فصل: القاعدة الأربعون: في دلالة القرآن على أصول الطب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: القواعد الحسان في تفسير القرآن



.القاعدة الثامنة والثلاثون: قد دلت آيات كثيرة على جبر المنكسر قلبه، ومن تشوفت نفسه لأمر من الأمور إيجاباً أو استحباباً:

وهذه قاعدة لطيفة، اعتبرها الباري وأرشد عباده إليها في عدة آيات.
منها: المُطلَّقة: فإنها لما كانت في الغالب منكسرة القلب حزينة على فراق بعلها، أمر الله بتمتعها على الموسع قدره وعلى المقتر قدره، متاعاً بالمعروف.
وكذلك من مات زوجها عنها، فإن من تمام جبر خاطرها: أن تمكث عند أهله سنة كاملة وصية ومتعة مرغّب فيها.
وكذلك أوجب الله للزوجة على الزوج النفقة والكسوة في مدة العدة، إن كانت رجعية، أو كانت حاملاً مطلقة.
وقال تعالى في سورة النساء: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً} [النساء: 8]، ويدخل الواجب والمستحب في مثل قوله في سورة الأنعام: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: من الآية 141].
وكذلك إخباره عن عقوبة أصحاب الجنة الذين أقسموا ليصرمنها مصبحين، وتواصوا أن لا يدخلنها اليوم عليهم مسكين.
وقال تعالى في سورة الإسراء: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء: 23- 24]، إلى قوله: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} [الإسراء: من الآية 26].
وقد ذكر الله جبره لقلوب أنبيائه وأصفيائه أوقات الشدائد وإجابته لأدعيتهم بتفريج الكربات. وأمر عباده بانتظار الفرج عند الأزمات.
فهذا أصل قد اعتبره الله، وأرشد إليه فينبغي للعبد أن يكون هذا على باله في وقت المناسبات ويعتبره عند وجود سببه.

.القاعدة التاسعة والثلاثون: في طريقة القرآن في أحوال السياسة الداخلية والخارجية:

طريقة القرآن في هذا أعلى طريقة، وأقرب إلى حصول جميع المصالح الكلية، وإلى دفع المفاس، ولو لم يكن في القرآن من هذا النوع إلا قوله تعالى في سورة آل عمران: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: من الآية 159]، وإخباره عن المؤمنين في سورة الشورى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: من الآية 38]، فالأمر مفرد ومضاف إلى المؤمنين، وفي الآية الأولى: قد دخلت عليه (ال) المفيدة للعموم والاستغراق، يعني أن جميع أمور المؤمنين وشئونهم واستجلاب مصالحهم واستدفاع مضارهم، معلقٌ بالشورى والتعاون على الاهتداء إلى الأمر الذي يجرون عليه في حل مشكلاتهم، وتدعيم سلطانهم وتجنيبهم الخلاف المفضي إلى تفكك قواهم وانحلال عراهم.
وقد اتفق العقلاء أن الطريق الوحيد للصلاح الديني والدنيوي هو طريق الشورى.
فالمسلمون قد أرشدهم الله أن يهتدوا إلى مصالحهم وكيفية الوصول إليها بأعمال أفكارهم مجتمعة، فإذا تعينت المصلحة في طريق سلكوه، وإذا تعينت المضرة في طريق تركوه، وإذا كان في ذلك مصلحة ومضرة، نظروا: أيها أقوى وأولى وأحسن عاقبة، وإذا رأوا أمراً من الأمور هو المصلحة ولكن ليست أسبابه عتيدة عندهم ولا لهم قدرة عليها نظروا بأي شيء تدرك الأسباب وبأي حالة تنال على وجه لا يضر.
وإذا رأوا مصالحهم تتوقف على الاستعداد بالفنون الحديثة والاختراعات الباهرة، سعوا لذلك بحسب اقتدارهم، ولم يملكهم اليأس والاتكال على غيرهم الملقي إلى التهلكة، وإذا عرفوا- وقد عرفوا- أن السعي لاتفاق الكلمة وتوحيد الأمة هو الطريق الأقوم للقوة المعنوية جدوا في هذا واجتهدوا، وإذا رأوا المصلحة في المقاومة والمهاجمة أو في المسالمة والمدافعة بحسب الإمكان، سلكوا ما تعينت مصلحته فيقدمون في موضع الإقدام، ويحجمون في موضع الإحجام، وبالجملة لا يدعون مصلحة داخلية ولا خارجية، دقيقة ولا جليلة إلا تشاوروا فيها، وفي طريق تحصيلها وتنميتها، ودفع ما يضادها وينقصها.
فهذا النظام العجيب الذي أرشدهم إليه القرآن: هو النظام الذي يصلح لكل زمان ومكان، ولكل أمة. ومن ذلك قوله في سورة الأنفال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: من الآية 60]، فهذه الآية تصرح بوجوب الاستعداد للأعداء بكل ما نستطيعه من قوة عقلية، ومعنوية ومادية، مما لا يمكن حصر أفراده، وفي كل وقت يتعين سلوك ما يلائم ذلك الوقت ويناسبه ومن ذلك قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: من الآية 71]، ونحوها من الآيات التي أرشد الله فيها إلى شدة التحرز من الأعداء، فكل طريق وسبب يتحرز به من الأعداء فإنه داخل في هذا، ولكل وقت لبوسه، ومن عجيب ما نبه إليه القرآن من النظام الوحيد، أن الله عاتب المؤمنين بقوله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 144]، فأرشد عباده إلى أنه ينبغي أن يكونوا بحالة من الحكمة واستقامة الأمور على طريقها، بحيث لا يزعزعهم عنها فَقْدُ رئيس وإن عظم.
وما يكون ذلك إلا بأن يستعدوا لكل أمر من أمورهم الدينية والدنيوية بعدة أناس، إذا فقد أحدهم قام مقامه غيره، وأن تكون الأمة متوحدة في إرادتها وعزمها ومقاصدها وجميع شئونها. قصدهم جميعاً أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن تقوم جميع الأمور بحسب قدرتهم.
وقال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، أي: اتقوا غضبه وعقابه بالقيام بما أمر به من كل ما فيه الخير والصلاح لكم جماعة ومنفردين، فكل مصلحة أمر الله بها وهي متوقفة في حصولها أو في كمالها على أمر من الأمور السابقة واللاحقة، فإنه يجب تحصيلها بحسب الاستطاعة. فلا يكلفهم الله ما لا يطيقون. وكذلك كل مفسدة ومضرة لا يمكن اجتنابها إلا بسلوك بعض الطرق السابقة واللاحقة فإنها داخلة في تقوى الله تعالى، وذلك بأسبابها، لازم الحق حق، والوسائل لها أحكام المقاصد.
كذلك كل ما نهاهم عنه، فإنه أعطاهم من القوى والأسباب ما يمكنهم من البعد عنه ومن الحلال ما يستغنون به. ومن الآيات الجامعة في السياسة قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} [النساء: 58]، والآية التي بعدها.
فالأمانات يدخل فيها أشياء كثيرة، من أجَلَّها: الولايات الكبيرة والصغيرة والمتوسطة، الدينية والدنيوية. فقد أمر الله أن تؤدى الأمانات إلى أهلها بأن يجعل فيها الأكْفاء لها، وكل ولاية لها أكْفاء مخصوصون. فهذا الطريق الذي أمر الله به في الولايات من أصلح الطرق لصلاح جميع الأحوال، فإن صلاح الأمور بصلاح المتولين والرؤساء فيها والمدبرين لها والعاملين عليها، فيجب تولية الأمثل فالأمثل: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26].
فصلاح المتولين للولايات الكبرى والصغرى عنوان صلاح الأمة وضده بضده.
ثم أرشدهم الله إلى الحكم بين الناس بالعدل الذي ما قامت السموات والأرض إلا به، فالعدل قوام الأمور وروحها، وبفقده تفسد الأمور كلها ويختل الميزان لكل شيء.
والحكم بالعدل من لازمه معرفة العدل في كل أمر من الأمور، فإن فهمت الأمة حقيقة العدل وعرفت حدوده وضعت كل شيء في موضعه، وكان المتولون للولايات هم الكمل من الرجال والأكْفاء للأعمال فَجَرَتْ تدابيرهم وأفعالهم على العدل والسداد، متجنبين للظلم والفساد، ترقت الأمة وصَلَحت أحوالها، وتمام ذلك في الآية الأخرى التي أمر الله فيها بطاعة ولاة الأمور بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، فهل يوجد أكمل وأغنى من هذه السياسة الحكيمة الرشيدة التي عواقبها أحمد العواقب؟.
ومن الآيات المتعلقة بالسياسة الشرعية: جميع الآيات التي شرع الله فيها الحدود على الجرائم، العقوبات على المتجرئين على حقوقه وحقوق عباده وهي في غاية العدالة والحسن وردع المجرمين والنكال والتخويف لأهل الشر والفساد، وتطهير المجتمع من فسادهم، وتنقيته من جرائمهم صيانة لدماء الخلق وأموالهم وأعراضهم.
والآيات التي فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتكلم بالحق مع من كان وفي أي حال من الأحوال.
وكذلك ما فيها من النهي عن الظلم فيه إرشاد لإعطاء الناس الحرية النافعة التي معناها التكلم بالحق، والدعوة إلى الصالح للأمة، وفي الأمور التي لا محظور فيها، كما أن الحدود والعقوبات والنهي عن الكلام القبيح والفعل القبيح فيها رد الحرية الزائفة الكاذبة الباطلة التي يتشدق بها الحمقى والسفهاء الذي عموا وصموا، فلا يرون ما حل بأمم الغرب من الدمار من ثمرات هذه الحرية الفاجرة الخاسرة. إن ميزان الحرية الصحيحة النافعة هو ما أرشد إليه القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم.
وأما إطلاق عِنان الجهل والظلم والأقوال الضارة المحللة للأخلاق، فإن من أكبر أسباب الشر والفساد، المؤدية إلى الفوضى المحضة وانحلال الأخلاق التي هي قوام كل أمة.
فنتائج الحرية الصحيحة أحسن النتائج، ونتائج الحرية الفاسدة أقبح النتائج، فالشارع فتح الباب للأولى، وأغلقه عن الثانية، تحصيلاً للمصالح ودفعاً للمضار والمفاسد، والله أعلم.

.القاعدة الأربعون: في دلالة القرآن على أصول الطب:

أصول الطب ثلاثة: حفظ الصحة باستعمال الأمور النافعة، والحمية من الأمور الضارة، ودفع ما يعرض للبدن من المؤذيات.
ومسائل الطب كلها تدور على هذه القواعد.
وقد نبه القرآن عليها في قوله تعالى في حفظ الصحة ودفع المؤذي: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف: من الآية 31]، فأمر الله بالأكل والشرب الذي لا تستقيم الأبدان إلا بهما، وأطلق ذلك ليدل على أن المأكول والمشروب بحسب ما يلائم الإنسان، وينفعه في كل وقت وحال. ونهى عن الإسراف في ذلك، إما بالزيادة في كثرة المأكولات والمشروبات، وإما بالتخليط في المطعوم والأوقات، وهذا حمية عن كل ما يؤذي الإنسان. فإذا كان القوت الضروري من الطعام والشراب يصير بحالة يتأذى منه البدن ويتضرر منع منه، فكيف بغيره؟.
وكذلك أباح الله للمريض التيمم إذا كان استعمال الماء يضره، حمية له عن المضرات كلها.
وأباح للمحرم الذي به أذى من رأسه أن يحلقه ويفدي، وهذا من باب الاستفراغ وإزالة ما يؤذي البدن، فكيف بما ضرره أكبر من هذا؟.
ونهى عن الإلقاء باليد إلى التهلكة، فيدخل في ذلك استعمال كل ما يتضرر به الإنسان من الأغذية والأدوية، ودفع ما يضر بمدافعته الذي لم يقع، والتحرز عنه وبمعالجة الحادث بالطرق الطبية النافعة.
وكذلك ما ذكره الله في كتابه من الأعمال كلها كالجهاد والصلاة والصوم والحج وبقية الأعمال والإحسان إلى الخلق فإنها وإن كان المقصود الأعظم منها نيل رضا الله وقربه وثوابه، والإحسان إلى عبيده، فإن فيها صحة للأبدان وتمريناً لها، ورياضة وراحة للنفس، وفرحاً للقلب وأسراراً خاصة تحفظ الصحة وتنميها وتزيل عنها المؤذيات.
وبالجملة فإن جميع الشرائع ترجع إلى صلاح القلوب والأرواح والأخلاق والأبدان والأموال والدنيا والآخرة، والله أعلم.

.القاعدة الحادية والأربعون: قصر النظر على الحالة الحاضرة:

يرشد الله عباده في كتابه من جهة العمل إلى قصر نظرهم على الحالة الحاضرة التي هم فيها، ومن جهة الترغيب في الأمر والترهيب من ضده إلى ما يترتب عليها من المصالح، ومن جهة النعم إلى النظر إلى ضدها.
وهذه القاعدة الجليلة دعا إليها القرآن في آيات عديدة، وهي من أعظم ما يدل على حكمة الله، ومن أعظم ما يرقى العاملين إلى كل خير ديني ودنيوي، فإن العامل إذا اشتغل بعمله الذي هو وظيفة وقته، فإن قصر فِكره وظاهره وباطنه عليه نجح، ويتم له الأمر بحسب حاله.
وإن نظر وتشوقت نفسه إلى أعمال أخرى لم يحن وقتها بعدُ فترت عزيمته، وانحلت همته وصار نظره إلى الأعمال الأخرى ينقص من إتقان عمله الحاضر وجمع الهمة عليه.
ثم إذا جاءت وظيفة العمل الآخر جاءه وقد ضعفت همته وقل نشاطه، وربما كان الثاني متوقفاً على الأول في حصوله أو تكميله، فيفوت الأول والثاني، بخلاف من جمع قلبه وقالبه، وصار أكبر همه هو القيام بعمله الذي هو وظيفة وقته؛ فإنه إذا جاء العمل الثاني فإذا هو قد استعد له بقوة ونشاط ويتلقاه بشوق، وصار قيامه بالأول معونة على قيامه بالثاني.
ومن هذا: قوله تعالى مصرحاً بهذا المعنى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} [النساء: من الآية 77].
فانظر كيف حالهم الأولى وأمنيتهم وهم مأمورون بكف الأيدي، فلما جاء العمل الثاني ضعفوا عنه كل الضعف.
ونظير هذا ما عاتب الله به أهل أُحد في قوله: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [آل عمران: 143]، وقد كشف هذا المعنى كل الكشف قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} [النساء: 66]، لأن فيه تكميلاً للعمل الأول، وتثبيتاً من الله، وتمرناً على العمل الثاني.
ونظيره قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِم} [التوبة: 75/77]، فالله أرشد العباد أن يكونوا أبناء وقتهم، وأن يقوموا بالعمل الحاضر ووظيفته، ثم إذا جاء العمل الآخر صار وظيفة ذلك الوقت، فاجتمعت الهمة والعزيمة الصادقة عليه، وصار القيام بالعمل الأول معيناً على الثاني، وهذا المعنى في القرآن كثير.
وأما الأمور المتأخرة فإن الله يرشد العاملين إلى ملاحظتها لتقوى هممهم على العمل المثمر للمصالح والخيرات. وهذا كالترغيب المتنوع من الله على أعمال الخير، والترهيب من أفعال الشر، بذكر عقوباتها، وثمرتها الذميمة.
فاعرف الفرق بين النظر إلى العمل الآخر الذي لم يجئ وقته، وبين النظر إلى ثواب العمل الحاضر الذي كلما فترت همة صاحبه، وتأمل ما يترتب عليه من الخيرات استجد نشاطه، وقوي عليه وهانت عليه مشقته، كما قال تعالى: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء: 104].
وأما إرشاده من جهة النعم التي على العبد مِنَ الله بالنظر إلى ضدها ليعرف قدرها، ويزداد شكره لله تعالى عليها، ففي القرآن منه كثير، يُذكِّر عباده نعمته عليهم بالدين والإسلام وما ترتب على ذلك من النعم، كقوله في سورة آل عمران: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164]، وفي قوله في سورة آل عمران: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103]، أي إلى الزيادة لشكر نعم الله.
وقوله في سورة الأنفال: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال: 26].
وقوله في سورة القصص: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة...} [القصص: 72]، إلى آخر الآيات، حيث يذكرهم أن ينظروا إلى ضد ما هم فيه من النعم والخير، ليعرفوا قدر ما هم فيه منها.
وهذا الذي أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال: «انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم» وقوله تعالى: {فاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأعراف: من الآية 69]، وقوله: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى (8)} [الضحى: 6- 8]، إلى آخرها.