فصل: خطبة الكتاب وفيها الكلام على علو شأن المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»




.خطبة الكتاب وفيها الكلام على علو شأن المفسرين:

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما. قال الشيخ الفقيه الإمام العالم العامل العلامة المحدث أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبى بكر فرح الأنصاري الخزرجي الأندلسي ثم القرطبي، رضي الله عنه: الحمد لله المبتدئ بحمد نفسه قبل أن يحمده حامد، واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الرب الصمد الواحد، الحي القيوم الذي لا يموت، ذو الجلال والإكرام، والمواهب العظام، والمتكلم بالقرآن، والخالق للإنسان، والمنعم عليه بالإيمان، والمرسل رسوله بالبيان، محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما اختلف الملوان، وتعاقب الجديدان، أرسله بكتابه المبين، الفارق بين الشك واليقين، الذي أعجزت الفصحاء معارضته، وأعيت الألباء مناقضته، وأخرست البلغاء مشاكلته، فلا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا. جعل أمثاله عبرا لمن تدبرها، أوامره هدى لمن استبصرها، وشرح فيه واجبات الأحكام، وفرق فيه بين الحلال والحرام، وكرر فيه المواعظ والقصص للأفهام، وضرب فيه الأمثال، وقص فيه غيب الأخبار، فقال تعالى: {ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ}. وخاطب به أولياءه ففهموا، وبين لهم فيه مراده فعلموا. فقرأة القرآن حملة سر الله المكنون، وحفظة علمه المخزون، وخلفاء أنبيائه وأمناؤه، وهم أهله وخاصته وخيرته وأصفياؤه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله أهلين منا» قالوا: يا رسول الله، من هم؟ قال: «هم أهل القرآن أهل الله وخاصته» أخرجه ابن ماجة في سننه، وأبو بكر البزار في مسنده. فما أحق من علم كتاب الله أن يزدجر بنواهيه، ويتذكر ما شرح له فيه، ويخشى الله ويتقيه، ويراقبه ويستحييه. فانه حمل أعباء الرسل، وصار شهيدا في القيامة على من خالف من أهل الملل، قال الله تعالى: {وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ}. ألا وإن الحجة على من علمه فأغفله، أوكد منها على من قصر عنه وجهله. ومن أوتى علم القرآن فلم ينتفع، وزجرته نواهيه فلم يرتدع، وارتكب من المآثم قبيحا، ومن الجرائم فضوحا، كان القرآن حجه عليه، وخصما لديه، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «القرآن حجه لك أو عليك» خرجه مسلم. فالواجب على من خصه الله بحفظ كتابه أن يتلوه حق تلاوته، ويتدبر حقائق عبارته، ويتفهم عجائبه، ويتبين غرائبه، قال الله تعالى: {كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ}. وقال الله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها}. جعلنا الله ممن يرعاه حق رعايته، ويتدبره حق تدبره، ويقوم بقسطه، ويفي بشرطه، ولا يلتمس الهدى في غيره، وهدانا لإعلامه الظاهرة، وأحكامه القاطعة الباهرة، وجمع لنا به خير الدنيا والآخرة، فانه أهل التقوى وأهل المغفرة. ثم جعل إلى رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيان ما كان منه مجملا، وتفسير ما كان منه مشكلا، وتحقيق ما كان منه محتملا، ليكون له مع تبليغ الرسالة ظهور الاختصاص به، ومنزلة التفويض إليه، قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}. ثم جعل إلى العلماء بعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استنباط ما نبه على معانيه، وأشار إلى أصوله ليتوصلوا باجتهاد فيه إلى علم المراد، فيمتازوا بذلك عن غيرهم، ويختصوا بثواب اجتهادهم، قال الله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ}. فصار الكتاب أصلا والسنة له بيانا، واستنباط العلماء له إيضاحا وتبيانا. فالحمد لله الذي جعل صدورنا أوعية كتابه، وآذاننا موارد سنن نبيه، وهممنا مصروفة إلى تعلمهما والبحث عن معانيهما وغرائبهما، طالبين بذلك رضا رب العالمين، ومتدرجين به إلى علم الملة والدين. وبعد فلما كان كتاب الله هو الكفيل بجمع علوم الشرع، الذي استقل بالسنة والفرض، ونزل به أمين السماء إلى أمين الأرض، رأيت أن أشتغل به مدى عمري، وأستفرغ فيه منتي، بأن أكتب تعليقا وجيزا، يتضمن نكتا من التفسير واللغات، والإعراب والقراءات، والرد على أهل الزيغ والضلالات، وأحاديث كثيرة شاهدة لما نذكره من الأحكام ونزول الآيات، جامعا بين معانيهما، ومبينا ما أشكل منهما، بأقاويل السلف، ومن تبعهم من الخلف. وعملته تذكرة لنفسي، وذخيرة ليوم رمسي، وعملا صالحا بعد موتي. قال الله تعالى: {يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ}. وقال تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ}. وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له». وشرطي في هذا الكتاب: إضافة الأقوال إلى قائليها، والأحاديث إلى مصنفيها، فإنه يقال: من بركة العلم أن يضاف القول إلى قائله. وكثيرا ما يجئ الحديث في كتب الفقه والتفسير مبهما، لا يعرف من أخرجه إلا من اطلع على كتب الحديث، فيبقى من لأخبره له بذلك حائرا، لا يعرف الصحيح من السقيم، ومعرفة ذلك علم جسيم، فلا يقبل منه الاحتجاج به، ولا الاستدلال حتى يضيفه إلى من خرجه من الأئمة الأعلام، والثقات المشاهير من علماء الإسلام. ونحن نشير إلى جمل من ذلك في هذا الكتاب، والله الموفق للصواب. وأضرب عن كثير من قصص المفسرين، وأخبار المؤرخين، إلا مالا بد منه ولا غنى عنه للتبيين، واعتضت من ذلك تبيين آي الأحكام، بمسائل تفسير عن معناها، وترشد الطالب إلى مقتضاها، فضمنت كل آية لتضمن حكما أو حكمين فما زاد، مسائل نبين فيها ما تحتوي عليه من أسباب النزول والتفسير الغريب والحكم، فإن لم تتضمن حكما ذكرت ما فيها من التفسير والتأويل، هكذا إلى آخر الكتاب. وسميته بالجامع لأحكام القرآن، والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان جعله الله خالصا لوجهه، وأن ينفعني به ووالدي ومن أراده بمنه، إنه سميع الدعاء، قريب مجيب، آمين.

.باب ذكر جمل من فضائل القرآن، والترغيب فيه، وفضل طالبه وقارئه ومستمعه والعامل به:

اعلم أن هذا الباب واسع كبير، ألف فيه العلماء كتبا كثيرة، نذكر من ذلك نكتا تدل على فضله، وما أعده الله لأهله، إذا أخلصوا الطلب لوجهه. وعملوا به. فأول ذلك أن يستشعر المؤمن من فضل القرآن أنه كلام رب العالمين، غير مخلوق، كلام من ليس كمثله شي، وصفه من ليس له شبيه ولا ند، فهو من نور ذاته جل وعز، وأن القراءة أصوات القراء ونغماتهم، وهي أكسابهم التي يؤمرون بها في حال إيجابا في بعض العبادات، وندبا في كثير من الأوقات، ويزجرون عنها إذا أجنبوا، ويثابون عليها ويعاقبون على تركها. وهذا مما أجمع عليه المسلمون أهل الحق، ونطقت به الآثار، ودل عليها المستفيض من الأخبار، ويتعلق الثواب والعقاب إلا بما هو من اكتساب العباد، على ما يأتي بيانه. ولولا أنه- سبحانه- جعل في قلوب عباده من القوة على حمله ما جعله، ليتدبروه وليعتبروا به، وليتذكروا ما فيه من طاعته وعبادته، يقول- تعالى جده- وقوله الحق: {لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}. فأين قوت القلوب من قوة الجبال! ولكن الله تعالى رزق عباده من القوة على حمله ما شاء أن يرزقهم، فضلا منه ورحمة. وأما ما جاء من الآثار في هذا الباب- فأول ذلك ما خرجه الترمذي عن أبي سعيد قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يقول الرب تبارك وتعالى من شغله القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته ما أعطي السائلين- قال:- وفضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه». قال: هذا حديث حسن غريب. وروى أبو محمد الدارمي السمرقندي في مسنده عن عبد الله قال: السبع الطول مثل التوراة، والمئون مثل الإنجيل، والمثاني مثل الزبور، وسائر القرآن بعد فضل. وأسند عن الحارث عن على رضي الله عنه وخرجه الترمذي قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «ستكون فتن كقطع الليل المظلم. قلت يا رسول الله وما المخرج منها؟ قال: كتاب الله تبارك وتعالى فيه نبأ من قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أصله الله هو حبل الله المتين ونوره المبين والذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسنة ولا تتشعب معه الآراء ولا يشبع من العلماء ولا يمله الأتقياء ولا يخلق على كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته أن قالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا من علم علمه سبق ومن قال به صدق ومن حكم به عدل ومن عمل به أجر ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم خذها إليك يا أعور».
الحارث رماه الشعبي بالكذب وليس بشيء، ولم يبن من الحارث كذب، وإنما نقم عليه إفراطه في حب على وتفضيله له على غيره. ومن هاهنا- والله أعلم- كذبه الشعبي، لأن الشعبي يذهب إلى تفضيل أبي بكر، وإلى أنه أول من أسلم. قال أبو عمر عبد البر: وأظن الشعبي عوقب لقوله في الحارث الهمداني: حدثني الحارث وكان أد الكذابين. وأسند أبو بكر محمد بن القاسم بن بشار بن محمد الأنباري النحوي اللغوي في كتاب الرد على من خالف مصحف عثمان عن عبد الله بن مسعود قال قال: رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن هذا القرآن مأدبة الله فتعلموا من مأدبته ما استطعتم إن هذا القرآن حبل الله وهو النور المبين والشفاء النافع عصمة من تمسك به ونجاة من اتبعه لا يعوج فيقوم ولا يزيغ فيستعيب ولا تنقضي عجائبه ولا يخلق عن كثرة الرد فاتلوه فإن الله يأجركم على تلاوته بكل حرف عشرة حسنات أما إني لا أقول الم حرف ولا ألفين أحدكم واضعا إحدى رجليه يدع أن يقرأ سورة البقرة فإن الشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة وإن أصفر البيوت من الخير البيت الصفر من كتاب الله».
وقال أبو عبيد في غريبة عن عبد الله قال: إن هذا القرآن مأدبة الله فمن دخل فيه فهو آمن. قال: وتأويل الحديث أنه مثل، شبه القرآن بصنيع صنعه الله عز وجل للناس، لهم فيه الخير ومنافع، ثم دعاهم إليه. يقال: مأدبة ومأدبة، فمن قال: مأدبة، أراد الصنيع يصنعه الإنسان فيدعو إليه الناس. ومن قال: مأدبة، فأنه يذهب به إلى الأدب، يجعله مفعلة من الأدب، ويحتج بحديثه الآخر: «إن هذا القرآن مأدبة الله عز وجل فتعلموا من مأدبته». وكان الأحمر يجعلها لغتين بمعنى واحد، ولم أسمع أحدا يقول هذا غيره. قال: والتفسير الأول أعجب إلى. وروى البخاري عن عثمان بن عفان عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه». وروى مسلم عن أبي موسى قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة لا ريح لها وطعمها مر». وفي رواية: «مثل الفاجر» بدل: «المنافق». وقال البخاري: «مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة...» وذكر الحديث. وذكر أبو بكر الأنباري: وقد أخبرنا أحمد بن يحيى الحلواني حدثنا يحيى بن عبد الحميد حدثنا هشيم، ح. وأنبأنا إدريس حدثنا خلف حدثنا هشيم عن العوام بن حوشب: أن أبا عبد الرحمن السلمي كان إذا ختم عليه الخاتم القرآن أجلسه بين يديه ووضع يده على رأسه وقال له: يا هذا، اتق الله! فما أعرف أحدا خيرا منك إن عملت بالذي علمت. وروى الدارمي عن وهب الذماري قال: من آتاه الله القرآن فقام به آناء الليل وآناء النهار، وعمل بما فيه ومات على طاعة، بعثه الله يوم القيامة مع السفرة والأحكام. قال سعيد: السفرة الملائكة، والأحكام الأنبياء. وروى مسلم عن عائشة قالت قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة والذي يقرأ القرآن ويتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران».
التتعتع: التردد في الكلام عيا وصعوبة، وإنما كان له أجران من حيث التلاوة ومن حيث المشقة، ودرجات الماهر فوق ذلك كله، لأنه قد كان القرآن متعتعا عليه، ثم ترقى عن ذلك إلى أن شبه بالملائكة. والله أعلم. وروى الترمذي عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول آلم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف». قال: حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه، وقد روى موقوفا. وروى مسلم عن عقبة بن عامر قال: خرج علينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونحن في الصفة، فقال: «أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو إلى العقيق فيأتي منه بناقتين كوماوين في غير إثم ولا قطع رحم» فقلنا: يا رسول الله، كلنا نحب ذلك، قال: «أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله عز وجل خير له من ناقتين وثلاث خير له من ثلاث وأربع خير له من أربع ومن أعدادهن من الإبل». وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ومن أبطأ به علمه لم يسره به نسبه». وروى أبو داود والنسائي والدارمي والترمذي عن عقبة بن عامر قال سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة». قال الترمذي: حديث حسن غريب. وروى الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «يجيء القرآن يوم القيامة فيقول يا رب حله فيلبس تاج الكرامة ثم يقول يا رب زده فيلبس حلة الكرامة ثم يقول يا رب ارض عنه فيرضى عنه فيقال له اقرأ وارق ويزاد بكل آية حسنة». قال: حديث صحيح. وروى أبو داود عن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها». وأخرجه ابن ماجة في سننه عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يقال لصاحب القرآن إذا دخل الجنة اقرأ واصعد فيقرأ ويصعد بكل آية درجة حتى يقرأ آخر شي معه». وأسند أبو بكر الأنباري عن أبي أمامة الحمصي قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من أعطى ثلث القرآن فقد أعطى ثلث النبوة ومن أعطى ثلثي القرآن أعطى ثلثي النبوة ومن قرأ القرآن كله فقد أعطى النبوة كلها غير أنه لا يوحى إليه ويقال له يوم القيامة اقرأ وارق فيقرأ آية ويصعد درجة حتى ينجز ما معه من القرآن ثم يقال له اقبض فيقبض ثم يقال له أتدري ما في يديك فإذا في يده اليمنى الخلد وفي اليسرى النعيم».
حدثنا إدريس بن خلف حدثنا إسماعيل بن عياش عن تمام عن الحسن قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من أخذ ثلث القرآن وعمل به فقد أخذ ثلث النبوة ومن أخذ نصف القرآن وعمل به فقد أخذ نصف النبوة ومن أخذ القرآن كله فقد أخذ النبوة كلها».
قال: وحدثنا محمد بن يحيى المروزي أنبأنا محمد وهو ابن سعدان حدثنا الحسن بن محمد عن حفص عن كثير بن زياد عن عاصم بن ضمرة عن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من قرأ القرآن وتلاه وحفظه أدخله الله الجنة وشفعه في عشرة من أهل بيته كل قد وجبت له النار». وقالت أو الدرداء: دخلت على عائشة رضي الله عنه فقلت لها: ما فضل من قرأ القرآن على من لم يقرأه ممن دخل الجنة؟ فقالت عائشة رضي الله عنه: إن عدد آي القرآن على عدد درج الجنة، فليس أحد دخل الجنة أفضل ممن قرأ القرآن. ذكره أبو محمد مكي. وقال ابن عباس: من قرأ القرآن واتبع ما فيه هداه الله من الضلالة، ووقاه يوم القيامة سوء الحساب، وذلك بأن الله تبارك وتعالى يقول: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى}. قال ابن عباس: فضمن الله لمن اتبع القرآن ألا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة وذكره مكي أيضا. وقال الليث يقال ما الرحمة إلى أحد بأسرع منها إلى مستمع القرآن، لقول الله جل ذكره: {وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}. ولعل من الله واجبة. وفي مسند أبي داود الطيالسي وهو أول مسند ألف في الإسلام- عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين ومن قام بمائة آية كتب من القانتين ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين» والآثار في معنى هذا الباب كثيرة، وفيما ذكرنا كفاية، والله الموفق للهداية.

.باب كيفية التلاوة لكتاب الله تعالى، وما يكره منها وما يحرم، واختلاف الناس في ذلك:

روى البخاري عن قتادة قال: سألت رسول الله صلى عليه وسلم فقال: كان يمد مدا إذا قرأ بسم الله الرحمن الرحيم، يمد بسم الله، ويمد بالرحمن، ويمد بالرحيم. وروى الترمذي عن أم سلمة قالت: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقطع قراءته يقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} ثم يقف {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} ثم يقف، وكان يقرؤها {ملك يوم الدين}. قال: حديث غريب. وأخرجه أبو داود بنحوه. وروى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «أحسن الناس صوتا من إذا قرأ رأيته يخشى الله تعالى». وروى عن زياد النميري أنه جاء مع القراء إلى أنس بن مالك فقيل له: اقرأ. فرقع صوته وطرب، وكان رفيع الصوت، فكشف أنس عن وجهه، وكان على وجهه خرقة سوداء فقال: يا هذا، ما هكذا كانوا يفعلون! وكان إذا رأى شيئا ينكره كشف الخرقة عن وجهه. وروى عن قيس بن عبادة أنه قال: كان أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكرهون رفع الصوت عند الذكر. وممن روى عنه كراهة رفع الصوت عند قراءة القرآن سعيد ين المسيب وسعيد بن جبير والقاسم بن محمد والحسن وابن سيرين والنخعي وغيرهم، وكرهه مالك بن أنس وأحمد بن حنبل، كلهم كره رفع الصوت. بالقرآن والتطريب فيه. روى عن سعيد بن المسيب أنه سمع عمر بن عبد العزيز يؤم الناس فطرب في قراءته، فأرسل إليه سعيد يقول: أصلحك الله! إن الأئمة لا تقرأ هكذا. فترك عمر التطريب بعد. وروى عن القاسم بن محمد: أن رجلا قرأ في مسجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فطرب، فأنكر ذلك القاسم وقال يقول الله عز وجل: {وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ. لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} الآية. وروى عن مالك أنه سئل عن النبر في قراءة القرآن في الصلاة، فأنكر وكرهه كراهة شديدة، وأنكر رفع الصوت به. وروى ابن القاسم عنه أنه سئل عن الألحان في الصلاة فقال: لا يعجبني، وقال: إنما هو غناء يتغنون به ليأخذوا عليه الدراهم. وأجازت طائفة رفع الصوت بالقرآن والتطريب به، وذلك لأنه إذا حسن الصوت به كان أوقع في النفوس وأسمع في القلوب، واحتجوا بقوله عليه السلام: «زينوا القرآن بأصواتكم» رواه البراء بن عازب. أخرجه أبو داود والنسائي. وبقوله عليه السالم: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن» أخرجه مسلم. وبقول أبي موسى للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لو أعلم أنك تستمع لقراءتي لحبرته لك تحبيرا. وبما رواه عبد الله بن مغفل قال: قرأ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عام الفتح في مسير له سورة الفتح على راحلته فرجع في قراءته. وممن ذهب إلى هذا أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وابن المبارك والنظر بن شميل، وهو اختيار أبي جعفر الطبري وأبي الحسن بن بطال والقاضي أبي بكر بن العربي وغيرهم. قلت: القول الأول أصح لما ذكرناه ويأتي. وأما ما احتجوا به من الحديث الأول فليس على ظاهره وإنما هو من باب المقلوب، أي زينوا أصواتكم بالقرآن. قال الخطابي: وكذا فسره غير واحد من أئمة الحديث: زينوا أصواتكم بالقرآن، وقالوا هو من باب المقلوب، كما قالوا: عرضت الحوض على الناقة، وإنما هو عرضت الناقة على الحوض. قال: ورواه معمر عن منصور عن طلحة، فقدم الأصوات على القرآن، وهو صحيح. قال الخطابي: ورواه طلحة عن عبد الرحمن بن عوسجة عن البراء أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «زينوا القرآن بأصواتكم» أي الهجوا بقراءته واشغلوا به أصواتكم. اتخذوه شعارا وزينة، وقيل: معناه الحض على قراءة القرآن والدءوب عليه. وقد روى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «زينوا أصواتكم بالقرآن». وروى عن عمر أنه قال: «حسنوا أصواتكم بالقرآن». قلت: وإلى هذا المعنى يرجع قوله عليه السلام: «وليس منا من لم يتغن بالقرآن» أي ليس منا من لم يحسن صوته بالقرآن، كذلك تأوله عبد الله بن أبي مليكة. قال عبد الجبار ابن الورد: سمعت ابن أبي مليكة يقول: قال عبد الله بن أبي يزيد: مر بنا أبو لبابة فاتبعناه حتى دخل بيته، فإذا رجل رث الهيئة، فسمعته يقول: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول، «ليس منا من لم يتغن بالقرآن». قال فقلت لابن أبي مليكة: يا أبا محمد، أرأيت إذا لم يكن حسن الصوت؟ قال: يحسنه ما استطاع. ذكره أبو داود، وإليه يرجع أيضا قول أبي موسى للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إني لو علمت أنك تستمع لقراءتي لحسنت صوتي بالقرآن، وزينته ورتلته. وهذا يدل على أنه كان يهذ في قراءته مع حسن الصوت الذي جبل عليه. والتحبير: التزيين والتحسين، فلو علم أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يسمعه لمد في قراءته ورتلها، كما كان يقرأ على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيكون ذلك زيادة في حسن صوته بالقراءة. ومعاذ الله أن يتأول على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقول: إن القرآن يزين بالأصوات أو بغيرها، فمن تأول هذا فقد واقع أمرا عظيما أن يحوج القرآن إلى من يزينه، وهو النور والضياء والزين الأعلى لمن ألبس بهجته واستنار بضيائه. وقد قيل: إن الأمر بالتزيين اكتساب القراءات وتزيينها بأصواتنا وتقدير ذلك، أي زينوا القراءة بأصواتكم، فيكون القرآن بمعنى القراءة، كما قال تعال {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} أي قراءة الفجر، وقوله: {فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} أي قراءته. وكما جاء في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو قال: إن في البحر شياطين مسجونة أوثقها سليمان عليه السلام، ويوشك أن تخرج فتقرأ على الناس قرآنا، أي قراءة. وقال الشاعر في عثمان رضي الله عنه:
ضحوا بأشمط عنوان السجود به ** يقطع الليل تسبيحا وقرآنا

أي قراءة فيكون معناه على هذا التأويل صحيحا إلا أن يخرج القراءة التي هي التلاوة عن حدها- على ما نبينه- فيمتنع. وقد قيل: إن معنى يتغنى به، يستغنى به من الاستغناء الذي هو ضد الافتقار، لا من الغناء، يقال: تغنيت وتغانيت بمعنى استغنيت. وفي الصحاح: تغنى الرجل بمعنى استغنى، وأغناه الله. وتغانوا أي استغنى بعضهم عن بعض. قال المغيرة بن حبناء التميمي:
كلانا غني عن أخيه حياته ** ونحن إذا متنا أشد تغانيا

وإلى هذا التأويل ذهب سفيان بن عيينة ووكيع بن الجراح، ورواه سفيان عن سعد بن أبى وقاص. وقد روى عن سفيان أيضا وجه آخر ذكره إسحاق بن راهويه، أي يستغني به عما سواه من الأحاديث. والى هذا التأويل ذهب البخاري محمد بن إسماعيل لإتباعه الترجمة بقوله تعالى {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ}. والمراد الاستغناء بالقرآن عن علم أخبار الأمم، قاله أهل التأويل. وقيل: إن معنى يتغنى به، يتحزن به، أي يظهر على قارئه الحزن الذي هو ضد السرور عند قراءته وتلاوته، وليس من الغنية، لأنه لو كان من الغنية لقال: يتغانى به، ولم يقل يتغنى به ذهب إلى هذا جماعة من العلماء: منهم الإمام أبو محمد ابن حبان البستي، واحتجوا بما رواه مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلى ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء. الأزيز بزايين: صوت الرعد وغليان القدر. قالوا: ففي هذا الخبر بيان واضح على أن المراد بالحديث التحزن، وعضدوا هذا أيضا بما رواه الأئمة عن عبد الله قال قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقرأ على» فقرأت عليه سورة النساء حتى إذا بلغت {فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً} فنظرت إليه فإذا عيناه تدمعان. فهذه أربع تأويلات، ليس فيها ما يدل على القراءة بالألحان والترجيع فيها. وقال أبو سعيد بن الأعرابي في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن» قال: كانت العرب تولع بالغناء والنشيد في أكثر أقوالها، فلما نزل القرآن أحبوا أن يكون القرآن هجيراهم مكان الغناء، فقال: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن». التأويل الخامس- ما تأوله من استدل به على الترجيع والتطريب، فذكر عمر بن شبة قال: ذكرت لأبي عاصم النبيل تأول ابن عيينة في قوله: «يتغن» يستغنى، فقال: لم يضع ابن عيينة شيئا. وسيل الشافعي عن تأويل ابن عيينة فقال: نحن أعلم بهذا، ولو أراد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الاستغناء لقال: من لم يستغن، ولكن قال: «يتغن» علمنا أنه أراد التغني. قال الطبري: المعروف عندنا في كلام العرب أن التغني إنما هو الغناء الذي هو حسن الصوت بالترجيع. وقال الشاعر:
تغن بالشعر مهما كنت قائله ** إن الغناء بهذا الشعر مضمار

قال: وأما ادعاء الزاعم أن تغنيت بمعنى استغنيت فليس في كلام العرب وأشعارها، ولا نعلم أحد من أهل العلم قاله، وأما احتجاجه بقول الأعشى:
وكنت امرأ زمنا بالعراق ** عفيف المناخ طويل التغن

وزعم أنه أراد الاستغناء فإنه غلط منه، وإنما عنى الأعشى في هذا الموضع الإقامة، من قول العرب: غني فلان بمكان كذا أي أقام، ومنه قوله تعالى: {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} وأما استشهاده بقوله:
ونحن إذا متنا أشد تغانيا

فإنه إغفال منه، وذلك أن التغاني تفاعل من نفسين إذا استغنى كل واحد منهما عن صاحبه، كما يقال: تضارب الرجلان، إذا ضرب كل واحد منهما صاحبه. ومن قال هذا في فعل الاثنين لم يجز أن يقول مثله في الواحد، فغير جائز أن يقال: تغانى زيد وتضارب عمرو، وكذلك غير جائز أن يقال: تغنى بمعنى استغنى. قلت: ما ادعاه الطبري من أنه لم يرد في كلام العرب تغنى بمعنى استغنى، فقد ذكره الجوهري كما ذكرنا، وذكره الهروي أيضا. وأما قوله: إن صيغة فاعل إنما تكون من اثنين فقد جاءت من واحد في ما ضيع كثيرة، منها قول ابن عمر: وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام. وتقول العرب: طارقت النعل وعاقبت اللص وداويت العليل، وهو كثير، فيكون تغاني منها. وإذا احتمل قوله عليه الصلاة والسلام: «يتغن» الغناء والاستغناء فليس حمله على أحدهما بأولى من الآخر، بل حمله على الاستغناء أولى لو لم يكن لنا تأويل غيره، لأنه مروي عن صحابي كبير كما ذكر سفيان. وقد قال ابن وهب في حق سفيان: ما رأيت أعلم بتأويل الأحاديث من سفيان بن عيينة، ومعلوم أنه رأى الشافعي وعاصره. وتأويل سادس- وهو ما جاء من الزيادة في صحيح مسلم عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به». قال الطبري ولو كان كما قال ابن عيينة لم يكن لذكر حسن الصوت والجهر به معنى. قلنا قوله: «يجهر به» لا يخلو أن يكون من قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو من قول أبي هريرة أو غيره، فإن كان الأول وفية بعد، فهو دليل على عدم التطريب والترجيع، لأنه لم يقل: يطرب به، وإنما قال: يجهر به: أي يسمع نفسه ومن يليه، بدليل قوله عليه السلام للذي سمعه وقد رفع صوته بالتهليل: «أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لستم تدعون أصم ولا غائبا...» الحديث، وسيأتي. وكذلك إن كان من صحابي أو غيره فلا حجة فيه على ما راموه، وقد اختار هذا التأويل بعض علمائنا فقال: وهذا أشبه، لأن العرب تسمي كل من رفع صوته ووالى به غانيا، وفعله ذلك غناء وإن لم يلحنه بتلحين الغناء. قال: وعلى هذا فسره الصحابي، وهو أعلم بالمقال وأقعد بالحال. وقد احتج أبو الحسن لمذهب الشافعي فقال: وقد رفع الإشكال في هذه المسألة ما رواه ابن أبي شيبة قال حدثنا زيد بن الحباب قال حدثنا موسى بن علي بن رباح عن أبيه عن عقبة بن عامر قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تعلموا القرآن وغنوا به واكتبوه فو الذي نفسي بيده لهو أشد تفصيا من المخاض من العقل». قال علمائنا: وهذا الحديث وإن صح سنده فيرده ما يعلم على القطع والبتات من قراءة القرآن بلغتنا متواترة عن كافة المشايخ، جيلا فجيلا إلى العصر الكريم إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وليس فيها تلحين ولا تطريب، مع كثرة المتعمقين في مخارج الحروف وفي المد والإدغام والإظهار وغير ذلك من كيفية القراءات. ثم إن في الترجيع والتطريب همز ما ليس بمهموز ومد ما ليس بممدود، فترجيع الألف الواحدة ألفات والواو الواحدة واوات والشبه الواحدة شبهات، فيؤدي ذلك إلى زيادة في القرآن وذلك ممنوع، وإن وافق ذلك موضع نبر وهمز صيروها نبرات وهمزات، والنبرة حيثما وقعت من الحروف فإنما هي همزة واحدة لأغير، إما ممدودة وإما مقصورة. فإن قيل: فقد روى عبد الله بن مغفل قال: قرأ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مسير له سورة الفتح على راحلته فرجع في قراءته، وذكره البخاري وقال في صفة الترجيع: آء آء آء، ثلاث مرات. قلنا: ذلك محمول على إشباع المد في موضعه، ويحتمل أن يكون صوته عند هز الراحلة، كما يعتري رافع صوته إذا كان راكبا من انضغاط صوته وتقطيعه لأجل هز المركوب، وإذا احتمل هذا فلا حجة فيه. وقد خرج أبو محمد عبد الغني بن سعيد الحافظ من حديث قتادة عبد الرحمن بن أبي بكر عن أبيه قال: كانت قراءة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المد ليس فيها ترجيع وروى ابن جريح عن عطاء عن ابن عباس قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مؤذن يطرب، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الأذان سهل سمح فإذا كان أذانك سمحا سهلا وإلا فلا تؤذن». أخرجه الدارقطني في سننه فإذا كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد منع ذلك في الأذان فأحرى ألا يجوزه في القرآن الذي حفظه الرحمن، فقال وقوله الحق: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ}. وقال تعالى: {لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}. قلت: وهذا الخلاف إنما هو ما لم يفهم معنى القرآن بترديد الأصوات وكثرة الترجيعات، فإن زاد الأمر على ذلك لا يفهم معناه فذلك حرام باتفاق، كما يفعل القراء بالديار المصرية الذين يقرءون أمام الملوك والجنائز، ويأخذون على ذلك الأجور والجوائز، ضل سعيهم، وخاب عملهم، فسيحتلون بذلك تغيير كتاب الله، ويهونون على أنفسهم الاجتراء على الله بأن يزيدوا في تنزيله ما ليس فيه، جهلا بدينهم، ومروقا عن سنة نبيهم، ورفضا لسير الصالحين فيه من سلفهم، ونزوعا إلى ما يزين لهم الشيطان من أعمالهم، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، فهم في غيهم يترددون، وبكتاب الله يتلاعبون، فإنا لله وإنا إليه راجعون! لكن أخبر الصادق أن ذلك يكون، فكان كما أخبر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ذكر الإمام الحافظ أبو الحسين رزين وأبو عبد الله الترمذي الحكيم في نوادر الأصول من حديث حذيفة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «اقرءوا القرآن بلحون العرب وأصواتها وإياكم ولحون أهل العشق ولحون أهل الكتابين وسيجيء بعدي قوم يرجعون بالقرآن ترجيع الغناء والنوح لا يجاوز حناجرهم مفتونة قلوبهم وقلوب الذين يعجبهم شأنهم». اللحون: جمع لحن، وهو التطريب وترجيع الصوت وتحسينه بالقراءة والشعر والغناء. قال علمائنا: ويشبه أن يكون هذا الذي يفعله قراء زماننا بين يدي الوعاظ وفي المجالس من اللحون الأعجمية التي يقرءون بها، ما نهى عنه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والترجيع في القراءة: ترديد الحرف كقراءة النصارى. والترتيل في القراءة هو التأني فيها والتمهل وتبيين الحروف والحركات تشبيها بالثغر المرتل، وهو المشبه بنور الأقحوان، وهو المطلوب في قراءة القرآن، قال الله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا}. وسئلت أم سلمة عن قراءة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصلاته، فقالت: ما لكم وصلاته! كان يصلي ثم ينام قدر ما صلى، ثم يصلي قدر ما نام، ثم ينام قدر ما صلى حتى يصبح، ثم نعتت قراءته، فإذا هي تنعت قراءة مفسرة حرفا حرفا. أخرجه النسائي وأبو داود والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب.