فصل: تفسير الآيات (73- 76):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآيات (73- 76):

{وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (74) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)}
قوله تعالى: {وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ} 10: 15 أي على الكفار الذين سبق ذكرهم في قوله تعالى: {أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا} [مريم: 66].
وقال فيهم: {وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا} أي هؤلاء إذا قرئ عليهم القرآن تعززوا بالدنيا، وقالوا: فما بالنا- إن كنا على باطل- أكثر أموالا وأعز نفرا. وغرضهم إدخال الشبهة المستضعفين وإيهامهم أن من كثر ماله دل ذلك على أنه المحق في دينه وكأنهم لم يروا في الكفار فقيرا ولا في المسلمين غنيا ولم يعلموا أن الله تعالى نحى أولياءه عن الاغترار بالدنيا وفرط الميل إليها. و{بَيِّناتٍ} معناه مرتلات الألفاظ ملخصه المعاني، مبينات المقاصد، إما محاكمات، أو متشابهات قد تبعها البيان بالمحكمات، أو تبيين الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قولا أو فعلا. أو ظاهرات الاعجاز تحدى بها فلم يقدر على معارضتها. أو حججا وبراهين. والوجه أن تكون حالا مؤكدة كقوله تعالى: {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً} لان آيات الله تعالى لا تكون إلا واضحة وحججا. {قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} 110 يريد مشركي قريش النضر بن الحرث وأصحابه. {لِلَّذِينَ آمَنُوا} يعني فقراء أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانت فيهم قشافة، وفي عيشهم خشونة وفي ثيابهم رثاثة وكان المشركون يرجلون شعورهم ويدهنون رؤوسهم ويلبسون خير ثيابهم، فقالوا للمؤمنين {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا}. قرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد وشبل بن عباد {مقاما} بضم الميم وهو موضع الإقامة. ويجوز أن يكون مصدرا بمعنى الإقامة. الباقون {مَقاماً} بالفتح، أي منزلا ومسكنا.
وقيل: المقام الموضع الذي يقام فيه بالأمور الجليلة، أي أي الفريقين أكثر جاها وأنصارا. {وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} أي مجلسا، عن ابن عباس. وعنه أيضا المنظر وهو المجلس في اللغة وهو النادي. ومنه دار الندوة لان المشركين كانوا يتشاورون فيها في أمورهم. وناداه جالسه في النادي. قال:
أنادي به آل الوليد وجعفرا

والندي على فعيل مجلس القوم ومتحدثهم، وكذلك الندوة والنادي والمنتدى والمتندى، فإن تفرق القوم فليس بندي قاله الجوهري. قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ} أي من أمة وجماعة. {هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً} أي متاعا كثيرا، قال:
وفرع يزين المتن أسود فاحم ** أثيث كقنو النخلة المتعثكل

والأثاث متاع البيت.
وقيل: هو ماجد الفرش والخرثي ما لبس منها وأنشد الحسن ابن علي الطوسي فقال:
تقادم العهد من أم الوليد بنا ** دهرا وصار أثاث البيت خرثيا

وقال ابن عباس: هيئة. مقاتل ثيابا {وَرِءْياً} أي منظرا حسنا. وفية خمس قراءات: قرأ أهل المدينة: {وريا} بغير همز. وقرأ أهل الكوفة: {ورئيا} بالهمز. وحكى يعقوب أن طلحة قرأ: {وريا} بياء واحدة مخففة.
وروى سفيان عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس: {هم أحسن أثاثا وزيا} بالزاي، فهذه أربع قراءات. قال أبو إسحاق: ويجوز {هم أحسن أثاثا وريئا} بياء بعدها همزة. النحاس: وقراءة أهل المدينة في هذا حسنة وفيها تقريران: أحدهما- أن تكون من رأيت ثم خففت الهمزة فأبدل منها ياء وأدغمت الياء في الياء. وكان هذا حسنا لتتفق رءوس الآيات لأنها غير مهموزات. وعلى هذا قال ابن عباس: الرئي المنظر، فالمعنى: هم أحسن أثاثا ولباسا. والوجه الثاني- أن جلودهم مرتوية من النعمة، فلا يجوز الهمز على هذا.
وفي رواية ورش عن نافع وابن ذكوان عن ابن عامر {وَرِءْياً} بالهمز تكون على الوجه الأول. وهي قراءة أهل الكوفة وأبي عمرو من رأيت على الأصل. وقراءة طلحة بن مصرف {وريا} بياء واحدة مخففة أحسبها غلطا. وقد زعم بعض النحويين أنه كان أصلها الهمز فقلبت الهمزة ياء، ثم حذفت إحدى الياءين. المهدوي: ويجوز أن يكون {رِءْياً} فقلبت ياء فصارت رئيا ثم نقلت حركة الهمزة على الياء وحذفت. وقد قرأ بعضهم {وريا} على القلب وهي القراءة الخامسة. وحكى سيبويه راء بمعنى رأى. الجوهري: من همزه جعله من المنظر من رأيت، وهو ما رأته العين من حال حسنة وكسوة ظاهرة. وأنشد أبو عبيدة لمحمد بن نمير الثقفي فقال:
أشاقتك الظعائن يوم بانوا ** بذي الرئي الجميل من الأثاث

ومن لم يهمز إما أن يكون على تخفيف الهمزة أو يكون من رويت ألوانهم وجلودهم ريا، أي امتلأت وحسنت. وأما قراءة ابن عباس وأبي بن كعب وسعيد بن جبير والأعسم المكي ويزيد البربري {وزيا} بالزاي فهو الهيئة والحسن. ويجوز أن يكون من زويت أي جمعت، فيكون أصلها زويا فقلبت الواو ياء. ومنه قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «زويت لي الأرض» أي جمعت، أي فلم يغن ذلك عنهم شيئا من عذاب الله تعالى، فليعش هؤلاء ما شاءوا فمصيرهم إلى الموت والعذاب وإن عمروا، أو العذاب العاجل يأخذهم الله تعالى به. قوله تعالى: {قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ} أي في الكفر {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا} أي فليدعه في طغيان جهله وكفره فلفظه لفظ الامر ومعناه الخبر أي من كان الضلالة مده الرحمن مدا حتى يطول اغتراره فيكون ذلك أشد لعقابه. نظيره: {إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً} [آل عمران: 178] وقوله: {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ 110} [الأنعام: 110] ومثله كثير، أي فليعش ما شاء، وليوسع لنفسه في العمر، فمصيره إلى الموت والعقاب. وهذا غاية في التهديد والوعيد.
وقيل: هذا دعاء أمر به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تقول: من سرق مالي فليقطع الله تعالى يده: فهو دعاء على السارق. وهو جواب الشرط. وعلى هذا فليس قوله: {فَلْيَمْدُدْ} خبرا. قوله تعالى: {حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ} قال: {رَأَوْا} لان لفظ {من} يصلح للواحد والجمع. و{إذا} مع الماضي بمعنى المستقبل، أي حتى يروا ما يوعدون والعذاب هنا إما أن يكون بنصر المؤمنين عليهم فيعذبونهم بالسيف والأسر، وإما أن تقوم الساعة فيصيرون إلى النار. {فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً} أي تنكشف حينئذ الحقائق وهذا رد لقولهم: {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا}. قوله تعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً} أي ويثبت الله المؤمنين على الهدى ويزيدهم في النصرة وينزل من الآيات ما يكون سبب زيادة اليقين مجازاة لهم وقيل: يزيدهم هدى بتصديقهم بالناسخ والمنسوخ الذي كفر به غيرهم قال معناه الكلبي ومقاتل.
ويحتمل ثالثا- أي {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا} إلى الطاعة {هُدىً} إلى الجنة والمعنى متقارب. وقد تقدم القول في معنى زيادة الأعمال وزيادة الايمان والهدى في آل عمران وغيرها. {وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ} تقدم في {الكهف} القول فيها. {خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً} أي جزاء: {وَخَيْرٌ مَرَدًّا} أي في الآخرة مما افتخر به الكفار في الدنيا. والمرد مصدر كالرد، أي وخير ردا على عاملها بالثواب، يقال: هذا أرد عليك أي أنفع لك. وقيل {خَيْرٌ مَرَدًّا} أي مرجعا فكل أحد يرد إلى عمله الذي عمله.

.تفسير الآيات (77- 80):

{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (78) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (80)}
قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا} روى الأئمة- واللفظ لمسلم- عن خباب قال: كان لي على العاص بن وائل دين فأتيته أتقاضاه فقال لي: لن أقضيك حتى تكفر بمحمد. قال: فقلت له لن أكفر به حتى تموت ثم تبعث. قال: وإني لمبعوث من بعد الموت؟! فسوف أقضيك إذا رجعت إلى مال وولد. قال وكيع: كذا قال الأعمش، فنزلت هذه الآية: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً} إلى قوله: {وَيَأْتِينا فَرْداً 80}. في رواية قال: كنت قينا في الجاهلية فعملت للعاص بن وائل عملا، فأتيته أتقاضاه. خرجه البخاري أيضا.
وقال الكلبي ومقاتل: كان خباب قينا فصاغ للعاص حليا ثم تقاضاه أجرته فقال العاص: ما عندي اليوم ما أقضيك. فقال خباب: لست بمفارقك حتى تقضيني فقال العاص: يا خباب ما لك؟! ما كنت هكذا، وأن كنت لحسن الطلب. فقال خباب: إني كنت على دينك فأما اليوم فأنا على دين الإسلام مفارق لدينك، قال: أو لستم تزعمون أن في الجنة ذهبا وفضة وحريرا؟ قال خباب: بلى قال فأخرني حتى أقضيك في الجنة- استهزاء- فو الله لئن كان ما تقول حقا إني لاقضيك فيها، فوالله لا تكون أنت يا خباب وأصحابك أولى بها مني، فأنزل الله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا} يعني العاص ابن وائل الآيات. {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ} قال ابن عباس: أنظر في اللوح المحفوظ؟!.
وقال مجاهد: أعلم الغيب حتى يعلم أفي الجنة هو أم لا؟! {أم آتخذ عند الرحمن عهدا} قال قتادة والثوري: أي عملا صالحا.
وقيل: هو التوحيد.
وقيل: هو من الوعد.
وقال الكلبي: عاهد الله تعالى أن يدخله الجنة. {كَلَّا} رد عليه أي لم يكن ذلك لم يطلع الغيب ولم يتخذ عند الرحمن عهدا وتم الكلام عند قوله: {كَلَّا}.
وقال الحسن: إن الآيات نزلت في الوليد بن المغيرة. والأول أصح لأنه مدون في الصحاح. وقرأ حمزة والكسائي: {وولدا} بضم الواو، والباقون بفتحها. واختلف في الضم والفتح على وجهين: أحدهما: أنهما لغتان معناهما واحد يقال ولد وولد كما يقال عدم وعدم.
وقال الحرث بن حلزة:
ولقد رأيت معاشرا ** قد ثمروا مالا وولدا

وقال آخر:
فليت فلانا كان في بطن أمه ** وليت فلانا كان ولد حمار

والثاني- أن قيسا تجعل الولد بالضم جمعا والولد بالفتح واحدا. قال الماوردي: وفي قوله تعالى: {لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً} وجهان: أحدهما- أنه أراد في الجنة استهزاء بما وعد الله تعالى على طاعته وعبادته، قاله الكلبي.
الثاني: أنه أراد في الدنيا وهو قول الجمهور وفية وجهان محتملان: أحدهما إن أقمت على دين آبائي وعبادة آلهتي لأوتين مالا وولدا.
الثاني: ولو كنت على باطل لما أوتيت مالا وولدا. قلت: قول الكلبي أشبه بظاهر الأحاديث بل نصها يدل على ذلك قال مسروق: سمعت خباب بن الأرت يقول: جئت العاصي بن وائل السهمي أتقاضاه حقا لي عنده. فقال: لا أعطيك حتى تكفر بمحمد. فقلت: لا حتى تموت ثم تبعث. قال: وإني لميت ثم مبعوث؟! فقلت: نعم. فقال: إن لي هناك مالا وولدا فأقضيك فنزلت {أفرأيت الذي كفر بآياتنا} الآية قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
قوله تعالى: {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ} ألفه ألف استفهام لمجيء {أَمِ} بعدها ومعناه التوبيخ وأصله أاطلع فحذفت الالف الثانية لأنها ألف وصل فإن قيل فهلا أتوا بمدة بعد الالف فقالوا أطلع كما قالوا {لله خير} {آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ} قيل له كان الأصل في هذا {أالله} {أالذكرين} فابدلوا من الالف الثانية مدة ليفرقوا بين الاستفهام والخبر وذلك أنهم لو قالوا: الله خير بلا مد لالتبس الاستفهام بالخبر ولم يحتاجوا إلى هذه المدة في قوله: {أطلع} لان ألف الاستفهام مفتوحة وألف الخبر مكسورة وذلك أنك تقول في الاستفهام: أطلع؟ أفترى؟ أصطفى؟ استغفرت؟ بفتح الالف، وتقول في الخبر: اطلع، افترى، اصطفى، استغفرت لهم بالكسر، فجعلوا الفرق بالفتح والكسر ولم يحتاجوا إلى فرق آخر قوله تعالى: {كَلَّا} ليس في النصف الأول ذكر {كَلَّا} وإنما جاء ذكره في النصف الثاني. وهو يكون بمعنيين: أحدهما بمعنى حقا. والثاني بمعنى لا. فإذا كانت بمعنى حقا جاز الوقف على ما قبله ثم تبتدئ {كَلَّا} أي حقا. وإذا كانت بمعنى لا كان الوقف على {كَلَّا} جائز كما في هذه الآية لان المعنى: لا ليس الامر كذا. ويجوز أن تقف على قوله: {عَهْداً 80} وتبتدئ {كَلَّا} أي حقا {سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ} وكذا قوله تعالى: {لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا 100} [المؤمنون: 100] يجوز الوقف على {كَلَّا} وعلى {تَرَكْتُ}. وقوله: {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ قالَ كَلَّا}. الوقف على {كَلَّا} لان المعنى لا- وليس الامر كما تظن. {فَاذْهَبا}. فليس للحق في هذا المعنى موضع.
وقال الفراء {كلا} بمنزلة سوف لأنها صلة وهي حرف رد فكأنها {نعم} و{لا} في الاكتفاء. قال: وإن جعلتها صلة لما بعدها لم تقف عليها كقولك: كلا ورب الكعبة، لا تقف على كلا لأنها بمنزلة إي ورب الكعبة. قال الله تعالى: {كَلَّا وَالْقَمَرِ} [المدثر: 32] فالوقف على {كَلَّا} قبيح لأنه صلة لليمين. وكان أبو جعفر محمد بن سعدان يقول في {كَلَّا} مثل قول الفراء وقال الأخفش معنى كلا الردع والزجر وقال أبو بكر بن الأنباري وسمعت أبا العباس يقول: لا يوقف على {كَلَّا} جميع القرآن لأنها جواب والفائدة تقع فيما بعدها. والقول الأول هو قول أهل التفسير. قوله تعالى: {سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ} أي سنحفظ عليه قوله فنجازيه به في الآخرة. {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا} أي سنزيده عذابا فوق عذاب. {وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ} 80 أي نسلبه ما أعطيناه في الدنيا من مال وولد.
وقال ابن عباس وغيره: أي نرثه المال والولد بعد إهلاكنا إياه.
وقيل: نحرمه ما تمناه في الآخرة من مال وولد ونجعله لغيره من المسلمين. {وَيَأْتِينا فَرْداً} 80 أي منفردا لا مال له ولا ولد ولا عشيرة تنصره.

.تفسير الآيات (81- 82):

{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)}
قوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} يعني مشركي قريش. و{عِزًّا} معناه أعوانا ومنعة يعني أولادا. والعز المطر الجود أيضا قاله الهروي. وظاهر الكلام أن {عِزًّا} راجع إلى الآلهة التي عبدوها من دون الله. ووحد لأنه بمعنى المصدر أي لينالوا بها العز ويمتنعون بها من عذاب الله فقال الله تعالى: {كلا} أي ليس الامر كما ظنوا وتوهموا بل يكفرون بعبادتهم أي ينكرون أنهم عبدوا الأصنام أو تجحد الآلهة عبادة المشركين لها كما قال: {تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ} [القصص: 63] وذلك أن الأصنام جمادات لا تعلم العبادة {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} أي أعوانا في خصومتهم وتكذيبهم عن مجاهد والضحاك: يكونون لهم أعداء. ابن زيد: يكونون عليهم بلاء فتحشر آلهتهم وتركب لهم عقول فتنطق وتقول: يا رب عذب هؤلاء الذين عبدونا من دونك و{كلا} هنا يحتمل أن تكون بمعنى لا ويحتمل أن تكون بمعنى حقا أي حقا {سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ} وقرأ أبو نهيك: {كلا سيكفرون} بالتنوين. وروي عنه مع ذلك ضم الكاف وفتحها. قال المهدوي {كَلَّا} ردع وزجر وتنبيه ورد لكلام متقدم، وقد تقع لتحقيق ما بعدها والتنبيه عليه كقوله: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى} [العلق: 6] فلا يوقف عليها على هذا ويوقف عليها في المعنى الأول فان صلح فيها المعنيان جميعا جاز الوقف عليها والابتداء بها. فمن نون {كلا} من قوله: {كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ} مع فتح الكاف فهو مصدر كل ونصبه بفعل مضمر والمعنى: كل هذا الرأي والاعتقاد كلا يعني اتخاذهم الآلهة. {لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} فيوقف على هذا على {عِزًّا} وعلى {كَلَّا}. وكذلك في قراءة الجماعة لأنها تصلح للرد لما قبلها والتحقيق لما بعدها. ومن روى ضم الكاف مع التنوين فهو منصوب أيضا بفعل مضمر كأنه قال: سيكفرون. {كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ} يعني الآلهة. قلت: فتحصل في {كَلَّا} أربعة معان: التحقيق وهو أن تكون بمعنى حقا والنفي والتنبيه وصلة للقسم ولا يوقف منها إلا على الأول.
وقال الكسائي: {لا} تنفى فحسب و{كلا} تنفي شيئا وتثبت شيئا فإذا قيل: أكلت تمرا قلت: كلا إني أكلت عسلا لا تمرا ففي هذه الكلمة نفي ما قبلها، وتحقق ما بعدها والضد يكون واحدا ويكون جمعا كالعدو والرسول وقيل: وقع الضد موقع المصدر أي ويكونون عليهم عونا فلهذا لم يجمع وهذا في مقابلة قوله: {لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} والعز مصدر فكذلك ما وقع في مقابلته. ثم قيل: الآية في عبدة الأصنام فأجري الأصنام مجرى من يعقل جريا على توهم الكفرة.
وقيل: فيمن عبد المسيح أو الملائكة أو الجن أو الشياطين فالله تعالى أعلم.