فصل: تفسير الآية رقم (58):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآيات (56- 57):

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (56) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (57)}
قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا} إدريس عليه السلام أول من خط بالقلم وأول من خاط الثياب ولبس المخيط، وأول من نظر في علم النجوم والحساب وسيرها. وسمي إدريس لكثرة درسه لكتاب الله تعالى. وأنزل الله تعالى عليه ثلاثين صحيفة كما في حديث أبي ذر. الزمخشري: وقيل سمي إدريس إدريس لكثرة درسه كتاب الله تعالى، وكان اسمه أخنوخ وهو غير صحيح، لأنه لو كان إفعيلا من الدرس لم يكن فيه إلا سبب واحد وهو العلمية وكان منصرفا، فامتناعه من الصرف دليل على العجمة، وكذلك إبليس أعجمي وليس من الإبلاس كما يزعمون، ولا يعقوب من العقب، ولا إسرائيل بإسرال كما زعم ابن السكيت، ومن لم يحقق ولم يتدرب بالصناعة كثرت منه أمثال هذه الهنات، يجوز أن يكون معنى إدريس عليه السلام في تلك اللغة قريبا من ذلك فحسبه الراوي مشتقا من الدرس. قال الثعلبي والغزنوي وغيرهما: وهو جد نوح وهو خطأ، وقد تقدم في الأعراف بيانه. وكذا وقع في السيرة أن نوحا عليه السلام بن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ وهو إدريس النبي فيما يزعمون. والله تعالى أعلم. وكان أول من أعطى النبوة من بني آدم، وخط بالقلم. ابن يرد بن مهلائيل بن قينان بن يانش بن شيث بن آدم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فالله أعلم. قوله تعالى: {وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا} قال أنس بن مالك وأبو سعيد الخدري وغيرهما: يعني السماء الرابعة. وروي ذلك عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقاله كعب الأحبار.
وقال ابن عباس والضحاك: يعني السماء السادسة، ذكره المهدوي. قلت: ووقع في البخاري عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر قال سمعت أنس بن مالك يقول: ليلة أسرى برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مسجد الكعبة، الحديث وفيه: كل سماء فيها أنبياء- قد سماهم- منهم إدريس في الثانية. وهو وهم، والصحيح أنه في السماء الرابعة، كذلك رواه ثابت البناني عن أنس بن مالك عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذكره مسلم في الصحيح.
وروى مالك بن صعصعة قال قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لما عرج بي إلى السماء أتيت على إدريس في السماء الرابعة». خرجه مسلم أيضا. وكان سبب رفعه على ما قال ابن عباس وكعب وغيرهما: أنه سار ذات يوم في حاجة فأصابه وهج الشمس، فقال: «يا رب أنا مشيت يوما فكيف بمن يحملها خمسمائة عام في يوم واحد! اللهم خفف عنه من ثقلها. يعني الملك الموكل بفلك الشمس يقول إدريس: اللهم خفف عنه من ثقلها واحمل عنه من حرها. فلما أصبح الملك وجد من خفة الشمس والظل مالا يعرف فقال: يا رب خلقتني لحمل الشمس فما الذي قضيت فيه؟ فقال الله تعالى: {أما إن عبدي إدريس سألني أن أخفف عنك حملها وحرها فأجبته} فقال: يا رب اجمع بيني وبينه، واجعل بيني وبينه خلة. فأذن الله له حتى أتى إدريس، وكان إدريس عليه السلام يسأله. فقال أخبرت أنك أكرم الملائكة وأمكنهم عند ملك الموت، فاشفع لي إليه ليؤخر أجلي، فأزداد شكرا وعبادة. فقال الملك: لا يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها فقال للملك: قد علمت ذلك ولكنه أطيب لنفسي قال نعم. ثم حمله على جناحه فرفعه إلى السماء ووضعه عند مطلع الشمس، ثم قال لملك الموت: لي صديق من بني آدم تشفع بي إليك لتؤخر أجله. فقال: ليس ذلك إلي ولكن إن أحببت علمه أعلمته متى يموت. قال: نعم ثم نظر في ديوانه، فقال: إنك تسألني عن إنسان ما أراه يموت أبدا. قال وكيف؟ قال: لا أجده يموت إلا عند مطلع الشمس. قال: فإني أتيتك وتركته هناك، قال: انطلق فما أراك تجده إلا وقد مات فوالله ما بقي من أجل إدريس شي. فرجع الملك فوجده ميتا».
وقال السدي: إنه نام ذات يوم، واشتد عليه حر الشمس، فقام وهو منها في كرب فقال: اللهم خفف عن ملك الشمس حرها، وأعنه على ثقلها، فإنه يمارس نارا حامية. فأصبح ملك الشمس وقد نصب له كرسي من نور عنده سبعون ألف ملك عن يمينه، ومثلها عن يساره يخدمونه، ويتولون أمره وعمله من تحت حكمه، فقال ملك الشمس: يا رب من أين لي هذا؟. قال دعا لك رجل من بني آدم يقال له إدريس ثم ذكر نحو حديث كعب. قال فقال له ملك الشمس: أتريد حاجة؟ قال: نعم وددت أني لو رأيت الجنة.
قال: فرفعه على جناحه، ثم طار به، فبينما هو في السماء الرابعة التقى بملك الموت ينظر في السماء، ينظر يمينا وشمالا، فسلم عليه ملك الشمس، وقال: يا إدريس هذا ملك الموت فسلم عليه فقال ملك الموت: سبحان الله! ولاي معنى رفعته هاهنا؟ قال: رفعته لاريه الجنة. قال: فإن الله تعالى أمرني أن أقبض روح إدريس في السماء الرابعة. قلت: يا رب وأين إدريس من السماء الرابعة، فنزلت فإذا هو معك، فقبض روحه فرفعها إلى الجنة، ودفنت الملائكة جثته في السماء الرابعة، فذلك قوله تعالى: {وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا} قال وهب بن منبه: كان يرفع لإدريس كل يوم من العبادة مثل ما يرفع لأهل الأرض في زمانه، فعجب منه الملائكة واشتاق إليه ملك الموت، فاستأذن ربه في زيارته فأذن له، فأتاه في صورة آدمي، وكان إدريس عليه السلام يصوم النهار، فلما كان وقت إفطاره دعاه إلى طعامه فأبى أن يأكل. ففعل به ذلك ثلاث ليال فأنكره إدريس، وقال له: من أنت! قال أنا ملك الموت، استأذنت ربي أن أصحبك فأذن لي، فقال: إن لي إليك حاجة. قال: وما هي؟ قال: أن تقبض روحي. فأوحى الله تعالى إليه أن اقبض روحه، فقبضه ورده الله إليه بعد ساعة، وقال له ملك الموت: ما الفائدة في قبض روحك؟ قال لا ذوق كرب الموت فأكون له أشد استعدادا. ثم قال له إدريس بعد ساعة: إن لي إليك حاجة أخرى. قال: وما هي؟ قال أن ترفعني إلى السماء فأنظر إلى الجنة والنار، فأذن الله تعالى له في رفعه إلى السموات، فرأى النار فصعق، فلما أفاق قال أرني الجنة، فأدخله الجنة، ثم قال له ملك الموت: أخرج لتعود إلى مقرك. فتعلق بشجرة وقال: لا أخرج منها. فبعث الله تعالى بينهما ملكا حكما، فقال مالك لا تخرج؟ قال: لان الله تعالى قال: {كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185] وأنا ذقته، وقال: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها} [مريم: 71] وقد وردتها، وقال: {وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ} [الحجر: 48] فكيف أخرج؟ قال الله تبارك وتعالى لملك الموت: «بإذني دخل الجنة وبأمري يخرج» فهو حي هنالك فذلك قوله تعالى: {وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا} قال النحاس: قول إدريس: {وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ} يجوز أن يكون الله أعلم هذا إدريس، ثم نزل القرآن به. قال وهب ابن منبه: فإدريس تارة يرتع في الجنة، وتارة يعبد الله تعالى مع الملائكة في السماء.

.تفسير الآية رقم (58):

{أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (58)}
فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ} يريد إدريس وحده. {وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ} يريد إبراهيم وحده {وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ} يريد إسماعيل وإسحاق ويعقوب. {وَ} من ذرية {إِسْرائِيلَ} موسى وهرون وزكريا ويحيى وعيسى. فكان لإدريس ونوح شرف القرب من آدم، ولإبراهيم شرف القرب من نوح ولإسمعيل وإسحاق ويعقوب شرف القرب من إبراهيم. {وَمِمَّنْ هَدَيْنا} أي إلى الإسلام: {وَاجْتَبَيْنا} بالايمان. {إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ}. وقرأ شبل بن عباد المكي {يتلى} بالتذكير لان التأنيث غير حقيقي مع وجود الفاصل. {خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا} وصفهم بالخشوع لله والبكاء. وقد مضى في سبحان. يقال بكى يبكي بكاء وبكى وبكيا، إلا أن الخليل قال: إذا قصرت البكاء فهو مثل الحزن، أي ليس معه صوت كما قال الشاعر:
بكت عيني وحق لها بكاها ** وما يغني البكاء ولا العويل

و{سُجَّداً} نصب على الحال {وَبُكِيًّا} عطف عليه.
الثانية: في هذه الآية دلالة على أن لآيات الرحمن تأثيرا في القلوب. قال الحسن: {إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا} الصلاة.
وقال الأصم: المراد بآيات الرحمن الكتب المتضمنة لتوحيده وحججه، وأنهم كانوا يسجدون عند تلاوتها، ويبكون عند ذكرها. والمروي عن ابن عباس أن المراد به القرآن خاصة، وأنهم كانوا يسجدون ويبكون عند تلاوته، قال الكيا: وفي هذه الآية: دلالة من قوله على أن القرآن هو الذي كان يتلى على جميع الأنبياء، ولو كان كذلك لما كان الرسول عليه الصلاة والسلام مختصا بإنزاله إليه.
الثالثة: احتج أبو بكر الرازي بهذه الآية على وجوب سجود القرآن على المستمع والقارئ. قال الكيا: وهذا بعيد فإن هذا الوصف شامل لكل آيات الله تعالى. وضم السجود إلى البكاء، وأبان به عن طريقة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في تعظيمهم لله تعالى وآياته، وليس فيه دلالة على وجوب ذلك عند آية مخصوصة.
الرابعة: قال العلماء: ينبغي لمن قرأ سجدة أن يدعو فيها بما يليق بآياتها، فإن قرأ سورة السجدة {الم تَنْزِيلُ} قال: اللهم اجعلني من الساجدين لوجهك، المسبحين بحمدك، وأعوذ بك أن أكون من المستكبرين عن أمرك. وإن قرأ سجدة {سبحان 10} قال: اللهم اجعلني من الباكين إليك، الخاشعين لك. وإن قرأ هذه قال: اللهم اجعلني من عبادك المنعم عليهم، المهديين الساجدين لك، الباكين عند تلاوة آياتك.

.تفسير الآيات (59- 63):

{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (63)}
فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} أي أولاد سوء. قال أبو عبيدة: حدثنا حجاج عن ابن جريج عن مجاهد قال: ذلك عند قيام الساعة، وذهاب صالحي هذه الامة أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينزو بعضهم على بعض في الأزقة زنى. وقد تقدم القول في {خَلْفٌ 80} في الأعراف فلا معنى للإعادة.
الثانية: قوله تعالى: {أَضاعُوا الصَّلاةَ} وقرأ عبد الله والحسن: {أضاعوا الصلوات} على الجمع. وهو ذم ونص في أن إضاعة الصلاة من الكبائر التي يوبق بها صاحبها ولا خلاف في ذلك، وقد قال عمر: ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع. واختلفوا فيمن المراد بهذه الآية، فقال مجاهد: النصارى خلفوا بعد اليهود.
وقال محمد بن كعب القرظي ومجاهد أيضا وعطاء: هم قوم من أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في آخر الزمان، أي يكون في هذه الامة من هذه صفته لا أنهم المراد بهذه الآية. واختلفوا أيضا في معنى إضاعتها، فقال القرظي: هي إضاعة كفر وجحد بها.
وقال القاسم بن مخيمرة، وعبد الله بن مسعود: هي إضاعة أوقاتها، وعدم القيام بحقوقها وهو الصحيح، وأنها إذا صليت مخلى بها لا تصح ولا تجزئ، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للرجل الذي صلى وجاء فسلم عليه: «ارجع فصل فإنك لم تصل» ثلاث مرات خرجه مسلم، وقال حذيفة لرجل يصلي فطفف: منذ كم تصلي هذه الصلاة؟ قال منذ أربعين عاما. قال: ما صليت، ولو مت وأنت تصلي هذه الصلاة لمت على غير فطرة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثم قال: إن الرجل ليخفف الصلاة ويتم ويحسن. خرجه البخاري واللفظ للنسائي، وفي الترمذي عن أبي مسعود الأنصاري قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تجزئ صلاة لا يقيم فيها الرجل» يعني صلبه في الركوع والسجود، قال: حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن بعدهم، يرون أن يقيم الرجل صلبه في الركوع والسجود، قال الشافعي وأحمد وإسحاق: من لم يقم صلبه في الركوع والسجود فصلاته فاسدة، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تلك الصلاة صلاة المنافق يجلس يرقب الشمس حتى أذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقرها أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا». وهذا ذم لمن يفعل ذلك.
وقال فروة بن خالد بن سنان: استبطأ أصحاب الضحاك مرة أميرا في صلاة العصر حتى كادت الشمس تغرب، فقرأ الضحاك هذه الآية، ثم قال: والله لان أدعها أحب إلي من أن أضيعها. وجملة القول هذا الباب أن من لم يحافظ على كمال وضوئها وركوعها وسجودها فليس بمحافظ عليها، ومن لم يحافظ عليها فقد ضيعها، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع، كما أن من حافظ عليها حفظ الله عليه دينه، ولا دين لمن لا صلاة له.
وقال الحسن: عطلوا المساجد، واشتغلوا بالصنائع والأسباب. {وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ} أي اللذات والمعاصي.
الثالثة: روى الترمذي وأبو داود عن أنس بن حكيم الضبي أنه أتى المدينة فلقي أبا هريرة فقال له: يا فتى ألا أحدثك حديثا لعل الله تعالى أن ينفعك به، قلت: بلى. قال: «إن أول ما يحاسب به الناس يوم القيامة من أعمالهم الصلاة فيقول الله تبارك وتعالى لملائكته وهو أعلم انظروا في صلاة عبدي أتمها أم نقصها فإن كانت تامة كتبت له تامة وإن كان انتقص منها شيئا قال انظروا هل لعبدي من تطوع فإن كان له تطوع قال أكملوا لعبدي فريضته من تطوعه ثم تؤخذ الأعمال على ذلك». قال يونس: وأحسبه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لفظ أبي داود. وقال: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد حدثنا داود بن أبي هند عن زرارة بن أوفى عن تميم الداري عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذا المعنى. قال: «ثم الزكاة مثل ذلك» «ثم تؤخذ الأعمال على حسب ذلك». وأخرجه النسائي عن همام عن الحسن عن حريث بن قبيصة عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى يقول: «إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة بصلاته فإن صلحت فقد أفلح وأنجح وإن فسدت فقد خاب وخسر»- قال همام: لا أدري هذا من كلام قتادة أو من الرواية- «فإن انتقص من فريضته شيء قال انظروا هل لعبدي من تطوع فيكمل به ما نقص من الفريضة ثم يكون سائر عمله على نحو ذلك». خالفه أبو العوام فرواه عن قتادة عن الحسن عن أبي رافع عن أبي هريرة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته فإن وجدت تامة كتبت تامة وإن كان انتقص منها شيء قال انظروا هل تجدون له من تطوع يكمل ما ضيع من فريضته من تطوعه ثم سائر الأعمال تجري على حسب ذلك» قال النسائي: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال حدثنا النضر بن شميل قال أنبأنا حماد بن سلمة عن الأزرق بن قيس عن يحيى بن يعمر عن أبي هريرة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته فإن كان أكملها وإلا قال الله عز وجل انظروا لعبدي من تطوع فإن وجد له تطوع قال أكملوا به الفريضة». قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب التمهيد: أما إكمال الفريضة من التطوع فإنما يكون- والله أعلم- فيمن سها عن فريضة فلم يأت بها، أو لم يحسن ركوعها وسجودها ولم يدر قدر ذلك وأما من تركها، أو نسي ثم ذكرها فلم يأت بها عامدا واشتغل بالتطوع عن أداء فرضها وهو ذاكر له فلا يكمل له فريضة من تطوعه والله أعلم. وقد روى من حديث الشاميين في هذا الباب حديث منكر يرويه محمد بن حمير عن عمرو بن قيس السكوني عن عبد الله بن قرط عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من صلى صلاة لم يكمل فيها ركوعه وسجوده زيد فيها من تسبيحاته حتى تتم». قال أبو عمر: وهذا لا يحفظ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا من هذا الوجه وليس بالقوي وإن كان صح كان معناه أنه خرج من صلاة كان قد أتمها عند نفسه وليست في الحكم بتامة والله أعلم. قلت: فينبغي للإنسان أن يحسن فرضه ونفله حتى يكون له نفل يجده زائدا على فرضه يقربه من ربه كما قال سبحانه وتعالى: «وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه» الحديث. فأما إذا كان نفل يكمل به الفرض فحكمه في المعنى حكم الفرض. ومن لا يحسن أن يصلي الفرض فأحرى وأولى ألا يحسن التنفل لا جرم تنفل الناس في أشد ما يكون من النقصان والخلل لخفته عندهم وتهاونهم به حتى كأنه غير معتد به. ولعمر الله لقد يشاهد في الوجود من يشار إليه ويظن به العلم تنفله كذلك بل فرضه إذ ينقره نقر الديك لعدم معرفته بالحديث فكيف بالجهال الذين لا يعلمون. وقد قال العلماء: ولا يجزئ ركوع ولا سجود ولا وقوف بعد الركوع ولا جلوس بين السجدتين حتى يعتدل راكعا وواقفا وساجدا وجالسا. وهذا هو الصحيح في الأثر وعليه جمهور العلماء واهل النظر. وهذه رواية ابن وهب وأبي مصعب عن مالك. وقد مضى هذا المعنى في البقرة. وإذا كان هذا فكيف يكمل بذلك التنفل ما نقص من هذا الفرض على سبيل الجهل والسهو؟! بل كل ذلك غير صحيح ولا مقبول لأنه وقع على غير المطلوب والله أعلم. الرابعة- قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ} وعن علي رضي الله تعالى عنه في قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ} هو من بنى المشيد وركب المنظور وليس المشهور. قلت: الشهوات عبارة عما يوافق الإنسان ويشتهيه ويلائمه ولا يتقيه.
وفي الصحيح: «حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات». وما ذكر عن علي رضي الله عنه جزء من هذا. قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} قال ابن زيد: شرا أو ضلالا أو خيبة، قال:
فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره ** ومن يغو لا يعدم على الغي لائما

وقال عبد الله بن مسعود: هو واد في جهنم. والتقدير عند أهل اللغة فسوف يلقون هذا الغي، كما قال جل ذكره: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً} [الفرقان: 68] والأظهر أن الغي اسم للوادي سمي به لان الغاوين يصيرون إليه. قال كعب: يظهر في آخر الزمان قوم بأيديهم سياط كأذناب البقر ثم قرأ الآية: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} أي هلاكا وضلالا في جهنم. وعنه: غي واد في جهنم أبعدها قعرا وأشدها حرا فيه بئر يسمى البهيم كلما خبت جهنم فتح الله تعالى تلك البئر فتسعر بها جهنم.
وقال ابن عباس: غي واد في جهنم وأن أودية جهنم لتستعيذ من حره أعد الله تعالى ذلك الوادي للزاني المصر على الزنى، ولشارب الخمر المدمن عليه ولآكل الربا الذي لا ينزع عنه ولأهل العقوق ولشاهد الزور ولامرأة أدخلت على زوجها ولدا ليس منه.
قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ تابَ} 60 أي من تضييع الصلاة واتباع الشهوات فرجع إلى طاعة ربه. {وَآمَنَ} 110 به {وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} 60. قرأ أبو جعفر وشيبة وابن كثير وابن محيصن وأبو عمرو ويعقوب وأبو بكر: {يدخلون} بفتح الخاء. وفتح الياء الباقون. {وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً} 60 أي لا ينقص من أعمالهم الصالحة شيء إلا أنهم يكتب لهم بكل حسنة عشر إلى سبعمائة. {جَنَّاتِ عَدْنٍ} بدلا من الجنة فانتصبت. قال أبو إسحاق الزجاج: ويجوز {جنات عدن} على الابتداء. قال أبو حاتم: ولولا الخط لكان {جنة عدن} لان قبله {يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ}. {الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ} أي من عبده وحفظ عهده بالغيب وقيل: آمنوا بالجنة ولم يروها.- إنه كان وعده مأتيا {مَأْتِيًّا} مفعول من الإتيان. وكل ما وصل إليك فقد وصلت إليه تقول: أتت علي ستون سنة وأتيت على ستين سنة. ووصل إلي من فلان خير ووصلت منه إلى خير.
وقال القتبي: {مأتيا} بمعنى آت فهو مفعول بمعنى فاعل. و{مأتيا} مهموز لأنه من أتى يأتي. ومن خفف الهمزة جعلها ألفا.
وقال الطبري: الوعد هاهنا الموعود وهو الجنة أي يأتيها أولياؤه. {لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً} أي في الجنة. واللغو معناه الباطل من الكلام والفحش منه والفضول وما لا ينتفع به. ومنه الحديث: «إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والامام يخطب فقد لغوت» ويروى {لغيت} وهي لغة أبي هريرة كما قال الشاعر:
***ورب أسراب حجيج كظم ** عن اللغا ورفث التكلم قال ابن عباس: اللغو كل ما لم يكن فيه ذكر الله تعالى أي كلامهم في الجنة حمد الله وتسبيحه. {إِلَّا سَلاماً} أي لكن يسمعون سلاما فهو من الاستثناء المنقطع يعني سلام بعضهم على بعض وسلام الملك عليهم قاله مقاتل وغيره. والسلام اسم جامع للخير والمعنى أنهم لا يسمعون فيها إلا ما يحبون. قوله تعالى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا} أي لهم ما يشتهون من المطاعم والمشارب بكرة وعشيا أي في قدر هذين الوقتين إذ لا بكرة ثم ولا عشيا كقوله تعالى: {غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ} أي قدر شهر، قال معناه ابن عباس وابن جريج وغيرهما.
وقيل: عرفهم اعتدال أحوال أهل الجنة وكان أهنأ النعمة عند العرب التمكين من المطعم والمشرب بكرة وعشيا. قال يحيى بن أبي كثير وقتادة كانت العرب في زمانها من وجد غداء وعشاء معا فذلك هو الناعم فنزلت.
وقيل: أي رزقهم فيها غير منقطع كما قال: {لا مقطوعة ولا ممنوعة} كما تقول: أنا أصبح وأمسي في ذكرك. أي ذكري لك دائم. ويحتمل أن تكون البكرة قبل تشاغلهم بلذاتهم والعشي بعد فراغهم من لذاتهم لأنه يتخللها فترات انتقال من حال إلى حال. وهذا يرجع إلى القول الأول.
وروى الزبير بن بكار عن إسماعيل بن أبي أويس قال قال مالك بن أنس: طعام المؤمنين في اليوم مرتان وتلا قول الله عز وجل: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا} ثم قال: وعوض الله عز وجل المؤمنين في الصيام السحور بدلا من الغداء ليقووا به على عبادة ربهم.
وقيل: إنما ذكر ذلك لان صفة الغداء وهيئته غير صفة العشاء وهيئته، وهذا لا يعرفه إلا الملوك. وكذلك يكون في الجنة رزق الغداء غير رزق العشاء تتلون عليهم النعم ليزدادوا تنعما وغبطة. وخرج الترمذي الحكيم في نوادر الأصول من حديث أبان عن الحسن وأبي قلابة قالا قال رجل: يا رسول الله هل في الجنة من ليل؟ قال: «وما هيجك على هذا» قال سمعت الله تعالى يذكر في الكتاب: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا} فقلت: الليل بين البكرة والعشي. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ليس هناك ليل إنما هو ضوء ونور يرد الغدو على الرواح والرواح على الغدو وتأتيهم طرف الهدايا من الله تعالى لمواقيت الصلاة التي كانوا يصلون فيها في الدنيا وتسلم عليهم الملائكة» وهذا في غاية البيان لمعنى الآية وقد ذكرناه في كتاب التذكرة.
وقال العلماء: ليس في الجنة ليل ولا نهار وإنما هم في نور أبدا إنما يعرفون مقدار الليل من النهار بإرخاء الحجب وإغلاق الأبواب ويعرفون مقدار النهار برفع الحجب وفتح الأبواب. ذكره أبو الفرج الجوزي والمهدوي وغيرهما.
قوله تعالى: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي} أي هذه الجنة التي وصفنا أحوال أهلها {نورث} بالتخفيف. وقرأ يعقوب: {نورث} بفتح الواو وتشديد الراء. والاختيار التخفيف، لقوله تعالى: {أَوْرَثْنَا الْكِتابَ} [فاطر: 32]. {مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا} قال ابن عباس: أي من اتقاني وعمل بطاعتي. وقيل هو على التقديم والتأخير تقديره نورث من كان تقيا من عبادنا.