فصل: القاعدة الرابعة: إذا وقعت النكرة في سياق النفي أو النهي أو الشرط أو الاستفهام دلت على العموم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: القواعد الحسان في تفسير القرآن



بسم الله الرحمن الرحيم

.مقدمة:

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً، أما بعد:
فهذه أصول وقواعد في تفسير القرآن الكريم، جليلة المقدار، عظيمة النفع، تعين قارئها ومتأملها على فهم كلام الله، والاهتداء به، ومخبرها أجل من وصفها. فإنها تفتح للعبد من طرق التفسير، ومنهاج الفهم عن الله: ما يغني عن كثير من التفاسير الخالية من هذه البحوث النافعة.
أرجو الله وأسأله أن يتم ما قصدنا إيراده، ويفتح لنا من خزائن جوده وكرمه ما يكون سبباً للوصول إلى العلم النافع، والهدى الكامل.
واعلم أن علم التفسير أجل العلوم على الإطلاق، وأفضلها وأوجبها وأحبها إلى الله، لأن الله أمر بتدبر كتابه، والتفكر في معانيه، والاهتداء بآياته، وأثنى على القائمين بذلك، وجعلهم في أعلى المراتب، ووعدهم أسنى المواهب، فلو أنفق العبد جواهر عمره في هذا الفن، لم يكن ذلك كثيراً في جنب ما هو أفضل المطالب، وأعظم المقاصد، وأصل الأصول كلها، وقاعدة أساس السعادة في الدارين، وصلاح أمور الدين والدنيا والآخرة، وبه يتحقق للعبد حياة زاهرة بالهدى والخير والرحمة، ويهيئ الله له أطيب الحياة والباقيات الصالحات.
فلنشرع الآن بذكر القواعد والضوابط على وجه الإيجاز الذي يحصل به المقصود، لأنه إذا انفتح للعبد الباب، وتمهدت بفهم القاعدة الأسباب، وتدرب منها بعدة أمثلة توضحها وتبين طريقها ومنهجها، لم يحتج إلى زيادة البسط وكثرة التفاصيل، ونسأله تعالى أن يمدنا بعونه ولطفه وتوفيقه، وأن يجعلنا هادين مهتدين بمنه وكرمه وإحسانه.

.القاعدة الأولى: في كيفية تلقي التفسير:

كل من سلك طريقاً وعمل عملاً، وأتاه من أبوابه وطرقه الموصلة إليه، فلابد أن يفلح وينجح ويصل به إلى غايته، كما قال تعالى: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189].
وكلما عظم المطلوب تأكد هذا الأمر، وتعين البحث التام عن أمثل وأقوم الطرق الموصلة إليه، ولا ريب أن ما نحن فيه هو أهم الأمور وأجلها، بل هو أساسها وأصلها.
فاعلم أن هذا القرآن العظيم أنزله الله لهداية الخلق وإرشادهم، وأنه في كل وقت وزمان ومكان يرشد إلى أهدى الأمور وأقومها {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9].
فعلى الناس أن يتلقوا معني كلام الله كما تلقاه الصحابة رضي الله عنهم فإنهم كانوا إذا قرءوا عشر آيات، أو أقل أو أكثر، لم يتجاوزوها حتى يعرفوا ويحققوا ما دلت عليه من الإيمان والعلم والعمل، فينزلونها على الأحوال الواقعة يؤمنون بما احتوت عليه من العقائد والأخبار، وينقادون لأوامرها ونواهيها، ويطبقونها على جميع ما يشهدون من الحوادث والوقائع الموجودة بهم وبغيرهم، ويحاسبون أنفسهم: هل هم قائمون بها أو مخلون بحقوقها ومطلوبها؟ وكيف الطريق إلى الثبات على الأمور النافعة، وتدارك ما نقص منها؟ وكيف التخلص من الأمور الضارة؟ فيهتدون بعلومه، ويتخلقون بأخلاقه وآدابه، ويعلمون أنه خطاب من عالم الغيب والشهادة موجه إليهم، ومطالبون بمعرفة معانيه، والعمل بما يقتضيه.
فمن سلك هذا الطريق الذي سلكوه، وجَدّ واجتهد في تدبر كلام الله، انفتح له الباب الأعظم في علم التفسير، وقويت معرفته واستنارت بصيرته، واستغنى بهذه الطريقة عن كثرة التكلفات، وعن البحوث الخارجية، وخصوصاً إذا كان قد أخذ من علوم العربية جانباً قوياً، وكان له إلمام واهتمام بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأحواله مع أوليائه وأعدائه، فإن ذلك أكبر عون على هذا المطلب.
ومتى علم العبد أن القرآن فيه تبيان كل شيء، وأنه كفيل بجميع المصالح مبين لها، حاث عليها، زاجر عن المضار كلها، وجعل هذه القاعدة نصب عينيه، ونزلها على كل واقع وحادث سابق أو لاحق، ظهر له عظم مواقعها وكثرة فوائدها وثمرتها.
ويلحق بهذه القاعدة:

.القاعدة الثانية: العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب:

وهذه القاعدة نافعة جداً، بمراعاتها يحصل للعبد خير كثير وعلم غزير، وبإهمالها وعدم ملاحظتها يفوته علم كثير، ويقع الغلط والارتباك الخطير.
وهذا الأصل اتفق عليه المحققون من أهل الأصول وغيرهم، فمتى راعيت القاعدة حق الرعاية وعرفت أن ما قاله المفسرون من أسباب النزول إنما هو على سبيل المثال لتوضيح الألفاظ، وليست معاني الألفاظ والآيات مقصورةً عليها. فقولهم: نزلت في كذا وكذا، معناه: أن هذا مما يدخل فيها، ومن جملة ما يراد بها، فإن القرآن- كما تقدم- إنما نزل لهداية أول الأمة وآخرها، حيث تكون وأنى تكون.
والله تعالى قد أمرنا بالتفكر والتدبر لكتابه، فإذا تدبرنا الألفاظ العامة، وفهمنا أن معناها يتناول أشياء كثيرة، فلأي شيء نخرج بعض هذه المعاني، مع دخول ما هو مثلها ونظيرها فيها؟ ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه: إذا سمعت الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فأرعها سمعك، فإنه إما خير تُؤمر به، وإما شر تُنهى عنه.
فمتى مر بك خبر عن صفات الله وأسمائه، وعما يستحقه من الكمال، وما يتنزه عنه من النقص. فأثبت له جميع ذلك المعنى الكامل الذي أثبته سبحانه لنفسه ونزّهه عن كل ما نزه نفسه عنه، وكذلك إذا مر بك خبر عن رسله وكتبه واليوم الآخر، وعن جميع الأمور السابقة واللاحقة، فاجزم جزماً لا شك فيه أنه حق على حقيقته، بل هو أعلى أنواع الحق والصدق، قيلا وحديثا.
وإذا أمر بشيء نظرت إلى معناه، وما يدخل فيه وما لا يدخل، وعلمت أن ذلك الأمر موجه إلى جميع الأمة، وكذلك في النهي.
ولهذا كانت معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله أصلَ كل الخير والفلاح، والجهل بذلك أصل كل الشر والخسران.
فمراعاة هذه القاعدة أكبر عون على معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله والقيام بها. والقرآن قد جمع أجل المعاني وأنفعها وأصدقها بأوضح الألفاظ وأحسنها كما قال تعالى: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} [الفرقان: 33]، يوضح ذلك ويبينه وينهج طريقته.

.القاعدة الثالثة: الألف واللام الداخلة على الأوصاف وأسماء الأجناس تفيد الاستغراق بحسب ما دخلت عليه:

وقد نص على ذلك أهل الأصول وأهل العربية، واتفق على اعتبار ذلك أهل العلم والإيمان. فمثلُ قوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} إلى قوله تعالى: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب: 35] يدخل في هذه الأوصاف كل ما تناوله من معاني الإسلام والإيمان والقنوت والصدق إلى آخرها. وأن بكمال هذه الأوصاف يكمل لصاحبها ما رتب عليها من المغفرة والأجر العظيم، وبنقصانها ينقص، وبعدمها يفقد، وهكذا كل وصف رتب عليه خير وأجر وثواب، وكذلك ما يقابل ذلك كل وصف نَهى الله عنه ورتب عليه وعلى المتصف به عقوبة وشراً ونقصاً، يكون له من ذلك بحسب ما قام به من الوصف المذكور، وكذلك مثل قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21)} [المعارج: 19- 21]، عام لجنس الإنسان.
فكل إنسان هذا وصفه إلا من استثنى الله بقوله: {إِلَّا الْمُصَلِّينَ} [المعارج: 22] إلى آخرها كما أن قوله: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)} [العصر: 1- 2] دال على أن كل إنسان عاقبته ومآله إلى الخسار {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العصر: 3] وأمثال ذلك كثير.
وأعظم ما تعتبر به هذه القاعدة: في الأسماء الحسنى، فإن في القرآن منها شيئاً كثيراً، وهي من أجل علوم القرآن بل هي المقصد الأول للقرآن.
فمثلاً يخبر الله عن نفسه: أنه الرب الحي القيوم، وأنه الملك والعليم والحكيم، والعزيز والرحيم، والقدوس السلام، والحميد المجيد. فالله هو الذي له جميع معاني الربوبية التي يستحق أن يؤله لأجلها وهي صفات الكمال كلها، والمحامد كلها له، والفضل كله، والإحسان كله، وأنه لا يُشارِك اللهَ أحد في معنى من معاني الربوبية {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] لا بشر ولا مَلَك، بل هم جميعاً عبيد مربوبون لربهم بكل أنواع الربوبية، مقهورون خاضعون لجلاله وعظمته، فلا ينبغي أن يكون أحد منهم نداً، ولا شريكا لله في عبادته وإلهيته، فبربوبيته سبحانه يربي الجميع من ملائكة وأنبياء وغيرهم: خلقاً ورزقاً وتدبيراً وإحياء وإماتة، وهم يشكرونه على ذلك بإخلاص العبادة كلها له وحده، فيؤلهونه ولا يتخذون من دونه ولياً ولا شفيعاً، فالإلهية حق له سبحانه على عبادته بصفة ربوبيته، وأنه الملك الذي له جميع معاني الملك، وهو الملك الكامل والتصرف النافذ، وأن الخلق كلهم مماليك لله، عبيد تحت أحكام ملكه القدرية والشرعية والجزائية، وأنه العليم بكل شيء، الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، الذي أحاط علمه بالبواطن والظواهر والخفيات والجليات والواجبات والمستحيلات، والجائزات.
والأمور السابقة واللاحقة والعالم العلوي والسفلي والكليات والجزئيات. وما يعلم الخلق وما لا يعلمون {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255] وأنه الحكيم الذي له الحكمة التامة الشاملة لجميع ما قضاه وقدره وخلقه، وجميع ما شرعه لا يخرج عن حكمته، لا مخلوق ولا مشروع، وأنه العزيز الذي له جميع معاني العزة على وجه الكمال التام من كل وجه، عزة القوة وعزة الامتناع، وعزة القهر والغلبة، وأن جميع الخلق في غاية الذل ونهاية الفقر، ومنتهى الحاجة والضرورة إلى ربهم، وأنه الرحمن الرحيم الذي له جميع معاني الرحمة الذي وسعت رحمته كل شيء، ولم يخل مخلوق من إحسانه وبره طرفة عين. تبلغ رحمته حيث يبلغ علمه {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً} [غافر: 7] وأنه القدوس السلام، المعظم المنزه عن كل عيب وآفة ونقص، وعن مماثلة أحد، وعن أن يكون له ند من خلقه.
وهكذا بقية الأسماء الحسنى، اعتبرْها بهذه القاعدة الجليلة ينفتح لك باب عظيم من أبواب معرفة الله، بل أصل معرفة الله تعالى معرفة ما تحتوي عليه أسماؤه الحسنى، وتقتضيه من المعاني العظيمة، بحسب ما يقدر عليه العبد، وإلا فلن يبلغ علم أحد من الخلق بذلك، ولن يحصي أحد ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني عليه عباده.
ومن ذلك قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]، يشمل جميع أنواع البر والخير، وتشمل التقوى جميع ما يجب اتقاؤه من أنواع المَخُوفات والمعاصي والمحرمات. والإثم: اسم جامع لكل ما يؤثم، ويوقع في المعصية. كما أن العدوان: اسم جامع يدخل فيه جميع أنواع التعدي على الناس في الدماء والأموال والأعراض، والتعدي على مجموع الأمة، وعلى الحكومات والتعدي على حدود الله.
والمعروف في القرآن: اسم جامع لكل ما عرف حسنه شرعاً وعقلاً، وعكسه: المنكر والسوء والفاحشة.
وقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى هذه القاعدة، وأرشدهم إلى اعتبارها إذ علمهم أن يقولوا في التشهد في الصلاة: «السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين» فقال: «فإنكم إذا قلتم ذلك سلمتم على كل عبد صالح من أهل السماء والأرض». رواه البخاري.
وأمثلتها في القرآن كثيرة جداً.

.القاعدة الرابعة: إذا وقعت النكرة في سياق النفي أو النهي أو الشرط أو الاستفهام دلت على العموم:

كقوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [النساء: 36] فإنه نهى عن الشرك به في النيات، والأقوال والأفعال، وعن الشرك الأكبر، والأصغر والخفي، والجلي. فلا يجعل العبد لله نداً ومشاركاً في شيء من ذلك.
ونظيرها قوله: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً} [البقرة: 22].
وقوله في وصف يوم القيامة: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً} [الانفطار: 19]، يعم كل نفس، وأنها لا تملك شيئاً من الأشياء، لأي نفس أخرى، مهما كانت الصلة، لا إيصال شيء من المنافع، ولا دفع شيء من المضار.
وكقوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس: 107]، فكل ضر قدره الله على العبد ليس في استطاعة أحد من الخلق كائنا من كان كشفه بوجه من الوجوه.
ونهاية ما يقدر عليه المخلوق من الأسباب والأدوية: إنما هو جزء من أجزاء كثيرة داخلة في قضاء الله وقدره.
وقوله: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 2] وقوله: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53] يشمل كل خير في العبد ويصيب العبد، وكل نعمة فيها حصول محبوب، أو دفع مكروه، فإن الله هو المنفرد بذلك وحده.
وقوله: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُو} [فاطر: 3]، وإذا دخلت (من) صارت نصًّا في العموم كهذه الآية: {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 47] وقوله: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59]، ولها أمثلة كثيرة جدًّا.

.القاعدة الخامسة: المقرر أن المفرد المضاف يفيد العموم كما يفيد ذلك اسم الجمع:

فكما أن قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] إلى آخرها يشمل كل أم انتسبت إليها، وإن علت. وكل بنت انتسبت إليك وإن نزلت- إلى آخر المذكورات- فكذلك قوله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11] فإنها تشمل النعم الدينية والدنيوية، وقوله: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162] فإنها تعم الصلوات كلها، والأنساك كلها، وجميع ما العبد فيه وعليه في حياته ومماته، الجميع من الله فضلاً وإحساناً، وأنك قد أتيت ما أتيت منه وأوقعته وأخلصته لله وحده، لا شريك له.
وقوله: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة: 125] على أحد القولين: إنه يشمل جميع مقاماته في مشاعر الحج: اتخذوه معبداً.
وأصْرَح من هذا قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} [النحل: 123]، وهذا شامل لكل ما هو عليه من التوحيد والإخلاص لله تعالى، والقيام بحق العبودية.
وأعم من ذلك وأشمل: قوله تعالى لما ذكر الأنبياء: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] فأمره الله أن يقتدي بجميع ما عليه المرسلون من الهدى، الذي هو العلوم النافعة والأخلاق الزاكية، والأعمال الصالحة، والهدى المستقيم. وهذه الآية أحد الأدلة على الأصل المعروف: (أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه) وشرع الأنبياء السابقين هو هداهم في أصول الدين وفروعه، وكذلك قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام: 153]، وهذا يعم جميع ما شرعه لعباده، فعلاً وتركاً، اعتقاداً وانقياداً، وأضافه إلى نفسه في هذه الآية لكونه هو الذي نصبه لعباده، كما أضافه إلى الذين أنعم عليهم في قوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] لكونهم هم السالكين له. فصراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ما اتصفوا به من العلوم والأخلاق والأوصاف والأعمال وكذلك قوله: {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف: 110] يدخل في ذلك جميع العبادات الظاهرة والباطنة، العبادات الاعتقادية والعملية، كما أن وصف الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بالعبودية المضافة إلى الله كقوله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1] وكقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: 23] وقوله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان: 1] تدل على أنه وفَّي جميع مقامات العبودية، حيث نال أشرف المقامات بتوفيته لجميع مقامات العبودية، وقوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36] فكلما كان العبد أقوم بحقوق العبودية كانت كفاية الله له أكمل وأتم، وما نقص منها نقص من الكفاية بحسبه.
وقوله: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر: 50]، وقوله: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40] يشمل جميع أوامره القدرية الكونية. وهذا في القرآن شيء كثير.