فصل: تفسير الآيات (24- 37):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (24- 37):

{لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37)}
قال أبو عبيدة والكسائي والفضل بن خالد ومعاذ النحوي: البرد في هذه الآية: النوم، والعرب تسمه بذلك لأنه يبرد سؤر العطش، ومن كلامهم منع البرد البرد، وقال جمهور الناس: البرد في الآية: مسر الهواء البارد وهو القر، أي لا يمسهم منه ما يستلذ ويكسر غرب الحر، فالذوق على هذين القولين مستعار، وقال ابن عباس: البرد: الشراب المستلذ، ومنه قول حسان بن ثابت: [الكامل]
يسقون من ورد البريص عليهمُ ** بردى يصفق بالرحيق السلسل

ومنه قول الآخر: [الطويل]
أماني من سعدى حسان كأنما ** سقتني بها سعدى على ظمأ بردا

ثم قال تعالى: {ولا شراباً إلا حميماً} فالاستثناء متصل والحميم: الحار الذائب وأكثر استعماله في الماء السخن والعرق ومنه الحمام، وقال ابن زيد: الحميم: دموع أعينهم، وقال النقاش: ويقال الحميم الصفر المذاب المتناهي الحر، واختلف الناس في الغساق، فقال قتادة والنخعي وجماعة: هو ما يسيل من أجسام أهل النار من صديد ونحوه، يقال: غسق الجرح: إذا سال منه قيح ودم، وغسقت العين: إذا دمعت وإذا خرج قذاها، وقال ابن عباس ومجاهد: الغساق: مشروب لهم مفرط الزمهرير، كأنه في الطرف الثاني من الحميم يشوي الوجوه ببرده، وقال عبد الله بن بريدة: الغساق: المنتن، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وابن عامر وعاصم وجماعة من الجمهور: {غسَاقاً}، بتخفيف السين وهو اسم على ما قدمناه، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وابن أبي إسحاق السبيعي والحكم بن عتبة وقتادة وابن وثاب: {غسّاقا}ً مشددة السين وهي صفة أقيمت مقام الموصوف، كأنه قال ومشروب غساق أي سائل من أبدانهم، وقوله تعالى: {وفاقاً} معناه لأعمالهم وكفرهم أي هو جزاؤهم الجدير بهم الموافق مع التحذير لأعمالهم فهي كفر، والجزاء: نار، و{يرجون} قال أبو عبيدة وغيره: معناه: يخافون، وقال غيره: الرجاء هنا على بابه، ولا رجاء إلا وهو مقترن بخوف ولا خوف إلا وهو مقترن برجاء، فذكر أحد القسمين لأن المقصد العبارة عن تكذيبهم كأنه قال: إنهم كانوا لا يصدقون بالحساب، فلذلك لا يرجونه ولا يخافونه، وقرأ جمهور الناس: {كِذّاباً} بشد الذال وكسر الكاف وهو مصدر بلغة بعض العرب، وهي يمانية ومنه قول أحدهم وهو يستفتي:
ألحلق أحب إليك أم القصار

ومنه قول الشاعر: [الطويل]
لقد طال ما ثبطتني عن صحابتي ** وعن حاجة قضاؤها من شفائيا

وهذا عندهم مصدر من فعّل، وقال الطبري: لم يختلف القراء في هذا الموضع في {كذاباً}.
قال القاضي أبو محمد: وأراه أراد السبعة، وأما في الشاذ، فقرأ علي بن أبي طالب وعوف الأعرابي وعيسى والأعمش وأبو رجاء: {كِذَاباً} بكسر الكاف وبتخفيف الذال، وقرأ عبد الله بن عمر بن عبد العزيز: {كُذّاباً} بضم الكاف وشد الذال على أنه جمع كاذب ونصبه على الحال قاله أبو حاتم، وقوله تعالى: {وكل شيء أحصيناه}، يريد كل شيء شأنه أن يحضر في هذا الخبر وربط لآخر القصة بأولها أي هم مكذبون وكافرون، ونحن قد أحصينا، فالقول لهم في الآخرة {ذوقوا فلن نزيدكم إلا عذاباً} رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولما ذكر تعالى أمر أهل النار عقب بذكر أهل الجنة ليبين الفرق. والمفاز: موضع الفوز لأنهم زحزحوا على النار وأدخلوا الجنة. والحدائق: البساتين التي عليها حلق وجدارات وحظائر. و{أتراباً} معناه: على سن واحدة، والتربان هما اللذان مسا التراب في وقت واحد، والدهاق: المترعة فيما قال الجمهور، وقال ابن جبير معناه: المتتابعة وهي من الدهق، وقال عكرمة: هي الصفية، وفي البخاري قال ابن عباس: سمعت أبي في الجاهلية يقول للساقي: اسقنا كأساً دهاقاً، واللغو: سقط الكلام وهو ضروب، وقد تقدم القول في {كذاباً} إلا أن الكسائي من السبعة قرأ في هذا الموضع {كذَاباً} بالتخفيف وهو مصدر، ومنه قول الأعشى: [مجزوء الكامل]
فصدقتها وكذبتها ** والمرء ينفعه كذابه

واختلف المتألون: في قوله: {حساباً}، فقال جمهور المفسرين واللغويين معناه: محسباً، كافياً في قولهم أحسبني هذا الأمر أي كفاني، ومنه حسبي الله، وقال مجاهد معناه: إن {حساباً} معناه بتقسط على الأعمال لأن نفس دخول الجنة برحمة الله وتفضله لا بعمل، والدرجات فيها والنعيم على قدر الأعمال، فإذا ضاعف الله لقوم حسناتهم بسبعمائة مثلاً ومنهم المكثر من الأعمال والمقل أخذ كل واحد سبعمائة بحسب عمله وكذلك في كل تضعيف، فالحساب ها هو موازنة أعمال القوم. وقرأ الجمهور {حِسَاباً}: بكسر الحاء وتخفيف السين المفتوحة، وقرأ ابن قطب {حَسّاباً}: بفتح الحاء وشد الشين. قال أبو الفتح جاء بالاسم من أفعل على فعال، كما قالوا أدرك فهو: دراك، فقرأ ابن عباس وسراج: {عطاء حسناً} بالنون من الحسن وحكى عنه المهدوي أنه قرأ {حَسْباً} بفتح الحاء وسكون السين والباء، وقرأ شريح بن يزيد الحمصي: {حِسَّاباً} بكسر الحاء وشد السين المفتوحة، وقرأ نافع وأبو عمرو والأعرج وأبو جعفر وشيبة وأهل الحرمين: ربُّ بالرفع، وكذلك الرحمنُ، وقرأ ابن عامر وعاصم وابن مسعود وابن أبي إسحاق وابن محيصن والأعمش {رب} وكذلك {الرحمن} وقرأ حمزة والكسائي {ربِّ}: بالخفض و{الرحمنُ} بالرفع وهي قراءة الحسين وابن وثاب وابن محيصن بخلاف عنه ووجوه هذه القراءات بينة، وقوله تعالى: {لا يملكون} الضمير للكفار أي {لا يملكون} من أفضاله وأجماله أن يخاطبوه بمعذرة ولا غيرها، وهذا في مواطن خاص.

.تفسير الآيات (38- 40):

{يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآَبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)}
اختلف الناس في {الروح} المذكورة في هذا الموضع، فقال الشعبي والضحاك: هو جبريل عليه السلام ذكره خاصة من بين الملائكة تشريفاً، وقال ابن مسعود: هو ملك كريم أكبر الملائكة خلقة يسمى ب {الروح}، وقال ابن زيد: كان أبي يقول هو القرآن، وقد قال الله تعالى: {أوحينا إليك روحاً من أمرنا} [الشورى: 52] أي من أمرنا.
قال القاضي أبو محمد: فالقيام فيه مستعار يراد ظهوره مثول آثاره، والأشياء الكائنة عن تصديقه أو تكذيبه ومع هذا ففي القول قلق، وقال مجاهد: {الروح} خلق على صورة بني آدم يأكلون ويشربون وقال ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: «الروح خلق غير الملائكة لهم حفظة للملائكة كما الملائكة حفظة لنا»، وقال ابن عباس والحسن وقتادة: {الروح} هنا اسم جنس: يراد به أرواح بني آدم والمعنى يوم تقوم الروح في أجسادها إثر البعث والنشأة الآخرة، ويكون الجميع من الإنس والملائكة {صفاً} ولا يتكلم أحد هيبة وفزعاً {إلا من أذن له الرحمن} من ملك أو نبي وكان أهلاً أن يقول {صواباً} في ذلك الموطن، وقال ابن عباس: الضمير في {يتكلمون} عائد على الناس خاصة والصواب المشار إليه لا إله إلا الله، قال عكرمة أي قالها في الدنيا. وقوله تعالى: {ذلك اليوم الحق} أي الحق كونه ووجوده، وفي قوله: {فمن شاء اتخذ إلى ربه} مكاناً وعد ووعيد وتحريض، والمآب المرجع وموضع الأوبة، والضمير الذي هو الكاف والميم في {أنذركم} هو لجميع العالم وإن كانت المخاطبة لمن حضر النبي صلى الله عليه وسلم من الكفار، والعذاب القريب: عذاب الآخرة، ووصفه بالقرب لتحقق وقوعه وأنه آت وكل آت قريب الجمع داخل في النذارة منه، ونظر المرء إلى {ما قدمت يداه} من عمل قيام الحجة عليه، وقال ابن عباس {المرء} هنا المؤمن، وقرأ ابن ابي إسحق: {المُرء} بضم الميم وضعفها أبو حاتم، وقوله تعالى: {ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً} قيل إن هذا تمنٍّ أن يكون شيئاً حقيراً لا يحاسب ولا يلتفت إليه، وهذا قد نجده في الخائفين من المؤمنين فقد قال عمر بن الخطاب: ليتني كنت بعرة، وقال أبو هريرة وعبد الله بن عمر: إن الله تعالى يحضر البهائم يوم القيامة فيقتص لبعضها من بعض ثم يقول لها من بعد ذلك: كوني تراباً، فيعود جميعها تراباً، فإذا رأى الكافر ذلك تمنى مثله، قال أبو القاسم بن حبيب: رأيت في بعض التفاسير أن {الكافر} هنا إبليس إذا رأى ما حصل للمؤمنين من بني آدم من الثواب قال: {يا ليتني كنت تراباً}، أي كآدم الذي خلق من تراب واحتقره هو أولاً.
نجز تفسير سورة {النبأ} والحمد لله حق حمده.

.سورة النازعات:

.تفسير الآيات (1- 11):

{وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11)}
قال ابن مسعود وابن عباس: {النازعات}، الملائكة تنزع نفوس بني آدم، و{غرقاً} على هذا القول إما أن يكون مصدر بمعنى الإغراق والمبالغة في الفعل، وإما أن يكون كما قال علي وابن عباس: تغرق نفوس الكفرة في نار جهنم، وقال السدي وجماعة: {النازعات}: النفوس تنزع بالموت إلى ربها، و{غرقاً} هنا بمعنى الإغراق أي تغرق في الصدر، وقال عطاء فيما روي عنه: {النازعات} الجماعات النازعات بالقسي، و{غرقاً} بمعنى الإغراق، وقال الحسن وقتادة وأبو عبيدة وابن كيسان والأخفش {النازعات}: النجوم لأنها تنزع من أفق إلى أفق، وقال قتادة: {النازعات}، النفوس التي تحن إلى أوطانها وتنزع إلى مذاهبها ولها نزاع عند الموت، وقال مجاهد: {النازعات} المنايا لأنها تنزع نفوس الحيوان، وقال عطاء وعكرمةة: {النازعات} القسي أنفسها لأنها تنزع بالسهام واختلف المتأولون في {الناشطات}، فقال ابن عباس ومجاهد: هي الملائكة لأنها تنشط النفوس عند الموت، أي تحلها كحل العقال وتنشط بأمر الله أي حيث كان، وقال مجاهد: {النشاطات}: المنايا، وقال ابن عباس أيضاً وقتادة والأخفش والحسن: {الناشطات} النجوم لأنها تنشط من أفق إلى أفق، أي تذهب وتسير بسرعة، ومن ذلك قيل البقر الوحش النواشط لأنهن يذهبن بسرعة من موضع إلى آخر، وقال عطاء: {الناشطات} في الآية: البقرة الوحشية وما جرى مجراها من الحيوان الذي ينشط من قطر إلى قطر، ومن هذا المعنى قول الشاعر [همان بن قحافة]: [الرجز]
أرى همومي تنشط المناشطا ** الشام بي طوراً وطوراً واسطا

وكأن هذه اللفظة في هذا التأويل مأخوذة من النشاط، وقال عطاء أيضاً وعكرمة: {الناشطات} الأوهان. ويقال: نشطت البعير والإنسان إذا ربطته ونشطته: إذا حللته، وحكاه الفراء وخولف فيه ومنه الحديث «كأنما أنشط من عقال»، وقال ابن عباس أيضاً: {الناشطات} النفوس المؤمنة تنشط عند الموت للخروج، والسبح: العوم في الماء، وقد يستعمل مجازاً في خرق الهواء والتقلب فيه، واختلف في {السابحات} في الآية، فقال قتادة والحسن: هي النجوم لأنها تسبح في فلك، وقال مجاهد وعلي رضي الله عنه: هي الملائكة لأنها تتصرف في الآفاق بأمر الله تجيء وتذهب، وقال أبو روق: {السابحات} الشمي والقمر والليل والنهار، وقال بعض المتأولين: {السابحات}: السماوات، لأنها كالعائمة في الهواء، وقال عطاء وجماعة: {السابحات}: الخيل، ويقال للفرس: سابح، وقال آخرون: {السابحات} الحيتان، دواب البحر فما دونها وذلك من عظيم المخلوقات، فروي أن الله تعالى بث في الدنيا ألف نوع من الحيوان، منها أربعمائة في البر وستمائة في البحر، وقال عطاء أيضاً: {السابحات}: السفن، وقال مجاهد أيضاً: {السابحات}: المنايا تسبح في نفوس الحيوان، واختلف الناس في {السابقات}، فقال مجاهد: هي الملائكة، وقيل الرياح وقال عطاء هي الخيل، وقيل: النجوم، وقيل المنايا تسبق الآمال، وقال الشاعر [عدي بن زيد]: [الخفيف]
لا أرى الموت يسبق الموت شيء

وأما {المدبرات}، فلا أحفظ خلافاً أنها الملائكة ومعناه أنها تدبر الأمور التي سخرها الله تعالى وصرفها فياه كالرياح والسحاب وسائر المخلوقات، وقال ابن زيد: {الراجفة}: الأرض تهتز بأهلها لنفخة الصور الأولى، وقيل: {الراجفة}: النفخة نفسها، و{الرادفة}: النفخة الأخرى، ويروى بينهما أربعين سنة، وقال عطاء: الراجفة: القيامة نفسها، و{الرادفة}: البعث، وقال ابن زيد: {الراجفة}: الموت، و{الرادفة}: الساعة، وقال أبي بن كعب: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ربع الليل قام وقال: «يا أيها الناس اذكروا الله، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه»، ثم أخبر تعالى عن قلوب تجف ذلك اليوم، أي ترتعد خوفاً وفرقاً من العذاب، ووجيف القلب يكون من الفزع ويكون من الإشفاق، ومنه قول الشاعر قيس بن الحطيم: [المنسرحُ]
إن بني جحجما وأسرتهم ** أكبادنا من ورائهم تجف

ورفع {قلوب} بالابتداء وجاز ذلك وهي نكرة لأنها قد تخصصت بقوله: {يومئذ}، واختلف الناس في جواب القسم أي هو، فقال الفراء والزجاج: هو محذوف دل الظاهر عليه تقديره: لتبعثن أو لتعاقبن يوم القيامة، وقال بعض النحاة: هو في قوله تعالى: {إن في ذلك لعبرة لمن يخشى} [النازعات: 26]، وهذا ضعيف لبعد القول ولأن المعنى هالك يستحق ابن، وقال آخرون: هو في قوله: {يوم} على تقدير حذف اللام كأنه قال ليوم، وقال آخرون: وهو موجود في جملة قوله تعالى: {يوم ترجف الراجفة قلوب يومئذ راجفة} كأنه قال: لتجفن قلوب يوم كذا، ولما دلت على أصحابها ذكر بعد ذلك أبصارها، وخشوعها ذلها، وما يظهر فيها من الهم بالحال، وقوله تعالى: {يقولون} هي حكاية حالهم في الدنيا معناه: هم الذين يقولون وقولهم {أئنا} هو على جهة الاستخفاف والعجب والتكذيب، وقرأ ابن أبي إسحاق وابن يعمر: {أإنا} بهمزتين ومدة على الاستفهام، وقرأ جمهور القراء: {أئنا} باستفهام وهمزة واحدة، و{الحافرة} لفظة توقعها العرب على أول أمر رجع إليه من آخره، يقال: عاد فلان في الحافرة، إذا ارتكس في حال من الأحوال ومنه قول الشاعر: [الوافر]
أحافرة على صلع وشيب ** معاذ الله من سفه وعار

والمعنى: {أئنا لمردودون} إلى الحياة بعد مفارقتها بالموت، وقال مجاهد والخليل: {الحافرة} الأرض فاعلة بمعنى محفورة، وقيل بل هو على النسب أي ذات حفر، والمراد: القبور لأنها حفرت للموتى، فالمعنى {أئنا لمردودون} أحياء في قبورنا، وقال زيد بن أسلم: {الحافرة} في النار، وقرأ أبو حيوة {في الحفرة} بغير ألف، فقيل: هو بمعنى {الحافرة}، وقيل هي الأرض المنتنة المتغيرة بأجساد موتاها من قولهم حفرت أسنانه إذا تأكلت وتغير ريحها، والناخرة: المصوتة بالريح المجوفة، ومنه قول الشاعر: [الطويل]
وأخليتها من مخها فكأنها ** قوارير في أجوافها الريح تنخر

ويروى تصفر وناخرة، هي قراءة حمزة وعاصم في رواية أبي بكر وعمر بن الخطاب وابن مسعود وأبيّ بن كعب وابن عباس وابن الزبير ومسروق ومجاهد وجماعة سواهم، وقرأ الباقون وحفص عن عاصم وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن مسعود والحسن والأعرج وأبو رجاء وجعفر وشيبة وأبو عبد الرحمن وابن جبير وأهل مكة وشبل وقتادة وأيوب والنخعي: نخرة، دون ألف بعد النون، ومعناه: بالية متعفنة قد صارت رميماً، يقال: نخر العود والعظم: إذ بلي وصار يتفتت، وحكي عن أبي عبيدة وأبي حاتم والفراء وغيرهم أن الناخرة والنخرة بمعنى واحد كطامع وطمع وحاذر وحذر، والأكثر من الناس على ما قدمناه. قال أبو عمرو بن العلاء: الناخرة التي لم يتنخر بعد والنخرة التي قد بليت.