزيهاً له مما وصفه به المشركون، وتعجيب مما قالوا، {الذي بيده ملكوتُ} أي: ملك {كُلِّ شيءٍ} والتصرُّف فيه على الإطلاق. وزيادة الواو والتاء؛ للمبالغة، أي: مالك كلّ شيء، {وإِليه تُرجَعُون} بالبعث للجزاء والحساب.
الإشارة: أَوَلَمْ ير الإنسان أنَّا خلقناه من نطفة مهينة، فإذا هو خصيم لنا في تدبيرنا واختيارنا، ويُنازعنا في مُرادنا من خلقنا، ومرادنا منهم: ما هم عليه. فاستحي أيها الإنسان أن تُخاصم الله في حكمه، أو تنازعه في تقديره وتدبيره، وسلِّم الأمور لمَن بيده الخلق والأمر. بكى بعضُ الصالحين أربعين سنة على ذنب أذنبه. قيل له: وما هو؟ قال: (قلت لشيء كان: ليته لم يكن). فارْضَ بما يختاره الحق لك، جلاليًّا كان أو جماليًّا ولا تختر من أمرك شيئاً، والله يعلم وأنتم لا تعلمون. وكل مَن اهتم بأمر نفسه، واشتغل بتدبير شؤونها، فقد ضرب لله مثلاً، بأن أشرك نفسه معه، ونَسِي خلقه، ولو فكر في ضعف أصله، وحاله، لاستحيا أن يُدبِّر لنفسه مع ربه، وفي الإشارات عن الله تعالى: أيها العبد لو أَذِنْتُ لك أن تدبر لنفسك لكنت تستحيي مني أن تدبر لها، فكيف وقد نهيتك عن الندية!.
وكما قَدَرَ على إحياء العظام الرميمة، يَقْدر على إحياء القلوب الميتة، ومَن قَدَرَ على استخراج النار من محل الماء، يقدر على استخراج العلم من الجهل، واليقظة من الغفلة، ومَن كان أمره بين الكاف والنون، بل أسرع من لحظ العيون، ينبغي أن يُرجع إليه في جميع الشؤون.
قال القشيري: فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء، فلا يحدث شيء قلَّ أو كثر إلا بإبداعه وإنشائه، ولا يبقى منها شيء إلا بإبقائه، فمنه ظهر ما يحدث، وإليه يصير ما يخلق. اهـ.
قال النسفي: قال صلى الله عليه وسلم: «مَن قرأ يس يريد بها وجه الله غفر اللهُ له، وأُعطي من الأجر كمَن قرأ القرآن اثنتين وعشرين مرة» وبالله التوفيق، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّى الله على سيدنا ومولانا محمد، وآله وصحبه، وسلَم.