فصل: سورة الكهف:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.سورة الكهف:

وهي مكية في قول جميع المفسرين. روى عن فرقة أن أول السورة نزل بالمدينة إلى قوله: {جُرُزاً}، والأول أصح. وروى في فضلها من حديث أنس أنه قال: من قرأ بها أعطى نورا بين السماء والأرض ووقى بها فتنة القبر. وقال إسحاق بن عبد الله بن أبى فروة: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ألا أدلكم على سورة شيعها سبعون ألف ملك ملا عظمها ما بين السماء والأرض لتاليها مثل ذلك». قالوا: بلى يا رسول الله؟ قال: «سورة أصحاب الكهف من قرأها يوم الجمعة غفر له الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام وأعطى نورا يبلغ السماء ووقى فتنة الدجال» ذكره الثعلبي، والمهدوي أيضا بمعناه. وفى مسند الدارمي عن أبى سعيد الخدري قال: من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة أضاء له من النور فيما بينه وبين البيت العتيق. وفى صحيح مسلم عن أبى الدرداء أن نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال». وفى رواية: «من آخر الكهف».
وفى مسلم أيضا من حديث النواس بن سمعان: «فمن أدركه- يعنى الدجال- فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف». وذكره الثعلبي. قال: سمرة بن جندب قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من قرأ عشر آيات من سورة الكهف حفظا لم تضره فتنة الدجال». ومن قرأ السورة كلها دخل الجنة.

.تفسير الآيات (1- 3):

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3)}
قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً} ذكر ابن إسحاق أن قريشا بعثوا النضر بن الحارث وعقبة بن أبى معيط إلى أحبار يهود وقالوا لهما:
سلاهم عن محمد وصفا لهم صفته وأخبراهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم علم ليس عندنا من علم أنبياء، فخرجا حتى قدما المدينة، فسألا أحبار يهود عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ووصفا لهم أمره، وأخبراهم ببعض قوله، وقالا لهم: إنكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا. فقالت لهما أحبار يهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبى مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقول، فروا فيه رأيكم، سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، ما كان أمرهم، فإنه قد كان لهم حديث عجب. سلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه. وسلوه عن الروح، ما هي، فإذا أخبركم بذلك فاتبعوه فإنه نبى، وإن لم يفعل فهو رجل متقول فاصنعوا في أمره ما بدا لكم. فأقبل النضر بن الحارث وعقبة بن أبى معيط قدما مكة على قريش فقالا: يا معشر قريش،! قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أشياء أمرونا بها، فإن أخبركم عنها فهو نبى، وإن لم يفعل فالرجل متقول، فروا فيه رأيكم. فجاءوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: يا محمد، أخبرنا عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، قد كانت لهم قصة عجب، وعن رجل كان طوافا قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، وأخبرنا عن الروح ما هي؟ قال فقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «أخبركم بما سألتم عنه غدا» ولم يستثن. فانصرفوا عنه، فمكث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يزعمون خمس عشرة ليلة، لا يحدث الله إليه في ذلك وحيا ولا يأتيه جبريل، حتى أرجف أهل مكة وقالوا: وعدنا محمد غدا، واليوم خمس عشرة ليلة، وقد أصبحنا منها لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه، وحتى أحزن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكث الوحى عنه، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة، ثم جاءه جبريل عليه السلام من عند الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية، والرجل الطواف والروح. قال ابن إسحاق: فذكر لي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لجبريل: «لقد احتبست عنى يا جبريل حتى سؤت ظنا» فقال له جبريل: {وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا}. فافتتح السورة تبارك وتعالى بحمده، وذكر نبوة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أنكروا عليه من ذلك فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ} يعني محمدا، إنك رسول منى، أي تحقيق لما سألوا عنه من نبوتك. {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً} أي معتدلا لا اختلاف فيه. {لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ} أي عاجل عقوبته في الدنيا، وعذابا أليما في الآخرة، أي من عند ربك الذي بعثك رسولا. {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ، أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً} أي دار الخلد لا يموتون فيها، الذين صدقوك بما جئت به مما كذبك به غيرهم، وعملوا بما أمرتهم به من الأعمال. {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} يعني قريشا في قولهم: إنا نعبد الملائكة وهى بنات الله. {ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ} الذين أعظموا فراقهم وعيب دينهم. {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ} أي لقولهم إن الملائكة بنات الله. {إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً. فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} لحزنه عليهم حين فاته ما كان يرجوه منهم، أي لا تفعل. فال ابن هشام: {باخِعٌ نَفْسَكَ} مهلك نفسك، فيما حدثني أبو عبيدة. قال ذو الرمة:
ألا أي هذا الباخع الوجد نفسه ** بشيء نحته عن يديه المقادر

وجمعها باخعون وبخعه. وهذا البيت في قصيدة له. وقول العرب: قد بخعت له نصحي ونفسي، أي جهدت له. {إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} قال ابن إسحاق: أي أيهم اتبع لامرى وأعمل بطاعتي: {وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً} أي الأرض، وإن ما عليها لفان وزائل، وإن المرجع إلى فأجزى كلا بعمله، فلا تأس ولا يحزنك ما ترى وتسمع فيها. قال ابن هشام: الصعيد وجه الأرض، وجمعه صعد. قال ذو الرمة يصف ظبيا صغيرا:
كأنه بالضحى ترمى الصعيد به ** دبابة في عظام الرأس خرطوم

وهذا البيت في قصيدة له. والصعيد أيضا: الطريق، وقد جاء في الحديث: {إياكم والقعود على الصعدات} يريد الطرق. والجرز: الأرض التي لا تنبت شيئا، وجمعها أجراز. ويقال: سنة جرز وسنون أجراز، وهى التي لا يكون فيها مطر. وتكون فيها جدوبه ويبس وشدة. قال ذو الرمة يصف إبلا:
طوى النحز والاجراز ما في بطونها ** فما بقيت إلا الضلوع الجراشع

قال ابن إسحاق: ثم استقبل قصة الخبر فيما سألوه عنه من شأن الفتية فقال: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً} أي قد كان من آياتي فيه وضعت على العباد من حجتي ما هو أعجب من ذلك. قال ابن هشام: والرقيم الكتاب الذي رقم بخبرهم، وجمعه رقم. قال العجاج:
ومستقر المصحف المرقم

وهذا البيت في أرجوزة له. قال ابن إسحاق: ثم قال: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً. فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً. ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً}. ثم قال: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ} أي بصدق الخبر {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً. وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً} أي لم يشركوا بى كما أشركتم بى ما ليس لكم به علم. قال ابن هشام: والشطط الغلو ومجاوزة الحق. قال أعشى بنى قيس بن ثعلبة:
أتنتهون ولا ينهى ذوى شطط ** كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل

وهذا البيت في قصيدة له. قال ابن إسحاق: {هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ}. قال ابن إسحاق: أي بحجة بالغة. {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً. وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً. وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ}. قال ابن هشام: تزاور تميل، وهو من الزور.
وقال أبو الزحف الكليبي يصف بلدا:
جدب المندى عن هوانا أزور ** ينضي المطايا خمسه العشنزر

وهذان البيتان في أرجوزة له. و{تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ} تجاوزهم وتتركهم عن شمالها. قال ذو الرمة:
إلى ظعن يقرضن أقواز مشرف ** شمالا وعن أيمانهن الفوارس

وهذا البيت في قصيدة له. والفجوة: السعة، وجمعها الفجاء. قال الشاعر:
ألبست قومك مخزاة ومنقصة ** حتى أبيحوا وحلوا فجوة الدار

{ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ} أي في الحجة على من عرف ذلك من أمورهم من أهل الكتاب ممن أمر هؤلاء بمسألتك عنهم في صدق نبوتك بتحقيق الخبر عنهم. {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً. وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ}
{الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} قال ابن هشام: الوصيد الباب. قال العبسي واسمه عبد بن وهب:
بأرض فلاة لا يسد وصيلاها ** على ومعروفي بها غير منكر

وهذا البيت في أبيات له. والوصيد أيضا الفناء، وجمعه وصائد ووصد ووصدان. {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً} إلى قوله: {الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ} أهل السلطان والملك منهم. {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً. سَيَقُولُونَ} يعني أحبار اليهود الذين أمروهم بالمسألة عنهم. {ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ} أي لا تكابرهم. {إِلَّا مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً} فإنهم لا علم لهم بهم. {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْ ءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً. إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً} أي لا تقولن لشيء سألوك عنه كما قلت في هذا إنى مخبركم غدا، واستثن مشيئة الله، واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهديني ربى لخبر ما سألتموني عنه رشدا، فإنك لا تدرى ما أنا صانع في ذلك. {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً} أي سيقولون ذلك. {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} أي لم يخف عليه شيء ما سألوك عنه. قلت: هذا ما وقع في السيرة من خبر أصحاب الكهف ذكرناه على نسقه. ويأتي خبر ذى القرنين، ثم نعود إلى أول السورة فنقول: قد تقدم معنى الحمد لله. وزعم الأخفش والكسائي والفراء وأبو عبيد وجمهور المتأولين أن في أول هذه السورة تقديما وتأخيرا، وأن المعنى: الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا. و{قَيِّماً} نصب على الحال.
وقال قتادة: الكلام على سياقه من غير تقديم ولا تأخير، ومعناه: ولم يجعل له عوجا ولكن جعلناه قيما. وقول الضحاك فيه حسن، وأن المعنى: مستقيم، أي مستقيم الحكمة لا خطأ فيه ولا فساد ولا تناقض.
وقيل: {قَيِّماً} على الكتب السابقة يصدقها.
وقيل: {قَيِّماً} بالحجج أبدا. {عِوَجاً} مفعول به، والعوج بكسر العين في الدين والرأى والامر والطريق. وبفتحها في الأجسام كالخشب والجدار، وقد تقدم.
وليس في القرآن عوج، أي عيب، أي ليس متناقضا مختلفا، كما قال تعالى: {وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} وقيل: أي لم يجعله مخلوقا، كما روى عن ابن عباس في قوله تعالى: {قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} قال: غير مخلوق.
وقال مقاتل: {عِوَجاً} اختلافا و. قال الشاعر:
أدوم بودي للصديق تكرما ** ولا خير فيمن كان في الود أعوجا

لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً أي لينذر محمد أو القرآن. وفية إضمار، أي لينذر الكافرين عقاب الله. وهذا العذاب الشديد قد يكون في الدنيا وقد يكون في الآخرة. مِنْ لَدُنْهُ أي من عنده وقرأ أبو بكر عن عاصم {من لدنه} بإسكان الدال وإشمامها الضم وكسر النون، والهاء موصولة بياء. والباقون {لَدُنْهُ} بضم الدال وإسكان النون وضم الهاء. قال الجوهري: وفى {لدن} ثلاث لغات: لدن، ولدي، ولد. وقال:
من لد لحييه إلى منحورة

المنحور لغة المنحر. قوله تعالى: {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ} أي بأن لهم. {أَجْراً حَسَناً} وهى الجنة. {ماكِثِينَ} دائمين. {فِيهِ أَبَداً} لا إلى غاية. وإن حملت التبشير على البيان لم يحتج إلى الباء في {بأن}. والأجر الحسن: الثواب العظيم الذي يؤدى إلى الجنة.

.تفسير الآيات (4- 5):

{وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (4) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (5)}
قوله تعالى: {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} هم اليهود، قالوا عزير ابن الله، والنصارى قالوا المسيح ابن الله، وقريش قالت الملائكة بنات الله. فالانذار في أول السورة عام، وهذا خاص فيمن قال لله ولد. {ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} {مِنْ} صلة، أي ما لهم بذلك القول علم، لأنهم مقلدة قالوه بغير دليل. {وَلا لِآبائِهِمْ} أي أسلافهم. {كَبُرَتْ كَلِمَةً} {كَلِمَةً} نصب على البيان، أي كبرت تلك الكلمة كلمة. وقرأ الحسن ومجاهد ويحيى بن يعمر وابن أبى إسحاق {كَلِمَةً} بالرفع، أي عظمت كلمة، يعني قولهم اتخذ الله ولدا. وعلى هذه القراءة فلا حاجة إلى إضمار. يقال: كبر الشيء إذا عظم. وكبر الرجل إذا أسن. {تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ} في موضع الصفة. {إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} أي ما يقولون إلا كذبا.

.تفسير الآية رقم (6):

{فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6)}
قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ} {باخِعٌ} أي مهلك وقاتل، وقد تقدم. {آثارِهِمْ} جمع أثر، ويقال إثر. والمعنى: على أثر توليهم وإعراضهم عنك. {إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ} أي القرآن. {أَسَفاً} أي حزنا وغضبا على كفرهم، وانتصب على التفسير.

.تفسير الآية رقم (7):

{إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7)}
قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها} فيه مسألتان:
الأولى: قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها} {ما} و{زِينَةً} مفعولان. والزينة كل ما على وجه الأرض، فهو عموم لأنه دال على بارئه.
وقال ابن جبير عن ابن عباس: أراد بالزينة الرجال، قال مجاهد.
وروى عكرمة عن ابن عباس أن الزينة الخلفاء والأمراء.
وروى ابن أبى نجيح عن مجاهد عن ابن عباس في قول تعالى: {إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها} قال: العلماء زينة الأرض. وقالت فرقة: أراد النعم والملابس والثمار والخضرة والمياه، ونحو هذا مما فيه زينة، ولم يدخل فيه الجبال الصم وكل ما لا زينة فيه كالحيات والعقارب. والقول بالعموم أولى، وأن كل ما على الأرض فيه زينة من جهة خلقه وصنعه وإحكامه. والآية بسط في التسلية، أي لا تهتم يا محمد للدنيا وأهلها فإنا إنما جعلنا ذلك امتحانا واختبارا لأهلها، فمنهم من يتدبر ويؤمن، ومنهم من يكفر، ثم يوم القيامة بين أيديهم فلا يعظمن عليك كفرهم فإنا نجازيهم.
الثانية: معنى هذه الآية ينظر إلى قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إن الدنيا خضرة حلوة والله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون» وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا» قال: وما زهرة الدنيا؟ قال: {بركات الأرض} خرجهما مسلم وغير من حديث أبى سعيد الخدري. والمعنى: أن الدنيا مستطابة في ذوقها معجبة في منظرها كالثمر المستحلى المعجب المرأى، فابتلى الله بها عباده لينظر أيهم أحسن عملا. أي من أزهد فيها وأترك لها، ولا سبيل للعباد إلى بغضة ما زينة الله إلا أن يعينه على ذلك. ولهذا كان عمر يقول فيما ذكر البخاري: اللهم إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينته لنا، اللهم إنى أسألك أن أنفقه في حقه. فدعا الله أن يعينه على إنفاقه في حقه. وهذا معنى قوله عليه السلام: «فمن أخذه بطيب نفس بورك له فيه ومن أخذه بأشراف نفس كان كالذي يأكل ولا يشبع». وهكذا هو المكثر من الدنيا لا يقنع بما يحصل له منها بل همته جمعها، وذلك لعدم الفهم عن الله تعالى ورسوله، فإن الفتنة معها حاصلة وعدم السلامة غالبة، وقد أفلح من أسلم ورزق كفافا وأقنعه الله بما آتاه.
وقال ابن عطية: كان أبى رضي الله عنه يقول في قوله: {أَحْسَنُ عَمَلًا}: أحسن العمل أخذ بحق وإنفاق في حق مع الايمان وأداء الفرائض واجتناب المحارم والإكثار من المندوب إليه. قلت: هذا قول حسن، وجيز في ألفاظه بليغ في معناه، وقد جمعه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في لفظ واحد وهو قوله لسفيان بن عبد الله الثقفي لما قال: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك- في رواية: غيرك. قال: {قل آمنت بالله ثم استقم} خرجه مسلم.
وقال سفيان الثوري: {أَحْسَنُ عَمَلًا} أزهدهم فيها. وكذلك قال أبو عصام العسقلاني: {أَحْسَنُ عَمَلًا} أترك لها. وقد اختلفت عبارات العلماء في الزهد، فقال قوم: قصر الأمل وليس بأكل الخشن ولبس العباء، قاله سفيان الثوري. قال علماؤنا: وصدق رضي الله عنه لان من قصر أمله لم يتأنق في المطعومات ولا يتفنن في الملبوسات، واخذ من الدنيا ما تيسر، واجتزأ منها بما يبلغ.
وقال قوم: بغض المحمدة وحب الثناء. وهو قول الأوزاعي ومن ذهب إليه.
وقال قوم: ترك الدنيا كلها هو الزهد، أحب تركها أم كره. وهو قول فضيل. وعن بشر بن الحارث قال: حب الدنيا حب لقاء الناس، والزهد في الدنيا الزهد في لقاء الناس. وعن الفضيل أيضا: علامة الزهد في الدنيا الزهد في الناس.
وقال قوم: لا يكون الزاهد زاهدا حتى يكون ترك الدنيا أحب إليه من أخذها، قال إبراهيم بن أدهم.
وقال قوم: الزهد أن تزهد في الدنيا بقلبك، قاله ابن المبارك. وقالت فرقة: الزهد حب الموت. والقول الأول يعم هذه الأقوال بالمعنى فهو أولى.