فصل: القاعدة الثامنة عشرة: إطلاق الهداية والإضلال وتقييدها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: القواعد الحسان في تفسير القرآن



.القاعدة الثامنة عشرة: إطلاق الهداية والإضلال وتقييدها:

في كثير من الآيات يخبر الله بأنه يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وفي بعضها يذكر مع ذلك الأسباب المتعلقة بالعبد، الموجبة للهداية أو الموجبة للإضلال، وكذلك حصول المغفرة وضدها، وبسط الرزق وتقديره، وذلك في آيات كثيرة، فحيث أخبر أنه يهدي من يشاء ويضل من يشاء، ويغفر لمن يشاء، ويعذب من يشاء، ويرحم من يشاء، ويبسط الرزق لمن يشاء ويقدره على من يشاء.
يدل ذلك على كمال توحيده وانفراده بخلق الأشياء، وتدبير جميع الأمور، وأن خزائن الأشياء كلها بيده، يعطي ويمنع ويخفض ويرفع، فيقتضي مع ذلك من العباد أن يعترفوا بذلك، وأن يعلقوا أملهم ورجاءهم به وحده في حصول كل ما يحبون منها، ودفع كل ما يكرهون، وأن لا يسألوا أحداً غيره، كما في الحديث القدسي: «يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم» إلى آخره.
وفي بعض الآيات: يذكر فيها أسباب ذلك، ليعرف العباد الأسباب والطرق المفضية إليها، فيسلكوا النافع ويدعوا الضار، كقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)} [الليل: 5- 10] فبيَّن أن أسباب الهداية والتيسير إيمان العبد بحكمة ربه في سننه وخلقه وشرعه وأخذه بهذه السنن وانقياده لأمره الشرعي، وأن أسباب الضلال والتعسير ضد ذلك.
وكذلك قوله تعالى في صفة القرآن: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ} [المائدة: 16]، {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26] وقوله: {فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأعراف: 30] فأخبر أن الله يهدي بالقرآن من كان قصده حسناً، ومن رغب في الخير، واتبع رضوان الله، وأنه يضل من فسق عن سنن الله الحكيمة، وتمرد على الله، وتولى أعداءه من شياطين الإنس والجن، ورضي بولايتهم عن ولاية رب العالمين.
وكذلك قوله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف: 5] وقوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110].
وكذلك يذكر في بعض الآيات الأسبابَ التي تنال بها المغفرة والرحمة، والتي تحق بها كلمة العذاب، كقوله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82]، {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} [الأعراف: 156- 157] وقوله: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56] وقوله: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133] ثم ذكر الأسبابَ التي تنال بها المغفرة والرحمة، وهي خصال التقوى المذكورة في هذه الآية وغيرها: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ} [البقرة: 218]، {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204] وأعم من ذلك كله قوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 132] فطريق الرحمة والمغفرة سلوك طاعة الله ورسوله عموماً، وهذه الأسباب المذكورة خصوصاً.
وأخبر أن العذاب له أسباب متعددة، وكلها راجعة إلى شيئين: التكذيب لله ورسوله، والتولي عن طاعة الله ورسوله، كقوله تعالى: {لا يَصْلاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18)} [الشمس: 15- 18] وقوله: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [طه: 48].
وكذلك يذكر أسباب الرزق، وأنها لزوم طاعة الله ورسوله، والسعي الجميل في مناكب الأرض مع لزوم التقوى كقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2- 3] وانتظار الفرج والرزق كقوله تعالى: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} [الطلاق: 7] وكثرة الذكر والاستغفار: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود: 3]، {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً (11)} [نوح: 10- 11] فأخبر أن الاستغفار سبب يُستجلب به مغفرة الله ورزقه وخيره، وضد ذلك سبب للفقر والتيسير للعسرى.
وأمثلة هذه القاعدة كثيرة وقد عرفت طريقها فالزمه.

.القاعدة التاسعة عشرة: الأسماء الحسنى في ختم الآيات:

يختم الله الآيات بأسماء الله الحسنى ليدل على أن الحكم المذكور له تعلق بذلك الاسم الكريم.
وهذه القاعدة لطيفة نافعة، عليك بتتبعها في جميع الآيات المختومة بها، تجدها في غاية المناسبة، وتدلك على أن الشرع والأمر والخلق كله صادر عن أسمائه وصفاته ومرتبط بها.
وهذا باب عظيم في معرفة الله ومعرفة أحكامه، وهو من أجل المعارف وأشرف العلوم.
فتجد آية الرحمة مختومةً بصفات الرحمة، وآيات العقوبة والعذاب مختومة بأسماء العزة والقدرة والحكمة والعلم والقهر.
ولا بأس هنا أن نسوق بعض الآيات في هذا، ونشير إلى مناسبتها بحسب ما وصل إليه علمنا القاصر وعبارتنا الضعيفة، ولو طالت الأمثلة هنا لأنها من أهم المهمات، ولا تكاد تجدها في كتب التفسير إلا يسيراً منها.
قال تعالى: {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 29] فذكرُ إحاطة علمه بعد ذكر خلقه للأرض والسماوات يدل على إحاطة علمه بما فيها من العوالم العظيمة، وأنه حكيم حيث وضعها لعباده، وأحكم صنعها في أحسن خلق وأكمل نظام، وأن خلقه لها من أدلة علمه، كما قال في الآية الأخرى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14] فخلقه للمخلوقات وتسويتها على ما هي عليه من إنسان وحيوان ونبات وجماد: من أكبر الأدلة العقلية على علمه، فكيف يخلقها وهو لا يعلمها؟
ولما ذكر كلامَ الملائكة حين أخبرهم أنه جاعل في الأرض خليفة، ومراجعتهم لربهم في ذلك، فلما خلق آدم وعلمه أسماء كل شيء مما جعله الله له وبين يديه، وعجزت الملائكة عن معرفتها وأنبأهم آدم بها: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 32] فاعترفوا لله بسعة العلم، وكمال الحكمة، وأنهم مخطئون في مراجعتهم ربهم في استخلافه آدم في الأرض التي خلقت له وهيئت لنزوله.
وفي هذا: أن الملائكة على عظمتهم وسعة معارفهم بربهم اعترفوا بأن علومهم تضمحل بجانب علم ربهم، وأنه لا علم لهم إلا منه، فختم هذه الآيات بهذين الاسمين الكريمين، الدالين على علم الله بآدم وما خلق له وما خلق عليه وتمام حكمته في خلقه، وما يترتب على ذلك من المصالح المتنوعة: من أحسن المناسبات.
وأما قوله عن آدم: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 37] وختمه كثيراً من الآيات بهذين الاسمين التواب الرحيم بعد ذكر ما يدعو به العبد إلى التعرض من رحمته ومغفرته، وتوفيقه وحلمه، فمناسبته جليلة لكل أحد، وأنه لما كان هو التواب الرحيم، أقبل بقلوب التائبين إليه، ووفقهم للأخذ بالأسباب التي ترجعهم إلى الفطرة السليمة التي يعرفون بها نعمة ربهم فيقدرونها ويشكرونها ويستجيبون لما يدعوهم بها إليه سبحانه، فيرجعون في كل شئونهم وأمورهم إلى ربهم، فيفرح بهم ويزيدهم من فضله ويتوب عليهم ثم يغفر لهم ويرحمهم، فتاب عليهم أولاً بتوفيقهم للتوبة وأسبابها، وتاب عليهم ثانياً حين قبل متابهم وأجاب سؤالهم، ولهذا قال في الآية الأخرى: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} [التوبة: 118] أي أقبل بقلوبهم عليه، فإنه لولا توفيقه وجذب قلوبهم إلى ذلك بنعمه الكونية والعلمية لم يكن لهم سبيل إلى ذلك حين استولت عليهم النفس الأمارة، فإنها لا تأمر إلا بالسوء، إلا من رحم الله فأعاذه منها ومن نزغات الشيطان.
ولما ذكر الله النسخ أخبر عن كماله قدرته وتفرده بالملك. فقال: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: 106- 107] وفي هذا رد على من أنكر النسخ كاليهود، وأن نسخه لما ينسخه من آثار قدرته وتمام ملكه، فإنه تعالى يتصرف في عباده، ويحكم بينهم بأحكامه القدرية وأحكامه الشرعية، فلا حجر عليه في شيء من ذلك.
ولما قال: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] قال: {إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 115] أي: واسع الفضل، واسع الملك، جميع العالم العلوي والسفلي بعض ملكه، ومع سعته في ملكه وفضله فهو محيط علمه بذلك كله، ومحيط علمه بالأمور الماضية والمستقبَلَة، ومحيط علمه بما في التوجه إلى القِبَل المتنوعة من الحكمة، ومحيط علمه بنيات المستقبلين لكل جهة من الجهات إذا أخطئوا القبلة المعينة، فحيث ولى المصلى منهم فما قصد إلا وجه ربه.
وأما قول الخليل وإسماعيل عليهما السلام وهما يرفعان القواعد من البيت: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127] فإنه توسل إلى الله بهذين الاسمين إلى قبول هذا العمل الجليل، حيث كان الله يعلم نياتهما ومقاصدهما، ويسمع كلامهما، ويجيب دعاءهما فإنه يراد بالسميع في مقام الدعاء: دعاء العبادة ودعاء المسألة- معنى المستجيب. كما قال الخليل في الآية الأخرى: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} [إبراهيم: 39].
وأما ختم قوله: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ} [البقرة: 129] بقوله: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 129] فمعناه: كما أن بعثك لهذا الرسول فيه الرحمة السابغة، ففيه تمام عزة الله وكمال حكمته، فإنه ليس من حكمة أحكم الحاكمين أن يترك الخلق سدى عبثا، لا يرسل إليهم رسولا، فحقق الله حكمته ببعثه، كما حقق حكمته لئلا يكون للناس على الله حجة، والأمور كلها: قدريها وشرعيها، لا تقوم إلا بعزة الله، ونفوذ حكمه.
وقد يكتفي الله بذكر أسمائه الحسنى عن التصريح بذكر أحكامها وجزائها، لينبه عباده أنهم إذا عرفوا الله بذكر الاسم العظيم، عرفوا ما يترتب عليه من الأحكام، مثل قوله تعالى: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ} [البقرة: 209] لم يقل: فلكم من العقوبة كذا، بل قال: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 209] أي: فإذا عرفتم عزته وهي قهره وغلبته وقوته وامتناعه، وعرفتم حكمته- وهي وضعه الأشياء موضعها، وتنزيلها محالها- أوجب لكم ذلك الخوف من البقاء على ذنوبكم وزللكم، لأن من حكمته معاقبة من يستحق العقوبة: وهو المصر على الذنب مع علمه، وأنه ليس لكم امتناع عليه، ولا خروج عن حكمه وجزائه، لكمال قهره وعزته.
وكذلك لما قال في سورة المائدة: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] لم يقل: فاعفوا عنهم أو اتركوهم ونحوها، بل قال: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 34] يعني: فإذا عرفتم ذلك وعلمتموه، عرفتم أن من تاب وأناب فإن الله يغفر له ويرحمه، فيدفع عنه العقوبة.
ولما ذكر عقوبة السارق قال في آخرها: {نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38] أي: عز وحكم فقطع يد السارق، وعز وحكم فعاقب المعتدي شرعاً وقدراً وجزاء.
ولما ذكر مواريث الورثة وقدرها قال: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} [النساء: 11] فكونه عليماً حكيماً يعلم ما لا يعلم العباد، ويضع الأشياء مواضعها، فاخضعوا لما قاله وفِعْله، وفصَّله في توزيع الأموال على مستحقيها الذين يستحقونها بحسب علم الله وحكمته، فلو وَكَلَ العبادَ إلى أنفسهم، وقيل لهم: وزعوها أنتم بحسب اجتهادكم لدخلها الجهل والهوى وعدم الحكمة، وصارت المواريث فوضى، وحصل بذلك من الضرر ما الله به عليم، ولكن تولاها وقسمها بأحكم قسمة وأوفقها للأحوال وأقواها للنفع.
ولهذا من قدح في شيء من أحكامه، أو قال: لو كان كذا وكذا فهو قادح في علم الله وفي حكمته.
ولهذا يذكر الله العلم والحكمة بعد ذكر الأحكام، كما يذكرها في آيات الوعيد ليبين للعباد أن الشرع والجزاء مربوط بحكمته، غير خارج عن علمه.
ويختم الأدعية بأسماء تناسب المطلوب. وهذا من الدعاء بالأسماء الحسنى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180] أي: تعبَّدوا لله بدعائه بها، واطلبوه بكل اسم مناسب لمطلوبكم.
وقوله تعالى في سورة الحج: {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} [الحج: 59] والآيات المتتابعة التي بعدها، كل واحدة ختمت باسمين كريمين.
فالأول منها: ختمها بالعلم والحلم: يقتضي علمه بنياتهم الجميلة، وأعمالهم الجليلة ومقاماتهم الشامخة، فيجازيهم على ذلك بالفضل العظيم، ويعفو ويحلم عن سيئاتهم فكأنهم ما فعلوها.
وختم الثانية بالعفو الغفور، فإنه أباح المعاقبة بالمثل، وندب إلى مقام الفضل، وهو العفو وعدم معاقبة المسيء، وأنه ينبغي لكم أن تتعبدوا لله بالاتصاف بهذين الوصفين الجليلين لتنالوا عفوه ومغفرته.
وختم الآية الثالثة بالسميع البصير يقتضي سمعه لجميع أصوات ما سكن في الليل والنهار، وبصره بحركاتهم على اختلاف الأوقات وتباين الحالات.
وختم الآية الرابعة: بالعلي الكبير، لأن علوه المطلق وكبرياءه وعظمته ومجده تضمحل معه جميع المخلوقات، ويبطل معها كل ما عبد من دونه، وبإثبات كمال علوه وكبريائه، يتعين أنه هو الحق وما سواه هو الباطل.
وختم الآية الخامسة: باللطيف الخبير، الدالين على سعة علمه ودقيق خبرته بالبواطن. كالظواهر، وبما تحتوى عليه الأرض من أصناف البذور وألوان النباتات، وأنه لطف بعباده حيث أخرج لهم أصناف الأرزاق، بما أنزله من الماء النَّمير، والخير الغزير.
وختم الآية السادسة: بالغني الحميد، بعد ما ذكر ملكه للسماوات والأرض، وما فيهما من المخلوقات، وأنه لم يخلقها لحاجة منه لها، فإنه غني مطلق، ولا ليتكمَّل بها. فإنه الحميد الكامل، وليدلهم على أنهم كلهم فقراء إليه من جميع الوجوه، وأنه حميد في أقداره، حميد في شرعه، حميد في جزائه، فله الحمد المطلق ذاتا وصفات وأفعالاً.
وختم الآية السابعة: بالرءوف الرحيم، أي: من رأفته ورحمته تسخيره المخلوقات لبني آدم وحفظ السماوات والأرض وإبقاؤها لئلا تزول، فتختل مصالحهم. ومن رحمته سخر لهم البحار لتجري فيها الفلك في منافعهم ومصالحهم، فرحمهم حيث خلق لهم المسكن، وأودع لهم فيه كل ما يحتاجونه، وحفظه عليهم وأبقاه.
ولما ذكر في سورة الشعراء قصص الأنبياء مع أممهم، ختم كل قصة بقوله: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 68] فإن كل قصة تضمنت نجاة النبي وأتباعه، وذلك برحمة الله ولطفه، وتضمنت إهلاك المكذبين له، وذلك من آثار عزته.
وقد يتعلق مقتضى الاسمين بكل من الحالتين، فإنه نجى الرسول وأتباعه بكمال قوته وعزته ورحمته، وأهلك المكذبين بعزته وحكمته. ويكون ذكر الرحمة دالاً على عِظم جرمهم، وأنه طالما فتح لهم أبواب رحمته بآياته ونعمه ورسله فأغلقوها دونهم بتمردهم على الله وكفرهم وشركهم فلم يكن لهم طريق إليها، ولولا ذلك لما حل بهم هذا العقاب الصارم.
وأما قول عيسى عليه السلام: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإنهم عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118] ولم يقل: أنت الغفور الرحيم، لأن المقام ليس مقام استعطاف واسترحام، إنما هو مقام غضب وانتقام ممن اتخذه وأمه إلهين من دون الله، فناسب ذكر العزة والحكمة، وصار أولى من ذكر الرحمة والمغفرة.
ومن ألطف مقامات الرجاء: أن يذكر أسباب الرحمة وأسباب العقوبة، ثم يختمها بما يدل على الرحمة؛ مثل قوله: {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 129] وقوله: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الأحزاب: 73] فذلك يدل على أن رحمته سبقت غضبه وغلبته وصار لها الظهور، وإليها ينتهي كل من فيه أدنى سبب من أسباب الرحمة، ولهذا يخرج من النار من كان في قلبه أدنى حبة خردل من الإيمان ولنقتصر على هذه الأمثلة فإنه يعرف بها صفة الاستدلال بذلك.