فصل: تفسير الآيات (109- 111):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (106- 108):

{فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)}
قوله: {الذين شقوا} على بعض التأويلات في الاستثناء الذي في آخر الآية يراد به كل من يعذب من كافر وعاص- وعلى بعضها- كل من يخلد، وذلك لا يكون إلا في الكفرة خاصة.
وال {زفير}: صوت شديد خاص بالمحزون أو الوجع أو المعذب ونحوه، وال {شهيق} كذلك. كما يفعل الباكي الذي يصيح خلال بكائه، وقال ابن عباس: الزفير: صوت حاد. والشهيق صوت ثقيل، وقال أبو العالية الزفير من الصدر والشهيق من الحلق وقيل: بالعكس. وقال قتادة الزفير: أول صوت الحمار. والشهيق: آخره. فصياح أهل النار كذلك. وقيل الزفير: مأخوذ من الزفر وهو الشدة، والشهيق: من قولهم: جبل شاهق أي عال. فهما- على هذا المعنى- واحد أو متقارب، والظاهر ما قال أبو العالية: فإن الزفرة هي التي يعظم معها الصدر والجوف والشهقة هي الوقعة الأخيرة من الصوت المندفع معها النفس أحياناً، فقد يشهق المحتضر ويشهق المغشي عليه.
وأما قوله: {ما دامت السماوات والأرض} فقيل معناه أن الله تعالى يبدل السماوات والأرض يوم القيامة، ويجعل الأرض مكاناً لجهنم والسماء مكاناً للجنة، ويتأبد ذلك، فقرنت الآية خلود هؤلاء ببقاء هذه؛ ويروى عن ابن عباس أنه قال: إن الله خلق السماوات والأرض من نور العرش ثم يردهما إلى هنالك في الآخرة، فلهما ثم بقاء دائم، وقيل معنى قوله: {ما دامت السماوات والأرض} العبارة عن التأبيد بما تعهده العرب، وذلك أن من فصيح كلامها إذا أرادت أن تخبر عن تأبيد شيء أن تقول: لا أفعل كذا وكذا مدى الدهر، وما ناح الحمام و{ما دامت السماوات والأرض}، ونحو هذا مما يريدون به طولاً من غير نهاية، فأفهمهم الله تعالى تخليد الكفرة بذلك وإن كان قد أخبر بزوال السماوات والأرض.
وأما قوله: {إلا ما شاء ربك} فقيل فيه: إن ذلك على طريق الاستثناء الذي ندب الشرع إلى استعماله في كل كلام، فهو على نحو قوله: {لتدخلن المسجد الحرام- إن شاء الله- آمنين} [الفتح: 27] استثناء في واجب، وهذا الاستثناء في حكم الشرط كأنه قال: إن شاء الله، فليس يحتاج إلى أن يوصف بمتصل ولا بمنقطع، ويؤيد هذا قوله: {عطاء غير مجذوذ} وقيل: هو استثناء من طول المدة، وذلك على ما روي من أن جهنم تخرب ويعدم أهلها وتغلق أبوابها فهم- على هذا- يخلدون حتى يصير أمرهم إلى هذا.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول مختل، والذي روي ونقل عن ابن مسعود وغيره إنما هو الدرك الأعلى المختص بعصاة المؤمنين، وهو الذي يسمى جهنم، وسمي الكل به تجوزاً.
وقيل: إنما استثنى ما يلطف الله تعالى به للعصاة من المؤمنين في إخراجهم بعد مدة من النار، فيجيء قوله: {إلا ما شاء ربك} أي لقوم ما، وهذا قول قتادة والضحاك وأبي سنان وغيرهم، وعلى هذا فيكون قوله: {فأما الذين شقوا} عاماً في الكفرة والعصاة- كما قدمنا- ويكون الاستثناء من {خالدين}، وقيل: {إلا} بمعنى الواو، فمعنى الآية: وما شاء الله زائداً على ذلك، ونحو هذا قول الشاعر: [الوافر]
وكل أخ مفارقه أخوه ** لعمر أبيك إلا الفرقدان

قال القاضي أبو محمد: وهذا البيت يصح الاستشهاد به على معتقدنا في فناء الفرقدين وغيرهما من العالم، وأما إن كان قائله من دهرية العرب فلا حجة فيه، إذ يرى ذلك مؤبداً فأجرى {إلا} على بابها.
وقيل {إلا} في هذه الآية بمعنى سوى، والاستثناء منقطع، كما تقول: لي عندك ألفا درهم إلا الألف التي كنت أسلفتك، بمعنى سوى تلك، فكأنه قال: {خالدين فيها ما دامت المساوات والأرض} سوى ما شاء الله زائداً على ذلك، ويؤيد هذا التأويل قوله بعد: {عطاء غير مجذوذ}، وهذا قول الفراء، فإنه يقدر الاستثناء المنقطع ب سوى؛ وسيبويه يقدره ب لكن؛ وقيل سوى ما أعده لهم من أنواع العذاب مما لا يعرف كالزمهرير ونحوه، وقيل استثناء من مدة السماوات: المدة التي فرطت لهم في الحياة الدنيا؛ وقيل في البرزخ بين الدنيا والآخرة؛ وقيل: في المسافات التي بينهم في دخول النار، إذ دخولهم إنما هو زمراً بعد زمر؛ وقيل: الاستثناء من قوله: {ففي النار} كأنه قال: إلا ما شاء ربك من تأخير عن ذلك، وهذا قول رواه أبو نضرة عن جابر أو عن أبي سعيد الخدري.
ثم أخبر منبهاً على قدرة الله تعالى بقوله: {إن ربك فعال لما يريد}.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم- في رواية أبي بكر- {سَعدوا} بفتح السين، وهو فعل لا يتعدى؛ وقرأ حمزة والكسائي وعاصم- في رواية حفص- {سُعدوا} بضم السين، وهي شاذة ولا حجة في قولهم: مسعود، لأنه مفعول من أسعد على حذف الزيادة كما يقال: محبوب، من أحب، ومجنون من أجنه الله، وقد قيل في مسعود: إنما أصله الوصف للمكان، يقال: مكان مسعود فيه ثم نقل إلى التسمية به؛ وذكر أن الفراء حكى أن هذيلاً تقول: سعده الله بمعنى أسعده. وبضم السين قرأ ابن مسعود وطلحة بن مصرف وابن وثاب والأعمش.
والأقوال المترتبة في استثناء التي قبل هذه تترتب هاهنا إلا تأويل من قال: هو استثناء المدة التي تخرب فيها جهنم، فإنه لا يترتب مثله في هذه الآية، ويزيد هنا قول: أن يكون الاستثناء في المدة التي يقيمها العصاة في النار؛ ولا يترتب أيضاً تأويل من قال في تلك: إن الاستثناء هو من قوله: {في النار}.
وقوله: {عطاء غير مجذوذ}، نصب على المصدر، والمجذوذ: المقطوع. والجذ: القطع وكذلك الجد وكذلك الحز.

.تفسير الآيات (109- 111):

{فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آَبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111)}
لفظ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى له ولأمته، ولم يقع لأحد شك فيقع عنه نهي ولكن من فصاحة القول في بيان ضلالة الكفرة إخراجه في هذه العبارة، أي حالهم أوضح من أن يمترى فيها، وال {مرية}: الشك، و{هؤلاء} إشارة إلى كفار العرب عبدة الأصنام؛ ثم قال: {ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل}. المعنى: أنهم مقلدون لا برهان عندهم ولا حجة، وإنما عبادتهم تشبهاً منهم بآبائهم لا عن بصيرة؛ وقوله: {وإنَّا لموفوهم نصيبهم غير منقوص} وعيد، ومعناه: العقوبة التي تقتضيها أعمالهم، ويظهر من قوله: {غير منقوص} أن على الأولين كفلاً من كفر الآخرين.
وقرأ الجمهور {لموَفّوهم} بفتح الواو وشد الفاء، وقرأ ابن محيصن {لموفوهم} بسكون الواو وتخفيف الفاء.
وقوله تعالى: {ولقد آتينا موسى الكتاب} الآية، تسلية لمحمد صلى الله عليه وسلم وذكر قصة موسى مثل له، أي لا يعظم عليك أمر من كذبك، فهذه هي سيرة الأمم، فقد جاء موسى، بكتاب فاختلف الناس عليه.
وقوله: {ولولا كلمة سبقت من ربك} إلى آخر الآية، يحتمل أن يريد به أمة موسى، ويحتمل أن يريد به معاصري محمد عليه السلام؛ وأن يعمهم اللفظ أحسن-عندي- ويؤكد ذلك قوله: {وإن كلاً} والكلمة هاهنا عبارة عن الحكم والقضاء والمعنى {لقضي بينهم} أي لفصل بين المؤمن والكافر، بنعيم هذا وعذاب هذا.... ووصف الشك بالمريب تقوية لمعنى الشك.
وقرأ الكسائي وأبو عمرو: {وإنَّ كلاًّ لمَا} بتشديد النون وتخفيف الميم من {لما} وقرأ ابن كثير ونافع بتخفيفهما، وقرأ حمزة بتشديدهما، وكذلك حفص عن عاصم؛ وقرأ عاصم- في رواية أبي بكر- بتخفيف {إنْ} وتشديد الميم من {لمّا} وقرأ الزهري وسليمان بن أرقم: {وإن كلاًّ لمَّاً} بتشديد الميم وتنوينها. وقرأ الحسن بخلاف: {وإنْ كلّ لما} بتخفيف {إن} ورفع {كلٌّ} وشد {لمّا} وكذلك قرأ أبان بن تغلب إلا أنه خفف {لما}، وفي مصحف أبيّ وابن مسعود {وإن كل إلا ليوفينهم} وهي قراءة الأعمش، قال أبو حاتم: الذي في مصحف أبيّ: {وإن من كل إلا ليوفينهم أعمالهم}. فأما الأول ف {إن} فيها على بابها، و{كلاًّ} اسمها، وعرفها أن تدخل على خبرها لام. وفي الكلام قسم تدخل لامه أيضاً على خبر {إن} فلما اجتمع لامان فصل بينهما ب {ما}- هذا قول أبي علي- والخبر في قوله: {ليوفينهم}، وقال بعض النحاة: يصح أن تكون {ما} خبر {إن} وهي لمن يعقل لأنه موضع جنس وصنف، فهي بمنزلة من، كأنه قال: وإن كلاًّ لخلق ليوفينهم؛ ورجح الطبري هذا واختاره، اما أنه يلزم القول أن تكون {ما} موصوفة إذ هي نكرة، كما قالوا: مررت بما معجب لك، وينفصل بأن قوله: {ليوفينهم} يقوم معناه مقام الصفة، لأن المعنى: وإن كلاً لخلق موفى عمله، وأما من خففها- وهي القراءة الثانية في ترتيبنا فحكم {إن} وهي مخففة حكمها مثقلة، وتلك لغة فصيحة، حكى سيبويه أن الثقة أخبره: أنه سمع بعض العرب يقول: إن عمراً لمنطلق وهو نحو قول الشاعر:
ووجه مشرق النحر ** كأن ثدييه حقان

رواه أبو زيد.
ويكون القول في فصل ما بين اللامين حسبما تقدم، ويدخلها القول الآخر من أن تكون ما خبر إن وأما من شددهما أو خفف إنْ وشدد الميم ففي قراءتيهما إشكال، وذلك أن بعض الناس قال: إن لما بمعنى إلا، كما تقول: سألتك لما فعلت كذا وكذا بمعنى إلا فعلت قال أبو علي: وهذا ضعيف لأن لما هذه لا تفارق القسم، وقال بعض الناس: المعنى لمن ما أبدلت النون ميماً، وأدغمت في التي بعدها فبقي لمما فحذفت الأولى تخفيفاً لاجتماع الأمثلة، كما قرأ بعض القراء {والبغي يعظكم} [النحل: 90] به بحذف الياء مع الياء وكما قال الشاعر:
وأشمت العداة بنا فأضحوا ** لدى يتباشرون بما لقينا

قال أبو علي وهذا ضعيف؛ وقد اجتمع في هذه السورة ميمات أكثر من هذه في قوله: {أمم ممن معك} [هود: 48] ولم يدغم هناك فأحرى أن لا يدغم هنا.
قال القاضي أبو محمد: وقال بعض الناس أصلها: لمن ما، ف من خبر إن وما زائدة وفي التأويل الذي قبله أصله: لمن ما، ف ما هي الخبر دخلت عليها من على حد دخولها في قول الشاعر:
وإنا لمن ما نضرب الكبش ضربة ** على رأسه تلقي اللسان من الفم

وقالت فرقة لما أصلها لماً منونة، والمعنى: وإن كلاً عاماً حصراً شديداً، فهو مصدر لم يلم، كما قال: {وتأكلون التراث أكلاً لمَّاً} [الفجر: 19] أي شديداً قالت: ولكنه ترك تنوينه وصرفه وبني منه فعلى كما فعل في تترى فقرئ: تترى.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا نظر، حكي عن الكسائي أنه قال: لا أعرف وجه التثقيل في لما، قال أبو علي: وأما من قرأ {لمَّا} بالتنوين وشد الميم فواضح الوجه كما بينا، وأما من قرأ: {وإن كل لما} فهي المخففة من الثقيلة، وحقها- في أكثر لسان العرب- أن يرتفع ما بعدها، و{لما} هنا بمعنى إلا، كما قرأ جمهور القراء: {إن كل نفس لما عليها حافظ} [الطارق: 4]. ومن قرأ {إلا} مصرحة فمعنى قراءته واضح، وهذه الآية وعيد.
وقرأ الجمهور: {يعملون} بياء على ذكر الغائب، وقرأ الأعرج {تعملون} بتاء على مخاطبة الحاضر.

.تفسير الآيات (112- 115):

{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)}
أمر النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاستقامة وهو عليها إنما هو أمر بالدوام والثبوت، وهذا كما تأمر إنساناً بالمشي والأكل ونحوه وهو ملتبس به. والخطاب بهذه الآية للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين تابوا من الكفر، ولسائر أمته بالمعنى، وروي أن بعض العلماء رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال له: يا رسول الله بلغنا عنك أنك قلت: شيبتني هود وأخواتها فما الذي شيبك من هود؟ قال له: قوله تعالى: {فاستقم كما أمرت}.
قال القاضي أبو محمد: والتأويل المشهور في قوله عليه السلام: شيبتني هود وأخواتها- أنها إشارة إلى ما فيها مما حل بالأمم السابقة، فكان حذره على هذه الأمة مثل ذلك شيبه عليه السلام.
وقوله: {أمرت} مخاطبة تعظيم، وقوله: {ومن} معطوف على الضمير في قوله: {فاستقم}، وحسن ذلك دون أن يؤكد لطول الكلام بقوله: {كما أمرت}. و{لا تطغوا} معناه: ولا تتجاوزوا حدود الله تعالى، والطغيان: تجاوز الحد ومنه قوله: {طغى الماء} [الحاقة: 11] وقوله في فرعون: {إنه طغى} [طه: 24-43، النازعات: 17]، وقيل في هذه معناه: ولا تطغينكم النعم، وهذا كالأول.
وقرأ الجمهور {تعملون} بتاء، وقرأ الحسن والأعمش {يعملون} بياء من تحت- وقرأ الجمهور: {ولا تركَنوا} بفتح الكاف، وقرأ طلحة بن مصرف وقتادة والأشهب العقيلي وأبو عمرو- فيما روى عنه هارون- بضمها، وهو لغة، يقال: ركن يركَن وركن يركُن، ومعناه السكون، إلى شيء والرضا به قال أبو العالية: {الركون}: الرضا. قال ابن زيد: {الركون}: الإدمان.
قال القاضي أبو محمد: فالركون يقع على قليل هذا المعنى وكثيره، والنهي هنا يترتب من معنى الركون على الميل إليهم بالشرك معهم إلى أقل الرتب من ترك التغيير عليهم مع القدرة، و{الذين ظلموا} هنا هم الكفار، وهو النص للمتأولين، ويدخل بالمعنى أهل المعاصي.
وقرأ الجمهور {فتَمسكم}، وقرأ يحيى وابن وثاب وعلقمه والأعمش وابن مصرف وحمزة- فيما روي عنه- {فتِمسكم} بكسر التاء وهي لغة في كسر العلامات الثلاث دون الياء التي للغائب، وقد جاء في الياء يِيجل ويِيبى، وعللت هذه بأن الياء التي وليت الأولى ردتها إلى الكسر.
وقوله تعالى: {أقم الصلاة} الآية، لم يختلف أحد في أن {الصلاة} في هذه الآية يراد بها الصلوات المفروضة، واختلف في {طرفي النهار} وزلف الليل فقيل: الطرف الأول الصبح، والثاني الظهر والعصر والزلف المغرب والعشاء، قاله مجاهد ومحمد بن كعب القرظي وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المغرب والعشاء: «هما زلفتا الليل» وقيل: الطرف الأول: الصبح، والثاني: العصر، قاله الحسن وقتادة والضحاك، والزلف: المغرب والعشاء، وليست الظهر في هذه الآية على هذا القول- بل هي في غيرها، وقيل الطرفان: الصبح والمغرب- قاله ابن عباس والحسن- أيضاً- والزلف: العشاء، وليست في الآية الظهر والعصر. وقيل: الطرفان: الظهر والعصر، والزلف: المغرب والعشاء والصبح.
قال القاضي أبو محمد: كأن هذا القائل راعى جهر القراءة، والأول أحسن هذه الأقوال عندي ورجح الطبري أن الطرفين: الصبح والمغرب، وأنه الظاهر، إلا أن عموم الصلوات الخمس بالآية أولى.
وقرأ الجمهور {زلَفاً} بفتح اللام، وقرأ طلحة بن مصرف وابن محيصن وعيسى وابن إسحاق وأبو جعفر {زلُفاً} بضم اللام كأنه اسم مفرد. وقرأ {زلْفاً} بسكون اللام مجاهد، وقرأ أيضاً: {زلفى} على وزن- فعلى- وهي قراءة ابن محيصن. والزلف: الساعات القريب بعضها من بعض. ومنه قول العجاج: [الرجز]
ناج طواه الأين مما وجفا ** طي الليالي زلفاً فزلفا

سماوة الهلال حتى احقوقفا

وقوله: {إن الحسنات يذهبن السيئات}، ذهب جمهور المتأولين من صحابة وتابعين إلى أن {الحسنات} يراد بها الصلوات الخمس- وإلى هذه الآية ذهب عثمان- رضي الله عنه- عند وضوئه على المقاعد وهو تأويل مالك، وقال مجاهد: {الحسنات}: قول الرجل: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كله إنما هو على جهة المثال في الحسنات، ومن أجل أن الصلوات الخمس هي أعظم الأعمال، والذي يظهر أن لفظ الآية لفظ عام في الحسنات خاص في السيئات بقوله عليه السلام: «ما اجتنبت الكبائر».
وروي أن هذه الآية نزلت في رجل من الأنصار، قيل: هو أبو اليسر بن عمرو، وقيل: اسمه عباد، خلا بامرأة فقبلها وتلذّذ بها فيما دون الجماع، ثم جاء إلى عمر فشكا إليه، فقال: قد ستر الله عليك فاستر على نفسك، فقلق الرجل فجاء أبا بكر فشكا إليه، فقال له مثل مقالة عمر، فقلق الرجل فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى معه، ثم أخبره وقال: اقض فيَّ ما شئت، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لعلها زوجة غاز في سبيل الله، قال: نعم، فوبخه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ما أدري، فنزلت هذه الآية، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلاها عليه: فقال معاذ بن جبل: يا رسول الله خاصة؟ قال: بل للناس عامة. وروي أن الآية كانت نزلت قبل ذلك واستعملها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الرجل وروي أن عمر قال ما حكي عن معاذ.
قال القاضي أبو محمد: وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الجمعة إلى الجمعة، والصلوات الخمس، ورمضان إلى رمضان- كفارة لما بينها إن اجتنبت الكبائر» فاختلف أهل السنة في تأويل هذا الشرط في قوله: إن اجتنبت الكبائر، فقال جمهورهم: هو شرط في معنى الوعد كله، أي إن اجتنبت الكبائر كانت العبادات المذكورة كفارة للذنوب، فإن لم تجتنب لم تكفر العبادات شيئاً من الصغائر. وقالت فرقة: معنى قوله إن اجتنبت: أي هي التي لا تحطها العبادات، فإنما شرط ذلك ليصح بشرطه عموم قوله: ما بينهما، وإن لم تحطها العبادات وحطت الصغائر.
قال القاضي أبو محمد: وبهذا أقول وهو الذي يقتضيه حديث خروج الخطايا مع قطر الماء وغيره؛ وذلك كله بشرط التوبة من تلك الصغائر وعدم الإصرار عليها، وهذا نص الحذاق الأصوليين. وعلى التأويل الأول تجيء هذه مخصوصة في مجتنبي الكبائر فقط.
وقوله ذلك إشارة إلى الصلوات، ووصفها ب {ذكرى}، أي هي سبب ذكر وموضع ذكرى، ويحتمل أن يكون ذلك إشارة إلى الإخبار ب {إن الحسنات يذهبن السيئات}، فتكون هذه الذكرى تحض على الحسنات، ويحتمل أن تكن الإشارة إلى جميع ما تقدم من الأوامر والنواهي في هذه السورة، وهو تفسير الطبري.
ثم أمره تعالى بالصبر، وجاءت هذه الآيات في نمط واحد: أعلمه الله تعالى أنه يوفي جميع الخلائق أعمالهم المسيء والمحسن، ثم أمره بالاستقامة والمؤمنين معه، ثم أمره بإقامة الصلوات ووعد على ذلك ثم أمره بالصبر على التبليغ والمكاره في ذات الله تعالى، ثم وعد بقوله: {إن الله لا يضيع أجر المحسنين}.