فصل: تفسير الآيات (4- 5):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (4- 5):

{وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)}
يقول الحق جلّ جلاله: {واللائي يَئِسْنَ من المحيض من نسائكم} لكبرهن، وقدّروه بستين، أو: بخمس وخمسين. رُوي أنَّ ناساً قالوا: قد عرفنا عِدة الأقراء، فما عدة التي لم تحض؟ فنزلت. وقوله: {إِن ارتبتمْ} أي: إن أشكل عليكم حكمهنّ كيف يعتددن، {فعِدَّتهُنَّ ثلاثةُ أشهرٍ} أو: إن ارتبتم في حيضها، هل انقطع أو لم ينقطع، فعِدَّتها بالأشهر، وهي المرتابة التي غابت حيضتُها، وهي في سن مَن يحيض، واختلف فيها، فقيل: ثلاثة أشهر على ظاهر الآية، وقيل: تسعة، وتستبرئ بثلاثة، وهو المشهور في مذهب مالك وقدوته في ذلك عُمر بن الخطاب، لأنّ مذهبه عُمري، وقيل: تعتد بالأقراء، ولو بلغت ثلاثين سنة، حتى تبلغ سن مَن لا يحيض، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة. {واللائي لم يَحِضْنَ} من صغر، فعدتهنّ ثلاثة أشهر، حذف لدلالة ما قبله، {وأُولات الأحوالِ أجَلُهُنَّ} أي: عِدّتهن {أن يضعن حَملَهن} سواء كن مطلقات، أو متوفًّى عنهن أزواجهن، عند مالك والشافعي وأبي حنيفة وسائر العلماء. وقال عليّ وابن عباس رضي الله عنهما: إنما هذا في المطلقات الحوامل، وأما المتوقَّى عنهن فعدّتهنَ أقصى الأجلين، إما الوضع، أو انقضاء أربعة أشهر وعشر، وحُجة الجمهور: حديث سُبَيْعة، أنها لما مات زوجها، ووضعت، أَمَرَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالتزوُّج، وقد رُوي أن ابن عباس رجع إليه، ولو بلغ عليًّا لرجع، فهذه الآية مخصَّصة لِما في سورة البقرة من قوله تعالى: {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ...} [البقرة: 234].
تنبيه: وَضْعُ الحمل إنما يُبرئ الرحم إذا كان من نكاح صحيح، وأمّا من الزنى فلا يُبرئ، باتفاقٍ، فمَن حملت مِن زنى وهي متزوجة فلا تحل للهارب الذي حملت منه إذا طُلّقت بوضع حملها منه، بل لابد من ثلاثة قروء بعد الوضع، نَعَم مَن لا زوج لها من حُرةٍ أو أَمةٍ إذا حملت من زنى تمَّ استبراؤها بوضع حملها.
{ومَن يتقِ اللهَ} في شأن أحكام العدة ومراعاة حقوقها {يجعل له من أمره يُسراً} أي: يُسهل عليه أمره. ويتحلّل عليه ما تعقّد ببركة التقوى، {ذلك} أي: ما علَّمكم من الأحكام {أمرُ الله أَنزله إِليكم} لتعملوا به. وإفراد الكاف مع أنّ المُشار إليهم جماعة؛ لأنها لتعيين الفرق بين البُعد والقرب، لا لتعيين خصوصية المخاطبين {ومَن يتق الله} بالمحافظة على أحكامه {يُكفِّر عنه سيئاتِه} فإنَّ الحسنات يُذهبن السيئات، {ويُعْظِمْ له أجراً} بالمضاعفة والتكثير.
الإشارة: والنفوس التي يئسن من المساوي والميل إلى الدنيا، ثم شككتم في تحقق طهارتها، تنتظر ثلاثة أشهر، فإذا مضت هذه المدة ولم يظهر منها ميل، فالغالب طهارتها، وكذلك النفوس الزكية، الباقية على الفطرة التي لم يظهر منها خَلل، تنتظر هذه المدة، فإن ظهرت سلامتها فلا مجاهدة عليها، والنفوس الحوامل بكثرة الأشغال عِدَّة تمام فتحها أن تضع كل ما يثقل عليها ويمنعها من السير، ولقد سمعتُ شيخنا البوزيدي رضي الله عنه يقول: إن شئتم أن أُقسم لكم؛ إنه لا يدخل أحد عالَم الملكوت وفي قلبه علقة. اهـ.
{ومَن يتق الله} أي: يعزم على البر والتقوى يجعل له تعالى من أمره يُسراً، يُسهّل عليه طريق السلوك، ويكفيه كلَّ ما يُثقله ويشغله عنه، إما بإزالة ذلك له، أو بغيبته عن شؤونه، ومَن يتق الله بالفعل يُكَفِّر عنه سيئاتِه، أي: يُغطّي عنه أوصافه الذميمة بأوصافه الحميدة، ويُعظم له أجراً بأن يفتح له باب مشاهدته. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (6- 7):

{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)}
يقول الحق جّل جلاله: {أَسْكِنُوهُنَّ} أي: المطلَقات {من حيثُ سَكَنتم} أي: مكاناً من حيث سكنتم، ف {من} للتبعيض، أي: بعض مكانِ سكناكم. قال قتادة: لو لم يكن له إلاّ بيت واحد سكنها في بعض جوانبه. {من وُجْدِكُم} أي: وُسْعِكم، أي: ما تطيقونه، فهو عطف بيان، أو بدل. قال أبو حيان: لا يُعرف عطف بيان يعاد فيه العامل، إنما هذا طريقة البدل مع حرف الجر، ولذلك أعربه أبو البقاء بدلاً. اهـ. والوجد، يجوز فيه الضم وهو أشهر والفتح والكسر.
قال ابن جزي: فأمّا المطلقات غير المبتوتة فيجب لها على زوجها السُكُنَى والنفقة اتفاقاً، وأمّا المبتوتة ففيها ثلاثة أقوال، أحدها: أنها يجب لها السكنى دون الفقة، وهو مذهب مالك والشافعي، والثاني: أنها يجب لها السكنى والنفقة، وهو مذهب أبي حنيفة، والثالث: أنها ليس لها سُكنى ولا نفقة، وهو قول محمد، وثابت البناني، وأُبي بن كعب. فحُجة مالك: حديث فاطمة بنت قيس، وهو أنَّ زوجها طلَّقها البتَّةَ، فقال لها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:«ليس لك عليه نفقة»، فيوخذ منه: أنَّ لها السُكْنى، وحُجة مَن أوجب لها السكنى والنفقة: قول عمر بن الخطاب: لا ندع آيةً من كتاب الله ربنا لقول امرأة، فإني سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول:«لها السُكْنَى والنفقة»، وحجة مَن لم يجعل لها سكنى ولا نفقة: أنَّ في بعض الروايات عنها أي: فاطمة بنت قيس أنها قالت:«لم يجعل لي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم نفقة ولا سُكْنَى».
{ولا تُضارُّوهُنَّ} في السُّكْنَى {لِتُضيِّقُوا عليهن} ويُلجأن إلى الخروج، {وإِن كن} أي: المطلقات {أُولات حملٍ فأَنفِقوا عليهن حتى يضعنَ حَملَهن} فيخرجن من العِدّة. قال ابن جزي: اتفق العلماء على وجوب النفقة في العِدّة للمطلقة، عملاً بالآية، سواء كان الطلاق رجعيًّا أو بائناً. واتفقوا أنَّ للمطلقة غير الحامل النفقة والسُكْنى في العِدّة إذا كان الطلاق رجعيًّا، فإن كان بائناً فاختلفوا في نفقتها حسبما ذكرناه، وأمّا المتوفَّى عنها إذا كانت حاملاً فلا نفقة لها عند مالك والجمهور، لأنهم رأوا أنَّ هذه الآية إنما هي في المطلقات. وقال قوم: لها النفقة في التركة. اهـ.
{فإنْ أرضعنَ لكم} هؤلاء المطلقات أولادَكم {فآتوهن أجورَهُنَّ} أي: أجرة الرضاع، وهي النفقة وسائر المؤن المُفصل في كتب الفقه. {وأْتَمِرُوا بينكم بمعروفٍ}، خطاب للرجال والنساء، أي: يأمر كلُّ واحد منكم صاحبَه بخيرٍ؛ من المسامحة والرفق والإحسان، ولا يكن من الأب مماكسة، ومن الأم معاسرة، أو: تشاوروا بينكم على التراضي في الأجرة، ومنه: {إِنَّ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ} [القصص: 20]. {وإِن تعاسَرتمْ}؛ تضايقتم، فلم ترضَ الأمّ بما ترضع به الأجنبية، {فستُرضِعُ له أخرى}؛ فستُوجد مرضعةٌ أخرى، غير متعاسرة، وفيه معاتبة للأم على المعاسرة. والمعنى: إن تشططت الأمّ على الأب في أجرة الرضاع، وطلبت منه كثيراً، فللأب أن يسترضع لولده امرأة أخرى بما هو أرفق إلاّ ألاَّ يَقبل الولدُ غيرها، فتُجبر على رضاعة بأجرة المثل.
{ليُنفق ذو سَعَةٍ من سَعته ومَن قُدِرَ عليه رزقُه فليُنفق مما آتاه اللهُ} أي: لِينفق كُلٌّ واحد من المعسر والموسر بما يبلغه وسعه، يعني: ما أمر به من الإنفاق على المطلقات والمرضعات، {ومن قَدِرَ} أي: ضُيِّق {عليه رزقُه فلينفقْ} عليها {مما آتاه اللهُ} فيَفرض الحاكمُ عليه ما يطيقه، {لا يُكلِّف اللهُ نفساً إِلاَّ ما آتاها}؛ أعطاها من الرزق، وفيه تطييب قلب المعسر، وترغيب له في بذل مجهوده، وقد أكد ذلك بالوعد، حيث قال: {سيجعل اللهُ بعد عُسر يُسراً} أي: بعد ضيق في المعيشة سعة فيها، فإنّ عادته تعالى أن يُعقب العسر باليسر، كما قال تعالى: {فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً} [الشرح: 5]، وكرره مرتين، فلن يغلب عسر يسريْن.
الإشارة: أسكِنوا نفوسَكم من حيث سكنتم بها قبل التوجه، فينبغي للمريد أن يسايس نفسه شيئاً فشيئاً، حتى يغيب عنها في شهود الحق، من غير تشديدٍ في إخراجها عن طبعها بالكلية، فإنها حينئذٍ تَملّ وتكِلّ، فقد قيل: مَن سار إلى الله بموافقة طبعه كان الوصول إليه أقرب إليه من طبعه، ومَن سار إلى الله بمخالفة طبعه كان الوصول إليه على قدر بُعده عن طبعه، وفيه مشقة وحرج. ولذا قال تعالى: {ولا تُضاروهن لتُضيقوا عليهن} لئلا تمل وترجع من حيث جاءت، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «لا يكن أحدكم كالمُنْبَت، فلا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى»، نعم مخالفة طبعها في حب الظهور والجاه، أو حب الدنيا، واجب حتماً لا رخصة فيه، وهذه سيرة أشياخنا رضي الله عنهم لا يُضيقون على المريد في جوع ولا عطش، ولا كثرة رياضة، وإنما يأمرونه بالخمول وتخريب الظاهر والزهد التام، والورع الكامل، فقد سمعت شيخ شيخنا مولاي العربي الدرقاوي الحسني رضي الله عنه يقول: سُدُّوا باب الطمع، وافتحوا باب الورع، واللهِ إن فعلتم ذلك حتى يستولي باطنكم على ظاهركم. اهـ. أي: تستولي المعاني على الحس، فيتحقق الشهود الكامل. وكان أيضاً يقول: نحن لسنا مع جوعٍ ولا مع شبعة، نحن مع الله. اهـ. أي: غائبون عن الجوع والشبع في ذكر الله وشهوده.
وإن كن أُولات حَمل، أي: ثقل من كثرة العلائق، فأّنْفِقوا عليهن من الواردات الإلهية بصُحبة الرجال، حتى تصادم تلك العلائق، فتهدمها، فتضع الحمل عنها، فإن أرْضَعْن لكم، بإن تهذبت ورجعت روحانيةً تأتيك بالعلوم التي يرتضع منها القلب باليقين والمعرفة، فأتوهن أجورهن من البرّ بها والرفق، وائتمروا بينكم بمعروف، فتُؤمر أنت بالإحسان إليها، وتُؤمر هي بالطاعة لك، وإن تعاسرتم، بأن ضعفت هِمتكم، وقلّت أمدادكم، بعدم صحبة أهل الإمداد، فستُرضع له نفس أخرى، أي: فليتخذ شيخاً كاملاً يُرضع له نفسه من ثدي أسرار العلوم والمعارف، ولذلك قيل: مَن لا شيخ له فالشيطان شيخه، لِيُنفق ذو سعة من سعته، وهم الواصلون العارفون، يُنفقون من سعة علومهم وأسرارهم، على المريدين الذي استرضعوهم، ومَن قُدر عليه رزقه من المريدين السائرين فليُنفق مما آتاه الله على مَن تعلقَ به من المريدين، لا يُكلف الله نفساً إلاّ ما آتاها، سيجعل الله بعد عُسرٍ وضيقِ في العلوم والأسرار يُسراً، فتتسع عليه العلوم والأسرار بعد التمكين.
والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (8- 11):

{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آَمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11)}
يقول الحق جلّ جلاله: {وكَأَيِّن من قريةٍ} أي: كثير من أهل قرية {عَتَتْ}؛ أعرضت {عن أمر ربها ورُسلِه} أي: عن طاعتهما على وجه العتوّ والعناد، {فحاسبناها حِساباً شديداً} بالاستقصاء والتنقير والمباحثة في كل نقير وقطمير، {وعذَّبناها عذاباً نُكراً}؛ منكراً فظيعاً، والمراد: إمّا عذاب الآخرة، والتعبير بالماضي لتحقُّق وقوعه، أو عذاب الدنيا، وهو أرجح؛ لأنه سيذكر عذاب الآخرة بعدُ بقوله: {أعدّ اللهُ لهم عذاباً شديداً...} إلخ، {فذاقت وَبَالَ أمرِها} أي: وخامة شأنها، وعقوبة فعلها. قال في الصحاح: والوَبَلَة بالتحريك: الثِقَّلُ والوخَامةُ، وقد وَبُل المرتعُ بالضم وَبْلاً ووَبَالاً، فهو وَبيلٌ، أي: وخِيمٌ. اهـ. وفي القاموس: وبُلَ ككَرُمَ وبَالةً ووبالاً ووبُولاً، وأرض وَبِيلَةٌ: وخيمةُ المرتَعِ. اهـ. {وكان عاقبةُ أمرها خُسراً} أي: خساراً وهلاكاً.
{أعدَّ اللهُ لهم} في الآخرة {عذاباً شديداً}، وعلى أنَّ الكل في الآخرة يكون هذا تكريراً للوعيد وبياناً لكونه مترقباً، كأنه قال: أعدّ الله لهم هذا العذاب الشديد، {فاتقوا اللهَ يا أُولي الألبابِ} في مخالفة أمره، واحذروا ما حلّ بمَن طغى وعتا. وأولو الألباب هم أهل العقول الصافية، ثم فسَّرهم بقوله: {الذين آمنوا} إيماناً خالصاً من شوائب الشرك والشك، فالموصول عطف بيان لأولي الألباب، أو نعت، أو منصوب بأعِني، {قد أنزل اللهُ إِليكم ذكراً} أي: القرآن.
وانتصب {رسولا} بفعل مضمر، أي: وأرسل رسولاً، أو: هو بدل من {ذِكْراً} كأنه في نفسه ذكر، أو: على تقدير حذف مضاف، قد أنزل ذا ذكر رسولاً، وأريد بالذكر: الشرف، كقوله: {وَإِنَهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44] أي: ذو شرف ومجدٍ عند الله، أو: للمنزَل عليه، أو: لقارئه، وبالرسول: جبريل، أو محمد عليهما الصلاة والسلام {يتلوا} أي: الرسول، أو الله عزّ وجل {عليكم آياتِ الله مُبينات} أي: واضحاتٍ، قد بيَّنها اللهُ تعالى لقوله: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الأيات} [آل عمران: 118والحديد: 17] وقرئ بكسر الياء، أي: تُبين ما تحتاجون إليه من الأحكام، {لِيُخرج الذين آمنوا وَعمِلوا الصالحاتِ من الظلمات إِلى النور} متعلق ب {يتلو}، أو: ب {أنزل}، وفاعل يُخرج إما الله، أو الرسول، أي: ليحصّل لهم الله أو الرسول ما هم عليه الآن من الإيمان والعمل الصالح، أو: ليخرج من عَلِمَ وقدّر أنه سيؤمن، {ومَن يؤمن بالله ويعمل صالحاً} حسبما بُيّن في تضاعيف ما أنزل من الآيات المبينات {يُدخله جنات تجري من تحتها الأنهارُ}، وقرأ نافع والشامي بنون العظمة {خالدين فيها أبداً}، والجمع باعتبار معنى {من} كما أنَّ الإفراد في الضمائر الثلاثة باعتبار لفظها، {قد أحسن اللهُ له رزقاً} في الدنيا والآخرة. قال القشيري: الرزقُ الحَسَنُ: ما كان على حَدِّ الكفاية، لا نقصان فيه، ليضعف عن كفاية صاحبه، ولا زيادةَ فيه تَشْغَلهُ عن ربهم. اهـ. بالمعنى. وسيأتي في الإشارة بقيته.
الإشارة: وكأيّن من قريةٍ من قرى القلوب عتت عن أمر ربها؛ عن تحمُّل أعباء العبودية؛ لأنّ القلب لا يحب إلا العلو والغنى والراحة، فإذا أراد العبد أن ينزل إلى الخمول والذل والفقر والتعب عَتَا وتَكَبَّر، وقد حكم اللهُ تعالى بالطبع على القلب المتكبّر، بقوله: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِرٍ جَبَّارٍ} [غافر: 35] في قراءة الإضافة، والمراد بالرسل: الواردات القهرية، فالقلب أيضاً شأنه الفرار منها؛ لأنها تهدم عليه عوائده، وحسابه تعالى لها إحصاؤه لخواطرها، وعتابه عليها، وتعذيبه بالجزع والهلع، والحرص والطمع، وغم الحجاب وسوء الحساب، فهذا وبال القلوب المتكبِّرة على الله، وعلى أولياء الله، وعاقبتها حرمان نعيم الحضرة، ونسيم القربة. فاتقوا الله يا أولي الألباب: القلوب الصافية، أي: دُوموا على تقواكم، واحْذروا مما حلّ بالقلوب الخاربة، الذين آمنوا إيمان الخصوص، قد أنزل الله إليكم ذكراً، أي: مذكِّراً، رسولاً بعثه الله خليفةَ رسوله الأعظم صلى الله عليه وسلم، وهو الشيخ الداعي إلى الله، يتلو عليكم آياته، أي: شواهده الموصِّلة إليه، ليُخرج الذين آمنوا وعملوا الأعمال الصالحات، وهي آداب العبودية، من ظلمات الجهل والغفلة، وحس الكائنات إلى نور العيان، ومَن يُؤمن بالله، ويثق به في جميع أموره، (ويعمل صالحاً) يُعرض عما سوى الله، يُدخله جنات المعارف، يخلد فيها، قد أحسن اللهُ له رزقاً لقلبه وروحه وسره، من العلوم والمعارف والأسرار. قال القشيري بعد كلام: وكذلك أرزاقُ القلوب أي: تكون على حد الكفاية، من غير زيادة ولا نقصان ثم قال: وحسنها: أن يكون له من الأحوال ما يشتغلُ به في الوقت من غير نقصان يجعله يتعذّب بتعطُّشه، ولا تكون بزيادة، فيكون على خَطَرٍ من مغاليط لا يَخْرُجُ منها إلاّ بتأييدٍ من الله سماويٍّ. اهـ.