فصل: تفسير الآية رقم (43):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآيات (39- 41):

{وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (39) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41)}
قوله تعالى: {وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} أو أي بالقلب، وهو توبيخ ووصية من المؤمن للكافر ورد عليه، إذ قال: {ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً} و{ما} في موضع رفع، تقديره: هذه الجنة هي ما شاء الله.
وقال الزجاج والفراء: الامر ما شاء الله، أو هو ما شاء الله، أي الامر مشيئة الله تعالى.
وقيل: الجواب مضمر، أي ما شاء الله كان، وما لا يشاء لا يكون. {لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} أي ما اجتمع لك من المال فهو بقدرة الله تعالى وقوته لا بقدرتك وقوتك، ولو شاء لنزع البركة منه فلم يجتمع.
الثانية: قال أشهب قال مالك: ينبغي لكل من دخل منزله أن يقول هذا.
وقال ابن وهب وقال لي حفص بن ميسرة: رأيت على باب وهب بن منبه مكتوبا«ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ».
وروى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال لابي هريرة: «ألا أدلك على كلمة من كنوز الجنة- أو قال كنز من كنوز الجنة» قلت: بلى يا رسول الله، قال«لا حول ولا قوة إلا بالله إذا قالها العبد قال الله عز وجل أسلم عبدى واستسلم» أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي موسى. وفيه: فقال«يا أبا موسى أو يا عبد الله بن قيس ألا أدلك على كلمة من كنز الجنة- في رواية على كنز من كنوز الجنة-» قلت: ما هي يا رسول الله؟ قال: «لا حول ولا قوة إلا بالله». وعنه قال قال لي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «ألا أدلك على كلمة من كنوز الجنة أو قال كنز من كنوز الجنة قلت: بلى، فقال لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم».
وروى أنه من دخل منزل أو خرج منه فقال: باسم الله ما شاء الله لا قوة إلا بالله تنافرت عنه الشياطين من بين يديه وأنزل الله تعالى عليه البركات. وقالت عائشة: إذا خرج الرجل من منزله فقال باسم الله قال الملك هديت، وإذا قال ما شاء الله قال الملك كفيت، وإذا قال لا قوة إلا بالله قال الملك وقيت. خرجه الترمذي من حديث أنس بن مالك قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «من قال- يعني إذا خرج من بيته- باسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله يقال كفيت ووقيت وتنحى عنه الشيطان» هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. خرجه أبو داود أيضا وزاد فيه- فقال له: «هديت وكفيت ووقيت». وأخرجه ابن ماجه من حديث أبي هريرة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «إذا خرج الرجل من باب بيته أو باب داره كان معه ملكان موكلان به فإذا قال باسم الله قالا هديت وإذا قال لا حول ولا قوة إلا بالله قالا وقيت وإذا قال توكلت على الله قالا كفيت قال فيلقاه قريناه فيقولان ماذا تريدان من رجل قد هدى ووقي وكفي».
وقال الحاكم أبو عبد الله في علوم الحديث: سئل محمد بن إسحاق بن خزيمة عن قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «تحاجت الجنة والنار فقالت هذه- يعني الجنة- يدخلني الضعفاء» من الضعيف؟ قال: الذي يبرئ نفسه من الحول والقوة يعني في اليوم عشرين مرة أو خمسين مرة.
وقال أنس بن مالك قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «من رأى شيئا فأعجبه فقال ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم يضره عين». وقد قال قوم: ما من أحد قال ما شاء الله كان فأصابه شيء إلا رضي به.
وروى أن من قال أربعا أمن من أربع: من قال هذه أمن من العين، ومن قال حسبنا الله ونعم الوكيل أمن من كيد الشيطان، ومن قال وأفوض أمرى إلى الله أمن مكر الناس، ومن قال لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين أمن من الغم.
قوله تعالى: {إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَداً} {إِنْ} شرط {تَرَنِ} مجزوم به، والجواب {فَعَسى رَبِّي} و{أَنَا} فاصلة لا موضع لها من الاعراب. ويجوز أن تكون في موضع نصب توكيدا للنون والياء. وقرأ عيسى بن عمر {إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ} بالرفع، يجعل {أَنَا} مبتدأ و{أَقَلَّ} خبره، والجملة في موضع المفعول الثاني، والمفعول الأول النون والياء، إلا أن الياء حذفت لان الكسرة تدل عليها، وإثباتها جيد بالغ وهو الأصل لأنها الاسم على الحقيقة. و{فَعَسى} بمعنى لعل أي فلعل ربي. {أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ} أي في الآخرة. وقيل في الدنيا. {وَيُرْسِلَ عَلَيْها} أي على جنتك. {حُسْباناً} أي مرامي من السماء، واحدها حسبانه، قاله الأخفش والقتبي وأبو عبيدة.
وقال ابن الاعرابي: والحسبانة السحابة، والحسبانة الوسادة، والحسبانة الصاعقة.
وقال الجوهري: والحسبان بالضم: العذاب.
وقال أبو زياد الكلابي: أصاب الأرض حسبان أي جراد. والحسبان أيضا الحساب، قال الله تعالى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ} وقد فسر الحسبان هنا بهذا. قال الزجاج: الحسبان من الحساب، أي يرسل عليها عذاب الحساب، وهو حساب ما اكتسبت يداك، فهو من باب حذف المضاف. والحسبان أيضا: سهام قصار يرمى بها في طلق واحد، وكان من رمى الاكاسرة. والمرامى من السماء عذاب. {فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً} يعني أرضا بيضاء لا ينبت فيها نبات ولا يثبت عليها قدم، وهى أضر أرض بعد أن كانت جنة أنفع أرض، و{زَلَقاً} تأكيد لوصف الصعيد، أي وتزل عنها الاقدام لملاستها. يقال: مكان زلق بالتحريك أي دحض، وهو في الأصل مصدر قولك: زلقت رجله تزلق زلقا، وأزلقها غيره. والزلق أيضا عجز الدابة. قال رؤبة:
كأنها حقباء بلقاء الزلق

والمزلقة والمزلقة: الموضع الذي لا يثبت عليه قدم. وكذلك الزلاقة. والزلق الحلق، زلق رأسه يزلقه زلقا حلقه، قال الجوهري. والزلق المحلوق، كالنقض والنقض. وليس المراد أنها تصير مزلقة، بل المراد أنها لا يبقى فيها نبات كالرأس إذا حللا يبقى عليه شعر، قاله القشيري. {أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً} أي غائرا ذاهبا، فتكون أعدم أرض للماء بعد أن كانت أوجد أرض للماء. والغور مصدر وضع موضع الاسم، كما يقال: رجل صوم وفطر وعدل ورضا وفضل وزور ونساء نوح، ويستوي فيه المذكر والمؤنث والتثنية والجمع. قال عمرو بن كلثوم:
تظل جياده نوحا عليه ** مقلدة أعنتها صفونا

آخر:
هريقي من دموعهما سجاما ** ضباع وجاوبى نوحا قياما

أي نائحات.
وقيل: أو يصبح ماؤها ذا غور، فحذف المضاف، مثل {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} ذكره النحاس.
وقال الكسائي: ماء غور. وقد غار الماء يغور غورا وغئورا، أي سفل في الأرض، ويجوز الهمزة لانضمام الواو. وغارت عينه تغور غورا وغئورا، دخلت في الرأس. وغارت تغار لغة فيه. وقال:
أغارت عينه أم لم تغارا

وغارت الشمس تغور غيارا، أي غربت. قال أبو ذؤيب:
هل الدهر إلا ليلة ونهارها ** وإلا طلوع الشمس ثم غيارها

{فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً} أي لن تستطيع رد الماء الغائر، ولا تقدر عليه بحيلة.
وقيل: فلن تستطيع طلب غيره بدلا منه. وإلى هذا الحديث انتهت مناظرة أخيه وإنذاره.

.تفسير الآية رقم (42):

{وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42)}
قوله تعالى: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} اسم ما لم يسم فاعله مضمر، وهو المصدر. ويجوز أن يكون المخفوض في موضع رفع. ومعنى {أُحِيطَ بِثَمَرِهِ} أي أهلك ماله كله. وهذا أول ما حقق الله تعالى به إنذار أخيه. {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ} أي فأصبح الكافر يضرب إحدى يديه على الأخرى ندما، لان هذا يصدر من النادم.
وقيل: يقلب ملكه فلا يرى فيه عوض ما أنفق، وهذا لان الملك قد يعبر عنه باليد، من قولهم: في يده مال، أي فملكه مال. ودل قوله: {فَأَصْبَحَ} على أن هذا الإهلاك جرى بالليل، كقوله: {فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ. فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} ويقال: أنفقت في هذه الدار كذا وأنفقت عليها. {وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها} أي خالية قد سقط بعضها على بعض، مأخوذ من خوت النجوم تخوى خيا أمحلت، وذلك إذا سقطت ولم تمطر في نوئها. وأخوت مثله. وخوت الدار خواء أقوت، وكذلك إذا سقطت، ومنه قوله تعالى: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا} ويقال: ساقطة، كما يقال فهي خاوية على عروشها أي ساقطة على سقوفها، فجمع عليه بين هلاك الثمر والأصل، وهذا من أعظم الجوانح، مقابلة على بغية. {وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً} أي يا ليتني عرفت نعم الله على، وعرفت أنها كانت بقدرة الله ولم أكفر به. وهذا ندم منه حين لا ينفعه الندم.

.تفسير الآية رقم (43):

{وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (43)}
قوله تعالى: {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} {فِئَةٌ} اسم {تَكُنْ} و{لَهُ} الخبر. {يَنْصُرُونَهُ} في موضع الصفة، أي فئة ناصرة. ويجوز أن يكون {يَنْصُرُونَهُ} الخبر. والوجه الأول عند سيبويه أولى لأنه قد تقدم {لَهُ}. وأبو العباس يخالفه، ويحتج بقول الله عز وجل: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}. وقد أجاز سيبويه الآخر. و{يَنْصُرُونَهُ} على معنى فئة، لان معناها أقوام، ولو كان على اللفظ لقال ولم تكن له فئة تنصره، أي فرقة وجماعة يلتجئ إليهم. {وَما كانَ مُنْتَصِراً} أي ممتنعا، قاله قتادة.
وقيل: مستردا بدل ما ذهب منه. وقد تقدم اشتقاق الفئة في آل عمران. والهاء عوض من الياء التي نقصت من وسطه، أصله في مثل فيع، لأنه من فاء، ويجمع على فئون وفيات مئل شيات ولدات ومئات. أي لم تكن له عشيرة يمنعونه من عذاب الله، وضل عنه من افتخر بهم من الخدم والولد.

.تفسير الآية رقم (44):

{هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44)}
قوله تعالى: {هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ} اختلف في العامل في قوله: {هُنالِكَ} وهو ظرف، فقيل: العامل فيه {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ} ولا كان هنالك، أي ما نصر ولا انتصر هنالك، أي لما أصابه من العذاب.
وقيل: تم الكلام عند قوله: {مُنْتَصِراً}. والعامل في قوله: {هُنالِكَ}: {الْوَلايَةُ}. وتقديره على التقديم والتأخير: الولاية لله الحق هنالك، أي في القيامة. وقرأ أبو عمرو والكسائي {الحق} بالرفع نعتا للولاية. وقرأ أهل المدينة وحمزة {الْحَقِّ} بالخفض نعتا لله عز وجل، والتقدير: لله ذى الحق. قال الزجاج: ويجوز {الحق} بالنصب على المصدر والتوكيد، كما تقول: هذا لك حقا. وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي {الولاية} بكسر الواو، الباقون بفتحها، وهما بمعنى واحد كالرضاعة والرضاعة.
وقيل: الولاية بالفتح من الموالاة، كقوله: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا}. {ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا}. وبالكسر يعني السلطان والقدرة والامارة، كقوله: {وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} أي له الملك والحكم يومئذ، أي لا يرد أمره إلى أحد، والملك في كل وقت لله ولكن تزول الدعاوى والتوهمات يوم القيامة.
وقال أبو عبيد: إنها بفتح الواو للخالق، وبكسرها للمخلوق. {هُوَ خَيْرٌ ثَواباً} أي الله خير ثوابا في الدنيا والآخرة لمن آمن به، وليس ثم غير يرجى منه، ولكنه أراد في ظن الجهال، أي هو خير من يرجى. {وَخَيْرٌ عُقْباً} قرأ عاصم والأعمش وحمزة ويحيى {عُقْباً} ساكنة القاف، الباقون بضمها، وهما بمعنى واحد، أي هو خير عاقبة لمن رجاه وآمن به. يقال: هذا عاقبة أمر فلان وعقباه وعقبه، أي آخره.

.تفسير الآية رقم (45):

{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (45)}
قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا} أي صف لهؤلاء المتكبرين الذين سألوك طرد فقواء المؤمنين مثل الحياة الدنيا، أي شبهها. {كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ} أي بالماء. {نَباتُ الْأَرْضِ} حتى استوى.
وقيل: إن النبات اختلط بعضه ببعض حين نزل عليه الماء، لان النبات إنما يختلط ويكثر بالمطر. وقد تقدم هذا المعنى في يونس مبينا. وقالت الحكماء: إنما شبه تعالى الدنيا بالماء لان الماء لا يستقر في موضع، كذلك الدنيا لا تبقى على واحد، ولان الماء لا يستقيم على حالة واحدة كذلك الدنيا، ولان الماء لا يبقى ويذهب كذلك الدنيا تفنى، ولان الماء لا يقدر أحد أن يدخله ولا يبتل كذلك الدنيا لا يسلم أحد دخلها من فتنتها وآفتها، ولان الماء إذا كان بقدر كان نافعا منبتا، وإذا جاوز المقدار كان ضارا مهلكا، وكذلك الدنيا الكفاف منها ينفع وفضولها يضر. وفى حديث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له رجل: يا رسول الله، إنى أريد أن أكون من الفائزين، قال: {ذر الدنيا وخذ منها كالماء الراكد فإن القليل منها يكفى والكثير منها يطغى}. وفى صحيح مسلم عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما أتاه». {فَأَصْبَحَ} أي النبات {هَشِيماً} أي متكسرا من اليبس متفتتا، يعني بانقطاع الماء عنه، فحذف ذلك إيجازا لدلالة الكلام عليه. والهشم: كسر الشيء اليابس. والهشيم من النبات اليابس المتكسر، والشجرة البالية يأخذها الحاطب كيف يشاء. ومنه قولهم: ما فلان إلا هشيمة كرم، إذا كان سمحا. ورجل هشيم: ضعيف البدن. وتهشم عليه فلان إذا تعطف. واهتشم ما في ضرع الناقة إذا احتلبه. ويقال: هشم الثريد، ومنه سمى هاشم بن عبد مناف واسمه عمرو، وفية يقول عبد الله بن الزبعرى:
عمرو العلا هشم الثريد لقومه ** ورجال مكة مسنتون عجاف

وكان سبب ذلك أن قريشا أصابتهم سنون ذهبن بالأموال فخرج هاشم إلى الشام فأمر بخبز كثير فخبز، فحمله في الغرائر على الإبل حتى وافى مكة، وهشم ذلك الخبز، يعني كسره وثردة، ونحر تلك الإبل، ثم أمر الطهاة فطبخوا، ثم كفأ القدور على الجفان فأشبع أهل مكة، فكان ذلك أول الحباء بعد السنة التي أصابتهم، فسمى بذلك هاشما. {تَذْرُوهُ الرِّياحُ} أي تفرقه، قاله أبو عبيدة. ابن قتيبة: تنسفه. ابن كيسان: تذهب به وتجيء. ابن عباس: تديره، والمعنى متقارب. وقرأ طلحة بن مصرف {تذريه الريح}. قال الكسائي: وفى قراءة عبد الله {تذريه}. يقال: ذرته الريح تذروه ذروا وتذريه ذريا وأذريه تذريه إذراء إذا طارت به. وحكى الفراء: أذريت الرجل عن فرسه أي قلبته. وأنشد سيبويه والفراء:
فقلت له صوب ولا تجهدنه ** فيذرك من أخرى القطاة فتزلق

قوله تعالى: {وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً} من الإنشاء والإفناء والأحياء، سبحانه.