فصل: القاعدة الثانية والخمسون: إذا وضح الحق وبان، لم يبق للمعارضة العلمية، ولا العملية محل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: القواعد الحسان في تفسير القرآن



.القاعدة الخمسون: آيات الرسول: هي التي يبديها الباري ويبتديها:

وأما ما أبداه المكذبون له واقترحوه، فليست آيات. وإنما هي تعنتات وتعجيزات. وبهذا يعرف الفرق بينها وبين الآيات: وهي البراهين والأدلة على صدق الرسول وغيره من الرسل، وعلى صدق كل خبر أخبر الله به، وأنها الأدلة والبراهين التي يلزم من فهمها على وجهها صدق ما دلت عليه ويقينه.
وبهذا المعنى الحديث: «ما أرسل الله من رسول إلا أعطاه من الآيات ما على مثله آمن البشر»، وأما ما آتى الله محمداً صلى الله عليه وسلم من الآيات فهي لا تحد ولا تعد من كثرتها وقوتها ووضوحها- ولله الحمد- فلم يبق لأحد من الناس بعدها عذر.
فعلم بذلك أن اقتراح المكذبين لآيات يعينونها ليست من هذا القبيل، وإنما مقصودهم بهذا أنهم وطنوا أنفسهم على دينهم الباطل وعدم اتباع النبي صلى الله عليه وسلم.
فلما دعاهم إلى الإيمان وأراهم شواهد الآيات أرادوا أن يبرروا ما هم عليه عند الأغمار والسفهاء، بقولهم: ائتنا بالآية الفلانية والآية الفلانية إن كنت صادقاً، وإن لم تأت بذلك فإننا لا نصدقك، فهذه طريقة لا يرتضيها أدنى منصف، ولهذا يخبر تعالى أنه لو أجابهم إلى ما طالبوا لم يؤمنوا لأنهم وطنوا أنفسهم على الرضا بدينهم بعدما عرفوا الحق ورفضوه.
وأيضاً فهذا من جهلهم في الحال والمآل.
أما الحال: فإن هذه الآيات التي يقترحونها جرت العادة أن المقترحين لها لم يكن قصدهم الحق، فإذا جاءت ولم يؤمنوا عوجلوا بالعقوبة الحاضرة.
وأما المآل: فإنهم جزموا جزماً لا تردد فيه أنها إذا جاءت آمنوا وصدقوا. وهذا قلب للحقائق، وإخبار بغير الذي في قلوبهم، فلو جاءتهم كل آية اقترحوها لم يؤمنوا إلا أن يشاء الله تعالى.
وهذا النوع ذكره الله في كتابه عن المكذبين في آيات كثيرة جداً، كقولهم: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً} [الإسراء: 90]، وقوله: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً} [الأنعام: من الآية 111] إلى آخرها.
وأيضاً إن اقتراحهم هذا ينادي صريحاً بأنهم ينسبون إلى الله العجز والعبث، إذ أنه أرسل رسولاً لم يؤيده بالآيات الكافية في الدلالة على صدقه، ولم يعطه من البراهين والحجج ما يبطل دعاوى خصمه.
وهذا ينافي الحكمة، ولا يتفق مع الغرض الذي من أجله أرسل الله رسوله.
وهذا أعظم كفراً وإجراماً وأشد من شركهم وفسوقهم، وما كان يتولى كبره منهم إلا السادة الرؤساء الذين تبين لهم صدق الرسول بدون أي خفاء، ولكنهم يحاولون بذلك صرف العامة والدهماء عن الاستماع إليه والإصغاء إلى قوله، ولذلك يدمغهم الله بمَيّسَم الخزي عقب كل تحدٍ واقتراحٍ لآية، بعد أن ينزه نفسه سبحانه عما ينتقصونه به.
ففي سورة الإسراء يقول عقب سرد ما اقترحوا من آيات: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي} [الإسراء: من الآية 93]، ثم يقول: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا} [الإسراء: من الآية 97].
ويقول في سورة العنكبوت: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49) وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52)} [العنكبوت: 47- 52].
وأيضاً إذا تدبرت الاقتراحات التي عينوها لم تجدها في الحقيقة من جنس البراهين، وإنما هي- لو فرض الإتيان بها- شبيهة بآيات الاضطرار التي لا ينفع الإيمان معها، ويصير شهادة، وإنما الإيمان النافع هو الإيمان بالغيب فكما أن الله المنفرد بالحكم بين العباد في أديانهم، وحقوقهم وأنه لا حكم إلا حكمه، وأنه من قال ينبغي أو يجب أن يكون الحكم كذا وكذا، فهو متجرئ على الله، متوثب على حرمات الله وأحكامه، فكذلك براهينُ أحكامه لا يتولاها إلا هو، فمن اقترح شيئاً عنده فقد ادعى مشاركة الرب في حكمه، ومنازعته في الطرق التي يهدي ويرشد بها عباده: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [الأنعام: من الآية 93].

.القاعدة الحادية والخمسون: كلّما ورد في القرآن من الأمر بالدعاء، والنهي عن دعاء غير الله، والثناء على الداعين: يتناول دعاء المسألة، ودعاء العبادة:

وهذه قاعدة نافعة، فإن أكثر الناس إنما يتبادر لهم من لفظ الدعاء والدعوة: دعاء المسألة فقط، ولا يظنون دخول جميع العبادات في الدعاء.
ويدل على عموم ذلك: قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: من الآية 60]، أي أستجب طلبكم، وأتقبل عملكم ثم قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: من الآية 60]، فسمى ذلك عبادة، وذلك لأن الداعي دعاء المسألة يطلب مسئوله بلسان المقال، والعابد يطلب من ربه القبول والثواب، ومغفرة ذنوبه بلسان الحال.
فلو سألت أي عابد مؤمن: ما قصدك بصلاتك وصيامك وحجك وأدائك لحقوق الله وحق الخلق؟ لكان قلب المؤمن ناطقاً- قبل أن يجيبك لسانه-: بأن قصدي من ذلك رضا ربي ونيل ثوابه والسلامة من عقابه، ولهذا كانت النية شرطاً لصحة الأعمال وقبولها، وإثمارها الثمرة الطيبة في الدنيا والآخرة.
وقال تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين} [غافر: من الآية 14]، فوضع كلمة: {الدِّين}، موضع كلمة العبادة، وهو في القرآن كثير جداً: يدل على أن الدعاء هو لب الدين وروح العبادة.
ومعنى الآية هنا: أخلصوا له إذا طلبتم حوائجكم، وأخلصوا له أعمال البر والطاعة.
وقد يقيد أحياناً بدعاء الطلب، كقوله: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر: 10]، وأما قوله: {وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً...} [يونس: من الآية 12]، الآية، فيدخل فيه دعاء الطلب، فإنه لا يزال ملحاً بلسانه، سائلاً دفع ضرورته، ويدخل فيه دعاء العبادة فإن قلبه في هذه الحال يكون راجياً طامعاً، منقطعاً عن غير الله، عالماً أنه لا يكشف ما به من السوء إلا الله، وهذا دعاء عبادة.
وقوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} [الأعراف: من الآية 55]، يدخل فيه الأمران، فكما أن من كمال دعاء الطلب، كثرة التضرع والإلحاح، وإظهار الفقر والمسكنة، وإخفاء ذلك وإخلاصه، فكذلك دعاء العبادة فإن العبادة لا تتم ولا تكتمل إلا بالمداومة عليها ومقارنة الخشوع والخضوع لها وإخفائها، وإخلاصها لله تعالى.
وكذلك قوله عن خلاصة الرسل: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} [الأنبياء: من الآية 90]، فإن الرغبة والرهبة وصف لهم كلما طلبوا وسألوا، ووصف لهم كلما تعبدوا وتقربوا بأعمال الخير والقرب.
وقوله: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّه} [المؤمنون: من الآية 117]، {فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن: من الآية 18]، {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} [القصص: من الآية 88]، يشمل دعاء المسألة ودعاء العبادة.
فكما أن من طلب من غير الله حاجة لا يقدر عليها إلا الله فهو مشرك وكافر، فكذلك من عبد مع الله غيره فهو مشرك وكافر.
ومثله: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس: 106]، كل هذا يدخل فيه الأمران.
وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: من الآية 180]، يشتمل دعاء المسألة ودعاء العبادة.
أما دعاء المسألة: فإنه يسأل الله تعالى في كل مطلوب باسم يناسب ذلك المطلوب ويقتضيه، فمن سأل رحمة الله ومغفرته دعاه باسم الغفور الرحيم. ومن سأل الرزق سأله باسم الرزاق، وهكذا.
وأما دعاء العبادة: فهو التعبد لله تعالى بأسمائه الحسنى، فيفهم أولاً معنى ذلك الاسم الكريم، ثم يديم استحضاره بقلبه، حتى يمتلئ قلبه منه.
فالأسماء الدالة على العظمة والجلال والكبرياء تملأ القلب تعظيماً وإجلالاً لله تعالى.
والأسماء الدالة على الرحمة والفضل والإحسان تملأ القلب طمعاً في فضل الله ورجاءً لرَوْحِه ورحمته.
والأسماء الدالة على الود والحب والكمال تملأ القلب محبة ووداً وتألهاً وإنابة لله تعالى.
والأسماء الدالة على سعة علمه ولطيف خبره توجب للعبد مراقبة الله تعالى والحياء منه.
وهذه الأحوال التي تتصف بها القلوب هي أكمل الأحوال، وأجل وصف يتصف به القلب وينصبغ به، ولا يزال العبد يمرن نفسه عليها حتى تنجذب نفسه وروحه بدواعيه منقادة راغبة، وبهذه الأعمال القلبية تكمل الأعمال البدنية.
فنسأل الله تعالى أن يملأ قلوبنا من معرفته ومحبته والإنابة إليه، فإنه أكرم الأكرمين وأجود الجوادين.

.القاعدة الثانية والخمسون: إذا وضح الحق وبان، لم يبق للمعارضة العلمية، ولا العملية محل:

وهذه قاعدة شرعية عقلية فطرية، قد وردت في القرآن وأرشد إليها في مواضع كثيرة.
وذلك: أنه من المعلوم أن محل المعارضات وموضع الاستشكالات وموضع التوقفات ووقت المشاورات إذا كان الشيء فيه اشتباه أو احتمالات فترد عليه هذه الأمور؛ لأنها الطريق إلى البيان والتوضيح.
فأما إذا كان الشيء لا يحتمل إلا معنى واحداً واضحاً، وقد تعينت المصلحة، فالمجادلة والمعارضة من باب العبث، والمعارضُ هنا لا يُلتفت إلى اعتراضاته، لأنه يشبه المكابر المنكر للمحسوسات.
قال تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: من الآية 256]، يعني وإذا تبين هذا من هذا لم يبق للإكراه محل، لأن الإكراه إنما يكون على أمر فيه مصلحة خفية، فأما أمر قد اتضح أن مصالح وسعادة الدارين مربوطة ومتعلقة به، فأي داع للإكراه فيه؟.
ونظير هذا قوله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: من الآية 29]، أيْ هذا الحق الذي قامت البراهين الواضحة على حقِّيَّته فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.
كقوله: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال: من الآية 42]، وقال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: من الآية 159]، أيْ: في الأمور التي تحتاج إلى مشاورة، ويُطلب فيها وجه المصلحة، فأما أمر قد تعينت مصلحته، وظهر وجوبه فقال فيه: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: من الآية 159].
وقد كشف الله هذا المعنى غاية الكشف، في قوله: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ} [الأنفال: من الآية 6]، أيْ فكل من حاول في الحق بعد ما تبين علمه، أو طريق عمله، فإنه غالط شرعاً وعقلاً.
وقال تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: من الآية 119]، فلامَهُم على عدم التزام الأكل مما ذكر اسم الله عليه، وذكر السبب لهذا اللوم؛ وهو أنه تعالى فصل لعباده كل ما حرم عليهم، فما لم يذكر تحريمه فإنه حلال واضح ليس للتوقف عنه محل.
ولما ذكر تعالى الآيات الدالة على وجوب الإيمان، وَبَّخَ ولام المتوقفين عنه بعد البيان، فقال: {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (21) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق: 21].
ولما بين جلال القرآن وأنه أعلى الكلام، وأوضحه بياناً وأصدقه وأنفعه ثمرة، قال تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية: من الآية 6].
ولما ذكر عظم نعمه الظاهرة والباطنة، قال تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} [النجم: 55]، {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 13]، وقال تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} [يونس: من الآية 32]، وكذلك في آيات كثيرة يأمره بمجادلة المكذبين ويجادلهم بالتي هي أحسن، حتى إذا وصل معهم إلى حالة وضوح الحق التام وإزالة الشبه كلها انتقل من مجادلتهم إلى الوعيد لهم بعقوبات الدنيا والآخرة، والآيات في هذا المعنى الجليل كثيرة جداً.

.القاعدة الثالثة والخمسون: من قواعد القرآن: أنه يبين أن الأجر والثواب على قدر المشقة في طريق العبادة، ويبين مع ذلك أن تسهيله لطريق العبادة من منته وإحسانه، وأنها لا تنقص من الأجر شيئاً:

وهذه القاعدة تبين من لطف الله وإحسانه بالعباد، وحكمته الواسعة ما هو أثر عظيم من آثار تعريفاته ونفحة عظيمة من نفحاته، وأنه أرحم الراحمين، قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]، فبين تعالى أن هذه العبادة العظيمة لعظم مصلحتها وكثرة فوائدها العامة والخاصة أنه فرضها على العباد وإن شقت عليهم وكرهتها نفوسهم لما فيها من التعرض للأخطار وتلف النفوس والأموال، لكن هذه المشقات بالنسبة إلى ما تفضي إليه من الكرامات ليست بشر بل هي خير محض وإحسان صرف من الله على عباده، حيث قيض لهم هذه العبادة التي توصلهم إلى منازل لولاها لم يكونوا واصليها، قال تعالى: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء: من الآية 104]، وقال: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 155- 156]، وقال: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: من الآية 10].
فكلما عظمت مشقة الصبر في فعل الطاعات، وفي ترك المحرمات لقوة الداعي إليها، وفي الصبر على المصيبات لشدة وقعها، كان الأجر أعظم والثواب أكبر، قال تعالى في بيان لطفه في تسهيل العبادة الشاقة: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَام إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْب} [الأنفال: 11- 12].
فذكر منته على المؤمنين بتيسيره وتقديره لهذه الأمور التي يسر بها العبادة، مزيلة محصلة لثمراتها.
وقال تعالى: {إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [يونس: 62- 64].
فالبشرى التي وعد الله بها أولياءه في الحياة الدنيا من أشرفها وأجلها: أنه يسر لهم العبادات وهون عليهم مشقة القربات، وأن ييسرهم للخير، ويجنبهم الشر بأيسر عمل.
وقال: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل: 5- 7]، أيْ لكل حالة فيها تيسير أموره وتسهيلها {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: من الآية 97].
ومن الحياة الطيبة التي يرزقونها: ذوقُ حلاوة الطاعات، واستعذاب المشقات في رضا الله تعالى، فهذه الأحوال كلها خير للمؤمن، إن سهل الله له طريق العبادة وهونها حَمِدَ اللهَ وشكره، وإن قامت العقبات صبر في اقتحامها، واحتسب الخير في عنائه وجهاده ورجا عظيم الثواب، وهذا المعنى في القرآن في آيات متعددة، والله أعلم.