فصل: تفسير الآيات (14- 20):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (14- 20):

{إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)}
يقول الحق جلّ جلاله: {إِنَّ ربك لبالمرصاد}، قال ابن عباس: بحيث يرى ويسمع فلا يعزب عنه شيء، ولا يفوته أحد، فتجب مراقبته لا الغفلة عنه في الانهماك في حب العاجلة، كما أشار إليه بقوله: {فأمّا الإنسان..} إلخ، فإنه بضد المراد مما تقتضيه حال المراقبة لمَن بالمرصاد. اهـ. وأصل المرصاد: المكان الذي يترقّب فيه الرَّصَد، أي: الانتظار، مفعال، من: رصَده، كالميقات من وقته، وهذا تمثيل لإرصاده تعالى بالعصاة، وأنهم لا يفوتونه، قال الطيبي: لمّا بيّن تعالى ما فعل بأولئك الطغاة من قوم عاد وثمود وفرعون حيث صَبَّ عليهم سوط العذاب، أتبعه قوله: {إِنَّ ربك لبالمرصاد} تخلُّصاً، أي: فعل بأولئك ما فعل، وهو يرصد هؤلاء الكفار الذين طغوا على أفضل البشر وسيد الرسل، مما جاء به من الأمر بمكارم الأخلاق ومعالي الأمور والنهي عن سفسافها، ورذائلها، فيصب عليهم في الدنيا سوط عذاب، ويُعذبهم في الآخرة عذاباً فوق كل عذاب، كما قال: {لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ} [الفجر: 25].
ثم فصّل أحوال الناس بعد أن أعلم أنه مطلع عليهم، فقال: {فأمّا الإِنسانُ}، فهو متصل بما قبله، كأنه قيل: إنه تعالى بصدد مراقبته أحوال عباده ومجازاتهم بأعمالهم خيراً أو شرًّا {فأمّا الإنسان} الغافل فلا يهمه ذلك، وإنما مطمح نظره ومرصد أفكاره الدنيا ولذائذها، {إِذا ما ابتلاه ربُّه} أي: عامله معاملة مَن يبتليه ويختبره {فأكْرَمَه ونَعَّمه}، الفاء تفسيرية، فالإكرام والتنعُّم هو عين الابتلاء، {فيقول ربي أكرمنِ} أي: فضّلني بما أعطاني من الجاه والمال حسبما كنت أستحقه، ولا يخطر بباله أنه أعطاه ذلك ليبلوه أيشكر أم يكفر، وهو خبر المتبدأ الذي هو {الإنسان}، والفاء لما في {أمَّا} من معنى الشرط، والظرف المتوسط على نية التأخُّر، كأنه قيل: فأمّا الإنسان فيقول ربي أكرمني وقت ابتلائه بالإنعام، وإنما قدّمه للإيذان من أول مرة بأنّ الإكرام والتنعُّم بطريق الابتلاء. ونقل الرضي أن {إذا} هنا جزائية، فقال: وقد تقع كلمة الشرط مع الشرط في جملة أجزاء الجزاء ثم استشهد بالآية، وقال: والتقدير: فمهما يكن من شيء فإذا ابتلاه يقول. اهـ. وقال المرادي: إذا توالى شرطان دون عطف فالجواب لأولهما، والثاني مقيد للأول، كتقييده بحال واقعة موقعه، ثم استشهد بما حاصله في الآية: فأمّا الإنسان حال كونه مبتلى فيقول... إلخ، فالشرط الثاني في معنى الحال، والحال لا تحتاج إلى جواب. اهـ. مختصراً انظر الحاشية الفاسية.
{وأمّا إِذا ما ابتلاه فَقَدَرَ عليه رزقَه} أي: ضَيّق عليه رزقه، وجعله بمقدار بلغته، حسبما تقتضيه ميشئته المبينة على الحِكَم البالغة {فيقول ربي أهاننِ}، ولا يخطر بباله أنَّ ذلك لِيبلوه أيصبر أم يجزع، مع أنه ليس من الإهانة في شيءٍ بل التقتير قد يُؤدي إلى كرامة الدارين، والتوسعة قد تفضي إلى خسرانهما، فالواجب لمَن علم أنَّ ربه بالمرصاد منه أن يسعى للعاقبة، ولا تَهمّه العاجلة، وهو قد عكسن فإذا امتحنه ربه بالنعمة والسعة ليشكر قال ربي أكرمني وفضّلني بما أعطاني، فيرى الإكرام في كثرة الحظّ من الدنيا، وإذا امتحنه بالفقر، فَقَدَر عليه رزقه ليصبر، قال: ربّي أهانني، فيرى الهوان في قلة الحظ من الدنيا؛ لأنه لا يهمه إلاَّ العاجلة، وهو ما يلذّه وينعِّمه فيها، وإنما أنكر قوله: {ربي أكرمن} مع أنه أثبته بقوله: {فأكرمه ونعَّمه}، لأنه قاله على قصد خلاف ما صحّحه الله عليه وأثبته، وهو قصده إلى أن الله أعطاه إكراماً له لاستحقاقه، كقوله: {إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عنديا} [القصص: 78] وإنما أعطاه الله ابتلاءً من غير استحقاق منه، فردّ تعالى عليه زعمه بقوله: {كلاَّ} أي: ليس الإكرام والإهانة في كثرة المال وقلّته، بل الإكرام في التوفيق للطاعة، والإهانة في الخذلان ف {كلا} ردع للإنسان عن مقالته، وتكذيب له في الحالتين، قال ابن عباس: المعنى: لم أبتله بالغنى لكرامته عليّ، ولم أبتله بالفقر لهوانه عليّ، بل ذلك بمحض القضاء والقدر.
وقوله تعالى: {بل لا تُكرِمون اليتيمَ} انتقال من بيان سوء أقواله إلى بيان سوء أفعاله، والالفتات إلى الخطاب؛ للإيذان بمشافهته بالعتاب، تشديداً للتقريع، وتأكيداً للتشنيع، والجمع باعتبار معنى الإنسان، إذ المراد به الجنس، أي: بل لكم أحوال أشد شرًّا مما ذكر، وأدل على تهالككم على المال، حيث يُكرمكم الله تعالى بكثرة المال فلا تؤدون ما يلزمكم فيه من إكرام اليتيم بالمبّرة به.
{ولا تَحاضُّون على طعام المسكين} أي: يحض بعضُكم بعضاً على إطعام المساكين، {وتأكلون التراثَ} أي: الميراث، وأصله الوُراث، فقلبت الواو تاء، {أكلاً لمّا} أي: ذا لَمّ، وهو الجمع بين الحلال والحرام فإنهم كانوا لا يُورِثون النساء والصبيان، ويأكلون أنصباءهم، ويأكلون كل ما تركه المُورّث من حلال وحرام، عالمين بذلك، {وتُحبون المالَ حباً جماً} أي: كثيراً شديداً، مع الحرص ومنع الحقوق، {كَلاًّ} ردعٌ عن ذلك، وإنكارٌ عليهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: إنَّ ربك لبالمرصاد، المطلع على أسرار العباد، العالم بمَن أقبل عليه أو أدبر عنه، ثم يختبرهم بالجمال والجلال، فأمّا الإنسان إذا ما ابتلاه ربُّه فأكْرَمه ونَعَّمَه في الظاهر، فيقول ربي أكرمني، ويبطر ويتكبّر، وأمّا إذا ما ابتلاه فقَدَر عليه رزقه فيقول ربي أهانني، ويقنط ويتسخّط، كَلاَّ لِينزجرا عن اعتقادهما وفعلهما، وليعلما أنه اختبار من الحق، فمَن شكر النِعم وأطعم الفير والمسكين، وأبرّ اليتيم والأيم، كان من الأبرار، وإن عكس القضية كان من الفُجّار ومَن صبر على الفقر، ورضي بالقسمة، وفرح بالفاقة، فهو من الأولياء، ومَن عكس القضية كان من البُعداء، فَمن نظر الإنسان القصير ظنُ النقمة نعمة، والنعمة نقمة، فبسطُ الدنيا على العبد قبل معرفته بربه هوانٌ، وقبضها عنه أحسان، وفي الحكم: (ربما أعطاك فمنعك، وربما منعك فأعطاك). ثم زجر الحقُّ تعالى عن التمتُّع الشهواني البهيمي، وعن محبة المال الفاني، وهو من فعل أهل الانهماك في الغفلة.

.تفسير الآيات (21- 30):

{كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)}
يقول الحق جلّ جلاله: {كلا إِذا دُكَّتِ الأرْضُ} أي: زُلزلت {دَكاً دَكاً} أي: دكاً بعد دكّ، أي: كرّر عليها الدكّ حتى صارت هباءً منبثاً، أو قاعاً صفصفاً، {وجاء ربُّك} أي: تجلّى لفصل قضائه بين عباده، وعن ابن عباس: أمره وقضاؤه، {والمَلكُ صفاً صفاً} أي: نزل ملائكة كل سماء فيصفون صفاً بعد صف محدقين بالإنس والجن، {وجيء يومئذٍ بجهنمَ}، قيل: بُرِّزت لأهلها، كقوله: {وَبُرِّزَتِ الجحيم لِلْغَاوِينَ} [الشعراء: 91] وقيل: يجاء بها حقيقة، وفي الحديث: «يؤتى بجهنم يومئذٍ، لها سبعونَ ألفَ زمامٍ، مع كل زمام سبعون ألف ملك يَجرُّونها، حتى تنصب عن يسار العرش لها لغيط وزفير» رواه مسلم.
{يومئذ يتذكّرُ الإِنسانُ} أي: يتّعظ، وهو بدل من {إذا دُكت} والعامل فيه: {يتذكّر} أي: إذا دُكت الأرض ووقع الفصل بين العباد يتذكر الإنسان ما فرّط فيه بمشاهدة جزائه، {وأنَّى له الذِّكْرَى} أي: ومن أين له الذكرى؟ لفوات وقتها في الدنيا، {يقول يا ليتني قدمتُ لحياتي} هذه، وهي حياة الآخرة، أي: يا ليتني قدّمتُ الأعمالَ الصالحة في الدنيا الفانية لحياتي الباقية.
{فيومئذٍ لا يُعَذِّبُ عذابَه أحدٌ} أي: لا يتولّى عذاب الله أحد؛ لأن الأمر لله وحده في ذلك اليوم، {ولا يُوثِقُ وثاقه أحدٌ}، قال صاحب الكشف: لا يُعدِّب بالسلاسل والأغلال أحدٌ كعذاب الله، ولا يوثِق أحدٌ أحداً كوثاق الله. وقرأ الأخوان بفتح الذال والثاء، بالبناء للمفعول، قيل: وهي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجع إليها أبو عمرو في آخر عمره، والضمير يرجع إلى الإنسان الموصوف، وهو الكافر. وقيل: هو أُبيّ بن خلف، أي: لا يُعذِّب أحدٌ مثل عذابه، ولا يوثق بالسلاسل مثل وثاقه؛ لتناهيه في كفره وعناده.
ثم يقول الله تعالى للمؤمن: {يا أيتها النفسُ} يخاطبه تعالى إكراماً له بلا واسطة أو على لسان ملك، {المطمئنةِ} بوجود الله، أو بذكره، أو بشهوده، الواصلة إلى بَلَج اليقين، بحيث لا يخالطها شك ولا وهم، وقيل: المطمئنة، أي: الآمنة التي لا يستفزها خوف ولا حزن، ويؤيده: قراءة مَن قرأ: يا أيتها النفس الآمنة المطمئنة. ويقال لها هذا عند البعث، أو عند تمام الحساب، أو عند الموت: {ارجعي إِلى ربك} إلى وعده، أو: إلى إكرامه، {راضيةً} بما أُوتيت من النعيم {مرضيةً} عند الله عزّ وجل، {فادخلي في عبادي} أي: في زمرة عبادي الصالحين المخلصين، وانتظمي في سلكهم، {وادخلي جنتي} معهم. وقال أبو عبيدة: أي: مع عبادي وبين عبادي. أي: خواصّي، كما قال: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصالحين} [النمل: 19]. وقيل: المراد بالنفس: الروح، أي: وادخلي في أجساد عبادي، لقراءة ابن مسعود: {في جسد عبادي} ولمّا مات ابن عباس بالطائف جاء طائر لم يُرَ على خلقته فدخل في نعشه، فلما دُفن تُليت هذه الآية على شفا قبره، ولم يُدْرَ مَن تلاها، وقيل: نزلت في حمزة بن عبد المطلب وقيل: في خُبيْب بن عدي، الذي صلبه أهلُ مكة والمختار: أنها عامة في المؤمنين؛ إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
الإشارة: إذا دُكت أرض الحس، باستيلاء المعنى عليها، أو أرض البشرية، باستيلاء الروحانية عليها، دكاً بعد دكٍّ، بالتدريج والتدريب، حتى يحصل التمكين من أسرار المعاني، وجاء ربك، أي: ظهر وتجلّى للعيان، والملَك صفاً صفاً، أي: وجاءت الملائكة صفوفاً، وجيء يومئذٍ بجهنم، أي: بنار البُعد لأهل الفرق، يومئذ يتذكّر الإنسانُ ما فاته من المجاهدة وصُحبة أهل الجمع، وأنَّى له الذكرى مع إقامته في الفَرْق طول عمره، يقول: يا ليتني قدمتُ لحياتي؛ رُوحي بالمشاهدة بعد المجاهدة، فيومئذٍ يتولى الحق تصرُّفه في عباده بقدرته، فيُعَذِّب أهل الحجاب بسلاسل العلائق والشواغل، ويُقيدهم بقيود البين، ثم يُنادي روح المقربين أهل الأرواح القدسية: يا أيتها النفس المطمئنة، التي اطمأنت بشهود الحق، ودام فناؤها وبقاؤها بالله، ارجعي إلى ربك؛ إلى شهود ربك بعد أن كنت عنه محجوبة، راضية عن الله في الجلال والجمال، مرضية عنده في حضرة الكمال، وعلامة الطمأنينة: أنَّ صاحبها لا ينهزم عند الشدائد وتفاقم الأهوال، لأنَّ مَن كانت يده مع الملك صحيحة لا يبالي بمَن واجهه بالتخويف أو التهديد. وقال الورتجبي: النفس المطمئنة هي التي صدرت مِن نور خطاب الأول الذي أوجدها من العدم بنور القِدم، واطمأنت بالحق وبخطابه ووصاله، فدعاها الله إلى معدنها الأول، وهي التي ما نالت من الأول إلى الآخر غير مشاهدة الله، راضية من الله بالله، مرضية عند الله بالاصطفائية الأزلية. اهـ. والنفوس ثلاثة: أمّارة، ولوّامة، ومطمئنة، وزاد بعضهم: اللاّمة. والله تعالى أعلم، صلّى الله على سيدنا محمد وآله.

.سورة البلد:

.تفسير الآيات (1- 10):

{لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)}
يقول الحق جلّ جلاله: {لا أُقسم بهذا البلد}؛ أَقسم تعالى بالبلد الحرام، وما عطف عليه على أنّ الإنسان خُلق مغموراً بمقاساة الشدائد ومعاناة المشاقّ. واعترض بين القسم وجوابه بقوله: {وأنت حِلّ بهذا البلد}، أي: وأنت حالّ ساكن به، فهو حقيق بأن يُقسم به لحلولك به، أو: وأنت حِل، أي: تُستحل حرمتُكَ ويُؤذيك الكفرةُ مع أنَّ مكة لا يَحل فيها قتل صيد ولا بشر، ولا قطع شجر وعلى هذا قيل: {لا أٌقسم} نفي، أي: لا أقسم بهذا وأنت تلحقك فيه إذاية، وهذا ضعيف، أو: وأنت حلال يجوز لك في هذا البلد ما شئت مِن قتل كافر وغير ذلك مما لا يجوز لغيرك، وهذا هو الأظهر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ هذا البلد حرام، حرّمه اللهُ يومَ خلق السموات والأرض، لم يَحِلَّ لأحدٍ قبلي، ولا يحل لأحد بعدي، وإنما أُحل لي ساعة من نهارٍ»، يعني: فتح مكة، وفيه أَمَرَ صلى الله عليه وسلم بقتل ابن خَطَل، وهو متعلّق بأستار الكعبة.
فإن قلتَ: السورة مكية، وفتح مكة كان سنَة ثمان من الهجرة؟ قلتُ: هو وعد بالفتح وبشارة. انظر ابن جزي. وكثير من الآيات نزلت بمكة ولم يتحقق مصداقها إلاّ بعد الهجرة، كقوله تعالى: {وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكاة} [فصلت: 6، 7] وقوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ على مِثْلِهِ} [الأحقاف: 10] وغير ذلك.
{ووالدٍ وما وَلَد} أي: وآدم وجميع ولده، أو نوح وولده، أو إبراهيم وولده، أو إسماعيل ونبينا صلى الله عليه وسلم، ويؤيده أنه حَرَمُ إبراهيم ومنشأ إسماعيل، ومسكن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أو محمد صلى الله عليه وسلم وولده، أو جنس كل والد ومولود. {لقد خلقنا الإِنسانَ} أي: جنسه {في كبدٍ}؛ في تعب ومشقة، فإنه لا يزال يُقاسي فنون الشدائد من وقت نفخ الروح إلى حين نزعها، يُكابد مشاق التعلُّم، ثم مشاق القيام بأمور الدين وأمور معاشه وهموم دنياه وآخرته، ثم يكابد نزع روحه، ثم سؤاله في قبره ثم تعب حشره، ومقاساة شدائد حسابه، ثم مروره على الصراط، فلا راحة له إلاّ بعد دخول الجنة لتكون حلوة عنده، هذا في عموم الناس، وأمّا خواص العارفين فقد استراحوا حين وصلوا إلى معرفة الحق، فأسقطوا عنهم الأحمال؛ لتحققهم أنهم محمولون بالقدرة الأزلية، فلما أَسقطوا حِمْلَهم قام الله بأمرهم، لقوله: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]، يقال: كَبِدَ الرجل كَبَداً: إذا وجعت كبده من مرض أو تعب.
{أَيَحْسَبُ أن لَّن يَقْدِر عليه أَحدٌ} أي: أيظن الإنسان الكافر أن لن يقدر على بعثه أحد، أو: أيظن بعض الإنسان ألن يغلبه أحدٌ، فعلى هذا نزلت في مُعَيّن قيل: هو أبو الأشدّين الجمحي، رجل من قريش كان شديد القوة، مغترًّا بقوته، كان يبسط له الأديم العكاظي فيقوم عليه، ويقول: مَن أزالني عنه فله كذا، فيجذبه عشرة فيتقطع قطعاً، ولا تزال قدماه، وقيل: عَمْرو بن عبد ود، وهو الذي اقتحم الخندق بالمدينة، وقتله عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.
{يقولُ أهلكتُ مالاً لُّبَداً} أي: كثيراً، جمع لُبْدَة وهو ما تلبّد بعضه على بعض، يريد كثرة ما أنفقه، مما كان أهل الجاهلية يسمونها مكارم ومعالي، رياءً وفخراً. {أيَحْسَبُ أن لمْ يَرَه أحدٌ}؟ حين كان ينفق ما ينفق رياءً وسُمعةً، وأنه تعالى لا يُحاسبه ولا يجازيه يعني: أنَّ الله كان يراه وكان عليه رقيباً فيُجازيه عليه.
ثم ذكر نِعمه عليه، فقال: {ألم نجعل له عينين} يُبصر بهما المرئيات، {ولساناً} يُعَبِّرُ به عما في ضميره، {وشفتين} يستر بهما فاه، ويستعين بهما على النُطق والأكل والشرب والنفخ وغيرها، {وهديناه النجدين} أي: طريقي الخير والشر المُفضيان إلى الجنة أو النار، فهو كقوله: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل...} [الإنسان: 3] الآية. وليس المراد بالهدى معنى الإرشاد بل معنى الإلهام، أو: الثديين، وأصل النجد: المكان المرتفع، ومنه سُميت نجد لارتفاعها عما انخفض من الحجاز.
الإشارة: أقسم تعالى ببلد المعاني، التي هي أسرار الذات، ووالد، وهو الروح الأعظم وما تولّد منه من الأرواح الجزئيات، لقد خلق الإنسانَ في كبد: في تعب الظاهر والباطن إلاّ مَن رجع إلى أصله، أعني: روحانيًّا قدسيًّا، فإنه حينئذ يستريح من تعب الطبع. قال الكواشي: عن بعضهم: الإنسان في كبد ما دام قائماً بطبعه، واقفاً بحاله، فإنه في ظلمة وبلاء، فإذا فني عن أوصاف إنسانيته، بفناء طبائعه عنه، صار في راحةٍ. اهـ.
والحاصل: أنَّ الإنسان كله في تعب إلاَّ مَن عرف الله تعالى معرفة العيان، فإنه في روح وريحان، وجنات ورضوان. أَيَحْسَب الجاهل أن لن يقدر على حمل أثقاله أحدٌ، فلذلك أتعب نفسه في تدبير شؤونه، بلى نحن قادرون على حَمل حمله إن أسقطه توكلاً علينا. ألم نجعل له عينين، فلينظر بهما مَن حَمل السمواتِ والأرض، أليس ذلك بقادرٍ على حمل أثقاله؟ فليرح نفسه من تعب التدبير، فما قام به عنه غيرُه لا يقوم به هو عن نفسه، وجعلنا له لساناً يشكر به نِعَمَ مولاه، وشفتين يصمت بهما عما لا يعنيه، وهديناه الطريقين؛ الشريعة والحقيقة، فإذا سلكهما وصلناه إلينا.