فصل: القاعدة الحادية والثلاثون: ربوبية الله في القرآن على نوعين: عامة وخاصة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: القواعد الحسان في تفسير القرآن



.القاعدة السابعة والعشرون: المحترزات في القرآن تقع في كل المواضع في أشد الحاجة إليها:

وهذه القاعدة جليلة النفع، وعظيمة الوقع.
وذلك أن كل موضع يسوق الله فيه حكماً من الأحكام أو خبراً من الأخبار فيتشوف الذهن فيه إلى شيء آخر، إلا وجدت الله قرَن به ذلك الأمر الذي يعلق في الأذهان، فيبينه أحسن بيان. وهذا أعلى أنواع التعليم، الذي لا يبقي إشكالاً إلا أزاله، ولا احتمالاً إلا أوضحه. وهذا يدل على سعة علم الله وحكمته. وذلك في القرآن كثير جداً.
ولنذكر بعض أمثلة توضح هذه القاعدة، وتحسن للداخل الدخول إليها.
فمن ذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا} [النمل: 91] لمَّا خصها بالذكر ربما وقع في بعض الأذهان تخصيص ربوبيته بها أزال هذا الوهم بقوله: {وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ} [النمل: 91].
ومنها قوله تعالى: {فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ} [هود: 109] لمَّا كان قد يقع في الذهن أنهم على حجة وبرهان فأبان بقوله: {مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ} [هود: 109] أنهم ضُلَّال اقتدوا بمثلهم، ثم لما كان قد يتوهم المتوهم أنهم في طمأنينة من قولهم، وعلى يقين من مذهبهم، وربما يتوهم أيضاً أن الأليق ألا يبسط لهم الدنيا احترز من ذلك بقوله: {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَأنهم لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110)} [هود: 109- 110].
ولما قال تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 95] ربما يظن الظان أنهم لا يستوون مع المجاهدين ولو كان القاعدون معذورين. أزال هذا الوهم بقوله: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95].
وكذلك لما قال: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد: 10] ربما توهم أحد أن المفضولين ليس لهم عند الله مقام ولا مرتبة، فأزال هذا الوهم بقوله: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10] ثم لما كان ربما يتوهم أن هذا الأجر يُستحق بمجرد هذا العمل المذكور، ولو خلا من الإخلاص، أزال هذا الوهم بقوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [الحديد: 10].
ومنها: قوله تعالى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} [النمل: 48] ربما وقع في الذهن أنهم يفسدون وقد يصلحون، فأزال هذا الوهم بقوله: {وَلا يُصْلِحُونَ} [النمل: 48] أي: لا خير فيهم أصلاً مع شرهم العظيم.
ومنها: أنه قال في عدة مواضع: {وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} فربما توهم أحد أنهم وإن لم يسمعوا فإنهم يفهمون الإشارة. فأزال هذا الاحتمال بقوله: {إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [النمل: 80] فهذه الحالة لا تقبل سماعاً ولا رؤية لتحصل الإشارة، وهذا نهاية الإعراض.
ومنها قوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} ربما توهم أحد أن هدايته تأتي جزافاً من غير سبب. فأزال هذا بقوله: {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص: 56] أي: بمن يصلح للهداية لزكاته وخيره ممن ليس كذلك، فأبان أن هدايته تابعة لحكمته التي هي وضع الأشياء مواضعها. ومن كان حسن الفهم رأى من هذا النوع شيئاً كثيراً.

.القاعدة الثامنة والعشرون: في ذكر الأوصاف الجامعة التي وصف الله بها المؤمن:

لما كان الإيمان أصل كل الخير كله والفلاح، وبفقده يفقد كل خير ديني ودنيوي وأخروي، أكثر الله من ذكره في القرآن جداً: أمراً به، ونهياً عن ضده، وترغيباً فيه، وبياناً لأوصاف أهله، وما لهم من الجزاء الدنيوي والأخروي.
فأما إذا كان المقام مقامَ خطاب للمؤمنين بالأمر والنهي، أو مقامَ إثبات الأحكام الدنيوية بوصف الإيمان، فإنها تتناول كل مؤمن، سواء كان متمما لواجبات الإيمان وأحكامه، أو ناقصاً في شيءٍ منها.
وأما إذا كان المقام مقام مدح وثناء وبيان الجزاء الكامل للمؤمن: فإنما المراد بذلك المؤمن حقاً الجامع لمعاني الإيمان.
وهذا هو المراد بيانه هنا. فنقول:
وصف الله المؤمن في كتابه باعترافه وتصديقه بجميع عقائد الدين وبإرادة ما يحبه الله ويرضاه، وبالعمل بما يحبه الله ويرضاه، وبترك جميع المعاصي، وبالمبادرة بالتوبة مما صدر منه منها، وبأن إيمانهم أثر في أخلاقهم وأقوالهم وأفعالهم الآثار الطيبة.
فوصف المؤمنين بالإيمان بالأصول الجامعة: وهي الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وأنهم يؤمنون بكل ما أتت به الرسل كلهم ويؤمنون بالغيب، ووصفهم بالسمع والطاعة، والانقياد ظاهراً وباطناً، ووصفهم بأنهم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 2- 4].
ووصفهم بأن جلودهم تقشعر، وعيونهم تفيض من الدمع، وقلوبهم تلين وتطمئن لآيات الله وذكره، وبأنهم يخشون ربهم بالغيب والشهادة، وأنهم يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون.
ووصفهم بالخشوع في أحوالهم عموماً، وفي الصلاة خصوصاً وأنهم عن اللغو معرضون، وللزكاة فاعلون، ولفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم. وأنهم بشهاداتهم قائمون، ولأماناتهم وعهدهم مُراعون.
ووصفهم باليقين الكامل الذي لا ريب فيه، وبالجهاد بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله.
ووصفهم بالإخلاص لربهم في كل ما يأتون ويذرون.
ووصفهم بمحبة المؤمنين والدعاء لإخوانهم من المؤمنين السابقين واللاحقين، وأنهم مجتهدون في إزالة الغل من قلوبهم على المؤمنين، وبأنهم يتولون الله ورسوله وعباده المؤمنين، ويتبرءون من موالاة جميع أعداء الدين، وبأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويطيعون الله ورسوله في كل أحوالهم.
فجمع الله لهم بين العقائد الحقة واليقين الكامل، والإنابة التامة التي آثارها الانقياد لفعل المأمورات وترك المنهيات، والوقوف الحدود الشرعية.
فهذه الأوصاف الجليلة هي وصف المؤمن المطلق الذي سلم من العقاب، واستحق الثواب، ونال كل خير رُتِّب على الإيمان.
فإن الله رتب على الإيمان في كتابه من الفوائد والثمرات ما لا يقل عن مائة فائدة، كل واحدة منها خير من الدنيا وما فيها.
رتب على الإيمان نيل رضاه الذي هو أكبر من كل شيء، ورتب عليه دخول الجنة والنجاة من النار، والسلامة من عذاب القبر ومن صعوبات القيامة وتعثر أحوالهم، والبشرى الكاملة في الحياة الدنيا وفي الآخرة، والثبات في الدنيا على الإيمان والطاعات وعند الموت وفي القبر على الإيمان والتوحيد والجواب النافع السديد، ورتب عليه الحياة الطيبة في الدنيا والرزق والحسنة وتيسيره العبدَ لليسرى وتجنيبه للعسرى، وطمأنينة القلوب وراحة النفوس والقناعة التامة، وصلاح الأحوال، وصلاح الذرية، وجعلهم قرة عين للمؤمن، والصبر عند المحن والمصائب.
وحمْل الله عنهم الأثقالَ، ومدافعة الله عنهم جميع الشرور، والنصر على الأعداء، ورفع المؤاخذة عن الناسي والجاهل والمخطئ منهم، وأن الله قد وضع عنهم الآصار والأغلال ولم يحملهم ما لا طاقة لهم فيه، ومغفرة الذنوب بإيمانهم والتوفيق للتوبة.
فالإيمان أكبر وسيلة للقرب من الله والقرب من رحمته، ونيل ثوابه، وأكبر وسيلة لمغفرة الذنوب، وإزالة الشدائد أو تخفيفها.
وثمرات الإيمان على وجه التفصيل كثيرة، وبالجملة خيرات الدنيا والآخرة مرتبة على الإيمان، كما أن الشرور مرتبة على فقده، والله أعلم.

.القاعدة التاسعة والعشرون: في الفوائد التي يجتنيها العبد في معرفته وفهمه لأجناس علوم القرآن:

وهذه القاعدة تكاد تكون هي المقصود الأعظم في علم التفسير وذلك أن القرآن مشتمل على علوم متنوعة، وأصناف جليلة من العلوم. فعلى العبد أن يعرف المقصود من كل نوع منها، ويعمل على هذا، ويتتبع الآيات الواردة فيه، فيحصِّل المراد منها: علماً وتصديقاً وحالاً وعملاً.
فأجلُّ علوم القرآن على الإطلاق: علم التوحيد، وما لله من صفات الكمال، فإذا مرت عليه الآيات في توحيد الله وأسمائه وصفاته أقبل عليها، فإذا فهمها وفهم المراد بها أثبتها لله على وجه لا يماثله فيه أحد، وعَرَفَ أنه كما ليس لله مثيل في ذاته فليس له مثيل في صفاته، وامتلأ قلبه من معرفة ربه وحبه بحسب علمه بكمال الله وعظمته. فإن القلوبَ مجبولةٌ على محبة الكمال، فكيف بمن له كل الكمال؟ ومنه جميع النعم الجِزَال. ويعرف أن أصل الأصول هو الإيمان بالله، وأن هذا الأصل يقوى ويكمل بحسب معرفة العبد لربه، وفهمه لمعاني صفاته ونعوته وامتلاء القلب بمعرفتها ومحبتها.
وأيضاً يعرف أنه بتكميله هذا العلم تكمل علومه وأعماله. فإن هذا هو أصل العلم وأصل التعبد.
ومن علوم القرآن: صفات الرسل وأحوالهم، وما جرى لهم وعليهم، مع من وافقهم ومن خالفهم. وما هم عليه من الأوصاف الوافية. فإذا مرت عليه هذه الآيات عرف بها أوصافهم وازدادت معرفته ومحبته لهم، وعرف ما هم عليه من الأخلاق والأعمال خصوصاً إمامهم وسيدهم محمد صلى الله عليه وسلم. فيقتدي بأخلاقهم وأعمالهم بحسب ما يقدر عليه، ويفهم أن الإيمان بهم تمامه وكماله: بمعرفته التامة بأحوالهم ومحبتهم واتباعهم. وفي القرآن من نعوتهم الشيء الكثير الذي يحصل به تمام الكفاية.
ويستفيد أيضاً الاقتداء بتعليماتهم العالية وإرشاداتهم للخلق وحسن خطابهم ولطفَ جوابهم وتمام صبرهم. فليس القصد من قصصهم أن تكون سمراً!! وإنما القصد أن تكون عبراً.
ومن علوم القرآن: علم أهل السعادة والخير وأهل الشقاوة والشر. وفي معرفته لهم ولأوصافهم ونعوتهم فوائد الترغيب والاقتداء بالأخيار، والترهيب من أحوال الأشرار، والفرقان بين هؤلاء وهؤلاء، وبيان الصفات والطرق التي وصل بها هؤلاء إلى دار النعيم، ووصل بها أولئك إلى دار الجحيم، ومحبة هؤلاء الأتقياء من الإيمان، كما أن بغض أولئك من الإيمان. وكلما كان العبد أعرف بأحوالهم تمكن من هذه المقاصد.
ومن علوم القرآن: علم الجزاء في الدنيا والبرزخ والآخرة على أعمال الخير وأعمال الشر.
وفي ذلك مقاصد جليلة: الإيمان بكمال عدل الله وسعة فضله والإيمان باليوم الآخر، فإن تمامَ الإيمان بذلك يتوقف على معرفة ما يكون فيه، والترغيب والترهيب والرغبة في الأعمال التي رتب الله عليها الجزاء الجزيل، والرهبةُ من ضدها.
ومن علوم القرآن: الأمر والنهي.
وفي ذلك مقاصد جليلة: معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله؛ فإن العباد محتاجون إلى معرفة ما أمروا به وما نهوا عنه، وبالعمل بذلك والعلم سابق للعمل، وطريق ذلك: إذا مر على القارئ نص فيه أمر بشيء عرفه وفَهِم ما يدخل فيه وما لا يدخل فيه، وحاسب نفسه: هل هو قائم بذلك كله أو بعضه أو تاركه؟ فإن كان قائماً به فليحمد الله، ويسأله الثبات والزيادة من الخير. وإن كان مقصراً فيه فليعلم أنه مطالب به وملزم به. فليستعن بالله على فعله، وليجاهد نفسه على ذلك.
وكذلك في النهي ليعرف ما يراد منه، وما يدخل في ذلك الذي نهى الله عنه، ثم لينظر إلى نفسه فإن كان قد ترك ذلك فليحمد الله على توفيقه، ويسأله أن يثبته على ترك المناهي كما يسأله الثبات على فعل الطاعات؛ وليجعل الداعي له على الترك امتثال طاعة الله، ليكونَ تركه عبادةً، كما كان فعله للطاعة عبادة، وإن كان غير تارك له فليتبْ إلى الله منه توبة نصوحا جازمة وليبادر، ولا تمنعه الشهوات الدنية ما تدعوه إليه النفس الأمارة بالسوء.
فمن كان عند هذه المطالب وغيرها عاملاً على هذه الطريقة فإنه ماش على الصراط المستقيم والطريقة المثلى فيما عليه من الاسترشاد بكتاب الله وحصل له بذلك علم غزير وخير كثير.

.القاعدة الثلاثون: أركان الإيمان بالأسماء الحسنى ثلاثة: إيماننا بالاسم، وبما دل عليه من المعنى، وبما تعلق به من الآثار:

وهذه القاعدة العظيمة: خاصة بأسماء الرب سبحانه وتعالى.
وفي القرآن من الأسماء الحسنى ما ينيِّف عن ثمانين اسما- كُررت في آيات متعددة، بحسب ما يناسب المقام، كما تقدم بعض الإشارة إليها.
وهذه القاعدة تنفعك في كل اسم من أسمائه الحسنى المتعلقة بالخلق والأمر، والثواب والعقاب.
فعليك أن تؤمن بأنه عليم، وذو علم عظيم، ومحيط بكل شيء، قدير، وذو قدرة وقوة عظيمة ويقدر على كل شيء، ورحيم، وذو رحمة عظيمة ورحمته وسعت كل شيء والثلاثة متلازمة.
فالاسم دل على الوصف، وذلك دل على المتعلق. فمن نفى واحداً من هذه الأمور الثلاثة فإنه لم يتم إيمانه بأسماء الرب وصفاته، الذي هو أصل التوحيد.
ولنكتف بهذا الأنموذج ليعرف أن الأسماء كلها على هذا النمط.

.القاعدة الحادية والثلاثون: ربوبية الله في القرآن على نوعين: عامة وخاصة:

كثر في القرآن ذكر ربوبية الرب لعباده ومتعلقاتها ولوازمها. وهي على نوعين:
ربوبية عامة: يدخل فيها جميع المخلوقات: برها وفاجرها بل مكلفوها وغير المكلفين، حتى الجمادات. وهي أنه تعالى المنفرد بخلقها ورزقها وتدبيرها، وإعطائها ما تحتاجه أو تضطر إليه في بقائها، وحصول منافعها ومقاصدها فهذه التربية لا يخرج عنها أحد.
والنوع الثاني: في تربيته لأصفيائه وأوليائه، فيربيهم بالإيمان الكامل، ويوفقهم لتكميله ويُكملهم بالأخلاق الجميلة، ويدفع عنهم الأخلاقَ الرذيلة، وييسرهم لليسرى ويجنبهم العسرى. وحقيقتها: التوفيق لكل خير، والحفظ من كل شر، وإنالة المحبوبات العاجلة والآجلة، وصرف المكروهات العاجلة والآجلة.
فحيث أُطلقت ربوبيته تعالى فإن المراد بها المعنى الأول، مثل قوله تعالى: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]، {وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 164] ونحو ذلك.
وحيث قُيدت بما يحبه ويرضاه، أو وقع السؤال بها من الأنبياء وأتباعهم، فإن المراد بها النوع الثاني. وهو متضمن للمعنى الأول وزيادة؛ ولهذا تجد أسئلة الأنبياء وأتباعهم في القرآن بلفظ الربوبية غالباً فإن مطالبهم كلها داخلة تحت ربوبيته الخاصة. فملاحظة هذا المعنى نافعة أعظم النفع للعبد.
ونظير هذا المعنى الجليل: أن الله أخبر في عدة آيات أن الخلق كلهم عباده وعبيده: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} [مريم: 93] فكلهم مماليكه، وليس لهم من الملك والأمر شيء. ويخبر في بعض الآيات أن عباده بعض خلقه كقوله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} [الفرقان: 63] ثم ذكر صفاتهم الجليلة. وكقوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36] وفي قراءة {عبدِهِ} وقوله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1] وقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: 23] فالمراد بهذا النوع من قاموا بعبودية الله، وأخلصوا له الدين على اختلاف طبقاتهم.
فالعبودية الأولى: يدخل فيها البر والفاجر.
والعبودية الثانية: صفة الأبرار. ولكنَّ الفرق بين الربوبية والعبودية: أن الربوبية وصف الرب وفعله، والعبودية وصف العبيد وفعلهم.