فصل: تفسير الآيات (10- 11):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآيات (10- 11):

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (11)}
قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} الآية نزلت في المنافقين كانوا يقولن آمنا بالله {فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ} أي أذاهم {كَعَذابِ اللَّهِ} في الآخره فارتد عن إيمانه.
وقيل: جزع من ذلك كما يجزع من عذاب الله ولا يصبر غلى الأذية في الله.
{وَلَئِنْ جاءَ} المؤمنين {نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ} هؤلاء المرتدون {إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} وهم كاذبون، فقال الله لهم {أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ} يعني الله أعلم بما في صدورهم منهم بأنفسهم.
وقال مجاهد: نزلت في ناس كانوا يؤمنون بألسنتهم، فإذا أصابهم بلاء من الله أو مصيبة في أنفسهم افتتنوا.
وقال الضحاك: نزلت في ناس من المنافقين بمكة كانوا يؤمنون، فإذا أوذوا رجعوا إلى الشرك وقال عكرمة: كان قوم قد أسلموا فأكرههم المشركون على الخروج معهم إلى بدر فقتل بعضهم، فأنزل الله {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ} فكتب بها المسلمون من المدينة إلى المسلمين بمكة، فخرجوا فلحقهم المشركون، فافتتن بعضهم، فنزلت هذه الآية فيهم.
وقيل: نزلت في عياش بن أبي ربيعة، أسلم وهاجر، ثم أوذي وضرب فارتد. وإنما عذبه أبو جهل والحرث وكانا أخويه لامه. قال ابن عباس: ثم عاش بعد ذلك بدهر وحسن إسلامه. {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ} قال قتادة: نزلت في القوم الذين ردهم المشركون إلى مكة.

.تفسير الآيات (12- 13):

{وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (13)}
قوله تعالى: {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا} أي ديننا. {وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ} جزم على الامر. قال الفراء والزجاج: هو أمر في تأويل الشرط والجزاء، أي إن تتبعوا سبيلنا نحمل خطاياكم، كما قال:
فقلت ادعي وادع فإن أندى ** لصوت أن ينادى داعيان

أي إن دعوت دعوت. قال المهدوي: وجاء وقوع {إنهم لكاذبون} بعده على الحمل على المعنى، لان المعنى إن اتبعتم سبيلنا حملنا خطاياكم. فلما كان الامر يرجع في المعنى إلى الخبر وقع عليه التكذيب كما يوقع عليه الخبر. قال مجاهد: قال المشركون من قريش نحن وأنتم لا نبعث، فإن كان عليكم وزر فعلينا، أي نحن نحمل عنكم ما يلزمكم. والحمل هاهنا بمعنى الحمالة لا الحمل على الظهر.
وروى أن قائل ذلك الوليد بن المغيرة. {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ} يعني ما يحمل عليهم من سيئات من ظلموه بعد فراغ حسناتهم. روي معناه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد تقدم في آل عمران. قال أبو أمامة الباهلي: «يؤتى الرجل يوم القيامة وهو كثير الحسنات فلا يزال يقتص منه حتى تفنى حسناته ثم يطالب فيقول الله عز وجل اقتصوا من عبدي فتقول الملائكة ما بقيت له حسنات فيقول خذوا من سيئات المظلوم فاجعلوا عليه» ثم تلا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ} وقال قتادة: من دعا إلى ضلالة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شي. ونظيره قوله تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ}. ونظير هذا قوله عليه السلام: «من سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أوزار هم شي» روي من حديث أبي هريرة وغيره.
وقال الحسن قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «من دعا إلى هدى فاتبع عليه وعمل به فله مثل أجور من اتبعه ولا ينقص ذلك من أجورهم شيئا وأيما داع دعا إلى ضلالة فاتبع عليها وعمل بها بعده فعليه مثل أوزار من عمل بها ممن أتبعه لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا» ثم قرأ الحسن {وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم}. قلت: هذا مرسل وهو معنى حديث أبي هريرة خرجه مسلم. ونص حديث أنس بن مالك عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «أيما داع دعا إلى ضلالة فاتبع فإن له مثل أوزار من اتبعه ولا ينقص من أوزارهم شيئا وأيما داع دعا إلى هدى فاتبع فإن له مثل أجور من اتبعه ولا ينقص من أجورهم شيئا» خرجه ابن ماجه في السنن.
وفي الباب عن أبي جحيفة وجرير. وقد قيل: أن المراد أعوان الظلمة.
وقيل: أصحاب البدع إذا اتبعوا عليها وقيل: محدثو السنن الحادثة إذا عمل بها من بعدهم. والمعنى متقارب والحديث يجمع ذلك كله.

.تفسير الآيات (14- 15):

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (15)}
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً} ذكر قصة نوح تسلية لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي ابتلى النبيون قبلك بالكفار فصبروا. وخص نوحا بالذكر، لأنه أول رسول أرسل إلى الأرض وقد امتلأت كفرا على ما تقدم بيانه في هود. وأنه لم يلق نبي من قومه ما لقي نوح على ما تقدم في هود عن الحسن وروي عن قتادة عن أنس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «أول نبي أرسل نوح» قال قتادة: وبعث من الجزيرة. وأختلف في مبلغ عمره. فقيل: مبلغ عمره ما ذكره الله تعالى في كتابه. قال قتادة: لبث فيهم قبل أن يدعوهم ثلاثمائة سنة ودعاهم ثلاثمائة سنة، ولبث بعد الطوفان ثلاثمائة وخمسين سنة.
وقال ابن عباس: بعث نوح لأربعين سنة، ولبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، وعاش بعد الغرق ستين سنة حتى كثر الناس وفشوا. وعنه أيضا: أنه بعث وهو ابن ميتين وخمسين سنة، ولبث فيهم ألف سنة إلا خمسين، وعاش بعد الطوفان مائتي سنة.
وقال وهب: عمر نوح ألفا وأربعمائة سنة.
وقال كعب الأحبار: لبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، وعاش بعد الطوفان سبعين عاما فكان مبلغ عمره ألف سنة وعشرين عاما.
وقال عون بن شداد: بعث نوح وهو ابن خمسين وثلاثمائة سنة، ولبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، وعاش بعد الطوفان ثلاثمائة سنة وخمسين سنة، فكان مبلغ عمره ألف سنة وستمائة سنة وخمسين سنة ونحوه عن الحسن. قال الحسن: لما أتى ملك الموت نوحا ليقبض روحه قال: يا نوح كم عشت في الدنيا؟ قال: ثلاثمائة قبل أن أبعث، وألف سنة إلا خمسين عاما في قومي، وثلاثمائة سنة وخمسين سنة بعد الطوفان. قال ملك الموت: فكيف وجدت الدنيا؟ قال نوح: مثل دار لها بابان دخلت من هذا وخرجت من هذا.
وروى من حديث أنس قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «لما بعث الله نوحا إلي قومه بعثه وهو ابن خمسين ومائتي سنة فلبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما وبقي بعد الطوفان خمسين ومائتي سنة فلما أتاه ملك الموت قال يا نوح يا أكبر الأنبياء ويا طويل العمر ويا مجاب الدعوة كيف رأيت الدنيا قال مثل رجل بنى له بيت له بابان فدخل من واحد وخرج من الآخر» وقد قيل: دخل من أحدهما وجلس هنيهة ثم خرج من الباب الآخر.
وقال ابن الوردي: بنى نوح بيتا من قصب، فقيل له: لو بنيت غير هذا، فقال: هذا كثير لمن يموت، وقال أبو المهاجر: لبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما في بيت من شعر، فقيل له: يا نبى الله بنبيتا فقال: أموت اليوم أو أموت غدا.
وقال وهب بن منبه: مرت بنوح خمسمائة سنة لم يقرب النساء وجلا من الموت.
وقال مقاتل وجويبر: إن أدم عليه السلام حين كبر ورق عظمه قال يا رب إلى متى أكد وأسعى؟ قال: يا أدم حتى يولد لك ولد مختون. فولد له نوح بعد عشرة أبطن، وهو يومئذ ابن ألف سنة إلا ستين عاما.
وقال بعضهم: إلا أربعين عاما. والله أعلم. فكان نوح بن لامك بن متوشلخ بن إدريس وهو أخنوخ بن يرد بن مهلائيل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم. وكان اسم نوح السكن. وإنما سمي السكن، لان الناس بعد آدم سكنوا إليه، فهو أبوهم. وولد له سام وحام ويافث، فولد سام العرب وفارس والروم وفي كل هؤلاء خير. وولد حام القبط والسودان والبربر. وولد يافث الترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج. وليس في شيء من هؤلاء خير.
وقال ابن عباس: في ولد سام بياض وأدمة وفي ولد حام سواد وبياض قليل.
وفي ولد يافث- وهم الترك والصقالبة- الصفرة والحمرة. وكان له ولد رابع وهو كنعان الذي غرق، والعرب تسميه يام. وسمي نوح نوحا لأنه ناح عن قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، يدعوهم إلى الله تعالى، فإذا كفروا بكى وناح عليهم. وذكر القشيري أبو القاسم عبد الكريم في كتاب التخبير له: يروى أن نوحا عليه السلام كان اسمه يشكر ولكن لكثرة بكائه على خطيئته أوحى الله إليه يا نوح كم تنوح فسمي نوحا، فقيل: يا رسول الله فأي شيء كانت خطيئته؟ فقال: «إنه مر بكلب فقال في نفسه ما أقبحه فأوحى الله إليه أخلق أنت أحسن من هذا».
وقال يزيد الرقاشي: إنما سمي نوحا لطول ما ناح على نفسه. فإن قيل: فلم قال: {أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً} ولم يقل تسعمائة وخمسين عاما. ففيه جوابان: أحدهما- أن المقصود به تكثير العدد فكان ذكره الالف أكثر في اللفظ وأكثر في العدد.
الثاني- ما روى أنه أعطى من العمر ألف سنة فوهب من عمره خمسين سنة لبعض ولده، فلما حضرته الوفاة رجع في استكمال الالف، فذكر الله تعالى ذلك تنبيها على أن النقيصة كانت من جهته. {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ} قال ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة: المطر. الضحاك: الغرق.
وقيل: الموت. روته عائشة رضي الله عنها عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ومنه قول الشاعر:
أفناهم طوفان موت جارف قال النحاس: يقال لكل كثير مطيف بالجميع من مطر أو قتل أو موت طوفان. {وَهُمْ ظالِمُونَ} جملة في موضع الحال و{أَلْفَ سَنَةٍ} منصوب على الظرف {إِلَّا خَمْسِينَ عاماً} منصوب على الاستثناء من الموجب. وهو عند سيبويه بمنزلة المفعول، لأنه مستغنى عنه كالمفعول. فأما المبرد أبو العباس محمد بن يزيد فهو عنده مفعول محض. كأنك قلت استثنيت زيدا. تنبيه- روى حسان بن غالب بن نجيح أبو القاسم المصري، حدثنا مالك بن أنس عن الزهري عن ابن المسيب عن أبى بن كعب قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «كان جبريل يذاكرنى فضل عمر فقلت يا جبريل ما بلغ فضل عمر قال لي يا محمد لو لبثت معك ما لبث نوح في قومه ما بلغت لك فضل عمر» ذكره الخطيب أبو بكر أحمد بن ثابت البغدادي. وقال: تفرد بروايته حسان بن غالب عن مالك وليس بثابت من حديثه. قوله تعالى: {فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ} معطوف على الهاء. {وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ} الهاء والألف في {جَعَلْناها} للسفينة، أو للعقوبة، أو للنجاة، ثلاثة أقوال.

.تفسير الآيات (16- 19):

{وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19)}
قوله تعالى: {وَإِبْراهِيمَ} قال الكسائي: {وَإِبْراهِيمَ} منصوب ب {أنجينا} يعني أنه معطوف على الهاء. وأجاز الكسائي أن يكون معطوفا على نوح والمعنى وأرسلنا إبراهيم. وقول ثالث: أن يكون منصوبا بمعنى وأذكر إبراهيم. {إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ} أي أفردوه بالعبادة. {وَاتَّقُوهُ} أي اتقوا عقابه وعذابه. {ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} أي من عبادة الأوثان {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}. قوله تعالى: {إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً} أي أصناما. قال أبو عبيدة: الصنم ما يتخذ من ذهب أو فضة أو نحاس، والوثن ما يتخذ من جص أو حجارة. الجوهري: الوثن الصنم والجمع وثن وأوثان مثل أسد وآساد. {وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} قال الحسن: معنى {تَخْلُقُونَ} تنحتون، فالمعنى إنما تعبدون أوثانا وأنتم تصنعونها.
وقال مجاهد: الافك الكذب، والمعنى تعبدون الأوثان وتخلقون الكذب. وقرأ أبو عبد الرحمن: {وتخلقون}. وقرئ: {تخلقون} بمعنى التكثير من خلق و{تخلقون} من تخلق بمعنى تكذب وتخرص. وقرئ: {إفكا} وفية وجهان: أن يكون مصدرا نحو كذب ولعب والافك مخففا منه كالكذب واللعب. وأن يكون صفة على فعل أي خلقا إفكا أي ذا إفك وباطل. و{أَوْثاناً} نصب ب {تَعْبُدُونَ} و{ما} كافة. ويجوز في غير القرآن رفع أوثان على أن تجعل {ما} اسما لآن {تَعْبُدُونَ} صلته، وحذفت الهاء لطول الاسم وجعل أوثان خبر إن. فأما {وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} فهو منصوب بالفعل لا غير. وكذا {لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ}
أي أصرفوا رغبتكم في أرزاقكم إلى الله فإياه فاسألوه وحده دون غيره. {وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ} فقيل: هو من قوله إبراهيم أي التكذيب عادة الكفار وليس على الرسل إلا التبليغ. قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ} قراءة العامة بالياء على الخبر والتوبيخ لهم، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم. قال ابو عبيد: لذكر الأمم كأنه قال أو لم ير الأمم كيف. وقرأ أبو بكر والأعمش وابن وثاب وحمزة والكسائي: {تروا} بالتاء خطابا، لقول: {وَإِنْ تُكَذِّبُوا}. وقد قيل: {وَإِنْ تُكَذِّبُوا} خطاب لقريش ليس من قول ابراهيم. {ثُمَّ يُعِيدُهُ} يعني الخلق والبعث.
وقيل: المعنى أو لم يروا كيف يبدئ الله الثمار فتحيا ثم تفني ثم بعيدها أبدا. وكذلك يبدأ خلق والإنسان ثم يهلكه بعد أن خلق منه ولدا، وخلق من الولد ولدا. وكذلك سائر الحيوان. أي فإذا رأيتم قدرته على الإبداء والإيجاد فهو القادر على الإعادة {إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} لأنه إذا أراد أمرا قال له كن فيكون.