فصل: تفسير الآية رقم (11):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (11):

{فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11)}
عبارة عن إلقاء الله تعالى النوم عليهم. وهذه من فصيحات القرآن التي أقرت العرب بالقصور عن الإتيان بمثله. قال الزجاج: أي منعناهم عن أن يسمعوا، لان النائم إذا سمع انتبه.
وقال ابن عباس: ضربنا على آذانهم بالنوم، أي سددنا آذانهم عن نفوذ الأصوات إليها.
وقيل: المعنى {فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ} أي فاستجبنا دعاءهم، وصرفنا عنهم شر قومهم، وأنمناهم. والمعنى كله متقارب.
وقال قطرب: هذا كقول العرب ضرب الأمير على يد الرعية إذا منعهم الفساد، وضرب السيد على يد عبده المأذون له في التجارة إذا منعه من التصرف. قال الأسود بن يعفر وكان ضريرا:
ومن الحوادث لا أبا لك أننى ** ضربت على الأرض بالاسداد

وأما تخصيص الأذان بالذكر فلأنها الجارحة التي منها عظم فساد النوم، وقلما ينقطع نوم نائم إلا من جهة أذنه، ولا يستحكم نوم إلا من تعطل السمع. ومن ذكر الاذن في النوم قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ذاك رجل بال الشيطان في أذنه» خرجه الصحيح. أشار عليه السلام إلى رجل طويل النوم، لا يقوم الليل. و{عَدَداً} نعت للسنين، أي معدودة، والقصد به العبارة عن التكثير، لان القليل لا يحتاج إلى عدد لأنه قد عرف. والعد المصدر، والعدد اسم المعدود كالنفض والخبط.
وقال أبو عبيدة: {عَدَداً} نصب على المصدر. ثم قال قوم: بين الله تعالى عدد تلك السنين من بعد فقال: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً}.

.تفسير الآية رقم (12):

{ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (12)}
قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْناهُمْ} أي من بعد نومهم. ويقال لمن أحيى أو أقيم من نومه: مبعوث، لأنه كان ممنوعا من الانبعاث والتصرف.
قوله تعالى: {لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى} {لِنَعْلَمَ} عبارة عن خروج ذلك الشيء إلى الوجود ومشاهدته، وهذا على نحو كلام العرب، أي نعلم ذلك موجودا، إلا فقد كان الله تعالى علم أي الحزبين أحصى الأمد. وقرأ الزهري {ليعلم} بالياء. والحزبان الفريقان، والظاهر من الآية أن الحزب الواحد هم الفتية إذ ظنوا لبثهم قليلا. والحزب الثاني أهل المدينة الذين بعث الفتية على عهدهم، حين كان عندهم التاريخ لأمر الفتية. وهذا قول الجمهور من المفسرين. وقالت فرقة: هما حزبان من الكافرين، اختلفا في مدة أصحاب الكهف.
وقيل: هما حزبان من المؤمنين. وقيل غير ذلك مما لا يرتبط بألفاظ الآية. و{أَحْصى} فعل ماض. و{أَمَداً} نصب على المفعول به، قاله أبو على.
وقال الفراء: نصب على التمييز.
وقال الزجاج: نصب على الظرف، أي أي الحزبين أحصى للبثهم في الأمد، والأمد الغاية.
وقال مجاهد: {أَمَداً} نصب معناه عددا، وهذا تفسير بالمعنى على جهة التقريب.
وقال الطبري: {أَمَداً} منصوب ب {لَبِثُوا}. ابن عطية: وهذا غير متجه، وأما من قال إنه نصب على التفسير فيلحقه من الاختلال أن أفعل لا يكون من فعل رباعي إلا في الشاذ، و{أَحْصى} فعل رباعي. وقد يحتج له بأن يقال: إن أفعل في الرباعي قد كثر، كقولك: ما أعطاه للمال وآتاه للخير.
وقال في صفة حوضه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «ماؤه أبيض من اللبن».
وقال عمر بن الخطاب: فهو لما سواها أضيع.

.تفسير الآية رقم (13):

{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (13)}
قوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ} لما اقتضى قوله تعالى: {لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى} اختلافا وقع في أمد الفتية، عقب بالخبر عن أنه عز وجل يعلم من أمرهم بالحق الذي وقع. وقوله تعالى: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ} أي شباب وأحداث حكم لهم بالفتوة حين آمنوا بلا واسطة، كذلك قال أهل اللسان: رأس الفتوة الايمان.
وقال الجنيد: الفتوة بذل الندى وكف الأذى وترك الشكوى.
وقيل: الفتوة اجتناب المحارم واستعجال المكارم. وقيل غير هذا. وهذا القول حسن جدا، لأنه يعم بالمعنى جميع ما قيل في الفتوة.
قوله تعالى: {وَزِدْناهُمْ هُدىً} أي يسرناهم للعمل الصالح، من الانقطاع إلى الله تعالى، ومباعدة الناس، والزهد في الدنيا. وهذه زيادة على الايمان.
وقال السدى: زادهم هدى بكلب الراعي حين طردوه ورجموه مخافة أن ينبح عليهم وينبه بهم، فرفع الكلب بدية إلى السماء كالداعي فأنطقه الله، فقال: يا قوم! لم تطردونني، لم ترجمونني! لم تضربونني! فوالله لقد عرفت الله قبل أن تعرفوه بأربعين سنة، فزادهم الله بذلك هدى.

.تفسير الآية رقم (14):

{وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (14)}
قوله تعالى: {وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ} عبارة عن شدة عزم وقوه صبر، أعطاها الله لهم حتى قالوا بين يدي الكفار: {رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً}. ولما كان الفزع وخور النفس يشبه بالتناسب الانحلال حسن في شدة النفس وقوه التصميم أن يشبه الربط، ومنه يقال: فلان رابط الجأش، إذا كان لا تفرق نفسه عند الفزع والحرب وغيرها. ومنه الربط على قلب أم موسى. وقوله تعالى: {وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ} وقد تقدم. قوله تعالى: {إِذْ قامُوا فَقالُوا} فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {إِذْ قامُوا فَقالُوا} يحتمل ثلاثة معان: أحدها- أن يكون هذا وصف مقامهم بين يدي الملك الكافر- كما تقدم، وهو مقام يحتاج إلى الربط على القلب حيث خالفوا دينه، ورفضوا في ذات الله هيبته. والمعنى الثاني فيما قيل: إنهم أولاد عظماء تلك المدينة، فخرجوا واجتمعوا وراء تلك المدينة من غير ميعاد، فقال أسنهم: إنى أجد في نفسي أن ربى رب السموات والأرض، فقالوا ونحن كذلك نجد في أنفسنا. فقاموا جميعا فقالوا: {رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً}.
أي لئن دعونا إلها غيره فقد قلنا إذا جورا ومحالا. والمعنى الثالث: أن يعبر بالقيام، عن انبعاثهم بالعزم إلى الهروب إلى الله تعالى ومنابذة الناس، كما تقول: قام فلان إلى أمر كذا إذا عزم عليه بغاية الجد.
الثانية: قال ابن عطية: تعلقت الصوفية في القيام والقول بقول: {إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ}. قلت: وهذا تعلق غير صحيح هؤلاء قاموا فذكروا الله على هدايته، وشكروا لما أولاهم من نعمه ونعمته، ثم هاموا على وجوههم منقطعين إلى ربهم خائفين من قومهم، وهذه سنة الله في الرسل والأنبياء والفضلاء الأولياء. أين هذا من ضرب الأرض بالاقدام والرقص بالأكمام وخاصة في هذه الأزمان عند سماع الأصوات الحسان من المرد والنسوان، هيهات بينهما والله ما بين الأرض والسماء. ثم هذا حرام عند جماعة العلماء، على ما يأتي بيانه في سورة لقمان إن شاء الله تعالى. وقد تقدم في {سبحان} عند قوله: {وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً} ما فيه كفاية.
وقال الامام أبو بكر الطرسوسي وسيل عن مذهب الصوفية فقال: وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب السامري، لما اتخذ لهم عجلا جسدا له خوار قاموا يرقصون حواليه ويتواجدون، فهو دين الكفار وعباد العجل، على ما يأتي.

.تفسير الآية رقم (15):

{هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (15)}
قوله تعالى: {هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} أي قال بعضهم لبعض: هؤلاء قومنا أي أهل عصرنا وبلدنا، عبدوا الأصنام تقليدا من غير حجة. {لَوْ ا} أي هلا. {يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ} أي بحجة على عبادتهم الصنم.
وقيل: {عَلَيْهِمْ} راجع إلى الآلهة، أي هلا أقاموا بينة على الأصنام في كونها آلهة، فقولهم {لَوْ لا} تحضيض بمعنى التعجيز، وإذا لم يمكنهم ذلك لع يجب أن يلتفت إلى دعواهم.

.تفسير الآية رقم (16):

{وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (16)}
قوله تعالى: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ} قيل: هو من قول الله لهم. أي وإذ اعتزلتموهم فاءوا إلى الكهف.
وقيل: هو من قول رئيسهم يمليخا، فيما ذكر ابن عطية.
وقال الغزنوي: رئيسهم مكسلمينا، قال لهم ذلك، أي إذ اعتزلتموهم واعتزلتم ما يعبدون. ثم استثنى وقال: {إِلَّا اللَّهَ} أي إنكم لم تتركوا عبادته، فهو استثناء منقطع. قال ابن عطية: وهذا على تقدير إن الذين فر أهل الكهف منهم لا يعرفون الله، ولا علم لهم به، وإنما يعتقدون الأصنام في ألوهيتهم فقط. وإن فرضنا أنهم يعرفون الله كما كانت العرب تفعل لكنهم يشركون أصنامهم معه في العبادة فالاستثناء متصل، لان الاعتزال وقع في كل ما يعبد الكفار إلا في جهة الله. وفى مصحف عبد الله بن مسعود {وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}. قال قتادة هذا تفسيرها. قلت: ويدل على هذا ما ذكره أبو نعيم الحافظ عن عطاء الخراساني في قوله تعالى: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} قال: كان فتية من قوم يعبدون الله ويعبدون معه آلهة فاعتزلت الفتية عبادة تلك الآلهة ولم تعتزل عبادة الله. ابن عطية: فعلى ما قال قتادة تكون {إِلَّا} بمنزلة غير، و{ما} من قوله: {وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} قي موضع نصب، عطفا على الضمير في قول: {اعْتَزَلْتُمُوهُمْ}. ومضمن هذه الآية أن بعضهم قال لبعض: إذا فارقنا الكفار وانفردنا بالله تعالى فلنجعل الكهف مأوى ونتكل على الله، فإنه سيبسط لنا رحمته، وينشرها علينا، ويهيئ لنا من أمرنا مرفقا. وهذا كله دعاء بحسب الدنيا، وعلى ثقة كانوا من الله في أمر آخرتهم.
وقال أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين رضي الله عنه: كان أصحاب الكهف صياقلة، واسم الكهف حيوم. {مِرفَقاً} قرئ بكسر الميم وفتحها، وهو ما يرتفق به وكذلك مرفق الإنسان ومرفقه، ومنهم من يجعل {المرفق} بفتح الميم وكسر الفاء من الامر، والمرفق من الإنسان، وقد قيل: المرفق بفتح الميم الموضع كالمسجد وهما لغتان.

.تفسير الآيات (17- 18):

{وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (18)}
قوله تعالى: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ} أي ترى أيها المخاطب الشمس عند طلوعها تميل عن كهفهم. والمعنى: إنك لو رأيتهم لرأيتهم كذا، لا أن المخاطب رآهم على التحقيق. {تَتَزاوَرُ} تتنحى وتميل، من الازورار. والزور الميل. والأزور في العين المائل النظر إلى ناحية، ويستعمل في غير العين، كما قال ابن أبى ربيعة:
وجنبي خيفة القوم أزور

ومن اللفظة قول عنترة:
ازور من وقع القنا بلبانه

وفى حديث غزوة موتة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى في سرير عبد الله بن رواحة ازورارا عن سرير جعفر وزيد بن حارثة. وقرأ أهل الحرمين وأبو عمرو {تزاور} بإدغام التاء في الزاي، والأصل {تتزاور}. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي {تَتَزاوَرُ} مخففة الزاي.
وقرأ ابن عامر {تزور} مثل تحمر. وحكى الفراء {تزوار} مثل تحمار، كلها بمعنى واحد. {وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ} قرأ الجمهور بالتاء على معنى تتركهم، قاله مجاهد.
وقال قتادة: تدعهم. النحاس: وهذا معروف في اللغة، حكى البصريون أنه يقال: قرضه يقرضه إذا تركه، والمعنى: أنهم كانوا لا تصيبهم شمس البتة كرامة لهم، وهو قول ابن عباس. يعني أن الشمس إذا طلعت مالت عن كهفهم ذات اليمين، أي يمين الكهف، وإذا غربت تمر بهم ذات الشمال، أي شمال الكهف، فلا تصيبهم في ابتداء النهار ولا في آخر النهار. وكان كهفهم مستقبل بنات نعش في أرض الروم، فكانت الشمس تميل عنهم طالعة وغاربة وجارية لا تبلغهم لتؤذيهم بحرها، وتغير ألوانهم وتبلى ثيابهم. وقد قيل: إنه كان لكهفهم حاجب من جهة الجنوب، وحاجب من جهة الدبور وهم في زاويته. وذهب الزجاج إلى أن فعل الشمس كان آية من الله، دون أن يكون باب الكهف إلى جهة توجب ذلك. وقرأت فرقة {يقرضهم} بالياء من القرض وهو القطع، أي يقطعهم الكهف بظله من ضوء الشمس.
وقيل: {وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ} أي يصيبهم يسير منها، مأخوذ من قارضة الذهب والفضة، أي تعطيهم الشمس اليسير من شعاعها. وقالوا: كان في مسها لهم بالعشي إصلاح لأجسادهم. وعلى الجملة فالآية في ذلك أن الله تعالى آواهم إلى كهف هذه صفته لا إلى كهف آخر يتأذون فيه بانبساط الشمس عليهم في معظم النهار. وعلى هذا فيمكن أن يكون صرف الشمس عنهم بإظلال غمام أو سبب آخر. والمقصود بيان حفظهم عن تطرق البلاء وتغير الأبدان والألوان إليهم، والتأذي بحر أو برد. {وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ} أي من الكهف والفجوة المتسع، وجمعها فجوات وفجاء، مثل ركوة وركاء وركوات وقال الشاعر:
ونحن ملأنا كل واد وفجوة ** رجالا وخيلا غير ميل ولا عزل

أي كانوا بحيث يصيبهم نسيم الهواء. {ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ} لطف بهم. وهذا يقوى قول الزجاج.
وقال أهل التفسير: كانت أعينهم مفتوحة وهم نائمون، فكذلك كان الرائي يحسبهم أيقاظا.
وقيل: تحسبهم أيقاظا وقيل: {تَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً} لكثرة تقلبهم كالمستيقظ في مضجعه. و{أَيْقاظاً}
جمع يقظ ويقظان، وهو المنتبه. {وَهُمْ رُقُودٌ} كقولهم: وهم قوم ركوع وسجود وقعود، فوصف الجمع بالمصدر. {وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ} قال ابن عباس: لئلا تأكل الأرض لحومهم. قال أبو هريرة: كان لهم في كل عام تقليبتان.
وقيل: في كل سنة مرة.
وقال مجاهد: في كل سبع سنين مرة. وقالت فرقة: إنما قلبوا في التسع الأواخر، وأما في الثلاثمائة فلا. وظاهر كلام المفسرين أن التقليب كان من فعل الله، ويجوز أن يكون من ملك بأمر الله، فيضاف إلى الله تعالى. قوله تعالى: {وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} فيه أربع مسائل الأولى: قوله تعالى: {وَكَلْبُهُمْ} قال عمرو بن دينار: إن مما أخذ على العقرب ألا تضر أحدا قال في ليله أو في نهاره: صلى الله على نوح. وإن مما أخذ على الكلب ألا يضر من حمل عليه إذا قال: وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ. أكثر المفسرين على أنه كلب حقيقة، وكان لصيد أحدهم أو لزرعه أو غنمه، على ما قال مقاتل. واختلف في لونه اختلافا كثيرا، ذكره الثعلبي. تحصيله: أي لون ذكرت أصبت، حتى قيل لون الحجر وقيل لون السماء. واختلف أيضا في اسمه، فعن على: ريان. ابن عباس: قطمير. الأوزاعي: مشير. عبد الله بن سلام: بسيط. كعب: صهيا. وهب: نقيا. وقيل قطفير، ذكره الثعلبي. وكان اقتناء الكلب جائزا في وقتهم، كما هو عندنا اليوم جائز في شرعنا.
وقال ابن عباس: هربوا ليلا، وكانوا سبعة فمروا براع معه كلب فاتبعهم على دينهم.
وقال كعب: مروا بكلب فنبح لهم فطردوه فعاد فطردوه مرارا، فقام الكلب على رجليه ورفع يديه إلى السماء كهيئة الداعي، فنطق فقال: لا تخافوا منى أنا أحب أحباء الله تعالى فناموا حتى أحرسكم.
الثانية: ورد في الصحيح عن ابن عمر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «من اقتنى كلبا إلا كلب صيد أو ماشية نقص من أجره كل يوم قيراطان».
وروى الصحيح أيضا عنأبى هريرة قال: «قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: من اتخذ كلبا إلا كلب ماشية أو صيد أو زرع انقص من أجره كل يوم قيراط». قال الزهري: وذكر لابن عمر قول أبى هريرة فقال: يرحم الله أبا هريرة كان صاحب زرع. فقد دلت السنة الثابتة على اقتناء الكلب للصيد والزرع والماشية. وجعل النقص في أجر من اقتناها على غير ذلك من المنفعة، إما لترويع الكلب المسلمين وتشويشه عليهم بنباحه، أو لمنع دخول الملائكة البيت، أو لنجاسته، على ما يراه الشافعي، أو لاقتحام النهى عن اتخاذ ما لا منفعة فيه، والله اعلم.
وقال في إحدى الروايتين«قيراطان» وفى الأخرى«قيراط». وذلك يحتمل أن يكون في نوعين من الكلاب أحدهما أشد أذى من الآخر، كالأسود الذي أمر عليه السلام بقتله، ولم يدخله في الاستثناء حين نهى عن قتلها كما هو منصوص في حديث جابر، أخرجه الصحيح. وقال: «عليكم بالأسود البهيم ذى النقطتين فإنه شيطان». ويحتمل أن يكون ذلك لاختلاف المواضع، فيكون ممسكه بالمدينة مثلا أو بمكة ينقص قيراطان وبغيرها قيراط. وأما المباح اتخاذه فلا ينقص، كالفرس والهرة. والله اعلم.
الثالثة: وكلب الماشية المباح اتخاذه عند مالك هو الذي يسرح معها، لا الذي يحفظها في الدار من السراق. وكلب الزرع هو الذي يحفظها من الوحوش بالليل أو بالنهار لا من السراق. وقد أجاز غير مالك اتخاذها لسراق الماشية والزرع. وقد تقدم في المائدة من أحكام الكلاب ما فيه كفاية، والحمد لله.
الرابعة: قال ابن عطية: وحدثني أبى رضي الله عنه قال سمعت أبا الفضل الجوهري في جامع مصر يقول على منبر وعظه سنة تسع وستين وأربعمائة: إن من أحب أهل الخير نال من بركتهم، كلب أحب أهل فضل وصحبهم فذكره الله في محكم تنزيله. قلت: إذ كان بعض الكلاب قد نال هذه الدرجة العليا بصحبته ومخالطته الصلحاء والأولياء حتى أخبر الله تعالى بذلك في كتابه جل وعلا فما ظنك بالمؤمنين الموحدين المخالطين المحبين للأولياء والصالحين بل في هذا تسلية وأنس للمؤمنين المقصرين عن درجات الكمال، المحبين للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله خير آل. «روى الصحيح عن أنس بن مالك قال: بينا أنا ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خارجان من المسجد فلقينا رجل عند سدة المسجد فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟ قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: ما أعددت لها قال فكأن الرجل استكان، ثم قال: ويا رسول الله، ما أعددت بها كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله. قال: فأنت مع من أحببت». في رواية قال أنس بن مالك: فما فرحنا بعد الإسلام فرحا أشد من قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «فأنت مع من أحببت». قال أنس: فأنا أحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر، فأرجو أن أكون معهم وإن لم أعمل بأعمالهم. قلت: وهذا الذي تمسك به أنس يشمل من المسلمين كل ذى نفس، فكذلك تعلقت أطماعنا بذلك وإن كنا مقصرين، ورجونا رحمة الرحمن وإن كنا غير مستأهلين، كلب أحب قوما فذكره الله معهم فكيف بنا وعندنا عقد الايمان وكلمة الإسلام، وحب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا}. وقالت فرقة: لم يكن كلبا حقيقة، و. إنما كان أحدهم، وكان قد قعد عند باب الغار طليعة لهم، كما سمى النجم التابع للجوزاء كلبا، لأنه منها كالكلب من الإنسان، ويقال له: كلب الجبار قال ابن عطية: فسمى باسم الحيوان اللازم لذلك الموضع أما إن هذا القول يضعفه ذكر بسط الذراعين فإنها في العرف من صفة الكلب حقيقة، ومنه قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب». وقد حكى أبو عمر المطرز في كتاب اليواقيت أنه قرئ {وكالبهم باسط ذراعيه بالوصيد}. فيحتمل أن يريد بالكالب هذا لرجل على ما روى، إذ بسط الذراعين واللصوق بالأرض مع رفع الوجه للتطلع هي هيئة الريبة المستخفى بنفسه. ويحتمل أن يريد بالكالب الكلب. وقرأ جعفر بن محمد الصادق {كالبهم} يعني صاحب الكلب. قوله تعالى: {باسِطٌ ذِراعَيْهِ} أعمل اسم الفاعل وهو بمعنى المضي، لأنها حكاية حال ولم يفصد الاخبار عن فعل الكلب. والذرع من طرف المرفق الطرف الإصبع الوسطى. ثم قيل: بسط ذراعيه لطول المدة.
وقيل: نام الكلب، وكان ذلك من الآيات.
وقيل: نام مفتوح العين. الوصيد: القناء، قاله ابن عباس ومجاهد وابن جبير، أي فناء الكهف، والجمع وصائد ووصد. وقيل الباب.
وقال ابن عباس أيضا. وأنشد:
بأرض فضاء لا يسد وصيدها ** على ومعروفي بها غير منكر

وقد تقدم.
وقال عطاء: عتبة الباب، والباب الموصد هو المغلق. وقد أوصدت الباب وآصدته أي أغلقته. والوصيد: النبات المتقارب الأصول، فهو مشترك، والله اعلم. قوله تعالى: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ} قرأ الجمهور بكسر الواو. والأعمش ويحيى بن وثاب بضمها. {لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً} أي لو أشرفت عليهم لهربت منهم. {وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً} أي لما حفهم الله تعالى من الرعب واكتنفهم من الهيبة.
وقيل: لوحشة مكانهم، وكأنهم آواهم الله إلى هذا المكان الوحش في الظاهر لينقر الناس عنهم.
وقيل: كان الناس محجوبين عنهم بالرعب، لا يجسر أحد منهم على الدنو إليهم.
وقيل: الفرار منهم لطول شعورهم وأظفارهم، وذكر المهدوي والنحاس والزجاج والقشيري. وهذا بعيد، لأنهم لما استيقظوا قال بعضهم لبعض: لبثنا يوما أو بعض يوم. ودل هذا على أن شعورهم وأظفارهم كانت بحالها، إلا أن يقال: إنما قالوا ذلك قبل أن ينظروا إلى أظفارهم وشعورهم. قال ابن عطية: والصحيح في أمرهم أن الله عز وجل حفظ لهم الحالة التي ناموا عليها لتكون لهم ولغيرهم فيهم آية، فلم يبل لهم ثوب ولم تغير صفة، ولم ينكر الناهض إلى المدينة إلا معالم الأرض والبناء، ولو كانت في نفسه حالة ينكرها لكانت عليه أهم. وقرأ نافع وابن كثير وابن عباس واهل مكة والمدينة {لملئت منهم} بتشديد اللام على تضعيف المبالغة، أي ملئت ثم ملئت. وقرأ الباقون {لَمُلِئْتَ} بالتخفيف، والتخفيف أشهر في اللغة. وقد جاء التثقيل في قول المخبل السعدي:
وإذ فتك النعمان بالناس محرما ** فملّئ من كعب بن عوف سلاسله

وقرأ الجمهور {رُعْباً} بإسكان العين. وقرأ بضمها أبو جعفر. قال أبو حاتم: هما لغتان. و{فِراراً} نصب على الحال و{رُعْباً} مفعول ثان أو تمييز.