فصل: تفسير الآيات (28- 35):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآيات (20- 25):

{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (23) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (25)}
قوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ} أي قل لهم يا محمد سيروا في الأرض {فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} على كثرتهم وتفاوت هيئاتهم واختلاف ألسنتهم وألوانهم وطبائعهم، وأنظروا إلى مساكن القرون الماضية وديارهم وآثارهم كيف أهلكهم، لتعلموا بذلك كمال قدرة الله. {ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ} وقرأ أبو عمرو وابن كثير {النشاءة} بفتح الشين وهما لغتان مثل الرأفة والرآفة وشبهه. الجوهري: أنشأه الله خلقه، والاسم النشأة والنشاءة بالمد عن أبى عمرو بن العلاء. {إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ} أي بعدله. {وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ} أي بفضله. {وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} ترجعون وتردون. {وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ} قال الفراء: معناه ولا من في السماء بمعجزين الله. وهو غامض في العربية، للضمير الذي لم يظهر في الثاني. وهو كقول حسان:
فمن يهجو رسول الله منكم ** ويمدحه وينصره سواء

أراد ومن يمدحه وينصره سواء، فأضمر من، وقاله عبد الرحمن بن زيد. ونظيره قوله سبحانه: {وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ} أي من له. والمعنى إن الله لا يعجزه أهل الأرض في الأرض ولا أهل السماء إن عصوه.
وقال قطرب: ولا في السماء لو كنتم فيها، كما تقول: لا يفوتني فلان بالبصرة ولا هاهنا، بمعنى لا يفوتني بالبصرة لو صار إليها.
وقيل: لا يستطيعون هربا في الأرض ولا في السماء.
وقال المبرد: والمعنى ولا من في السماء على أن من ليست موصولة ولكن تكون نكرة و{فِي السَّماءِ} صفة لها، فأقيمت الصفة مقام الموصوف. ورد ذلك على ابن سليمان. وقال: لا يجوز. وقال: إن من إذا كانت نكرة فلا بد من وصفها فصفتها كالصلة، ولا يجوز حذف الموصول وترك الصلة، قال: والمعنى إن الناس خوطبوا بما يعقلون، والمعنى لو كنتم في السماء ما أعجزتم الله، كما قال: {وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ}. {وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} ويجوز {نصير} بالرفع على الموضع، وتكون {مِنْ} زائد. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ} أي بالقرآن أو بما نصب من الادلة والاعلام. {أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي} أي من الجنة ونسب اليأس إليهم والمعنى أويسوا. وهذه الآيات اعتراض من الله تعالى تذكيرا وتحذيرا لأهل مكة. ثم عاد الخطاب إلى قصة ابراهيم فقال: {فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ} حين دعاهم إلى الله تعالى: {إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ} ثم اتفقوا على تحريقه {فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ} أي من إذايتها {إِنَّ فِي ذلِكَ} أي في إنجائه من النار العظيمة حتى لم تحرقه بعد ما ألقى فيها {لَآياتٍ}. وقراءة العامة {جَوابَ} بنصب الباء على أنه خبر كان و{أَنْ قالُوا} في محل الرفع اسم كان. وقرأ سالم الأفطس وعمرو بن دينار: {جواب} بالرفع على أنه اسم {كانَ} و{إِنَّ} في موضع الخبر نصبا. {وَقالَ} إبراهيم {إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا} وقرأ حفص وحمزة: {مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ}. وابن كثير وأبو عمرو والكسائي: {مودة بينكم}. والأعشى عن أبي بكر عن عاصم وابن وثاب والأعمش {مودة بينكم}. الباقون {مودة بينكم} فأما قراءة ابن كثير ففيها ثلاثة أوجه، ذكر الزجاج منها وجهين: أحدهما- أن المودة ارتفعت على خبر إن وتكون {ما} بمعنى الذي. والتقدير إن الذي اتخذتموه من دون الله أوثانا مودة بينكم. والوجه الآخر أن يكون على إضمار مبتدإ أي وهي مودة أو تلك مودة بينكم. والمعنى آلهتكم أو جماعتكم مودة بينكم. قال ابن الأنباري: {أَوْثاناً} وقف حسن لمن رفع المودة بإضمار ذلك مودة بينكم، ومن رفع المودة على أنها خبر إن لم يقف. والوجه الثالث الذي لم يذكره أن يكون {مودة} رفعا بالابتداء و{فِي الْحَياةِ الدُّنْيا} خبره، فأما إضافة {مَوَدَّةَ} إلى {بَيْنِكُمْ} فإنه جعل {بَيْنِكُمْ} اسما غير ظرف، والنحويون يقولون جعله مفعولا على السعة.
وحكى سيبويه: يا سارق الليلة أهل الدار. ولا يجوز أن يضاف إليه وهو ظرف، لعلة ليس هذا موضع ذكرها. ومن رفع {مودة} ونونها فعلى معنى ما ذكر، و{بَيْنِكُمْ} بالنصب ظرفا. ومن نصب {مَوَدَّةَ} ولم ينونها جعلها مفعولة بوقوع الاتخاذ عليها وجعل {إِنَّمَا} حرفا واحدا ولم يجعلها بمعنى الذي. ويجوز نصب المودة على أنه مفعول من أجله كما تقول: جئتك ابتغاء الخير، وقصدت فلانا مودة له {بَيْنِكُمْ} بالخفض. ومن نون {مودة} ونصبها فعلى ما ذكر {بينكم} بالنصب من غير إضافة، قال ابن الأنباري: ومن قرأ {مودة بينكم} و{مودة بينكم} لم يقف على الأوثان، ووقف على الحياة الدنيا. ومعنى الآية جعلتم الأوثان تتحابون عليها وعلى عبادتها في الحياة الدنيا {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} تتبرأ الأوثان من عبادها والرؤساء من السفلة كما قال الله عز وجل: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}. {وَمَأْواكُمُ النَّارُ} هو خطاب لعبدة الأوثان الرؤساء منهم والاتباع.
وقيل: تدخل فيه الأوثان كقوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ}.

.تفسير الآيات (26- 27):

{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)}
قوله تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} لوط أول من صدق إبراهيم حين رأى النار عليه بردا وسلاما. قال ابن إسحاق آمن لوط بإبراهيم وكان ابن أخته، وآمنت به سارة وكانت بنت عمه. {وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي} قال النخعي وقتادة: الذي قال: {إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي} هو إبراهيم عليه السلام. قال قتادة: هاجر من كوثا وهى قرية من سواد الكوفة إلى حران ثم إلى الشام، ومعه ابن أخيه لوط بن هاران بن تارخ، وامرأته سارة. قال الكلبي: هاجر من أرض حران إلى فلسطين. وهو أول من هاجر من أرض الكفر. قال مقاتل: هاجر إبراهيم وهو ابن خمس وسبعين سنة.
وقيل: الذي قال: {إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي} لوط عليه السلام. ذكر البيهقي عن قتادة قال: أول من هاجر إلى الله عز وجل بأهله عثمان بن عفان رضي الله عنه. قال قتادة: سمعت النضر بن أنس يقول سمعت أبا حمزة يعني أنس بن مالك يقول: خرج عثمان بن عفان ومعه رقية بنت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أرض الحبشة، فأبطأ على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خبرهم، فقدمت امرأة من قريش فقالت: يا محمد رأيت ختنك ومعه امرأته. قال: «على أي حال رأيتهما» قالت: رأيته وقد حمل امرأته على حمار من هذه الدبابة وهو يسوقها، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «صحبهما الله إن عثمان لأول من هاجر بأهله بعد لوط» قال البيهقي: هذا في الهجرة الأولى، وأما الهجرة الثانية إلى الحبشة فهي فيما زعم الواقدي سنة خمس من مبعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. {إِلى رَبِّي} أي إلى رضا ربى وإلى حيث أمرني. {إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} تقدم. وتقدم الكلام في الهجرة في النساء وغيرها. قوله تعالى: {وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ} أي من الله عليه بالأولاد فوهب له إسحاق ولدا ويعقوب ولد ولد. وإنما وهب له إسحاق من بعد إسماعيل ويعقوب من إسحاق. {وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ} فلم يبعث الله نبيا بعد إبراهيم إلا من صلبه. ووحد الكتاب، لأنه أراد المصدر كالنبوة، والمراد التوراة والإنجيل والفرقان. فهو عبارة عن الجمع. فالتوراة أنزلت على موسى من ولد إبراهيم، والإنجيل على عيسى من ولده، والفرقان على محمد من ولده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعليهم أجمعين. {وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا} يعني اجتماع أهل الملل عليه، قاله عكرمة.
وروى سفيان عن حميد ابن قيس قال: أمر سعيد بن جبير إنسانا أن يسأل عكرمة عن قوله جل ثناؤه {وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا} فقال عكرمة: أهل الملل كلها تدعيه وتقول هو منا، فقال سعيد بن جبير: صدق.
وقال قتادة: هو مثل قوله: {وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً} أي عاقبة وعملا صالحا وثناء حسنا. وذلك أن أهل كل دين يتولونه.
وقيل: {آتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا} أن أكثر الأنبياء من ولده. {وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} ليس {فِي الْآخِرَةِ} داخلا في الصلة وإنما هو تبيين. وقد مضى في البقرة بيانه. وكل هذا حث على الاقتداء بإبراهيم في الصبر على الدين الحق.

.تفسير الآيات (28- 35):

{وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (28) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (31) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِي ءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)}
قوله تعالى: {وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ} قال الكسائي: المعنى وأنجينا لوطا أو أرسلنا لوطا. قال: وهذا الوجه أحب إلى. ويجوز أن يكون المعنى واذكر لوطا إذ قال لقومه موبخا أو محذرا أ {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ} {أَإِنَّكُمْ} تقدم القراءة في هذا وبيانها في سورة الأعراف. وتقدم قصة لوط وقومه في الأعراف وهود أيضا. {وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ} قيل: كانوا قطاع الطريق، قاله ابن زيد.
وقيل: كانوا يأخذون الناس من الطرق لقضاء الفاحشة، حكاه ابن شجرة.
وقيل: إنه قطع النسل بالعدول عن النساء إلى الرجال. قاله وهب بن منبه. أي استغنوا بالرجال عن النساء قلت: ولعل الجميع كان فيهم فكانوا يقطعون الطريق لأخذ الأموال والفاحشة، ويستغنون عن النساء بذلك. {وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} النادي المجلس واختلف في المنكر الذي كانوا يأتونه فيه، فقالت فرقة: كانوا يخذفون النساء بالحصى، ويستخفون بالغريب والخاطر عليهم. وروته أم هانئ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قالت أم هانئ: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله عز وجل: {وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} قال: «كانوا يخذفون من يمر بهم ويسخرون منه فذلك المنكر الذي كانوا يأتونه» أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده، وذكره النحاس والثعلبي والمهدوي والماوردي. وذكر الثعلبي قال معاوية قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إن قوم لوط كانوا يجلسون في مجالسهم وعند كل رجل قصعة فيها الحصى للخذف فإذا مر بهم عابر قذفوه فأيهم أصابه كان أولى به» يعني يذهب به للفاحشة فذلك قوله: {وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ}. وقالت عائشة وابن عباس والقاسم بن أبي بزة والقاسم ابن محمد: إنهم كانوا يتضارطون في مجالسهم.
وقال منصور عن مجاهد كانوا يأتون الرجال في مجالسهم وبعضهم يرى بعضا. وعن مجاهد: كان من أمرهم لعب الحمام وتطريف الأصابع بالحناء والصفير والخذف ونبذ الحياء في جميع أمورهم. قال ابن عطية: وقد توجد هذه الأمور في بعض عصاة أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالتناهي واجب. قال مكحول: في هذه الامة عشرة من أخلاق قوم لوط: مضغ العلك وتطريف الأصابع بالحناء، وحل الإزار، وتنقيض الأصابع، والعمامة التي تلف حول الرأس، والتشابك، ورمي الجلاهق، والصفير، والخذف، واللوطية. وعن ابن عباس قال: إن قوم لوط كانت فيهم ذنوب غير الفاحشة، منها أنهم يتظالمون فيما بينهم، ويشتم بعضهم بعضا ويتضارطون في مجالسهم، ويخذفون ويلعبون بالنرد والشطرنج، ويلبسون المصبغات، ويتناقرون بالديكة، ويتناطحون بالكباش، ويطرفون أصابعهم بالحناء، وتتشبه الرجال بلباس النساء والنساء بلباس الرجال، ويضربون المكوس على كل عابر، ومع هذا كله كانوا يشركون بالله، وهم أول من ظهر على أيديهم اللوطية والسحاق، فلما وقفهم لوط عليه السلام على هذه القبائح رجعوا إلى التكذيب واللجاج، فقالوا: {ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ} أي إن ذلك لا يكون ولا يقدر عليه. وهم لم يقولوا هذا إلا وهم مصممون على اعتقاد كذبه. وليس يصح في الفطرة أن يكون معاند يقول هذا ثم استنصر لوط عليه السلام ربه فبعث عليهم ملائكة لعذابهم، فجاءوا إبراهيم أولا مبشرين بنصرة لوط على قومه حسبما تقدم بيانه في {هود} وغيرها. وقرأ الأعمش ويعقوب وحمزة والكسائي {لننجينه وأهله} بالتخفيف. وشدد الباقون. وقرأ ابن كثير وأبو بكر وحمزة والكسائي: {إنا منجوك وأهلك} بالتخفيف وشدد الباقون. وهما لغتان: أنجى ونجى بمعنى. وقد تقدم. وقرأ ابن عامر: {إنا منزلون} بالتشديد وهي قراءة ابن عباس. الباقون بالتخفيف. وقوله: {وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} قال قتادة: هي الحجارة التي أبقيت وقاله أبو العالية.
وقيل: إنه يرجم بها قوم من هذه الامة.
وقال ابن عباس: هي آثار منازلهم الخربة.
وقال مجاهد: هو الماء الأسود على وجه الأرض. وكل ذلك باق فلا تعارض.