فصل: الباب الأول: الكتاب والسنة عقيدة ومنهجا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة (نسخة منقحة)



.الباب الأول: الكتاب والسنة عقيدة ومنهجا:

.الكتاب والسنة عقيدة:

1- بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في عصر قد انطمست فيه معالم الإيمان بالحق تبارك وتعالى:
أ- فالعرب يعتقدون في وجود الله، وأنه خالق الكون، ومنزل المطر، ولكن هذا الإله في نظرهم لا يستطيع إحياءهم بعد الموت، وليست له غاية من خلق الناس غير هذه الدنيا التي خلقهم فيها، فليس هناك قيامة ولا حساب، ثم هو إله كملوك الأرض يتوسل إليه من أجل الرزق والمطر، والنصر على الأعداء بكل حبيب عنده كالملائكة والصالحين.
ب- وأما النصارى فقد درس دينهم الحق، ولم يبق عليه إلا أفراد قلائل، وأما الكثرة الغالبة فقد اعتقدت أن عيسى هو الله أو ابن الله- تعالى ربنا عما يقولون- وجعلوا علماءهم ورهبانهم أربابًا، ينفذون أقوالهم في كل شيء، ولو خالف ذلك نصوص الكتاب عندهم، ورفعوا الصالحين منهم إلى منزلة التقديس والتأليه.
ج- وأما اليهود فقد غالوا في تشبيه الله بخلقه، ونسبوا إليه كل القبائح التي تنسب إلى البشر من الكذب والبخل، والغفلة، وعدم العلم بالمستقبل.
د- وفي بلاد فارس والهند عاشت فلسفات كثيرة، كل فلسفة تصور معبودها بصورة تروق في عقل قائلها:
- ففلسفة نادت بإلهين للعالم: إله للنور وآخر للظلمة، وزعمت صراعًا بينهما، ودعت الناس إلى مساعدة إله الخير والنور، بإشعال النيران لينتصر الحق على الباطل.
- وفلسفة نادت بخالق للكون، يجب على الإنسان أن يجاهد نفسه بصنوف من المجاهدات حتى يفنى فيه ويلتحق به، ولا تنسخ روحه مرة ثانية بعد الموت إلى هذا العالم.
- وفلسفة نادت بالوجود الكلي لذات واحدة، تعددت وجوداتها بتعدد صفاتها، ولهج الشعراء والكتاب من الفرس بحب هذه الذات التي تتراءى لهم في كل شيء، وتظهر لهم في كل موجود.
هـ- وفي اليونان ظهرت فلسفات كثيرة نادى معظمها بخالق للكون سموه واجبًا للوجود أو علة للعلل، عنه نشأ العالم وصدر، ولكن هذه الفلسفة وقفت حائرة عاجزة أمام الغاية والهدف الذي من أجله خلق هذا الخالق الكون، والنهاية التي يسير إليها الناس.
2- وكل هذه الفلسفات السابقة كانت محاولات بشرية لمعرفة الغيب، وما وراء هذا العالم المشاهد، وبديهي أن تنتهي هذه المحاولات البشرية بالإخفاق الذريع، إذ لا سبيل للبشر إلى معرفة الغيب إلا الظن والحدس والتخمين، أو الجن والشياطين.
3- بعث الله رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم ليرشد كل أولئك الحيارى الضالين إلى ربهم وخالقهم سبحانه وتعالى، وليعلمهم الحكمة التي من أجلها خلقهم، والغاية التي إليها يسيرون، والمنهج الذي يحبه الله لعباده ويرضاه لهم.
4- وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس الدليل الكامل على أنه رسول من الله تبارك وتعالى يأتيه الوحي من السماء، فقال لهم: هذا كلام الله، أقرؤه عليكم، وإن لم تصدقوني فأتوا بسورة واحدة من مثله.
5- وكان على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يواجه كل هذا الركام من الأفكار والعقائد والمذاهب والفلسفات، وأن يقيم الحجة والبرهان على فسادها جميعًا، وصحة ما يدعو هو الناس إليه، وكانت المعركة عقائدية.
6- وتركزت هذه الحرب حول أصلين اثنين يتفرع عنهما فروع كثيرة:
أ- فالأصل الأول هو توحيد الله وحده، وهذا يعني أنه الإله الخالق وحده، المعبود وحده، الذي لا يشاركه في صفاته وأفعاله أحد سبحانه وتعالى، والذي يتصف بكل صفات الكمال والجمال والجلال، وينتفي عنه أضداد ذلك.
ب- والأصل الثاني هو توحيد الطريق إليه، فلا يحكم في شؤون الناس غيره، ولا يتقرب إليه بما شرع هو سبحانه وتعالى، وكان هذا هو معنى: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فلا إله إلا الله: الأصل الأول، ومحمد رسول الله: الأصل الثاني.
7- ولقد نُوزع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذين الأصلين:
أ- فأما المشركون من العرب فقالوا: {أجعل الآلهة إلهًا واحدًا إنَّ هذا لشيءٌ عُجابٌ} [الزمر: 3] وقالوا عن آلهتهم: {ما نعبُدهم إلاّ ليقربونا إلى الله زُلفى} [الزمر: 3] وقالوا: {هؤلاءِ شُفعاؤُنا عندَ اللهِ} [يونس: 18].
وكان رد الله تبارك وتعالى: قل: {لَو كانَ فيهِما آلهَةٌ إلا اللهُ لفسدَتا} [الأنبياء: 22]، {قُل للهِ الشَّفاعَة جميعًا} [الزمر: 44].
وعن الأصل الثاني: قال تعالى هادمًا تشريعاتهم الباطلة في الحلال والحرام والتقرب: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} [الشورى: 21].
ب و ج- وأما اليهود والنصارى فزعمت كل طائفة أن طريقها هو الصواب، وأن معبودها هو الحق، وأن الجنة خالصة لهم من دون الناس، فكان رد الله تبارك وتعالى: {قل إن هدى الله هو الهدى} [البقرة: 120]، {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} [آل عمران: 31].
والقرآن كله بيان لجهاد الرسول صلى الله عليه وسلم مع هذه الطوائف الثلاث في شأن هذين الأصلين.
8- وآمن بالرسول صلى الله عليه وسلم رجال أخلصوا دينهم لله، فأحبوه وآثروه على كل شيء، وأحبوا رسوله صلى الله عليه وسلم وافتدوه بأرواحهم وأنفسهم، وبذلوا الجهد في متابعته وطاعته، وفي تنزيه الله وتقديسه وعبادته، وتحققوا بهذين الأصلين، وقاموا بها خير قيام حتى أثنى عليهم الحق سبحانه وتعالى في آيات كثيرة من كتابه. من ذلك قوله جل وعلا:
{محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدًا يبتغون فضلًا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود...} الآية [الفتح: 29]، فرضي عنهم سبحانه ورضوا عنه، وعرفوه حق معرفته، وقاموا بدينه خير قيام.
وأثنى عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» (رواه الشيخان وغيرهما عن ابن مسعود، وغيرهم عن غيره)، وشهد لأفراد منهم بالجنة والفضل، وكان من هؤلاء أبو بكر الصديق رضي الله عنه الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وزنت بالأمة فرجحت، ووزن أبو بكر بالأمة- لست فيها- فرجح، ووزن عمر بالأمة- لست فيها وأبو بكر- فرجح» (رواه أحمد (2/76) بنحوه وإسناد ضعيف، فيه عبيد الله بن مروان أورده ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل- 5/334) ولم يحك فيه جرحًا ولا تعديلًا، وذكره ابن حبان في الثقات، وفيه أيضًا أبو عائشة أورده صاحب (الجرح والتعديل- 9/417) ولم يحك فيه كذلك جرحًا ولا تعديلًا، وعلى هذا فهما مجهولان وباقي رجاله ثقات. وروى أحمد (5/44 و 50) وأبو داود (4634) والترمذي (2389- تحفة) وصححه، كلهم عن أبي بكرة أن أحد الصحابة رأى في منامه أن ميزانًا دلي من السماء، فوزن به النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، فرجح النبي صلى الله عليه وسلم ثم وزن به أبو بكر وعمر، فرجح أبو بكر، ثم وزن عمر وعثمان، فرجح عمر، ثم رفع الميزان. وقد قواه أستاذنا الألباني في (تخريج المشكاة- 3/233) بطريقيه).
وقال: [لو كان نبي بعدي لكان عمر] (رواه بنحوه أحمد (4/154) والترمذي (2/293) وحسنه والحاكم (3/85) وصححه وغيرهم، كلهم عن عقبة بن عامر مرفوعًا، وحسنه أستاذنا الألباني في (السلسلة الصحيحة- 327) وفي (صحيح الجامع- 5160)، وقال لبلال: «إني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة» (رواه البخاري (3/376)- من الفتح) وأحمد (2/333 و439) عن أبي هريرة، ولفظ البخاري: قال النبي صلى الله عليه وسلم لبلال عند صلاة الفجر: «يا بلال، حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة» قال: ما عملت عملًا أرجى عندي أني لم أتطهر طهورًا في ساعة ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي. ودف النعل هو صوت حركتها الخفيف وسيرها اللين)، ونحو ذلك كثير جدًا.
9- ومع ذلك فقد حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم طيلة حياته على بقاء أصلي التوحيد: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، نقيين صافيين، فما كان يسمح بتاتًا يخدش هذين الأصلين، ولو من أحب الناس لديه وآثرهم عنده صلى الله عليه وسلم.
ومن الأدلة على ذلك:
أ- أنه رأى يومًا بيد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ورقة من التوراة، وكان عمر قد أعجبه ما فيها، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبا ًشديدًا، وقال لعمر: «أهذا وأنا بين أظهركم، لقد جئتكم بها بيضاء نقية.. والله لو كان موسى حيًا لما وسعه إلا أن يتبعني» (رواه بنحوه الإمام أحمد في مسنده (3/387) والبيهقي في شعب الإيمان، والدارمي (1/115- 116) بأتم منه، قال أستاذنا الألباني في (تخريج المشكاة- 1/63): وفيه مجالد بن سعيد، وفيه ضعف، ولكن الحديث حسن عندي لأن له طرقًا كثيرة عند اللالكائي والهروي وغيرهما، وقد خرجت بعضها في (الإرواء- 1589)، وفي هذا الحديث من الفقه:
أولا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم تعجب أن يبدأ الاهتداء بغير الكتاب والسنة وهو ما زال حيًا. ومن مقتضى الإيمان بالكتاب والسنة أن يعتقد أن الهدي فيهما وحدهما.
وثانيا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد جاء بالدين نقيًا خالصًا، لم تشبه شائبة من تغيير أو تبديل أو تحريف، والصحابة يتلقونه غضًا طريًا خالصًا، فكيف ينصرفون عنه ويهتدون بما شابه التحريف والتبديل والزيادة والنقص.
وثالثًا: أن موسى عليه السلام نفسه الذي نزلت عليه التوراة لو أنه حي موجود لكان اللازم في حقه هو متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وترك شريعته التي بلغها للناس.
وهذا الحديث أصل في بيان منهج الكتاب والسنة، وأنه لا يجوز لأحد أن يهتدي بعلم يقرب إلى الله، ويصلح النفس غير الذي بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لو كان أصله من شريعة منزلة علي أحد الأنبياء السابقين.
ب- والدليل الثاني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع خطيبًا يخطب بين يديه فكان مما قاله: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بئس خطيب القوم أنت، قل: ومن يعص الله ورسوله فقد غوى» (رواه مسلم 6/159- بشرح النووي) وأحمد (4/256 و379).
فهذا الخطيب قد قاطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبَّح قوله أمام الناس، والسبب أنه جمع بين الله ورسوله في ضمير واحد (ومن يعصهما) فأمره الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يعيد ذكر الإسم الظاهر لله ولرسوله، حتى لا يُظن ولو من بعيد أن منزلة الرسول كمنزلة الله عز وجل . وهذا الحرص من الرسول صلى الله عليه وسلم دليل على وجوب صون جناب توحيد الله تبارك وتعالى صونًا كاملًا، ووجوب التفريق التام بين ما يجب لله عز وجل وما يجب لرسوله صلى الله عليه وسلم.
ج- والدليل الثالث أن عثمان بن مظعون رضي الله عنه وكان من خيار الصحابة، لما توفي، وحضر عنده الرسول صلى الله عليه وسلم سمع الصحابية الجليلة أم العلاء تقول: شهادتي عليك أبا السائب أن الله قد أكرمك.. فرد الرسول صلى الله عليه وسلم قائلًا: «وما يدريك أن الله قد أكرمه؟» وكان هذا تنبيهًا عظيمًا من الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه الصحابية بأنها قد حكمت بحكم غيبي، وهذا لا يجوز، لأنه لا يطلع على الغيب إلا الله عز وجل ولكنها ردت قائلة: سبحان الله يا رسول الله!! ومن يكرم الله إذا لم يكرمه؟ أي إذا لم يكن عثمان بن مظعون رضي الله عنه ممن يكرمهم الله تبارك وتعالى فمن بقي منا حتى يكرمه الله تبارك وتعالى.
وهذا رد في غاية البلاغة والفهم. ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد عليها بما هو أبلغ من ذلك حيث قال لها: «والله إني لرسول الله لا أدري ما يفعل بي غدًا»، وكان هذا نهاية الأمر وحسمه، فالرسول بنفسه وهو من هو صلوات الله وسلامه عليه يجب أن يظل خائفًا مترقبًا {يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه} [الزمر: 9]. وهنا وصلت أم العلاء إلى الحقيقة الشرعية العظيمة فقالت: والله لا أزكي بعده أحدًا أبدًا رواه البخاري (3/358 و6/223 و224 و8/266 و6/49 و69- من الفتح) وأحمد (6/436) عن أم العلاء الأنصارية بنحوه).
وهذا الأصل مقرر في الشريعة في آيات وأحاديث كثيرة، منها قوله تبارك وتعالى: {ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلًا * انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا} [النساء 49: 50] ومنها قوله: {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا} [النساء: 123]، وكان هذا ردًا على اليهود الذين قالوا: نحن أهل الجنة، ونحن شعب الله المختار، وردًا على النصارى الذين قالوا: بل نحن أهل الجنة، لأننا أتباع ابن الله المخلص للبشر من خطيئتهم، ورد أيضًا على المسلمين الذين قالوا: بل نحن أهل الجنة لأننا أتباع رسوله محمد خاتم الرسل والموحدين، فأخبر تعالى أن الجنة ليست بالأماني، وإنما بالعمل الصالح، وأن من عمل سوءًا يجز به، ولا تنفعه نسبته وروي في الحديث: «من قال أنا في الجنة فهو النار» (فيه إشارة إلى ضعفه، وقد أورده الحافظ السخاوي في المقاصد الحسنة ص423 ضمن الحديث على حديث: «من قال: أنا مؤمن فهو كافر، ومن قال: أنا عالم فهو جاهل» وعزاه إلى (المعجم الصغير للطبراني عن يحيى بن أبي كثير) وقال: وسنده ضعيف، وهو عند الديلمي في مسنده عن جابر بسند ضعيف جدًا، ورواه الحارث بن أبي أسامة من جهة قتادة عن عمر بن الخطاب موقوفًا عليه، وهو منقطع).
د- والدليل الرابع أن رجلًا جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال له: ما شاء الله وشئت فقال له صلى الله عليه وسلم: «أجعلتني لله ندًا؟ قل: ما شاء الله وحده» (رواه أحمد (1/214 و224 و283 و347) والبخاري في (الأدب المفرد- 783) وغيرهما، وأورده أستاذنا الألباني في (السلسلة الصحيحة- 138) وعزاه إلى مخرجيه وحسنه)، فجعل صلى الله عليه وسلم المشيئة لله وحده، حتى يُعلّم المؤمنين أن لا مشيئة لأحد مع مشيئة الله تبارك وتعالى.
هـ- وأما الدليل الخامس فهو أن بعض الصحابة رضوان الله عليهم مروا في أثناء خروجهم إلى هوازن بعد فتح مكة على شجرة، كان المشركون يعلقون عليها سيوفهم، ظانين أنه من فعل ذلك حالفه النصر في معاركه مع العدو، فقالوا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. أي شجرة ينوطون بها أسلحتهم. فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: «قلتم والذي نفسي بيده كما قال بنو إسرائيل لموسى: {اجعل لنا إلهًا كما لهم ءَالِهَةٌ..}» [رواه الإمام أحمد في مسنده] (5/218) والترمذي في (سننه- 6/407 و408- تحفة) وقال: حديث حسن صحيح، قلت: وإسناده صحيح كما قال، ورجاله رجال الستة غير سنان بن أبي سنان فلم يرو له أبو داود وابن ماجة)، فبين صلى الله عليه وسلم أن هذا من عمل المشركين، وأن مشابهتهم في هذا شرك بالله تبارك وتعالى إذ طلب البركة والنصر من غير الله عز وجل شرك به تعالى.
10- والأدلة السابقة كلها لبيان أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان ليسمح بتاتًا بخدش الأصل الأصيل في الإسلام، وهو توحيد الله عز وجل والقول عليه بلا علم. وأخذ الهداية من غيره سبحانه وتعالى، وغير رسوله صلى الله عليه وسلم.
11- وقد سدَّ رسول الله صلوات الله وسلامه عليه باب العرافة والكهانة وادعاء علم الغيب، وأخبر صلى الله عليه وسلم أن مدعي ذلك كافر، وأن من صدَّق عرافًا أو كاهنًا فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وقد سئل صلى الله عليه وسلم عن العرافين فقال: «ليسوا بشيء» هكذا بنفي قيمتهم وتحقيرهم، فقال له أصحابه رضوان الله عليهم: ولكنهم يخبروننا أحيانًا بالأمر، فيكون كما قالوا، فأخبرهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن الشياطين تركب بعضها بعضًا وتصل إلى العنان، وتسمع الملائكة تتكلم بالأمر من أمر الله تعالى، فيتعلمونه منهم، فيرسل الله عليهم الشهب، فيلحقهم الشهاب أحيانًا فيحرقهم، وأحيانًا يلقون الكلمة إلى من هو أسفل منهم قبل الشهاب، فيكذب الشيطان مع هذه الكلمة مئة كذبة، فلذلك يصدق أولياء الشياطين من الإنس مرة، ولكنهم يكذبون كثيرًا (رواه مسلم في صحيحه 14/225- نووي) ولفظه: قالت عائشة: سأل أناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكهان، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليسوا بشيء». قالوا: يا رسول الله، فإنهم يحدثون أحيانًا الشيء يكون حقًا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه قر الدجاجة، فيخلطون فيها أكثر من مئة كذبة»، وأما صعود الشياطين إلى السماء لاستراق السمع، وقذفهم بالشهب فقد ورد في حديث آخر رواه البخاري في عدة مواضع من صحيحه، منها كتاب التفسير (9/452- فتح) عن أبي هريرة، وعزاه ابن كثير إلى أبي داود والترمذي وابن ماجة أيضًا. كما ورد مثله في حديث رواه مسلم في صحيحه (7/36 و37- نووي) وأحمد وغيرهما عن ابن عباس عن رجل من الأنصار).
12- ولما شك الصحابة في (ابن صياد اليهودي) الذي كان يسكن المدينة، وظنوه الدجال الذي حدث عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ الرسول معه جماعة وزاره في منزله قال له الرسول مختبرًا: «لقد خبأت لك خبئًا»..
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أضمر في نفسه (سورة الدخان) فسأله الرسول عما في نفسه، فقال عدو الله: (هو الدخ) ولم يستطع أن يكمل الكلمة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اخسأ فلن تعدو قدرك». أي لن تتعدى كونك كاهنًا تتصل بالجن. ولذلك قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف ترى؟» قال: يأتيني أحيانًا صادق وكاذب. أي تأتيه أخبار من الشيطان صادقة أحيانًا، وكاذبة أخرى، فقال رسول الله: «لقد لُبِّس عليه» (رواه بنحوه مطولًا البخاري (3/462 و6/512 و13/180- من الفتح) ومسلم (17/46 و58- بشرح النووي) وغيرهما).
وفي هذا الحديث دليل على أن الشيطان من الممكن أن يطلع على ما في نفس المؤمن، ويخبر وليه من الإنس، وأننا مأمورون ألا نصدق من الغيب إلا ما أتانا من طريق الله، ومن طريق رسوله صلى الله عليه وسلم فقط.
وكل هذه الأدلة التي ذكرناها، وغيرها لا يحصى، إنما كانت لتثبت الجانب العقائدي الإيماني في دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وبيان أن العقيدة والإيمان بالغيب مصدره الله تبارك وتعالى وأنه لا يجوز لمسلم بتاتًا أن يتخذ طريقًا آخر للغيب يتلقى عنه، وأن من فعل ذلك فقد خرج من الإيمان بالله تعالى.