فصل: تفسير الآيات (83- 91):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآيات (83- 91):

{وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (84) فَأَتْبَعَ سَبَباً (85) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (86) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (89) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (90) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (91)}
قوله تعالى: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً} قال ابن إسحاق: وكان من خبر ذي القرنين أنه أوتى ما لم يؤت غيره، فمدت له الأسباب حتى انتهى من البلاد إلى مشارق الأرض ومغاربها، لا يطأ أرضا إلا سلط على أهلها، حتى انتهى من المشرق والمغرب إلى ما ليس وراءه شيء من الخلق. قال ابن إسحاق: حدثني من يسوق الأحاديث عن الأعاجم فيما توارثوا من علم ذي القرنين أن ذا القرنين كان رجلا من أهل مصر اسمه مرزبان ابن مردبة اليوناني من ولد يونان بن يافث بن نوح. قال ابن هشام: واسمه الإسكندر وهو الذي بنى الإسكندرية فنسبت إليه. قال ابن إسحاق: وقد حدثني ثور بن يزيد عن خالد بن معدان الكلاعي- وكان خالد رجلا قد أدرك الناس- أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن ذي القرنين فقال: «ملك مسح الأرض من تحتها بالأسباب».
وقال خالد: وسمع عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه رجلا يقول يا ذا القرنين، فقال: عمر اللهم غفرا أما رضيتم أن تسموا بأسماء الأنبياء حتى تسميتم بأسماء الملائكة! فقال ابن إسحاق: فالله أعلم أي ذلك كان؟ أقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك أم لا؟ والحق ما قال. قلت: وقد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه مثل قول عمر، سمع رجل يدعو آخر يا ذا القرنين، فقال علي: أما كفاكم أن تسميتم بأسماء الأنبياء حتى تسميتم بأسماء الملائكة! وعنه أنه عبد ملك بكسر اللام صالح نصح الله فأيده.
وقيل: هو نبي مبعوث فتح الله تعالى على يديه الأرض. وذكر الدارقطني في كتاب الاخبار أن ملكا يقال له رباقيل كان ينزل على ذي القرنين، وذلك الملك هو الذي يطوي الأرض يوم القيامة، وينقصها فتقع أقدام الخلائق كلهم بالساهرة، فيما ذكر بعض أهل العلم.
وقال السهيلي: وهذا مشاكل بتوكيله بذي القرنين الذي قطع الأرض مشارقها ومغاربها، كما أن قصة خالد ابن سنان في تسخير النار له مشاكلة بحال الملك الموكل بها، وهو مالك عليه السلام وعلى جميع الملائكة أجمعين. ذكر ابن أبي خيثمة في كتاب البدء له خالد بن سنان العبسي وذكر نبوته، وذكر أنه وكل به من الملائكة مالك خازن النار، وكان من أعلام نبوته أن نارا يقال لها: نار الحدثان، كانت تخرج على الناس من مغارة فتأكل الناس ولا يستطيعون ردها، فردها خالد ابن سنان فلم تخرج بعد. واختلف في اسم ذي القرنين وفي السبب الذي سمي به بذلك اختلافا كثيرا، فأما اسمه فقيل: هو الإسكندر الملك اليوناني المقدوني، وقد تشدد قافه فيقال: المقدوني.
وقيل: اسمه هرمس. ويقال: اسمه هرديس.
وقال ابن هشام: هو الصعب ابن ذي يزن الحميري من ولد وائل بن حمير، وقد تقدم قول ابن إسحاق.
وقال وهب بن منبه: هو رومي. وذكر الطبري حديثا عن النبي عليه الصلاة والسلام أن ذا القرنين شاب من الروم. وهو حديث واهي السند، قاله ابن عطية. قال السهيلي: والظاهر من علم الاخبار أنهما اثنان: أحدهما- كان على عهد إبراهيم عليه السلام، ويقال: إنه الذي قضى لإبراهيم عليه السلام حين تحاكموا إليه في بئر السبع بالشام. والآخر: أنه كان قريبا من عهد عيسى عليه السلام.
وقيل: إنه أفريدون الذي قتل بيوراسب بن أرونداسب الملك الطاغي على عهد إبراهيم عليه السلام، أو قبله بزمان. وأما الاختلاف في السبب الذي سمي به، فقيل: إنه كان ذا ضفيرتين من شعر فسمي بهما، ذكره الثعلبي وغيره. والضفائر قرون الرأس، ومنه قول الشاعر:
فلثمت فاها آخذا بقرونها ** شرب النزيف ببرد ماء الحشرج

وقيل: إنه رأى في أول ملكه كأنه قابض على قرني الشمس، فقص ذلك، ففسر أنه سيغلب ما ذرت عليه الشمس، فسمي بذلك ذا القرنين.
وقيل: إنما سمي بذلك لأنه بلغ المغرب والمشرق فكأنه حاز قرني الدنيا. وقالت طائفة: إنه لما بلغ مطلع الشمس كشف بالرؤية قرونها فسمي بذلك ذا القرنين، أو قرني الشيطان بها.
وقال وهب بن منبه: كان له قرنان تحت عمامته. وسأل ابن الكواء عليا رضي الله تعالى عنه عن ذي القرنين انبئا كان أم ملكا؟ فقال: لا ذا ولا ذا، كان عبدا صالحا دعا قومه إلى الله تعالى فشجوه على قرنه، ثم دعاهم فشجوه على قرنه الآخر، فسمي ذا القرنين. واختلفوا أيضا في وقت زمانه، فقال قوم: كان بعد موسى.
وقال قوم: كان في الفترة بعد عيسى وقيل: كان في وقت إبراهيم وإسماعيل. وكان الخضر عليه السلام صاحب لوائه الأعظم، وقد ذكرناه في البقرة. وبالجملة فإن الله تعالى مكنه وملكه ودانت له الملوك، فروي أن جميع ملوك الدنيا كلها أربعة: مؤمنان وكافران، فالمؤمنان سليمان بن داود وإسكندر، والكافران نمروذ وبخت نصر، وسيملكها من هذه الامة خامس لقوله تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33] وهو المهدي وقد قيل: إنما سمي ذا القرنين لأنه كان كريم الطرفين من أهل بيت شريف من قبل أبيه وأمه.
وقيل: لأنه انقرض في وقته قرنان من الناس وهو حي.
وقيل: لأنه كان إذا قاتل قاتل بيديه وركابيه جميعا.
وقيل: لأنه أعطي علم الظاهر والباطن.
وقيل: لأنه دخل الظلمة والنور.
وقيل: لأنه ملك فارس والروم. قوله تعالى: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ} قال علي رضي الله عنه: سخر له السحاب، ومدت له الأسباب، وبسط له في النور، فكان الليل والنهار عليه سواء.
وفي حديث عقبة ابن عامر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لرجال من أهل الكتاب سألوه عن ذي القرنين فقال: «إن أول أمره كان غلاما من الروم فأعطي ملكا فسار حتى أتى أرض مصر فابتنى بها مدينة يقال لها الإسكندرية فلما فرغ أتاه ملك فعرج به فقال له أنظر ما تحتك قال أرى مدينتي وحدها لا أرى غيرها فقال له الملك تلك الأرض كلها وهذا السواد الذي تراه محيطا بها هو البحر وإنما أراد الله تعالى أن يريك الأرض وقد جعل لك سلطانا فيها فسر في الأرض. فعلم الجاهل وثبت العالم» الحديث. قوله تعالى: {وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} قال ابن عباس: من كل شيء علما يتسبب به إلى ما يريد.
وقال الحسن: بلاغا إلى حيث أراد.
وقيل: من كل شيء يحتاج إليه الخلق.
وقيل: من كل شيء يستعين به الملوك من فتح المدائن وقهر الاعداء. واصل السبب الحبل فاستعير لكل ما يتوصل به إلى شي. {فَأَتْبَعَ سَبَباً} قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي: {فأتبع سببا} مقطوعة الالف. وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو: {فاتبع سببا} بوصلها، أي اتبع سببا من الأسباب التي أوتيها. قال الأخفش: تبعته وأتبعته بمعنى، مثل ردفته وأردفته، ومنه قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ 10} [الصافات: 10] ومنه الاتباع في الكلام مثل حسن بسن وقبيح شقيح. قال النحاس: وأختار أبو عبيد قراءة أهل الكوفة قال: لأنها من السير، وحكى هو والأصمعي أنه يقال: تبعه واتبعه إذا سار ولم يلحقه، وأتبعه إذا لحقه، قال أبو عبيد: ومثله، {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ 60}. قال النحاس: وهذا من التفريق وإن كان الأصمعي قد حكاه لا يقبل إلا بعلة أو دليل. وقوله عز وجل: {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ 60} [الشعراء: 60] ليس في الحديث أنهم لحقوهم، وإنما الحديث لما خرج موسى عليه السلام وأصحابه من البحر وحصل فرعون وأصحابه انطبق عليهم البحر. والحق في هذا أن تبع وأتبع وأتبع لغات بمعنى واحد، وهي بمعنى السير، فقد يجوز أن يكون معه لحاق وألا يكون. {حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} قرأ ابن عاصم وعامر وحمزة والكسائي {حامية} أي حارة. الباقون {حمئة} أي كثيرة الحمأة وهي الطينة السوداء، تقول: حمات البئر حمأ بالتسكين إذا نزعت حماتها. وحميت البئر حمأ بالتحريك كثرت حماتها. ويجوز أن تكون {حامية} من الحمأة فخففت الهمزة وقلبت ياء. وقد يجمع بين القراءتين فيقال: كانت حارة وذات حمأة.
وقال عبد الله بن عمرو: نظر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الشمس حين غربت، فقال: «نار الله الحامية لولا ما يزعها من أمر الله لأحرقت ما على الأرض».
وقال ابن عباس: أقرأنيها أبي كما أقرأه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ}، وقال معاوية: هي {حامية} فقال عبد الله بن عمرو بن العاص: فأنا مع أمير المؤمنين، فجعلوا كعبا بينهم حكما وقالوا: يا كعب كيف تجد هذا في التوراة؟ فقال: أجدها تغرب في عين سوداء، فوافق ابن عباس.
وقال الشاعر وهو تبع اليماني:
قد كان ذو القرنين قبلي مسلما ** ملكا تدين له الملوك وتسجد

بلغ المغارب والمشارق يبتغي ** أسباب أمر من حكيم مرشد

فرأى مغيب الشمس عند غروبها ** في عين ذي خلب وثأط حرمد

الخلب: الطين. والثأط: الحمأة. والحرمد: الأسود.
وقال القفال قال بعض العلماء: ليس المراد أنه انتهى إلى الشمس مغربا ومشرقا حتى وصل إلى جرمها ومسها، لأنها تدور مع السماء حول الأرض من غير أن تلتصق بالأرض، وهي أعظم من أن تدخل في عين من عيون الأرض، بل هي أكبر من الأرض أضعافا مضاعفة، بل المراد أنه انتهى إلى آخر العمارة من جهة المغرب ومن جهة المشرق، فوجدها في رأي العين تغرب في عين حمئة، كما أنا نشاهدها في الأرض الملساء كأنها تدخل في الأرض، ولهذا قال: {وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً 90} ولم يرد أنها تطلع عليهم بأن تماسهم وتلاصقهم، بل أراد أنهم أول من تطلع عليهم.
وقال القتبي: ويجوز أن تكون هذه العين من البحر، ويجوز أن تكون الشمس تغيب وراءها أو معها أو عندها، فيقام حرف الصفة مقام صاحبه والله أعلم. {وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً} أي عند العين، أو عند نهاية العين، وهم أهل جابرس، ويقال لها بالسريانية: جرجيسا، يسكنها قوم من نسل ثمود بقيتهم الذين آمنوا بصالح، ذكره السهيلي.
وقال وهب ابن منبه: كان ذو القرنين رجلا من الروم ابن عجوز من عجائزهم ليس لها ولد غيره وكان اسمه الإسكندر، فلما بلغ وكان عبدا صالحا قال الله تعالى: يا ذا القرنين! إني باعثك إلى أمم الأرض وهم أمم مختلفة ألسنتهم، وهم أمم جميع الأرض، وهم أصناف: أمتان بينهما طول الأرض كله، وأمتان بينهما عرض الأرض كله، وأمم في وسط الأرض منهم الجن والانس ويأجوج ومأجوج، فأما اللتان بينهما طول الأرض فأمة عند مغرب الشمس يقال لها ناسك، وأما الأخرى فعند مطلعها ويقال لها منسك. وأما اللتان بينهما عرض الأرض فأمة في قطر الأرض الأيمن يقال لها هاويل، وأما الأخرى التي في قطر الأرض الأيسر يقال لها تأويل. فقال ذو القرنين: إلهي! قد ندبتني لأمر عظيم لا يقدر قدره إلا أنت، فأخبرني عن هذه الأمم بأي قوة أكاثرهم؟ وبأي صبر أقاسيهم؟ وبأي لسان أناطقهم؟ فكيف لي بأن أفقه لغتهم وليس عندي قوة؟ فقال الله تعالى: سأظفرك بما حملتك، أشرح لك صدرك فتسمع كل شي، وأثبت لك فهمك فتفقه كل شي، وألبسك الهيبة فلا يروعك شي، وأسخر لك النور والظلمة فيكونان جندا من جنودك، يهديك النور من أمامك، وتحفظك الظلمة من ورائك. فلما قيل له ذلك سار بمن اتبعه، فانطلق إلى الامة التي عند مغرب الشمس، لأنها كانت أقرب الأمم منه وهي ناسك، فوجد جموعا لا يحصيها إلا الله تعالى وقوه وبأسا لا يطيقه إلا الله. وألسنة مختلفة، وأهواء متشتتة فكاثرهم بالظلمة، فضرب حولهم ثلاث عساكر من جند الظلمة قدر ما أحاط بهم من كل مكان، حتى جمعتهم في مكان واحد، ثم دخل عليهم بالنور فدعاهم إلى الله تعالى وإلى عبادته، فمنهم من آمن به ومنهم من كفر وصد عنه، فأدخل على الذين تولوا الظلمة فغشيتهم من كل مكان، فدخلت إلى أفواههم وأنوفهم وأعينهم وبيوتهم وغشيتهم من كل مكان، فتحيروا وماجوا وأشفقوا أن يهلكوا، فعجوا إلى الله تعالى بصوت واحد: إنا آمنا، فكشفها عنهم، وأخذهم عنوة، ودخلوا في دعوته، فجند من أهل المغرب أمما عظيمة فجعلهم جندا واحدا، ثم أنطلق بهم يقودهم، والظلمة تسوقهم وتحرسه من خلفه، والنور أمامه يقوده ويدله، وهو يسير في ناحية الأرض اليمنى يريد الامة التي في قطر الأرض الأيمن وهي هاويل، وسخر الله تعالى يده وقلبه وعقله ونظره فلا يخطئ إذا عمل عملا، فإذا أتوا مخاضة أو بحرا بنى سفنا من ألواح صغار مثل النعال فنظمها في ساعة، ثم جعل فيها جميع من معه من تلك الأمم، فإذا قطع البحار والأنهار فتقها ودفع إلى كل رجل لوحا فلا يكترث بحمله، فانتهى إلى هاويل وفعل بهم كفعله بناسك فآمنوا، ففرغ منهم، واخذ جيوشهم وأنطلق إلى ناحية الأرض الأخرى حتى انتهى إلى منسك عند مطلع الشمس، فعمل فيها وجند منها جنودا كفعله في الأولى، ثم كر مقبلا حتى أخذ ناحية الأرض اليسرى يريد تأويل، وهي الامة التي تقابل هاويل بينهما عرض الأرض، ففعل فيها كفعله فيما قبلها، ثم عطف إلى الأمم التي في وسط الأرض من الجن الانس ويأجوج ومأجوج، فلما كان في بعض الطريق مما يلي منقطع الترك من المشرق قالت له أمة صالحة من الانس: يا ذا القرنين! إن بين هذين الجبلين خلقا من خلق الله تعالى كثيرا ليس لهم عدد، وليس فيهم مشابهة من الانس، وهم أشباه البهائم، يأكلون العشب، ويفترسون الدواب والوحش كما تفترسها السباع، ويأكلون حشرات الأرض كلها من الحيات والعقارب والوزغ وكل ذي روح مما خلق الله تعالى في الأرض، وليس لله تعالى خلق ينمو نماءهم في العام الواحد، فإن طالت المدة فسيملئون الأرض، ويجلون أهلها فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا؟ ذكر الحديث، وسيأتي من صفة يأجوج ومأجوج والترك إذ هم نوع منهم ما فيه كفاية. قوله تعالى: {قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ} قال القشيري أبو نصر: إن كان نبيا فهو وحي، وإن لم يكن نبيا فهو إلهام من الله تعالى. {إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً} قال إبراهيم بن السرى: خيره بين هذين كما خير محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: {فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42] ونحوه.
وقال أبو إسحاق الزجاج: المعنى أن الله تعالى خيره بين هذين الحكمين، قال النحاس: ورد علي بن سليمان عليه قوله، لأنه لم يصح أن ذا القرنين نبي فيخاطب بهذا، فكيف يقول لربه عز وجل: {ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ}؟ وكيف يقول: {فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ} فيخاطبه بالنون؟ قال: التقدير، قلنا يا محمد قالوا يا ذا القرنين. قال أبو جعفر النحاس: هذا الذي قاله أبو الحسن لا يلزم منه شي. أما قوله: {قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ} فيجوز أن يكون الله عز وجل خاطبه على لسان نبي في وقته، ويجوز أن يكون قال له هذا كما قال لنبيه: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً} [محمد: 4]، وأما إشكال {فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ} فإن تقديره أن الله تعالى خيره بين القتل في قوله تعالى: {إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ} وبين الاستبقاء في قوله عز وجل: {وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً}. قال لأولئك القوم: {أَمَّا مَنْ ظَلَمَ} أي أقام على الكفر منكم، {فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ} أي بالقتل: {ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ} أي يوم القيامة: {فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً} أي شديدا في جهنم. {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ} أي تاب من الكفر: {وَعَمِلَ صالِحاً} قال أحمد بن يحيى: {إِنَّ} في موضع نصب في {إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً} قال: ولو رفعت كان صوابا بمعنى فإما هو، كما قال:
فسيرا فإما حاجة تقضيانها ** وإما مقيل صالح وصديق

{فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى} قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم: {فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى} بالرفع على الابتداء أو بالاستقرار. و{الْحُسْنى} في موضع خفض بالإضافة ويحذف التنوين للإضافة، أي له جزاء الحسنى عند الله تعالى في الآخرة وهي الجنة، فأضاف الجزاء إلى الجنة، كقوله:
{حَقُّ الْيَقِينِ} [الواقعة: 95]، {وَلَدارُ الْآخِرَةِ 10} [الأنعام: 32]، قاله الفراء. ويحتمل أن يريد ب {الْحُسْنى} الأعمال الصالحة. ويمكن أن يكون الجزاء من ذي القرنين، أي أعطيته وأتفضل عليه. ويجوز أن يحذف التنوين لالتقاء الساكنين ويكون {الْحُسْنى} في موضع رفع على البدل عند البصريين، وعلى الترجمة عند الكوفيين، وعلى هذا قراءة ابن أبى إسحاق {فله جزاء الحسنى} إلا أنك لم تحذف التنوين، وهو أجود. وقرأ سائر الكوفيين {فله جزاء الحسنى} منصوبا منونا، أي فله الحسنى جزاء. قال الفراء: {جَزاءُ} منصوب على التمييز.
وقيل: على المصدر، وقال الزجاج: هو مصدر في موضع الحال، أي مجزيا بها جزاء. وقرأ ابن عباس ومسروق: {فله جزاء الحسنى} منصوبا غير منون وهي عند أبي حاتم على حذف التنوين لالتقاء الساكنين مثل {فله جزاء الحسنى} في أحد الوجهين في الرفع. النحاس: وهذا عند غيره خطأ لأنه ليس موضع حذف تنوين لالتقاء الساكنين ويكون تقديره: فله الثواب جزاء الحسنى. قوله تعالى: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً} تقدم معناه أن أتبع واتبع بمعنى أي سلك طريقا ومنازل. {حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ} 90 وقرأ مجاهد وابن محيصن بفتح الميم واللام، يقال: طلعت الشمس والكواكب طلوعا ومطلعا. والمطلع والمطلع أيضا موضع طلوعها قاله الجوهري. المعنى: أنه انتهى إلى موضع قوم لم يكن بينهم وبين مطلع الشمس أحد من الناس. والشمس تطلع وراء ذلك بمسافة بعيدة فهذا معنى قوله تعالى: {وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ} 90. وقد أختلف فيهم، فعن وهب بن منبه ما تقدم، وأنها أمة يقال لها منسك وهي مقابلة ناسك، وقاله مقاتل.
وقال قتادة: يقال لهما: الزنج وقال الكلبي: هم تارس وهاويل ومنسك، حفاة عراة عماة عن الحق، يتسافدون مثل الكلاب، ويتهارجون تهارج الحمر.
وقيل: هم أهل جابلق وهم من نسل مؤمني عاد الذين آمنوا بهود، ويقال لهم بالسريانية مرقيسا. والذين عند مغرب الشمس هم أهل جابرس، ولكل واحدة من المدينتين عشرة آلاف باب، وبين كل بابين فرسخ. ووراء جابلق أمم وهم تافيل وتارس وهم يجاورون يأجوج ومأجوج.
واهل جابرس وجابلق آمنوا بالنبي عليه الصلاة والسلام: «مر بهم ليلة الاسراء فدعاهم فأجابوه، ودعا الأمم الآخرين فلم يجيبوه»، ذكره السهيلي وقال: اختصرت هذا كله من حديث طويل رواه مقاتل بن حيان عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ورواه الطبري مسندا إلى مقاتل يرفعه، والله أعلم. قوله تعالى: {لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً} 90 أي حجابا يستترون منها عند طلوعها. قال قتادة: لم يكن بينهم وبين الشمس ستر، كانوا في مكان لا يستقر عليه بناء، وهم يكونون في أسراب لهم، حتى إذا زالت الشمس عنهم رجعوا إلى معايشهم وحروثهم، يعني لا يستترون منها بكهف جبل ولا بيت يكنهم منها.
وقال أمية: وجدت رجالا بسمرقند يحدثون الناس، فقال بعضهم: خرجت حتى جاوزت الصين، فقيل لي: إن بينك وبينهم مسيرة يوم وليلة، فاستأجرت رجلا يرينيهم حتى صبحتهم، فوجدت أحدهم يفترش أذنه ويلتحف بالأخرى وكان صاحبي يحسن كلامهم، فبتنا بهم، فقالوا: فيم جئتم؟ قلنا: جئنا ننظر كيف تطلع الشمس، فبينا نحن كذلك إذ سمعنا كهيئة الصلصلة، فغشي على ثم أفقت وهم يمسحونني بالدهن، فلما طلعت الشمس على الماء إذ هي على الماء كهيئة الزيت، وإذا طرف السماء كهيئة الفسطاط، فلما ارتفعت أدخلوني سربا لهم، فلما ارتفع النهار وزالت الشمس عن رؤوسهم خرجوا يصطادون السمك، فيطرحونه في الشمس فينضج.
وقال ابن جريج: جاءهم جيش مرة، فقال لهم أهلها: لا تطلع الشمس وأنتم بها، فقالوا: ما نبرح حتى تطلع الشمس. قالوا: ما هذه العظام؟ قالوا: هذه والله عظام جيش طلعت عليهم الشمس هاهنا فماتوا. قال فولوا هاربين في الأرض.
وقال الحسن: كانت أرضهم لا جبل فيها ولا شجر، وكانت لا تحمل البناء، فإذا طلعت عليهم الشمس نزلوا في الماء، فإذا ارتفعت عنهم خرجوا، فيتراعون كما تتراعى البهائم. قلت: وهذه الأقوال تدل على أن لا مدينة هناك. والله أعلم. وربما يكون منهم من يدخل في النهر ومنهم من يدخل في السرب فلا تناقض بين قول الحسن وقتادة.