فصل: القول بأن للدين ظاهرًا وباطنًا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة (نسخة منقحة)



.الإمامة الشيعية والولاية الصوفية:

ما زعمه الشيعة في أئمتهم هو عين ما ادعاه المتصوفة فيمن سموهم بالأولياء أيضًا. فقد بني مذهب الرفض على أن الأئمة أناس مختارون من قبل الله سبحانه وتعالى لقيادة الأمة بعد الرسول، وأنهم لذلك يملكون علومًا خاصة لدنية، وهم لذلك لا يخطئون ولا ينسون ولهم منزلتهم من الله التي استحقوها استحقاقًا ووهبًا واختصاصًا واجتباءً ثم غلوا في هؤلاء الأئمة فجعلوهم آلهة أربابًا بكل ما تحمله الكلمة من معان فهم متصرفون في كل ذرات الكون، وهم يدخلون الجنة من شاءوا ويدخلون النار من شاءوا، ومن الرافضة من جعل روح الله حالة فيهم كما قالت الإسماعيلية والنصيرية، ومنهم من جعل منزلتهم فوق منازل الأنبياء والرسل والملائكة جميعًا وقال: إن لأئمتنا مقامًا لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل وأنهم يتحكمون في قرارات هذا الكون. (الخميني في الحكومة الإسلامية ص54).
* وهذه العقائد نفسها هي التي أخذها المتصوفة وأطلقوها على من سموهم بالأولياء فكما خلع الرافضة صفات الألوهية والربوبية على الأئمة خلع المتصوفة صفات الربوبية والألوهية على الأولياء المزعومين. فجعلوهم أيضًا متصرفين في الكون أعلاه وأسفله ويعلمون الغيب كله، ولا يغرب عنهم صغير من أمر العالم أو كبير، وأن مقامهم لا يبلغه الأنبياء والملائكة، وأنهم نواب الله في مملكته والمتصرفون في شأن خلقه، وأنهم يدخلون الجنة من شاءوا ويخرجون من النار من شاءوا.
* وإذا كان الرافضة قد جعلوا بعد مقام الإمامة مقامات أقل من ذلك كالنقباء وهم وكلاء الإمام.. وهذه الفكرة نفسها قد أخذها المتصوفة وجعلوا مقام الولي الأعظم وسموه القطب الغوث، ثم يليه الأقطاب الثلاثة ثم يليه الأبدال السبعة ثم النجباء السبعون وهكذا.. مقتبسين كل ذلك من الترتيب الشيعي للولاة والأئمة.. وهكذا يتطابق الفكر والعقيدة الرافضية في الإمامة مع العقيدة الصوفية في الولاية.
يقول ابن خلدون في المقدمة:
ثم إن هؤلاء المتأخرين من المتصوفة المتكلمين في الكشف وفيما وراء الحس توغلوا في ذلك، فذهب الكثير منهم إلى الحلول وفيما وراء الحس، توغلوا في ذلك، فذهب الكثير منهم إلى الحلول والوحدة.. وملأوا الصحف منه مثل الهروي في كتاب المقامات له، وغيره، وتبعهم ابن العربي وابن سبعين وتلميذهما، ثم ابن العفيف وابن الفارض، والنجم الإسرائيلي في قصائدهم، وكان سلفهم مخالطين للإسماعيلية المتأخرين من الرافضة الدائنين أيضًا بالحلول وإلهية الأئمة مذهبًا لم يعرف لأولهم فأشرب كل واحد من الفريقين مذهب الآخر واختلط كلامهم وتشابهت عقائدهم، وظهر في كلام المتصوفة القول بالقطب،ومعناه رأس العارفين يزعمون أنه لا يمكن أن يساويه أحد في مقامه في المعرفة حتى يقبضه الله، ثم يورث مقامه لآخر من أهل العرفان وقد أشار إلى ذلك ابن سينا في كتاب الإشارات في فصول التصوف منها فقال: جل جناب الحق أن يكون شرعه لكل وارد، أو يطلع عليه إلا الواحد بعد الواحد، وهكذا كلام لا تقوم عليه حجة عقلية ولا دليل شرعي، وإنما هو نوع من أنواع الخطابة، وهو بعينه ما تقوله الرافضة في توارث الأئمة عندهم، فانظر كيف سرقت طباع هؤلاء القوم هذا الرأي من الرافضة ودانوا به، ثم قالوا بترتيب وجود الأبدال بعد هذا القطب، كما قال الشيعة في النقباء، حتى إنهم لما أسندوا لباس خرقة التصوف ليجلوه أصلًا لطريقتهم ونحلتهم رفعوه إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو من هذا المعنى أيضًا، وإلا فعلي رضي الله عنه لم يختص بين الصحابة بنحلة ولا طريقة في لباس ولا رجال، بل كان أبو بكر وعمر رضي الله عنه ما أزهد الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثرهم عبادة ولم يختص أحد منهم في الدين بشيء يؤثر عنه على الخصوص بل كان الصحابة كلهم أسوة في الدين والزهد والمجاهدة.
تشهد بذلك سيرهم وأخبارهم. نعم إن الشيعة يخيلون بما ينقلون من اختصاص علي بالفضائل دون سواه من الصحابة ذهابًا مع عقائد التشيع المعروفة لهم، والذي يظهر أن المتصوفة بالعراق لما ظهرت الإسماعيلية من الشيعة وظهر كلامهم في الإمامة وما يرجع إليها مما هو معروف، فاقتبسوا من ذلك الموازنة بين الظاهر والباطن وجعلوا الإمامة السباق والخلق في الانقياد إلى الشرع، وأفردوه بذلك أن لا يقع اختلاف كما تقرر في الشرع (يشير ابن خلدون رحمه الله بذلك إلى ما هو معروف عن الرافضة في إثباتهم الإمامة أنه لا بد من إمام معصوم يليه إمام معصوم وهكذا السياسة الدين والدنيا بعد الرسول حتى لا يقع خلاف بين الناس، ولا يكون مرد أمرهم إلى الاجتهاد الذي لا يخلو من الخطأ.. ومعلوم فساد هذا القول لأنه ما معصوم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وهؤلاء الأئمة الذين قال الشيعة بعصمتهم قد وقع منهم، ما ينكره الشيعة أصلًا أو يقولون فعلوه تقية وخوفًا)، ثم جعلوا القطب لتعليم المعرفة بالله لأنه رأس العارفين، وأفردوه بذلك تشبيهًا بالإمام في الظاهر، وأن يكون على وزانه في الباطن.
وسموه قطبًا لمدار المعرفة عليه، وجعلوا الأبدال كالنقباء (الأبدال عند المتصوفة، والنقباء عند الشيعة. انظر الفصل الخامس بالولاية) مبالغة في التشبيه. فتأمل ذلك. يشهد بذلك كلام هؤلاء المتصوفة في أمر الفاطمي، وما شحنوا به كتبهم في ذلك مما ليس لسلف المتصوفة فيه كلام بنفي أو إثبات وإنما مأخوذ من كلام الشيعة والرافضة ومذاهبهم في كتبهم والله يهدي إلى الحق. (مقدمة ابن خلدون ص875- 877).
وهكذا يقرر ابن خلدون تطابق التصوف مع التشيع في القول بالعلوم الباطنية، ومراتب الولاية، والقول بالحلول والاتحاد.
ويقول الدكتور كامل الشيبي في كتابه (الصلة بين التصوف والتشيع):
وقد دخلت في التصوف فكرة إسماعيلية صريحة أخرى هي فكرة النقباء التي دارت- في الإسماعيلية- حول رجال عددهم اثنا عشر يسمون الحجج يبثون الدعوة في غيبة الإمام أو في حضرته وهم مقدسون وعددهم ثابت ويسندهم تكوين العالم الطبيعي كما يسند عدد الأئمة السبعة في السلسلة الواحدة، وقد بين لنا المقريزي أن هؤلاء الحجج متفرقون في جميع الأرض، عليهم تقوم. ويضيف أن عدد هؤلاء الحجج أبدًا اثنا عشر رجلًا. (خطط المقريزي ص489). وهكذا يشارك الحجة الإمام في العلم والدعوة والسند الإلهي ومن هنا نفذت الصوفية إلى منازل القطب والأبدال. وهذا ابن عربي يذكر، في الفتوحات، عن الصوفية ما ذكره المقريزي عن الإسماعيلية فيقول في النقباء: وهم اثنا عشر نقيبًا في كل زمان لا يزيدون ولا ينقصون على عدد بروج الفلك الاثني عشر. (الفتوحات المكية 2/9). وهذه الإشارة تكفي للدلالة على أخذ المتصوفة فكرة هذه المنازل المقدسة عن الإسماعيلية. ويجب أن نشير هنا إلى أن ابن تيمية قد تنبه إلى أن هذه المصطلحات ليست مأثورة عن النبي فكأنه يشير إلى أن الصوفية قد أخذوها عن الإسماعيلية الذين قالوا بها أول من قال. وقد تنبه ابن خلدون أيضًا إلى أخذ المتصوفة- وبخاصة ابن عربي- عن الإسماعيلية القول (بالقطب) وكذلك ابن قصي وعبدالحق بن سبعين وابن أبي واصل: تلميذه. (الصلة بين التصوف والتشيع ص209).

.القول بأن للدين ظاهرًا وباطنًا:

اتفقت أيضًا كلمة التصوف مع التشيع في أن للدين ظاهرًا وباطنًا، فالظاهر هو المتبادل من خلال النصوص والذي يفهمه العامة من ذلك، وأما الباطن فهو عندهم العلم الحقيقي المراد من النص وهذا لا يفهمه ولا يعلمه إلا الأئمة والأولياء.. فقوله تعالى مثلًا: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} [البقرة: 43]. أي أخرجوا زكاة أموالكم المفروضة حسب المقادير والنصاب الشرعي والشروط الشرعية لذلك.
ولكن الشيعة والمتصوفة زعموا أن ظاهر القرآن والحديث الذي يفهم منه العوام ما يفهمون لا يلزم الأئمة والأولياء لأن الأئمة والأولياء تتنزل عليهم المعاني المقصودة والمرادة من ذلك.. بل قال الشيعة: إن محمدًا جاء بالتنزيل وعليًا جاء بالتأويل. وزعموا أن الأئمة من بعده هم الذين يعلمون معاني القرآن الحقيقية، وللقرآن عندهم باطن وظاهر، فالظاهر للعامة، والباطن للخاصة، ولذلك (فأقيموا الصلاة) عندهم مثلًا يعني بايعوا الإمام المعصوم، (وآتوا الزكاة)، أي أخلصوا وانقادوا للإمام.. وهكذا تصبح الألفاظ والعبارات القرآنية لا مدلول لها.
ويمكن تفسيرها حسب الأهواء والأمزجة، لتوافق العقائد الباطنية التي يدعو بها هؤلاء وهؤلاء، وقد سمى المتصوفة تفسيرهم الباطن هذا للنصوص القرآنية (بالحقيقة) وسموا التفسير الظاهري (بالشريعة) وقالوا الحقيقة للأولياء، والشريعة للعامة..
وتصرفوا بعد هذا التقسيم في نصوص القرآن والحديث حسب أهوائهم، وأدخلوا في الدين ما شاءوا من مزاعمهم وافتراءاتهم. وأفقدوا النصوص الشرعية جلالها واحترامها، لأنهم أبعدوها بهذا التأويل عن المعاني الحقيقية التي سيقت من أجلها تمامًا، فما علاقة مثلًا تفسير {والتين} أن يكون هو الرسول، و{والزيتون} أن يكون هو علي بن أبي طالب {وطور سينين} أن يكون هو الحسن، و {هذا البلد الأمين} [التين: 3]. أن يكون الحسين، وهكذا وما علاقة قوله تعالى: {مرج البحرين يلتقيان} [الرحمن: 19]. أن يكون بالبحرين عليًا وفاطمة و {يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان} [الرحمن: 22]. الحسن والحسين؟!
وقد كتب الدكتور كامل الشيبي فصلًا مطولًا حول هذا المعنى في كتابه (الصلة بين التصوف والتشيع) من هذا قوله:
وقد أورد لنا الخوانساري أمثلة من هذه التأويلات كتأويل الوضوء بموالاة الإمام، والتيمم بالأخذ من المأذون عند غيبة الإمام الذي هو الحجة، والصلاة هي الناطق الذي هو الرسول بدليل قوله تعالى إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والاحتلام بإفشاء السر إلى غريب دون قصد، والغسل بتجديد العهد، والزكاة بتزكية النفس بمعرفة ما هم عليه من الدين، والكعبة بالنبي، والباب بعلي، والميقات والتلبية بإجابة المدعو، والطواف بالبيت سبعًا بموالاة الأئمة السبعة، والجنة براحة الأبدان عن التكاليف، والنار بمشقتها بمزاولة التكاليف (روضات الجنات ص731)، وتلك أحكام تعود بنا إلى الغلو الذي عرفناه أنه قرر أن الدين طاعة رجل وأن الصلاة والزكاة وغيرهما إنما هي كنايات عن رجال. ثم إن الإسماعيلية تجعل النقباء إلهيين أيضًا وإن كانوا من غير الأئمة وتسندهم بأن عددهم اثنا عشر رجلًا في كل زمان كما أن عدد الأئمة السبعة وأنهم مع كل إمام قائمون متفرقون في جميع الأرض عليهم تقوم (خطط المقريزي 2/231،233)، ثم يعين المقريزي مركز هؤلاء النقباء أو الحجج بأن مقامهم هو مقام الفاهم المطلع على أسرار المعاني وينص على أن ظهور أمر الإمام (إنما هو ظهور أمره ونهيه على لسان أوليائه) (خطط المقريزي 2/231،233). ويذكر أبو يعقوب السجستاني أن ميراث النبي من العلم يتحول إلى الوصي ومنه إلى الإمام ومن الإمام إلى الحجة (كشف المحجوب في شرح قصيدة الجرجاني ص65).
ثم تتضح المسألة أكثر باطلاعنا على النص الذي يورده المقريزي أيضًا من أن الإمام إنما وجوده في العالم الروحاني إذا صرنا بالرياضة في المعارف إليه. (خطط المقريزي 2/233). المعنى الذي يعبر عنه السجستاني الإسماعيلي بقوله: إن هذه العلوم لا تصل إلى مستحقيها بالرياضة ولو كان حبشيًا أو سنديًا. (كشف المحجوب ص92). وبذلك تتضح لنا فكرة السلوك الإسماعيلي الذي يتيح للمريد أن يصل إلى حقيقة التأويل عن طريق الرياضة العقلية التي بلغ بها النقيب أو الحجة ما بلغه الإمام من علم. ويوضح جولد تسيهر ذلك بأن الحقائق لا توجد إلا في المعاني الباطنة. أما المعاني الظاهرة فهي حجب مضطربة وأقنعة متناقضة. ومريدو الاندماج في الفرقة الإسماعيلية تزاح عنهم هذه الحجب والأقنعة بالقدر الذي يناسب استعداداتهم، ويتدرجون في هذا المضمار حتى تتهيأ لهم القدرة على مواجهة الحقائق وهي سافرة. (العقيدة والشريعة في الإسلام ص216). ولا بد أننا لاحظنا موازاة هذه المعاني للمثل والمبادئ الصوفية. وقد لاحظ ذلك جولد تسيهر فأورد لنا قصيدة لجلال الدين الرومي الشاعر الصوفي يفصح بها عن فكرتي الجانبين المعبرة عن حقيقة واحدة بقوله: اعلم أن آيات القرآن سهلة يسيره، ولكنها على سهولتها تخفي وراء ظاهرها معنى خفيًا مستترًا. ويتصل بهذا المعنى الخفي ثالث يحير ذوي الأفهام الثاقبة ويعييها والمعنى الرابع ما من أحد يحيط به سوى الله واسع الكفاية من لا شبيه له. وهكذا نصل إلى معان سبعة الواحد تلو الآخر، ولذا لا تتقيد يا بني بفهم المعنى الظاهري كما لم تر الشياطين في آدم إلا أنه مخلوق من الطين. فالمعنى الظاهري في القرآن شبيه بجسد آدم، فما نراه منه هو هيئته الظاهرة وليس روحه الخفية المستترة. (العقيدة والشريعة في الإسلام ص216)، وهذا السلوك يصف الإنسان بالعلم الإلهي إلى حد أن الإسماعيلية رآوه- كالمتصوفة- أن الأنبياء النطقاء أصحاب الشرائع إنما هم لسياسة العامة وأن الفلاسفة أنبياء حكمة الخاصة. (خطط المقريزي 2/223)، وذلك أن الفاطميين كانوا يتدرجون في دعوتهم فإذا تمكن المدعو من التعاليم الأولى أحالوه على ما تقرر في كتب الفلسفة من علم الطبيعيات وما بعد الطبيعة والعلم الإلهي وغير ذلك من أقسام العلوم الفلسفية، حتى إذا تمكن المدعو من معرفة ذلك كشف الداعي قناعه وقال: إن ما ذكر من الحدوث والأصول رموز إلى معاني المبادئ وتقلب الجواهر... (خطط المقريزي 2/232) والظاهر أن هذه الدرجات متأخرة جدت في بدء دولة الفاطميين وليست من أوائل عقائد الإسماعيلية. ويورد عبدالله عنان المراتب التسع في دار الحكمة التي أسسها الحاكم بأمر الله الفاطمي، ويذكر أن الطالب يلقن تعاليم الثنوية في المرتبة السابعة، وفي الثامنة تنقض كل صفات الألوهية والنبوة ويعلم الطالب أن الرسل الحقيقيين هم رسل العمل الذين يعنون بالشؤون الدنيوية كالنظم السياسية وإنشاء الحكومات المثلى، وفي التاسعة والأخيرة يدخل إلى حظيرة الأسرار ويعلم أن كل التعاليم الدينية أوهام محضة وأنه يجب ألا يتبع منها إلا ما هو لازم لحفظ النظام.. وأن إبراهيم وموسى والمسيح وغيرهم من الأنبياء ليسوا إلا رجالًا مستنيرين تفقهوا في المسائل الفلسفية. (الجمعيات السرية في الإسلام ص42). والواقع أن هذه النظرة المادية إلى المذهب الإسماعيلي تسلبه كل ما فيه من غنوصية وروحانية، فليس الأمر كذلك وإلا ما قامت له خلافة ولا حدثت في دولتهم طاعة، بل لقد وجدنا الفاطميين أخلص من غيرهم في عقيدتهم وأسرع إلى بذل النفس، ولا يكون البذل إلا بالعاطفة الفياضة والإيمان الذي لا يتزعزع، وكذلك يرى الأستاذ محمد كرد علي أن العقل عندهم هو حقيقة معبودهم. (الإسلام والحضارة العربية، دار الكتب 1936، 2/63)، ولكن أي عمل؟ إنه العقل الإلهي لا المادي وهذا ما يورده (فيليب حتي) من أن المريد يتدرج بتأن وهدوء في مراق بطيئة دقيقة حتى يعلو ذروة العقائد الباطنية الخفية بعد أن يكون قد أقسم على الكتمان، ومن هذه التعاليم والعقائد الباطنية فكرة نشوء الكون متجليًا عن الجوهر الإلهي وتناسخ الأرواح وحلول الألوهية في إسماعيل وانتظار رجعته مهديًا. والمراتب التي يتدرج فيها المريد سبع وقد تكون تسعًا، وهي تذكرنا بدرجات الماسونية اليوم. (تاريخ العرب 2/533). ومع تناول الباحثين لهذه الدرجات بالبحث على أنها قضية مسلمة فإن آدم متز يشكك في كل ما يقال عن درجات الإسماعيلية إلا ما يذكره ابن النديم من أنه كان عندهم سبع درجات من الأتباع خلافًا لما ذكره أخو محسن من درجات تسع. (الحضارة العربية في القرن الرابع 2/51). والمهم في الأمر أن كلًا من هذه الدرجات له كتاب خاص يلقى على الواصلين إليها، وكل كتاب يسمى البلاغ. والبلاغ السابع هو الذي فيه نتيجة المذهب والكشف الأكبر ويقول ابن النديم: إنه قرأه فوجد فيه أمرًا عظيمًا من إباحة المحظورات والوضع من الشرائع وأصحابها. (الفهرست ص282). وما دام الوضع من الشرائع وإباحة المحظورات مقصورة على الدرجة السابعة فإنها تعني- إن صح قول ابن النديم- أن المريد قد بلغ درجة الحلول وأن العقل الأول قد اتصل به فلم يعد ثمة مجال لإفهامه لماذا حرم كذا وأحل كذا لأنه صار بنفسه للتشريع، وتلك عقيدة وجدناها من قبل عند فرق الغلاة وليست هي جديدة على الإسماعيلية. ومن أهم ما يرد في هذا المقام تقرير محمد بن سرخ النيسابوري الإسماعيلي (المتوفى في القرن الخامس) أن ذلك اليوم هو يوم قوة العقل ودولته، فيه يتعلق بالنفس آثار القائم الذي يعيد للعقل إشراقه، وتعود إلى النفوس الفيوض الإلهية التي حجبت عنها من قبل. (شرح قصيدة ابن الهيثم الجرجاني، طهران 1955). وهذه المكانة في الإسماعيلية تقابلها في التصوف درجة المحو والاتحاد بحيث يقول الصوفي في صراحة: أنا الله، وقد رأينا أنها آتية من الغلاة أولًا ثم نظمتها الإسماعيلية وأصلتها وأسست فأخذتها الصوفية جاهزة، وقد رأينا في رسائل جابر بن حيان الإسماعيلي قوله: إن حدّ علم الباطن أنه العلم بعلل السنن وأغراضها الخاصة اللائقة بالعقول الإلهية، وقد وجدنا هذا التفاوت في العلم- من قبل- في هذه الرسائل أيضًا ووجدنا أن طبقات الناس الإلهيين تعد خمسًا وخمسين طبقة للواصلين لا سبعًا ولا تسعًا كما قال الفاطميون بعدئذ. وتبدأ هذه الدرجات بالنبي الإمام فالحجاب فالبسيط فالسابق فالتالي فالأساس.. حتى تنتهي بالناسك فالحياة فالناهي فذي الأمر الذي إذا ظهر فلا بدل منه إذ كان كل واحد منهم مندوبًا لأمر لا يخالطه فيه غيره. (الصلة بين التصوف والتشيع لكامل الشيبي ص205- 209). اهـ.. منه بلفظه.
ويقول أيضًا الدكتور أبوالعلاء العفيفي:
وترجع المقابلة بين الشريعة والحقيقة- في أصل نشأتها- إلى المقابلة بين ظاهر الشرع وباطنه. ولم يكن المسلمون في أول عهدهم بالإسلام ليقروا هذه التفرقة أو يكفروا فيها. ولكنها بدأت بالشيعة الذين قالوا إن لكل شيء ظاهرًا وباطنًا، وإن للقرآن ظاهرًا وباطنًا، بل لكل آية فيه وكل كلمة ظاهر وباطن. وينكشف الباطن للخواص من عباد الله الذين اختصهم بهذا الفضل وكشف لهم عن أسرار القرآن. ولهذا كانت لهم طريقتهم الخاصة في تأويل القرآن وتفسيره. ويتألف من مجموع التأويلات الباطنية لنصوص القرآن ورسوم الدين وما ينكشف للسالكين من معاني الغيب عن طرق أخرى مما أطلق عليه الشيعة اسم (علم الباطن) الذي ورثه النبي صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب- في زعمهم- وورثه علي أهل العلم الباطن الذين سموا أنفسهم بالورثة.
وقد اتبع الصوفية طريقة التأويل هذه واستعملوا فيها أساليب ومصطلحات الشيعة إلى حد كبير. ومما سبق تدرك مبلغ الصلة الوثيقة بين التصوف والتشيع الباطني. (التصوف والصورة الروحية في الإسلام).