فصل: تفسير الآيات (5- 8):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (5- 8):

{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {مَثَلُ} اليهود {الذين حُمِّلُوا التوراةَ} أي: كُلِّفوا علمها، والعمل بما فيها، {ثم لم يحملوها}؛ لم يعملوا بما فيها، فكأنهم لم يحملوها، {كَمَثَلِ الحمارِ يحمل أسفاراً} جمع سفر، وهو الكتاب الكبير، شَبّه اليهودَ بالحمار، فإنهم حملة التوراة وقُرّاؤها وحُفّاظ ما فيها، ثمّ لم يعملوا بها، ولم ينتفعوا بآياتها، وذلك: أنَّ فيها بعث رسولِ الله صلى الله عليه وسلم والبشارة به، فلم يؤمنوا، فهم أشبه شيء بحمار حمل كُتباً كباراً من كتب العلم، فهو يشمي بها، ولا يدري منها إلاَّ ما يلحقه من الكدّ والتعب. وفي التلخيص: وَجْهُ الشَبَه: حرمان الانتفاع بأبلغ نافع، مع تحمُّل التعب في استصحابه، وكل مَن عَلِمَ ولم يعمل بعلمه فهذا مثلُه. قال الطيبي: لمّا تمسكت اليهود بقوله: {في الأميين}؛ لأنه خاص بالعرب أتبعه بضرب المثل لمَن تمسّك بهذه الشبهة وترك الدلائل الواضحة المسطورة بعموم البعثة، وأنه كالحمار يحمل أسفاراً، ولا يدري ما حمل، ولا ما فيه. اهـ. وجملة {يحمل} حال، والعامل فيها، معنى المثل، أو: صفة للحمار؛ إذ ليس المراد به معيناً فهو كقوله:
ولقد أَمُرُّ على اللئيم يَسُبُّني

{بئس مثلُ القومِ الذين كذّبوا بآيات الله} أي: بئس مثلاً مثل القوم الذين كذّبوا، أو بئس مثل القوم المكذِّبين مثلهم، وهم اليهود الذين كذّبوا بآيات الله الدالة على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، {واللهُ لا يهدي القوم الظالمين} وقت اختيارهم الظلمَ، أو: لا يهدي مَن سبق في علمه أنه يكون ظالماً، أو الظالمين لأنفسهم بتعريضها للعذاب الخالد.
{قل يا أيها الذين هادوا إِن زعمتم أنكم أولياءُ لله من دون الناس فتَمَنَّوا الموتَ إِن كنتم صادقين}، كانوا يقولون: {نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18]، أي: إن كان قولكم حقًا، وكنتم على ثقة فتمنُّوا على الله أن يُميتمكم ويبعثكم سريعاً إلى دار كرامته، التي أعدّها لأوليائه، فإنّ الحبيب يُحب لقاء حبيبه، وينتقل من دار الأكدار، إلى دار السرور والهناء، قال تعالى: {ولا يتمنونه أبداً بما قدمت أيديهم} من الكفر والمعاصي الموجبة للنار. والباء متعلقة بما يدل عليه النفي، أي: يأبون ذلك بسبب ما قدمت أيديهم، {والله عليم بالظالمين} أي: بهم. وإيثار الإظهار في موضع الإضمار لذمهم والتسجيل عليهم بالظلم في كل ما يأتون وما يذرون من الأمور، التي من جملتها ادعاء ما هم عنه بمعزل من ولاية الله.
ثم إنهم لم يجسر أحدٌ منهم أن يتمناها، بل فرٌّوا منها، كما قال تعالى: {قل إِنَّ الموت الذي تفرون منه} ولم تجسروا أن تتمنوه خيفة أن تؤخذوا بوبال كفركم، {فإنه مُلاقيكم} لا محالة، من خير صارف يلويه، ولا عاطف يُثنيه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «لو تَمَنَّوه لماتوا من ساعتهم»، وهذه إحدى المعجزات. ودخلت الباء في خبر {إن} مع أنه لا يجوز: إن زيداً فمنطلق؛ لأنَّ {الذي} قد عُرف فيه معنى الشرط والجزاء، كأنه قيل: إن فررتم من أي موت كان؛ من قتال أو غيره، فإنه ملاقيكم، {ثم تُرَدُّون إلى عالم الغيب والشهادة} الذي لاتخفى عليه خافية، {فيُنبئكم بما كنتم تعملون} من الكفر والمعاصي، بأن يجازيكم عليها. قال الكواشي: أكذب اللهُ اليهودَ في ثلاث، افتخروا بأنهم أولياء الله فكذبهم بقوله: {فتَمنَّوالموتَ} وبأنهم أهل الكتاب والعرب لا كتاب لهم، فشُبِّهوا بالحمار يحمل أسفاراً، وبالسبت، وأنه ليس للمسلمين مثله، فجعل الله لهم الجمعة. اهـ. ولذلك ذكرها بإثر تكذيبهم.
الإشارة: مَثَلُ الذي يقرأ القرآن ويتلوه ولا يتدبّر معانيه، أو يقرأ العلم ولا يعمل به، كمثل الحمار.. الخ. وعُروض الموت على النفس، أو العمل أو الحال، ميزان صحيح، فكل حال وعمل، أو شخص هزمه الموت فهو معلول، وحب البقاء للترقِّي والتوسعة في المعرفة محمود، وغيره مذموم، وقد تقدّم في البقرة تفصيل ذلك، فراجعه إن شئت.
وأمّا تمني الموت فقد نُهي عنه، إلاّ لخوف الفتنة، فقد قال ابن عباس لعمر رضي الله عنهما: ما لك تُكثر الدعاء بالموت؟ وما الذي مَلِلت من العيش؟ أما تُقوّم فاسداً وتعين صالحاً؟ فقال عمر: يا بن عباس! كيف لا أتمنى الموت، وأطلب القدوم على الله، ولست أرى في الناس إلاّ فاتحاً فاه لِلعدة من الدنيا إمّا بحق لا يثق به، أو بباطل لا يناله، ولولا أن يسألني ربي عن الناس لفررت منهم، وتصبح الأرض مني بلاقع. اهـ.
وقيل لسفيان الثوري: لِمَ تتمنَّ الموت، وقد نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عنه؟ فقال: إن سألني ربي عن ذلك أقول: لثقتي بك يا رب، وخوفي من الناس، ثم أنشد:
قد قلتُ لمّا مَدَحوا الحياة وأسرفوا ** في الموت ألف فضيلة لا تُعرف

فيها أمان لقائه بلقائه ** وفراق كل معاشرِ لا يُنصِف

وقال طاوس: لا يحرز المرء إلاَّ حفرته، وأنشدوا:
يبكي الرجالُ على الحياة وقد ** أفنى دموعي شوقي إلى الأجل

أموت من قبل أن يفر مني ** دَهْري فإني منه على وجل

.تفسير الآيات (9- 11):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)}
يقول الحق جلّ جلاله: {يا أيها الذين آمنوا إِذا نودي للصلاة من يوم الجمعة}، والإمام على المنبر، و{مِن} بيان ل {إذا} أو تفسير لها، وقيل: {مِن} بمعنى في كقوله: {مَاذَا خَلَقُواْ مِن ألأَرْضِ} [فاطر: 40 والأحقاف: 4] أي: في الأرض. وإنما سُمي جُمعة لاجتماع الناس فيه للصلاة، وقيل: أول مَن سمّاها جمعة: كعب بن لؤي، وكان يُسمى العروبة، وقيل: إنَّ الأنصار قالوا قبل الهجرة: لليهود يومٌ يجتمعون فيه في كل سبعة أيام، وللنصارى مثل ذلك، فهلُموا نجعل يوماً نجتمع فيه، فنذكر الله نُصلّي، فقالوا: يوم السبت لليهود، ويوم الأحد للنصارى، فاجعلوه يوم الجمعة، فاجتعوا إلى سعد بن زُرارة، فصلَّى بهم ركعتين، وذكَّرهم، فسموه يومَ الجمعة، لاجتماعهم فيه، فأنزل الله آية الجمعة أي: بعد ذلك تقريراً لفعلهم، فهي أول جمعة كانت في الإسلام. وأما أول جمعة جمعها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فهي لمَا قَدِم المدينةَ مهاجراً، نزل قباء، على بني عَمرو بن عوف، وأقام بها يوم الاثنين والثلاثاء الأربعاء والخميس، وأسّس مسجدهم، ثم خرج يوم الجمعة عامداً إلى المدينة، فأدركته الصلاة في بني سالم بن عوف، في بطن وادٍ لهم، وقد بنوا هناك مسجداً، فخطب، وصلّى الجمعة فيه. انظر الثعلبي.
ويم الجمعة سيد الأيام، وفي الحديث: «مَن مات يوم الجمعة كتب الله له أجر شهيد، ووُقي فتنة القبر».
فإذا نُودي للصلاة {فاسْعَوا إِلى ذكر الله} أي: امشوا واحضروا الخطبة والصلاة {وذَرُوا البيع} أي: اتركوا المعاملة كلها، وإنما خص البيع؛ لأنّ يوم الجمعة كان سوقًا يتكاثر فيه البيع والشراء عند الزوال، فقيل لهم: بادِروا إلى تجارة الآخرة، واتركوا تجارة الدنيا، {واسْعَوا إِلى ذكر الله} الذي لا شيء أنفع منه، {ذلكم} أي: السعي إلى ذكر الله {خيرٌ لكم} من البيع والشراء {إِن كنتم تعلمون} الخير والشر الحقيقيين، أو: إن كنتم من أهل العلم.
{فإِذا قُضِيَتِ الصلاةُ} أي: أُدّيت وفرغ منها {فانتشِرُوا في الأرض}، أمْرُ إباحة، أي: اخرجوا لإقامة مصالحكم، {وابتغوا من فضل الله}؛ الرزق، قال ابن عباس: إنما هي عيادة المريض، وحضور الجنائز، وزيارة أخ في الله ومثله في الحديث، وعن الحسن: طلب العلم، وقيل: صلاة التطوُّع. {واذكروا اللهَ كثيراً}، أي: ذكراً كثيراً أو زمناً كثيراً، ولا تخصُّوا ذكره بالصلاة، {لعلكم تُفلحون} أي: كي تفوزوا بخير الدارين.
{وإِذا رأَوْا تجارةً أو لهواً انفَضُّوا إِليها}، رُوي أنّ أهل المدينة أصابهم جوع وغلاء شديد، فقَدِم دِحْيَة بن خَليفةَ، بتجارة من زيت الشام، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، فقاموا إليها؛ خشية أن يُسبقوا إليه، فما بقي معه عليه السلام إلاّ ثمانية، أو اثنا عشر؛ العشرة المبشَّرون بالجنة، وبلال وابن مسعود، وقيل: أربعون، وهذا مبنى الخلاف في عدد الجماعة التي تنعقد بهم وتجب عليهم، فقال مالك: تنعقد باثني عشر غير الإمام، وتجب على قرية يُمكنهم الإقامة والدفع عن أنفسهم في الغالب، وقال الشافعي: أربعون رجلاً وقال أبو حنيفة: لابد من المصر الجامع، والسلطان القاهر، وتصح الصلاة عنده بأربعة.
ولمّا انفضُّوا قال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده لو قاموا جميعاً لأضرم الله عليهم الوادي ناراً» وفي مراسيل أبي داود: إنّ الخطبة كانت بعد الصلاة، فتأوّلوا رضي الله عنهم أنهم قد قضوا ما عليهم، فحولت الخطبة بعد ذلك قبل الصلاة. اهـ.
وكانوا إذا أقبلت العير استقبلوها بالطبل والتصفيق، وهو المراد باللهو. وتخصيص التجارة برجْع الضمير إليها؛ لأنها المقصودة، أو لأن الانفضاض إذا كان للتجارة مع الحاجة إليها مذموماً، فما ظنك بالانفضاض إلى اللهو، فهو مذموم في نفسه، وقيل: التقدير: إذا رأوا تجارة انفضُّوا إليها، أو لهواً انفضُّوا إليه، فحذف الثاني لدلالة الأول عليه. وقال أبو حيان: وإنما قال: {إليها}، ولم يقل: إليهما، لأن العطف ب {أو} لا يثنى فيه الضمير، بل يفرد، وقال الطيبي: الضمير راجع إلى اللهو، باعتبار المعنى، والسر فيه: أنَّ التجارة إذا شغلت المكلّف عن الذكر عُدت لهواً، وتعد فضلاً إن لم تشغله، كما ذكر قبل ذلك، فراجعه.
{وتَركُوك قائمًا} على المنبر، وفيه ندليل على طلب القيام في الخطبة إلاَّ لعذر. {قل ما عند الله} من الثواب {خير من اللهو ومن التجارة} فإنَّ في ذلك نفع محقق دائم، بخلاف ما فيهما من النفع المتوهم. {واللهُ خيرُ الرازقين} فإليه اسعوا، ومنه اطلبوا الرزق، أي: لا يفوتهم رزق الله بترك البيع، فهو خير الرازقين.
الإشارة: إذا نُودي لصلاة القلوب في مقام الجمع، من ناحية الداعي إليها، وهم المشايخ العارفون، فاسعوا إلى ذكر الله، ودُوموا عليه باللسان والقلب، ثم بالقلب فقط، ثم بالروح، ثم بالسر، فإنَّ الذكر منشور الولاية، ولابد منه في البداية والنهاية، قال الورتجبي بعد كلام: الساعي إلى الذكر مقام المريدين، والمحقق في المعرفة غلب عليه ذكر الله إياه بنعت تجلِّي نفسه لقلبه. اهـ.
{وذّرُوا البيع} أي: اتركوا كلَّ ما يشغل عن الله، فلا تتجلى الحقائق إلاّ بعد ترك العلائق، ذلكم، أي: ترك كل شاغل، خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون، أي: إن كنتم من أهل العلم بالله فإذا قُضيت الصلاة فانتشروا في الأرض... إلخ، أي: إذا حصل لكم البقاء بعد الفناء؛ فانتشِروا في أرض العبودية، واتسعوا في ميادين البشرية، بالاستمتاع بالشهوات المباحة بالإذن والتمكين، والرسوخ في اليقين، وابتغوا من فضل الله، بالتجارات الرابحة، وهي إرشاد العباد إلى الله، {واذكروا الله كثيراً} أي: في كل شيء وعند كل شيء، برؤية الحق في كل شيء، وإليه تُشير وصيته صلى الله عليه وسلم لمُعاذ بقوله: «واذكر الله عند كل حَجر وشجر».
وقوله تعالى: {وإِذا رأوا تجارةً أو لهواً انفضُّوا إِليها}، قال القشيري: يشير إلى السالكين المحرومين من الجذبة وهو السالك الأبتر إذا رأوا تجارة، أي: طاعة تُوجب ثواب الآخرة، يقومون إليها، ويَثبون عليها، نظراً إلى ثواب الآخرة، كما قال عليه السلام: «لا تكونوا كالأجير السوء، إن أُعطي عمل، وإن لم يُعطَ لم يعمل»، أو لهواً أطرب النفس برؤية الطاعة واستِلْذَاذها بنظر الخلق إليها، انفضُّوا إليها وتركوك أيها السالك الحقيقي قائماً بعبودية الحق، ومشاهدة قيوميته، قل: ما عند الله من المواهب العالية، والعطايا السنية، خيرٌ من لهو النفس برؤية الغير، ومن التجارات بثواب الآخرة، لقوله تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلآ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِهِ أَحَداً} [الكهف: 110] أو: ما عند الله نَقْداً للعارفين من واردات القلوب، وبواده الحقيقية، خير مما يؤمل من الدنيا والآخرة للغافلين، والله خير الرازقين، لإعطائه رزق النفس، وهو الطاعة على المنهاج والشرع، ورزق القلب، وهو الأعمال القلبية، كالزهد والورع والرضا والتسليم والمراقبة، والبسط والقبض، والأُنس والهيبة، ورزق الروح بالتجليات والمشاهدات، والمعاينات والتنزُّلات، ورزق السر برفع رؤية الغير والغيرية، ورزق الخفاء بالفناء في الله والبقاء به. اهـ. قال الورتجبي: فيه تأديب المريدين حين اشتغلوا عن صحبة المشايخ، بخلواتهم وعباداتهم، لطلب الكرامة ولم يعلموا أنَّ ما يجدون في خلواتهم بالإضافة إلى ما يجدون في صحبة مشايخهم لَهْوٌ. اهـ. وهو حق. وبالله التوفيق. وصلّى الله على سيدنا محمد، عين عيان التحقيق وعلى آله وصحبه وسلّم.

.سورة المنافقون:

.تفسير الآيات (1- 3):

{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3)}
يقول الحق جلّ جلاله: {إذا جاءك} أيها الرسول {المنافقون} أي: حضروا مجلسك، {قالوا نشهدُ إِنك لَرسولُ الله}، أكدوا بإنَّ واللام؛ للإيذان بأنَّ شهادتهم هذه صادرة عن صميم قلبهم، وخلوص اعتقادهم، ووفور رغبتهم ونشاطهم، قال تعالى: {واللهُ يعلم إِنك لَرسوله} حقيقةً، كما يدل عليه ظاهر كلامهم. والجملة معترضة بين شهادتهم وتكذيبهم بقوله: {واللهُ يشهدُ إِنَّ المنافقين لكاذبون}، وحكمته: أنه لو لم يذكره لتوهم أنَّ قوله: {واللهُ يشهد إِنَّ المنافقين لكاذبون} إبطال للرسالة، فوسطه بين حكاية قول المنافقين وبين تكذيبهم؛ ليزيل هذا الوهم، ويُحقق الرسالة. وقوله: {لكاذبون} أي: في ادعائهم أنهم قالوا ذلك عن اعتقاد وصميم قلب، كما يُشير إليه ظاهر قولهم. قال القشيري: كذَّبهم فيما قالوا: إنّا نشهد عن بصيرة، ونعتقد تصديقك، فلم يكذبهم في الشهادة، ولكن كذَّبهم في قولهم: إنّا مخلصون مصدِّقون بك. اهـ.
{اتخَذوا أيمانَهم} الفاجرة {جُنَّةً}؛ وقاية عما يتوجه إليهم من المؤاخذة بالقتل والسبي، وغير ذلك، واتخاذها جُنَّةً عبارة عن إعدادهم وتهيئهم لها إلى وقت الحاجة، ليحلفوا بها، ويتخلّصوا عن المؤاخذة، {فصَدُّوا} بأنفسهم {عن سبيل الله} وضلُّوا عن طريق الحق، أو: فصّدُّوا مَن أراد الدخول في الإسلام بإلقاء الشُبه، وصدُّوا مَن أراد الإنفاق في سبيل الله بالنهي عنه، كما سيجيء عنهم، ولا ريب أنّ هذا الصدّ منهم متقدم على حلفهم بالفعل، ولذلك عبّر بالاتخاذ. {إِنهم ساء ما كانوا يعملون} من النفاق والصدّ. وفي {ساء} معنى التعجب وتعظيم أمرهم للسامعين.
{ذلك} أي: ما تقدّم من قولهم، الناعي عليهم بأنهم أسوأ الناس أعمالاً، أو: ما وصف مِن حالهم في النفاق والكذب والاستتار بالأيمان الفاجرة. {بأنهم}؛ بسبب أنهم {أمنوا}؛ نطقوا بكلمة الشهادة، كسائر مَن دخل في الإسلام {ثم كفروا} أي: ظهر كفرهم بما شُوهد منهم من شواهد الكفر ودلائله، أو: نطقوا بالإيمان عند المؤمنين، ونطقوا بالكفر عند شياطينهم، {فطُبعَ على قلوبهم}؛ ختم عليها، حتى لا يدخلها الإيمان، جزاء على نفاقهم، فتمرّنوا على الكفر، واطمأنوا به، {فهم لا يفقهون} شيئًا، لا يعرفون حقيَّة الإيمان ولا حقيقته أصلاً.
الإشارة: قد يأتي إلى مشايخ التربية مَن يُنافقهم، طمعًا في الدنيا، فيقول: نشهد إنك لَمن العارفين، أو مِن أهل التربية، مثلاً، فَتَجُر الآيةُ ذيلَها عليه، وقد يكون مذبذباً، تارة تلوح له أنوارُ الولاية، وتارة تَستر عنه، فيُصدّق ثم يرجع، ثم يُطبع على قلبه. قال القشيري: {ذلك بأنهم آمنوا}: استضاؤوا بنور الإجابة، فلم يَنْبَسِطْ عليهم شعاعُ نور السعادة، فانطفأ نورُهم بقَهْرِ الحرمان، وبَقوا في ظلمة القسمة السابقة بحكم الشقاوة. اهـ. وهنا إشارة أخرى للقشيري، وهو: إذا جاءك أيها الروح الصافية منافق الهوى والنفس الأمّارة، قالوا: نشهد إنك لَرسول الله، أي: كاملة صافية، يُريدون بذلك توقفها عن الترقي باستحسان ما أدركت، والوقوف معه، والله يعلم إنك لَرسوله، حين تصفى، فتكون محل العِلم الرباني، والوحي الإلهامي، والله يشهد إنهم لكاذبون في ادعاء الشهادة بلا حقيقة، اتخذوا أيمانهم جُنَّة، لئلا تكرّ عليهم بأنوارها، فتُخرجهم عن عوائدهم وشهواتهم، فصُدُّوا عن سبيل الله، حيث بقوا مع عوائدهم، أو: فصدُّوا الروح إن صدقتهم وطاوعتهم، ذلك بأنهم أمنوا، حيث ترد عليهم أنوار الواردات، ثم كفروا؛ رجعوا إلى وطنهم، من الحظوظ، حيث تخمد أنوار الواردات عنهم، فطُبع على قلوبهم، حيث وقفوا مع عوائدهم فهم لا يفقهون: لا يعرفون سر إيجادهم، ولا لماذا خُلقوا. اهـ. بالمعنى.