فصل: تفسير الآية رقم (1):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.سورة النصر:

وهي مدنية بإجماع. وتسمى سورة التوديع. وهي ثلاث آيات. وهي آخر سورة نزلت جميعا قاله ابن عباس في صحيح مسلم.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

.تفسير الآية رقم (1):

{إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)}
النصر: العون مأخوذ من قولهم: قد نصر الغيث الأرض: إذا أعان على نباتها، من قحطها. قال الشاعر:
إذا انسلخ الشهر الحرام فودعي ** بلاد تميم وانصري أرض عامر

ويروى:
إذا دخل الشهر الحرام فجاوزي ** بلاد تميم وانصري أرض عامر

يقال: نصره على عدوه ينصره نصرا، أي أعانه. والاسم النصرة، واستنصره على عدوه: أي سأله أن ينصره عليه. وتناصروا: نصر بعضهم بعضا. ثم قيل: المراد بهذا النصر نصر الرسول على قريش، الطبري.
وقيل: نصره على من قاتله من الكفار، فإن عاقبة النصر كانت له. وأما الفتح فهو فتح مكة، عن الحسن ومجاهد وغيرهما.
وقال ابن عباس وسعيد بن جبير: هو فتح المدائن والقصور.
وقيل: فتح سائر البلاد.
وقيل: ما فتحه عليه من العلوم. وإِذا بمعنى قد، أي قد جاء نصر الله، لان نزولها بعد الفتح. ويمكن أن يكون معناه: إذا يجيئك.

.تفسير الآية رقم (2):

{وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (2)}
قوله تعالى: {وَرَأَيْتَ النَّاسَ} أي العرب وغيرهم. {يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً} أي جماعات: فوجا بعد فوج. وذلك لما فتحت مكة قالت العرب: أما إذا ظفر محمد بأهل الحرم، وقد كان الله أجارهم من أصحاب الفيل، فليس لكم به يدان. فكانوا يسلمون أفواجا: أمة أمة. قال الضحاك: والامة: أربعون رجلا.
وقال عكرمة ومقاتل: أراد بالناس أهل اليمن. وذلك أنه ورد من اليمن سبعمائة إنسان مؤمنين طائعين، بعضهم يؤذنون، وبعضهم يقرءون القرآن، وبعضهم يهللون، فسر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لك، وبكى عمر وابن عباس.
وروى عكرمة عن ابن عباس: «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ: {إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} وجاء أهل اليمن رقيقة أفئدتهم، لينة طباعهم، سخية قلوبهم، عظيمة خشيتهم، فدخلوا في دين الله أفواجا».
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أتاكم أهل اليمن، هم أضعف قلوبا، وأرق أفئدة الفقه يمان، والحكمة يمانية».
وروى أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إني لأجد نفس ربكم من قبل اليمن» وفيه تأويلان: أحدهما: أنه الفرج، لتتابع إسلامهم أفواجا. والثاني: معناه أن الله تعالى نفس الكرب عن نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأهل اليمن، وهم الأنصار.
وروى جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «إن الناس دخلوا في دين الله أفواجا، وسيخرجون منه أفواجا» ذكره الماوردي، ولفظ الثعلبي: وقال أبو عمار حدثني جابر لجابر، قال: سألني جابر عن حال الناس، فأخبرته عن حال اختلافهم وفرقتهم، فجعل يبكي ويقول: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «إن الناس دخلوا في دين الله أفواجا، وسيخرجون من دين الله أفواجا»

.تفسير الآية رقم (3):

{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (3)}
قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} أي إذا صليت فأكثر من ذلك.
وقيل: معنى سبح: صل، عن ابن عباس: بِحَمْدِ رَبِّكَ أي حامدا له على ما آتاك من الظفر والفتح. وَاسْتَغْفِرْهُ أي سل الله الغفران.
وقيل: فَسَبِّحْ المراد به: التنزيه، أي نزهه عما لا يجوز عليه مع شكرك له. وَاسْتَغْفِرْهُ أي سل الله الغفران مع مداومة الذكر. والأول أظهر. روى الأئمة واللفظ للبخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: «ما صلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاة بعد أن نزلت عليه سورة {إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} إلا يقول: سبحانك ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي وعنها قالت: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم أغفر لي». يتأول القرآن.
وفي غير الصحيح: وقالت أم سلمة: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ولا يجئ ولا يذهب إلا قال: «سبحان الله وبحمده، استغفر الله وأتوب إليه قال: فإني أمرت بها، ثم قرأ: {إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} إلى آخرها».
وقال أبو هريرة: اجتهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد نزولها، حتى تورمت قدماه. ونحل جسمه، وقل تبسمه، وكثر بكاؤه.
وقال عكرمة: لم يكن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قط أشد اجتهادا في أمور الآخرة ما كان منه عند نزولها.
وقال مقاتل: لما نزلت قرأها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أصحابه، ومنهم أبو بكر وعمر وسعد بن أبي وقاص، ففرحوا واستبشروا، وبكى العباس، فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما يبكيك يا عم؟ قال: نعيت إليك نفسك. قال: إنه لكما تقول»، فعاش بعدها ستين يوما، ما رئي فيها ضاحكا مستبشرا.
وقيل: نزلت في منى بعد أيام التشريق، حجة الوداع، فبكى عمر والعباس، فقيل لهما: إن هذا يوم فرح، فقالا: بل فيه نعي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صدقتما، نعيت إلي نفسي».
وفي البخاري وغيره عن ابن عباس قال: كان عمر بن الخطاب يأذن لأهل بدر، ويأذن لي معهم. قال: فوجد بعضهم من ذلك، فقالوا: يأذن لهذا الفتى معنا ومن أبنائنا من هو مثله! فقال لهم عمر: إنه من قد علمتم. قال: فأذن لهم ذات يوم، وأذن لي معهم، فسألهم عن هذه السورة إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ فقالوا: أمر الله عز وجل نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا فتح عليه أن يستغفره، وأن يتوب إليه. فقال: ما تقول يا ابن عباس؟ قلت: ليس كذلك، ولكن أخبر الله نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حضور أجله، فقال: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، فذلك علامة موتك. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً. فقال عمر رضي الله عنه: تلومونني عليه؟ وفي البخاري فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تقول. ورواه الترمذي، قال: كان عمر يسألني مع أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال له عبد الرحمن بن عوف: أتسأله ولنا بنون مثله؟ فقال له عمر: إنه من حيث نعلم. فسأله عن هذه الآية: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ. فقلت: إنما هو أجل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أعلمه إياه، وقرأ السورة إلى آخرها. فقال له عمر: والله ما أعلم منها إلا ما تعلم. قال: هذا حديث حسن صحيح. فإن قيل: فماذا يغفر للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى يؤمر بالاستغفار؟ قيل له: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في دعائه: «رب اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري كله، وما أنت أعلم به مني. اللهم اغفر لي خطئي وعمدي، وجهلي وهزلي، وكل ذلك عندي. اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أعلنت وما أسررت، أنت المقدم وأنت المؤخر، إنك على شيء قدير». فكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستقصر نفسه لعظم ما أنعم الله به عليه، ويرى قصوره عن القيام بحق ذلك ذنوبا. ويحتمل أن يكون بمعنى: كن متعلقا به، سائلا راغبا، متضرعا على رؤية التقصير في أداء الحقوق، لئلا ينقطع إلى رؤية الأعمال.
وقيل: الاستغفار تعبد يجب أتيناه، لا للمغفرة، بل تعبدا.
وقيل: ذلك تنبيه لامته، لكيلا يأمنوا ويتركوا الاستغفار.
وقيل: وَاسْتَغْفِرْهُ أي استغفر لأمتك. {إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً}: أي على المسبحين والمستغفرين، يتوب عليهم ويرحمهم، ويقبل توبتهم. وإذا كان عليه السلام وهو معصوم يؤمر بالاستغفار، فما الظن بغيره؟ روى مسلم عن عائشة قالت: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكثر من قول: «سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه». قالت: فقلت يا رسول الله أراك تكثر من قول: سبحان الله وبحمده، استغفر الله وأتوب إليه؟ فقال: «خبرني ربي أني ساري علامة في أمتي، فإذا رأيتها أكثرت من قول سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه، فقد رأيتها: {إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فتح مكة {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً}».
وقال ابن عمر: نزلت هذه السورة بمنى في حجة الوداع، ثم نزلت {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3] فعاش بعدهما النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثمانين يوما. ثم نزلت آية الكلالة، فعاش بعدها خمسين يوما. ثم نزل {لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 128] فعاش بعدها خمسه وثلاثين يوما. ثم نزل وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ فعاش بعدها أحدا وعشرين يوما.
وقال مقاتل سبعة أيام. وقيل غير هذا مما تقدم في البقرة بيانه، والحمد الله.

.سورة تبت:

وهي مكية بإجماع. وهي خمس آيات.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

.تفسير الآية رقم (1):

{تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)}
فيه ثلاث مسائل الأولى: قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ} في الصحيحين وغيرهما واللفظ لمسلم عن ابن عباس قال: لما نزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] ورهطك منهم المخلصين، خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى صعد الصفا، فهتف: يا صباحاه! فقالوا: من هذا الذي يهتف؟ قالوا محمد. فاجتمعوا إليه. فقال: يا بني فلان، يا بني فلان، يا بني فلان، يا بني عبد مناف، يا بني عبد المطلب! فاجتمعوا إليه. فقال: «أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقي؟ قالوا: ما جربنا عليك كذبا. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد». فقال أبو لهب: تبا لك!، أما جمعتنا إلا لهذا! ثم قام، فنزلت هذه السورة: تبت يدا أبي لهب وقد تب كذا قرأ الأعمش إلى آخر السورة. زاد الحميدي وغيره: فلما سمعت امرأته ما نزل في زوجها وفيها من القرآن، أتت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو جالس في المسجد عند الكعبة، ومعه أبو بكر رضي الله عنه، وفي يدها فهر من حجارة، فلما وقفت عليه أخذ الله بصرها عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا ترى إلا أبا بكر. فقالت: يا أبا بكر، إن صاحبك قد بلغني أنه يهجوني، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه، والله إني لشاعرة:
مذمما عصينا ** وأمره أبينا

ودينه قلينا

ثم انصرفت. فقال أبو بكر: يا رسول الله، أما تراها رأتك؟ قال: «ما رأتني، لقد أخذ الله بصرها عني». وكانت قريش إنما تسمي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مذمما، يسبونه، وكان يقول: «ألا تعجبون لما صرف الله عني من أذى قريش، يسبون ويهجون مذمما وأنا محمد».
وقيل: إن سبب نزولها ما حكاه عبد الرحمن بن زيد أن أبا لهب أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: ماذا أعطى إن آمنت بك يا محمد؟ فقال: «كما يعطى المسلمون» قال ما لي عليهم فضل؟!. قال: «وأي شيء تبغي؟» قال: تبا لهذا من دين، أن أكون أنا وهؤلاء سواء، فأنزل الله تعالى فيه. تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ. وقول ثالث حكاه عبد الرحمن بن كيسان قال: كان إذا وفد على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد انطلق إليهم أبو لهب فيسألونه عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويقولون له: أنت أعلم به منا. فيقول لهم أبو لهب: إنه كذاب ساحر. فيرجعون عنه ولا يلقونه. فأتى وفد، ففعل معهم مثل ذلك، فقالوا: لا ننصرف حتى نراه، ونسمع كلامه. فقال لهم أبو لهب: إنا لم نزل نعالجه فتبا له وتعسا. فأخبر بذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاكتأب لذلك، فأنزل الله تعالى: {تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ} السورة.
وقيل: إن أبا لهب أراد أن يرمي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحجر، فمنعه الله من ذلك، وأنزل الله تعالى: {تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} للمنع الذي وقع به. ومعنى تَبَّتْ: خسرت، قاله قتادة.
وقيل: خابت، قال ابن عباس. وقيل ضلت، قاله عطاء.
وقيل: هلكت، قاله ابن جبير.
وقال يمان بن رئاب: صفرت من كل خبر. حكى الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء أنه لما قتل عثمان رحمه الله سمع الناس هاتفا يقول:
لقد خلوك وانصرفوا ** فما آبوا ولا رجعوا

ولم يوفوا بنذرهم ** فيا تبا لما صنعوا

وخصى اليدين بالتباب، لان العمل أكثر ما يكون بهما، أي خسرتا وخسر هو.
وقيل: المراد باليدين نفسه. وقد يعبر عن النفس باليد، كما قال الله تعالى: {بِما قَدَّمَتْ يَداكَ} [الحج: 10].
أي نفسك. وهذا مهيع كلام العرب، تعبر ببعض الشيء عن كله، تقول: أصابته يد الدهر، وئد الرزايا والمنايا، أي أصابه كل ذلك. قال الشاعر:
لما أكبت يد الرزايا ** عليه نادى ألا مجير

وَتَبَّ قال الفراء: التب الأول: دعاء والثاني خبر، كما يقال: أهلكه الله وقد هلك.
وفي قراءة عبد الله وأبي {وقد تب} وأبو لهب أسمه عبد العزى، وهو ابن عبد المطلب عم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وامرأته العوراء أم جميل، أخت أبي سفيان بن حرب، وكلاهما، كان شديد العداوة للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال طارق بن عبد الله المحاربي: إني بسوق ذي المجاز، إذ أنا بإنسان يقول: «يا أيها الناس، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا»، وإذا رجل خلفه يرميه، قد أدمى ساقيه وعرقوبيه ويقول: يا أيها الناس، إنه كذاب فلا تصدقوه. فقلت من هذا؟ فقالوا: محمد، زعم أنه نبي. وهذا عمه أبو لهب يزعم أنه كذاب.
وروى عطاء عن ابن عباس قال: قال أبو لهب: سحركم محمد! إن أحدنا ليأكل الجذعة، ويشرب العس من اللبن فلا يشبع، وإن محمدا قد أشبعكم من فخذ شاة، وأرواكم من عس لبن.
الثانية: قوله تعالى: {أَبِي لَهَبٍ} قيل: سمي باللهب لحسنه، وإشراق وجهه. وقد ظن قوم أن في هذا دليلا على تكنية المشرك، وهو باطل، وإنما كناه الله بأبي لهب- عند العلماء- لمعان أربعة: الأول: أنه كان اسمه عبد العزى، والعزى: صنم، ولم يضف الله في كتابه العبودية إلى صنم.
الثاني: أنه كان بكنيته أشهر منه باسمه، فصرح بها.
الثالث: أن الاسم أشرف من الكنية، فحطه الله عز وجل عن الأشرف إلى الأنقص، إذا لم يكن بد من الاخبار عنه، ولذلك دعا الله تعالى الأنبياء بأسمائهم، ولم يكن عن أحد منهم. ويدلك على شرف الاسم على الكنية: أن الله تعالى يسمى ولا يكنى، وإن كان ذلك لظهوره وبيانه، واستحالة نسبة الكنية إليه، لتقدسه عنها.
الرابع- أن الله تعالى أراد أن يحقق نسبته، بأن يدخله النار، فيكون أبا لها، تحقيقا للنسب، وإمضاء للفأل والطيرة التي اختارها لنفسه. وقد قيل: اسمه كنيته. فكان أهله يسمونه {أبا لهب}، لتلهب وجهه وحسنه، فصرفهم الله عن أن يقولوا: أبو النور، وأبو الضياء، الذي هو المشترك بين المحبوب والمكروه، وأجرى على ألسنتهم أن يضيفوه إلى {لهب} الذي هو مخصوص بالمكروه المذموم، وهو النار. ثم حقق ذلك بأن يجعلها مقره. وقرأ مجاهد وحميد وابن كثير وابن محيصن. {أبي لهب} بإسكان الهاء. ولم يختلفوا في ذاتَ لَهَبٍ إنها مفتوحة، لأنهم راعوا فيها رءوس الآي.
الثالثة: قال ابن عباس: لما خلق الله عز وجل القلم قال له: اكتب ما هو كائن، وكان فيما كتب تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ.
وقال منصور: سئل الحسن عن قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ} هل كان في أم الكتاب؟ وهل كان أبو لهب يستطيع ألا يصلى النار؟ فقال: والله ما كان يستطيع ألا يصلاها، وإنها لفي كتاب الله من قبل أن يخلق أبو لهب وأبواه. ويؤيده قول موسى لآدم: أنت الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسكنك جنته، وأسجد لك ملائكته، خيبت الناس، وأخرجتهم من الجنة. قال آدم: وأنت موسى الذي اصطفاك بكلامه، وأعطاك التوراة، تلومني على أمر كتبه الله علي قبل أن يخلق الله السموات والأرض. قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فحج آدم موسى». وقد تقدم هذا.
وفي حديث همام عن أبي هريرة أن آدم قال لموسى: «بكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن يخلقني؟ قال: بألفي عام قال: فهل وجدت فيها: وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى قال: نعم قال: أفتلومني على أمر وكتب الله على أن أفعله من قبل أن أخلق بألفي عام فحج آدم موسى».
وفي حديث طاوس وابن هرمز والأعرج عن أبي هريرة: بأربعين عاما.