فصل: باب معنى قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فَاقْرَءُوا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ»:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.باب ما جاء من الوعيد في تفسير القرآن بالرأي، والجرأة على ذلك، ومراتب المفسرين:

روى عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفسر من كتاب الله إلا آيات بعدد: علمه إياهن جبريل. قال ابن عطية: ومعنى هذا الحديث في مغيبات القرآن، وتفسير مجمله ونحوا هذا، مما لا سبيل إليه إلا بتوفيق من الله تعالى، ومن جملة مغيباته ما لم يعلم الله به، كوقت قيام الساعة ونحوها مما يستقرى من ألفاظه، كعدد النفخات في الصور، وكربته خلق السموات والأرض. روى الترمذي عن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: اتقوا الحديث علي إلا ما علمتم فمن كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ومن قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار. وروى أيضا عن جندب قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ. قال: هذا حديث غريب. وأخرجه أبو داود وتكلم في أحد رواته. وزاد رزين: ومن قال برأيه فأخطأ فقد كفر. قال أبو بكر محمد بن القاسم بن بشار بن محمد الأنباري النحوي اللغوي في كتاب الرد: فسر حديث ابن عباس تفسيرين، أحدهما من قال في مشكل القرآن بما لا يعرف من مذهب الأوائل من الصحابة والتابعين فهو متعرض لسخط الله. والجواب الأخر وهو اثبت القولين وأصحهما معنى: من قال القرآن قولا يعلم أن الحق غيره فليتبوأ مقعده من النار. ومعنى يتبوأ: ينزل ويحل، قال الشاعر:
وبوّئت في صميم معشرها ** فتم في قومها مبوّؤها

وقال في حديث جندب: فحمل بعض أهل العلم هذا الحديث على أن الرأي معنى به الهوى، من قال في القرآن قولا يوافق هواه، لم يأخذه عن أئمة السلف فأصاب فقد أخطأ، لحكمه على القرآن بما لا يعرف أصله، ولا يقف على مذهب أهل الأثر والنقل فيه. وقال ابن عطية: ومعنى هذا أن يسأل الرجل عن معنى في كتاب الله عز وجل فيتسور عليه برأيه دون نظر فيما قال العلماء، واقتضته قوانين العلم كالنحو والأصول، وليس يدخل في هذا الحديث أن يفسر اللغويون لغته والنحويون نحوه والفقهاء معانيه، ويقول كل واحد باجتهاده المبني على قوانين علم ونظر، فإن القائل على هذه الصفة ليس قائلا بمجرد رأيه.
قلت: هذا صحيح وهو الذي اختاره غير واحد من العلماء، فإن من قال فيه بما سنح في وهمه وخطر على باله من غير استدلال عليه بالأصول فهو مخطئ، وأن من استنبط معناه بحمله على الأصول المحكمة المتفق على معناها فهو ممدوح. وقال بعض العلماء: إن التفسير موقوف على السماع، لقوله تعالى: {فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} وهذا فاسد لأن النهي عن تفسير القرآن لا يخلو: إما أن يكون المراد به الاقتصار على النقل والمسموع وترك الاستنباط، أو المراد به أمرا آخر. وباطل أن يكون المراد به ألا يتكلم أحد في القرآن إلا بما سمعه، فإن الصحابة رضي الله عنهم قد قرءوا القرآن واختلفوا في تفسيره على وجوه، وليس كل ما قالوه سمعوه من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فان كان التأويل مسموعا كالتنزيل فما فائدة تخصيصه بذلك! وهذا بين لا إشكال فيه، وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة النساء إن شاء الله تعالى، وإنما النهي يحمل على أحد وجهين: أحدهما أن يكون له في الشيء رأي، واليه ميل من طبعه وهواه، فيتأول القرآن على وفق رأيه وهواه، ليحتج على تصحيح غرضه، ولو لم يكن له ذلك الرأي والهوى لكان لا يلوح له من القرآن ذلك المعنى. وهذا النوع يكون تارة مع العلم كالذي يحتج ببعض آيات القرآن على تصحيح بدعته، وهو يعلم أن ليس المراد بالآية ذلك، ولكن مقصوده أن يلبس على خصمه، وتارة يكون مع الجهل، وذلك إذا كانت الآية محتملة فيميل فهمه إلى الوجه الذي يوافق غرضه، ويرجح ذلك الجانب برأيه وهواه، فيكون قد فسر برأيه أي رأيه حمله على ذلك التفسير، ولولا رأيه لما كان يترجح عنده ذلك الوجه. وتارة يكون له غرض صحيح فيطلب له دليلا من القرآن ويستدل عليه بما يعلم أنه ما أريد به، كمن يدعو إلى مجاهدة القلب القاسي فيقول قال الله تعالى: {اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى} ويشير إلى قلبه، ويومئ إلى أنه المراد بفرعون، هذا الجنس قد يستعمله بعض الوعاظ في المقاصد الصحيحة تحسينا للكلام وترغيبا للمستمع، وهو ممنوع لأنه قياس في اللغة، وذلك غير جائز. وقد تستعمله الباطنية في المقاصد الفاسدة لتغرير الناس ودعوتهم إلى مذاهبهم الباطلة، فينزلون القرآن على وفق رأيهم ومذهبهم على أمور يعلمون قطعا أنها غير مرادة. فهذه الفنون أحد وجهي المنع من التفسير بالرأي. الوجه الثاني أن يتسارع إلى تفسير القرآن بظاهر العربية، من غير استظهار بالسماع والنقل فيما يتعلق بغرائب القرآن وما فيه من الألفاظ المبهمة والمبدلة، وما فيه من الاختصار والحذف والإضمار والتقديم والتأخير، فمن لم يحكم ظاهر التفسير وبادر إلى استنباط المعاني بمجرد فهم العربية كثر غلطه، ودخل في زمرة من فسر القرآن بالرأي، والنقل والسماع لا بدله منه في ظاهر التفسير أولا ليتقى به مواضع الغلط، ثم بعد ذلك يتسع الفهم والاستنباط. والغرائب التي لا تفهم إلا بالسماع كثيرة، ولا مطمع في الوصل إلى الباطن قبل أحكام الظاهر، ألا ترى أن قوله تعالى: {وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها} معناه آية مبصرة فظلموا أنفسهم بقتلها، فالناظر إلى ظاهر العربية يظن أن المراد به أن الناقة كانت مبصرة، ولا يدري بماذا ظلموا، وأنهم ظلموا غيرهم وأنفسهم، فهذا من الحذف والإضمار، وأمثال هذا في القرآن كثير، وما عدا هذين الوجهين فلا يتطرق النهى إليه. والله اعلم. قال ابن عطية: وكان جلة من السلف الصالح كسعيد بن المسيب وعامر الشعبي وغيرهما يعظمون تفسير القرآن ويتوقفون عنه تورعا واحتياطا لأنفسهم مع إدراكهم وتقدمهم.
قال أبو بكر الأنباري: وقد كان الأئمة من السلف الماضي يتورعون عن تفسير المشكل من القرآن، فبعض يقدر أن الذي يفسره لا يوافق مراد الله عز وجل فيحجم عن القول. وبعض يشفق من أن يجعل في التفسير إماما يبني على مذهبه ويقتفي طريقه. فلعل متأخرا أن يفسر حرفا برأيه ويخطئ فيه ويقول: أمامي في تفسير القرآن رضي الله عنه عن تفسير حرف من القرآن فقال: أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني! وأين أذهب! كيف أصنع! إذا قلت في حرف من كتاب الله بغير ما أراد تبارك وتعالى.
قال ابن عطية وكان جلة من السلف كثير عددهم يفسرون القرآن وهم أبقوا على المسلمين في ذلك رضي الله عنهم، فأما صدر المفسرين والمؤيد فيهم فعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، ويتلوه عبد الله بن عباس وهو تجرد للأمر وكمله، وتبعه العلماء عليه كمجاهد وسعيد بن جبير وغيرهما، والمحفوظ عنه في ذلك أكثر من المحفوظ على علي.
وقال ابن عباس: ما أخذت من تفسير القرآن لعن على بن أبي طالب. وكان على رضي الله عنه يثني على تفسير ابن عباس ويحض على الأخذ عنه، وكان ابن عباس يقول: نعم ترجمان القرآن عبد الله بن عباس. وقال عنه على رضي الله عنه: ابن عباس كأنما ينظر إلى الغيب من ستر رقيق. ويتلوه عبد الله ابن مسعود وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وعبد الله بن عمرو بن العاص. وكل ما أخذ عن الصحابة فحسن مقدم لشهودهم التنزيل ونزوله بلغتهم. وعن عامر بن واثلة قال: شهدت على بن أبي طالب رضي الله عنه يخطب فسمعته يقول في خطبته: سلوني، فوالله لا تسألوني عن شيء يكون إلى يوم القيامة إلا حدثتكم به، سلوني عن كتاب الله، فوالله ما من آية إلا أنا أعلم أبليل نزلت إما بنهار، أم في سهل نزلت أم في جبل، فقام إليه ابن الكواء فقال: يا أمير المؤمنين، ما الذاريات ذروا؟ وذكر الحديث. وعن المنهال بن عمرو قال قال عبد الله ابن مسعود: لو اعلم أحدا اعلم بكتاب الله منى تبلغه المطي لأتيته، فقال له الرجل: أما لقيت علي بن أبي طالب؟ فقال: بلى، قد لقيته. وعن مسروق قال: وجدت أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثل الأخاذ يروى الواحد والأخاذ يروى الاثنين، والأخاذ لو ورد عليه الناس أجمعون لأصدرهم، وأن عبد الله بن مسعود من تلك الأخاذ. ذكر هذه المناقب أبو بكر الأنباري في كتاب الرد، وقال: الأخاذ عند العرب: الموضع الذي يحبس الماء كالغدير. قال أبو بكر: حدثنا احمد بن الهيثم بن خالد حدثنا احمد بن عبد الله بن يونس حدثنا سلام عن زيد العمى عن أبي الصديق الناجي عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ارحم أمتي بها أبو بكر وأقواهم في دين الله عمر وأصدقهم حياء عثمان وأقضاهم علي وأفرضهم زيد وأقرؤهم لكتاب الله عز وجل أبي بن كعب وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ ابن جبل وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجرح وأبو هريرة وعاء من العلم وسلمان بحر من علم لا يدرك وما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أو قال البطحاء من ذي لهجة اصدق من أبي ذر». قال ابن عطية: ومن المبرزين في التابعين الحسن البصري ومجاهد وسعيد بن جبير وعلقمة. قرأ مجاهد على ابن عباس قراءة تفهم ووقوف عند كل آية، ويتلوهم عكرمة والضحاك وإن كان لم يلق ابن عباس، وإنما أخذ عن ابن جبير، وأما السدي فكان عامر الشعبي يطعن عليه وعلى أبي صالح، لأنه يراهما مقصرين في النظر.
قلت: وقال يحيى بن معين: الكلبي ليس بشيء. وعن يحيى بن سعيد القطان عن سفيان قال قال الكلبي قال أبو صالح: كل ما حدثتك كذب. وقال حبيب بن أبي ثابت: كنا نسميه الدروغ زن يعني أبا صالح مولى أم هانئ والدروغ زن: هو الكذاب بلغة الفرس. ثم حمل تفسير كتاب الله تعالى عدول كل خلف، كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين». خرجه أبو عمر وغيره. قال الخطيب أبو بكر احمد بن على البغدادي: وهذه شهادة من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنهم أعلام الدين وأئمة المسلمين لحفظهم الشريعة من التحريف، والانتحال للباطل، ورد تأويل الأبله الجاهل، وانه يجب الرجوع إليهم، والمعول في أمر الدين عليهم، رضي الله عنهم.
قال ابن عطية: وألف الناس فيه كعبد الرزاق والمفضل وعلي بن أبي طلحة والبخاري وغيرهم. ثم إن محمد بن جرير رحمه الله جمع على الناس أشتات التفسير، وقرب البعيد منها وشفى في الإسناد ومن المبرزين من المتأخرين أبو إسحاق الزجاج وأبو علي الفارسي، وأما أبو بكر النقاش وأبو جعفر النحاس فكثير ما استدرك الناس عليهما. وعلى سننهما مكي بن أبي طالب رضي الله عنه. وأبو العباس المهدوي متقن التأليف، وكلهم مجتهد مأجور رحمهم الله، ونضر وجوههم.

.باب تبيين الكتاب بالسنة:

وما جاء في ذلك قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}. وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ}. وقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} وفرض طاعته في غير آية من كتابه وقرنها بطاعته عز وجل، وقال تعالى: {وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ذكر ابن عبد البر في كتاب العلم له عن عبد الرحمن بن زيد: أنه رأى محرما عليه ثيابه فنهى المحرم، فقال: ايتني بآية من كتاب الله تنزع ثيابي، قال: فقرأ عليه: {وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}. وعن هشام بن حجير قال: كان طاوس يصلى ركعتين بعد العصر، فقال ابن عباس: أتركهما، فقال: إنما نهى عنهما أن تتخذا سنة، فقال ابن عباس: قد نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن صلاة بعد العصر، فلا ادري أتعذب عليهما أم تؤجر، لان الله تعالى قال: {وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}. وروى أبو داود عن المقدام بن معد يكرب عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «ألا واني قد أوتيت الكتاب ومثله معه ألا يوشك رجل شعبان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه ألا يحل لكم الحمار الأهلي ولا كل ذي ناب من السباع ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها ومن نزل بقوم فعليهم أن يقرؤه فإن لم يقرؤه فله أن يعقبهم بمثل قراه». قال الخطابي: قوله: «أوتيت الكتاب ومثله معه» يحتمل وجهين من التأويل: أحدهما أن معناه أنه أوتي من الوحي الباطن غير المتلو، مثل ما أعطي من الظاهر المتلو. والثاني أنه أوتي الكتاب وحيا يتلى، وأوتي من البيان مثله، أي أذن له أن يبين ما في الكتاب فيعم ويخص ويزيد عليه ويشرع ما في الكتاب، فيكون في وجوب العمل به ولزوم قبوله كالظاهر المتلو من القرآن. وقوله: «يوشك رجل شبعان» الحديث. يحذر بهذا القول من مخالفة السنن التي سنها مما ليس له في القرآن ذكر على ما ذهبت إليه الخوارج والروافض، فإنهم تعلقوا بظاهر القرآن وتركوا السنن التي قد ضمنت بيان الكتاب، قال: فتحيروا وضلوا، قال والأريكة: السرير، ويقال: إنه لا يسمى أريكة حتى يكون في حجلة، قال: وإنما أراد بالأريكة أصحاب الترفه والدعة الذين لزموا البيوت لم يطلبوا العلم من مظانه. وقوله: «إلا أن يستغنى عنها صاحبها» معناه أن يتركها صاحبها لمن أخذها استغناء عنها، كقوله: {فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ} معناه تركهم الله استغناء عنهم. وقوله: «فله أن يعقبهم بمثل قراه» هذا في حال المضطر الذي لا يجد طعاما ويخاف التلف على نفسه، فله أن يأخذ من مالهم بقدر قراه عوض ما حرموه من قراه. «ويعقبهم» يروى مشددا ومخففا من المعاقبة، ومنه قوله تعالى: {وَإِنْ عاقَبْتُمْ} أي فكانت الغلبة لكم فغنتم منهم، وكذلك لهذا أن يغنم من أموالهم بقدر قراه. قال: وفي الحديث دلالة على أنه لا حاجة بالحديث إلى أن يعرض على الكتاب، فانه مهما ثبت عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان حجة بنفسه، قال: فأما ما رواه بعضهم أنه قال: «إذا جاءكم الحديث فاعرضوه على كتاب الله فان وافقه فخذوه وإن لم يوافقه فردوه» فانه حديث لا أصل له. ثم البيان منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ضربين: بيان لمجمل في الكتاب، كبيانه للصلوات الخمس في مواقيتها وسجودها وركوعها وسائر أحكامها، وكبيانه لمقدار الزكاة ووقتها وما الذي تؤخذ منه من الأموال، وبيانه لمناسك الحج، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ حج بالناس: «خذوا عني مناسككم». وقال: «صلوا كما رأيتموني أصلي». أخرجه البخاري. وروى ابن المبارك عن عمران بن حصين أنه قال لرجل أحمق، أتجد الظهر في الكتاب الله أربعا لا يجهر فيها بالقراءة! ثم عدد عليه الصلاة الزكاة ونحو هذا، ثم قال: أتجد هذا في كتاب الله مفسرا! إن كتاب الله تعالى أبهم هذا، وأن السنة تفسر هذا. وروى الأوزاعي عن حسان بن عطية قال: كان الوحي ينزل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويحضره جبريل بالسنة التي تفسر ذلك. وروى سعيد بن منصور: حدثنا عيسى ابن يونس عن الأوزاعي عن مكحول قال: القرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن. وبه عن الأوزاعي قال قال يحيى بن أبي كثير: السنة قاضية على الكتاب، وليس الكتاب بقاض على السنة. قال الفضل بن زياد: سمعت أبا عبد الله يعني احمد بن حنبل وسيل عن هذا الحديث الذي روى أن السنة قاضية على الكتاب فقال: ما أجسر على هذا أن أقوله، ولكني أقول: إن السنة تفسر الكتاب وتبينه. وبيان آخر وهو زيادة على حكم الكتاب كتحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها، وتحريم الحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع، والقضاء باليمين مع الشاهد وغير ذلك، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

.باب كيفية التعلم والفقه لكتاب الله تعالى، وسنة نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما جاء أنه سهل على من تقدم العمل به دون حفظه:

ذكر أبو عمرو الداني في كتاب البيان له بإسناده عن عثمان وابن مسعود وأبي: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقرئهم العشر فلا يجاوزونها إلى عشر أخرى حتى يتعلموا ما فيها من العمل، فيعلمنا القرآن والعمل جميعا. وذكر عبد الرزاق عن معمر عن عطاء ابن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: كنا إذا تعلمنا عشر آيات من القرآن لم نتعلم العشر التي بعدها حتى نعرف حلالها وحرامها وأمرها ونهيها. وفى موطأ مالك: أنه بلغه أن عبد الله بن عمر مكث على سورة البقرة ثماني سنين يتعلمها. وذكر أبو بكر احمد بن علي بن ثابت الحافظ في كتابه المسمى أسماء من روى عن مالك: عن مرداس بن محمد أبي بلال الأشعري قال: حدثنا مالك عن نافع عن ابن عمر قال: تعلم عمر البقرة في اثنتي عشرة سنة، فلما ختمها نحر جزورا. وذكر أبو بكر الأنباري: حدثني محمد بن شهريار حدثنا حسين بن الأسود حدثنا عبيد الله بن موسى عن زياد بن أبي مسلم أبي عمرو عن زياد بن مخراق قال قال عبد الله بن مسعود: إنا صعب علينا حفظ ألفاظ القرآن، وسهل علينا العمل به، وإن من بعدنا يسهل عليهم حفظ القرآن، ويصعب عليهم العمل به. حدثنا إبراهيم بن موسى حدثنا يوسف بن موسى حدثنا الفضل بن دكين حدثنا إسماعيل ابن إبراهيم بن المهاجر عن أبيه عن مجاهد عن ابن عمر قال: كان الفضل من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صدر هذه الأمة لا يحفظ من القرآن إلا السورة أو نحوها، ورزقوا العمل بالقرآن، وإن آخر هذه الأمة يقرءون القرآن منهم الصبي والأعمى ولا يرزقون العمل به. حدثني حسن بن عبد الوهاب أبو محمد بن أبي العنبر حدثنا أبو بكر بن حماد المقرئ قال: سمعت خلف بن هشام البزار يقول: ما أظن القرآن إلا عارية في أيدينا، وذلك أنا روينا أن عمر بن الخطاب حفظ البقرة في بضع عشرة سنة، فلما حفظها نحر جزورا شكرا لله، وإن الغلام في دهرنا هذا يجلس بين يدي فيقرأ ثلث القرآن لا يسقط منه حرفا، فما احسب القرآن إلا عارية في أيدينا. وقال أهل العلم بالحديث: لا ينبغي لطالب الحديث أن يقتصر على سماع الحديث وكتبه، دون معرفته وفهمه، فيكون قد اتعب نفسه من غير أن يظفر بطائل، ولكن تحفظه للحديث على التدريج قليلا قليلا مع الليالي والأيام. وممن ورد عنه ذلك من حفاظ الحديث شعبة وابن علية ومعمر، قال معمر: سمعت الزهري يقول: من طلب العلم جملة فاته جملة، وإنما يدرك العلم حديثا وحديثين، والله اعلم. وقال معاذ بن جبل: اعلموا ما شئتم إن تعلموا فلن يأجركم بعلمه حتى تعلموا. وقال ابن عبد البر: وروى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثل قول معاذ من رواية عباد بن عبد الصمد، وفية زيادة: إن العلماء همتهم الدراية، وإن السفهاء همتهم الرواية. وروى موقوفا وهو أولى من رواية من رواه مرفوعا، وعباد بن عبد الصمد ليس ممن يحتج به. ولقد أحسن القائل في نظمه في فضل العلم وشرف الكتاب العزيز والسنة الغراء:
إن العلوم وإن جلت محاسنها ** فتاجها ما به الإيمان قد وجبا

هو الكتاب العزيز الله يحفظه ** وبعد ذلك علم فرج الكربا

فذاك فاعلم حديث المصطفى فبه ** نور النبوة سن الشرع والأدبا

وبعد هذا علوم لا انتهاء لها ** فاختر لنفسك يا من آثر الطلبا

والعلم كنز تجده في معادنه ** يا أيها الطالب ابحث وانظر الكتبا

واتل بفهم كتاب الله فيه أتت ** كل العلوم تدبره تر العجبا

واقرأ هديت حديث المصطفى وسلن ** مولاك ما تشتهي يقضى لك الأربا

من ذاق طعما لعلم الدين سرّ به ** إذا تزيّد منه قال واطربا

.باب معنى قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فَاقْرَءُوا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ»:

روى مسلم عن أبي بن كعب: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان عند أضاه بني غفار، فأتاه جبريل عليه السلام فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف، فقال: «اسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك». ثم أتاه الثانية فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرفين، فقال: «اسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك». ثم جاءه الثالثة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ القرآن على ثلاثة أحرف، فقال: «اسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك». ثم جاءه الرابعة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف فأيما حرف قرءوا عليه فقد أصابوا. وروى الترمذي عنه فقال: لقي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جبريل فقال: «يا جبريل بعثت إلى أمة أمية منهم العجوز والشيخ والكبير والغلام والجارية والرجل الذي لا يقرأ كتابا قط فقال لي يا محمد إن القرآن انزل على سبعة أحرف». قال هذا: حديث صحيح. وثبت في الأمهات: البخاري ومسلم والموطأ وأبي داود والنسائي وغيرها من المصنفات والمسندات قصة عمر مع هشام بن حكيم، وسيأتي بكماله في آخر الباب مبينا إن شاء الله تعالى. وقد اختلف العلماء في المراد بالأحرف السبعة على خمسة وثلاثين قولا ذكرها أبو حاتم محمد بن حبان البستي، نذكر منها في هذا الكتاب خمسة أقوال: الأول وهو الذي عليه أكثر أهل العلم كسفيان بن عيينة وعبد الله بن وهب والطبري والطحاوي وغيرهم: أن المراد سبعة أوجه من المعاني المتقاربة بألفاظ مختلفة، نحو اقبل وتعال وهلم. قال الطحاوي: وأبين ما ذكر في ذلك حديث أبي بكرة قال: جاء جبريل إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال اقرأ على حرف، فقال ميكائيل: استرده، فقال: اقرأ على حرفين، فقال ميكائيل: استرده، حتى بلغ إلى سبعة أحرف، فقال: اقرأ فكل شاف كاف إلا أن تخلط آية رحمة بآية عذاب، أو آية عذاب بآية رحمة، على نحو هلم وتعال واقبل واذهب وأسرع وعجل. وروى ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس عن أبي بن كعب إن كان يقرأ {لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا}: للذين آمنوا أمهلونا، للذين آمنوا أخرونا، للذين آمنوا ارقبونا. وبهذا الإسناد عن أبي أنه كان يقرأ {كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ}: مروا فيه، سعوا فيه. وفي البخاري ومسلم قال الزهري: إنما هذه الأحرف في الأمر الواحد ليس يختلف في حلال ولا حرام. قال الطحاوي: إنما كانت السعة للناس في الحروف لعجزهم عن أخذ القرآن على غير لغاتهم، لأنهم كانوا أميين لا يكتب إلا القليل منهم، فلما كان يشق على كل ذي لغة أن يتحول إلى غيرها من اللغات، ولو رام ذلك لم يتهيأ له إلا بمشقة عظيمة، فوسع لهم في اختلاف الألفاظ إذ كان المعنى متفقا، فكانوا كذلك حتى كثر منهم من يكتب وعادت لغاتهم إلى لسان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقدروا بذلك على تحفظ ألفاظه، فلم يسعهم حينئذ أن يقرءوا بخلافها. قال ابن عبد البر: فبان بهذا أن تلك السبعة الأحرف إنما كان في وقت خاص لضرورة دعت إلى ذلك، ثم ارتفعت تلك الضرورة فارتفع حكم هذه السبعة الأحرف، وعاد ما يقرأ به القرآن على حرف واحد. روى أبو داود عن أبي قال قال لي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يا أبي إني أقرئت القرآن فقيل لي على حرف أو حرفين فقال الملك الذي معي قل على حرفين فقيل لي على حرفين أو ثلاثة فقال الملك الذي معي قل على ثلاثة حتى بلغ سبعة أحرف ثم قال ليس منها إلا شاف كاف إن قلت سميعا عليما عزيزا حكيما ما لم تخلط آية عذاب برحمة أو آية رحمة بعذاب». وأسند ثابت بن قاسم نحو هذا الحديث عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذكر من كلام ابن مسعود نحوه. قال القاضي ابن الطيب: وإذا ثبت هذه الرواية يريد حديث أبي حمل على أن هذه كان مطلقا ثم نسخ، فلا يجوز للناس أن يبدلوا اسما الله تعالى في موضع بغيره مما يوافق معناه أو يخالف. القول الثاني قال قوم: هي سبع لغات في القرآن على لغات العرب كلها، يمنها ونزارها، لان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يجهل شيئا منها، وكان قد أوتي جوامع الكلم، وليس معناه أن يكون في الحرف الواحد سبعة أوجه، ولكن هذه اللغات السبع متفرقة في القرآن، فبعضه بلغة قريش، وبعضه بلغة هذيل، وبعضه بلغة هوازن، وبعضه بلغة اليمن. قال الخطابي: على أن في القرآن ما قد قرئ بسبعة أوجه، وهو قوله: {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ}. وقوله: {أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} وذكر وجوها، كأنه يذهب إلى أن بعضه انزل على سبعة أحرف لا كله. والى هذا القول بأن القرآن انزل على سبعة أحرف، على سبع لغات ذهب أبو عبيد القاسم بن سلام واختاره ابن عطية. قال أبو عبيد: وبعض الأحياء أسعد وأكثر حظا فيها من بعض، وذكر حديث ابن شهاب عن انس أن عثمان قال لهم حين أمرهم أن يكتبوا المصاحف: ما اختلفتم وزيد فاكتبوه بلغة قريش، فانه نزل بلغتهم. ذكره البخاري وذكر حديث ابن عباس قال: نزل القرآن بلغة الكعبين، كعب قريش وكعب خزاعة. قيل: وكيف ذلك؟ قال: لأن الدار واحدة. قال أبو عبيد: يعني أن خزاعة جيران قريش فأخذوا بلغتهم. قال القاضي ابن الطيب رضي الله عنه: معنى قول عثمان نزل بلسان قريش، يريد معظمه وأكثره، ولم تقم دلالة قاطعة على أن القرآن بأسره منزل بلغة قريش فقط، إذ فيه كلمات وحروف هي خلاف لغة قريش، وقد قال الله تعالى: {إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا} ولم يقل قرشيا، هذا يدل على أنه منزل بجميع لسان العرب، وليس لأحد أن يقول: أنه أراد قريشا من العرب دون غيرها، كما أنه ليس له أن يقول: أراد لغة عدنان دون قحطان، أو ربيعة دون مضر، لان اسم العرب يتناول جميع هذه القبائل تناولا واحدا. وقال ابن عبد البر: قول من قال إن القرآن نزل بلغة قريش معناه عندي في الأغلب والله اعلم، لان غير لغة قريش موجودة في صحيح القراءات من تحقيق الهمزات ونحوها، وقريش لا تهمز. وقال ابن عطية: معنى قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أنزل القرآن على سبعة أحرف» أي فيه عبارة سبع قبائل بلغة جملتها نزل القرآن، فيعبر عن المعنى فيه مرة بعبارة قريش، ومرة بعبارة هذيل، ومرة بغير ذلك بحسب الأفصح والأوجز في اللفظ، ألا ترى أن فطر معناه عند غير قريش: ابتدأ خلق الشيء وعمله فجاءت في القرآن فلم تتجه لابن عباس، حتى اختصم إليه أعرابيان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها، قال ابن عباس: ففهمت حينئذ موضع قوله تعالى {فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ}. وقال أيضا: ما كنت ادري معنى حينئذ موضع قوله تعالى {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ} حتى سمعت بنت ذي يزن تقول لزوجها: «تعال أفاتحك»، أي أحاكمك. وكذلك قال عمر بن الخطاب وكان لا يفهم معنى قوله تعالى {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ} أي على تنقص لهم. وكذلك اتفق لقطبة بن مالك إذ سمع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في الصلاة: {وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ} ذكره مسلم في باب (القراءة في صلاة الفجر) إلى غير ذلك من الأمثلة. القول الثالث: إن هذه اللغات السبع إنما تكون في مضر، قاله قوم، واحتجوا بقول عثمان: نزل القرآن بلغة مضر، وقالوا: جائز أن يكون منها لقريش، ومنها لكنانة، ومنها لأسد، ومنها لهذيل، ومنها لتيم، ومنها لضبة، ومنها لقيس، قالوا: هذه قبائل مصر تستوعب سبع لغات على هذه المراتب، وقد كان ابن مسعود يحب أن يكون الذين يكتبون المصاحف من مضر. وأنكر آخرون أن تكون كلها من مضر، وقالوا: في مضر شواذ لا يجوز أن يقرأ القرآن بها، مثل كشكشة قيس وتمتمة تميم، فأما كشكشة قيس فإنهم يجعلون كاف المؤنث شينا فيقولون في {جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا}: جعل ربش تحتش سريا، وأما تمتمة تميم فيقولون في الناس: النات، وفي أكياس. قالوا: هذه لغات يرغب عن القرآن بها، ولا يحفظ عن السلف فيها شي. وقال آخرون: أما إبدال الهمزة عينا وإبدال حروف الحلق بعضها من بعض فمشهور عن الفصحاء، وقد قرأ به الجلة، واحتجوا بقراءة ابن مسعود: ليسجننه عتى حين، ذكرها أبو داود، وبقول ذي الرمة:
فعيناك عيناها وجيدك جيدها ** ولونك إلا عنّها غير طائل

يريد إلا أنها. القول الرابع: ما حكاه صاحب الدلائل عن بعض العلماء، وحكى نحوه القاضي ابن الطيب قال: تدبرت وجوه الاختلاف في القراءة فوجدتها سبعا: منها ما تتغير حركته، ولا يزول معناه ولا صورته، مثل: {هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ}... واطهر،... {وَيَضِيقُ صَدْرِي} ويضيق. ومنها مالا تتغير صورته ويتغير معناه بالإعراب، مثل: {رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا} وباعد. ومنها ما تبقى صورته ويتغير معناه باختلاف الحروف، مثل قوله: {نُنْشِزُها} وننشرها. ومنها ما تتغير صورته ويبقى معناه: {كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} وكالصوف المنفوش.
ومنها ما تتغير صورته ومعناه، مثل: {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} وطلع منضود. ومنها بالتقديم والتأخير كقوله: {وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} وجاءت سكرة الحق الحق بالموت. ومنها بالزيادة والنقصان، مثل قوله: تسع وتسعون نعجة أنثى، وقوله: وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين، وقوله: فان الله من بعد إكراههن لهن غفور رحيم. القول الخامس: أن المراد بالأحرف السبعة معاني كتاب الله تعالى، وهي أمر ونهي ووعد ووعيد وقصص ومجادلة وأمثال. قال ابن عطية وهذا ضعيف لان هذا لا يسمى أحرفا، وأيضا فالإجماع على أن التوسعة لم تقع في تحليل حلال ولا في تغير شي من المعاني. وذكر القاضي ابن الطيب في هذا المعنى حديثا عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم قال: ولكن ليست هذه هي التي أجاز لهم القراءة بها، وإنما الحرف في هذه بمعنى الجهة والطريقة، منه قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ} فكذلك معنى هذا الحديث على سبع طرائق من تحليل وتحريم وغير ذلك. وقد قيل: إن المراد بقوله عليه السلام: «انزل القرآن على سبعة أحرف» القراءات السبع التي قرأ بها القراء السبعة، لأنها كلها صحت عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا ليس بشيء لظهور بطلانه على ما يأتي.