فصل: تفسير الآيات (31- 32):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (21- 24):

{أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)}
{خسروا أنفسهم} بوجوب العذاب عليهم، ولا خسران أعظم من خسران النفس، و{ضل} معناه: تلف ولم يجدوه حيث أملوه. و{لا جرم} لفظة مركبة من: {لا}، ومن: {جرم} بنيتا. ومعنى {لا جرم}: حق. هذا مذهب سيبويه والخليل. وقال بعض النحويين: معناها: لابد ولا شك ولا محالة وقد روي هذا عن الخليل. وقال الزجاج: {لا} رد عليهم، ولما تقدم من كل ما قبلها، و{جرم} معناه: كسب، أي كسب فعلهم {أنهم في الآخرة هم الأخسرون}. فموضع أن على مذهب سيبويه رفع: وموضعها على مذهب الزجاج- نصب. وقال الكسائي معناها لا صد ولا منع.
قال القاضي أبو محمد: فكأن {جرم} على هذا من معنى القطع، تقول: جرمت أي قطعت: وهي على منزع الزجاج من الكسب ومنه قول الشاعر: [الطويل]
جريمتنا هض في رأس نيق ** ترى لعظام ما جمعت صليبا

وجريمة القوم كاسبهم.
وأما قول الشاعر جرير:
ولقد طعنت أبا أميمة طعنة ** جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا

فيحتمل الوجهين: ويختلف معنى البيت.
وفي {لا جرم} لغات: يقول بعض العرب: لا ذا جرم، وبعضهم: لا أن ذا جرم، وبعضهم: لا عن ذا جرم، وبعضهم: لا جر، حذفوا الميم لكثرة استعماله.
و{أخبتوا} قيل معناه: خشعوا، قاله قتادة، وقيل: أنابوا، قاله ابن عباس، وقيل: اطمأنوا، قاله مجاهد، وقيل: خافوا، قاله ابن عباس أيضاً، وهذه الأقوال بعضها قريب من بعض، وأصل اللفظ من الخبت، وهو البراح القفر المستوي من الأرض؛ فكأن المخبت في القفر قد انكشف واستسلم وبقي ذا منعة، فشبه المتذلل الخاشع بذلك، وقيل: إنما اشتق منه لاستوائه وطمأنينته.
وقوله: {إلى ربهم} قيل: هي بمعنى اللام أي أخبتوا لربهم. وقيل: المعنى جعلوا قصدهم بإخباتهم إلى ربهم، والفريقان الكافرون والمؤمنون: شبه الكافر بـ {الأعمى والأصم}، وشبه المؤمن بـ {البصير والسميع} فهو على هذا تمثيل بمثالين. وقال بعض المتأولين: التقدير كالأعمى الأصم والبصير السميع ودخلت واو العطف كما تقول: جاءني زيد العاقل والكريم، وأنت تريده بعينه؛ فهو على هذا تمثيل بمثال واحد.
و{مثلاً} نصب على التمييز. ويجوز أن يكون حالاً.

.تفسير الآيات (25- 27):

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27)}
هذه آية قصص فيه تمثيل لقريش وكفار العرب وإعلام محمد صلى الله عليه وسلم ببدع من الرسل. وروي أن نوحاً عليه السلام أول رسول إلى الناس. وروي أن ادريس نبي من بني آدم إلا أنه لم يرسل، فرسالة نوح إنما كانت إلى قومه كسائر الأنبياء، وأما الرسالة العامة فلم تكن إلا لمحمد صلى الله عليه وسلم.
وقرأ نافع وابن عامر وحمزة {إني} بكسر الألف، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي {أني} بفتح الألف. فالكسر على إضمار القول، والمعنى: قال لهم: {إني لكن نذير مبين}، ثم يجيء قوله: {أن لا تعبدوا} محمولاً ل {أرسلنا}، أي أرسلنا نوحاً بأن لا تعبدوا إلا الله، واعترض اثناء الكلام بقوله: {إني لكم نذير مبين}، وفتح الألف على إعمال {أرسلنا} في {أن} أي بأني لكم نذير. قال أبو علي: وفي هذه القراءة خروج من الغيبة إلى المخاطبة.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا نظر، وإنما هي حكاية مخاطبته لقوله، وليس هذا حقيقة الخروج من غيبة إلى مخاطبة، ولو كان الكلام: أن أنذرهم ونحوه لصح ذلك.
و{النذير} المحفظ من المكاره بأن يعرفها وينبه عليها و{مبين} من أبان يبين.
وقوله: {أن لا تعبدوا إلا الله} ظاهر في أنهم كانوا يعبدون الأوثان ونحوها، وذلك بين في غير هذه الاية.
و{أليم} معناه مؤلم، ووصف به اليوم وحقه أن يوصف به العذاب تجوزاً إذ العذاب في اليوم، فهو كقولهم: نهار صائم وليل قائم.
و{الملأ} الجمع والأكثر من القبيلة والمدينة ونجوه، ويسمى الأشراف ملأ إذ هم عمدة الملأ والسادّون مسدّه في الآراء والأمور، وكل جماعة كبيرة ملأ.
ولما قال لهم نوح: {إني لكم نذير...} قالوا: {ما نراك إلا بشراً مثلنا...} أي والله لا يبعث رسولاً من البشر، فأحالوا الجائز على الله تعالى.
والأراذل جمع أرذل، وقيل جمع أرذل وأرذال جمع رذل وكان اللازم على هذا أن يقال: أراذيل؛ وإذا ثبتت الياء في جمع صيرف فأحرى ألا تزال في موضع استحقاقها. وهم سفلة الناس ومن لا أخلاق له، ولا يبالي ما يقول ولا ما يقال له.
وقرأ الجمهور {بادي الرأي} بياء دون همز، من بدا يبدو، ويحتمل أن يكون من بدأ مسهلاً، وقرأ أبو عمرو وعيسى الثقفي {بادئ الرأي} بالهمز من بدأ يبدأ.
قال القاضي أبو محمد: وبين القراءتين اختلاف في المعنى يعطيه التدبر، فتركت التطويل ببسطه، والعرب تقول: أما بادئ بدء فإني أحمد الله، وأما بادي بدي بغير همز فيهما، وقال الراجز: [الرجز]
أضحى لخالي شبهي بادي بدي ** وصار للفحل لساني ويدي

وقال الآخر:
وقد علتني ذرأة بادي بدي

وقرأ الجمهور بهمز {الرأي} وقرأ أبو عمرو بترك همزه. و{بادي} نصب على الظرف وصح أن يكون اسم الفاعل ظرفاً كما يصح في قريب ونحوه، وفعيل وفاعل متعاقبان أبداً على معنى واحد، وفي المصدر كقولك: جهد نفسي أحب كذا وكذا.
وتعلق قوله: {بادي الرأي} يحتمل ستة أوجه.
أحدها: أن يتعلق ب {نراك} بأول نظر وأقل فكرة، وذلك هو {بادي الرأي}، أي إلا ومتبعوك أراذلنا.
والثاني: أن يتعلق بقوله: {اتبعك} أي، وما نراك اتبعك بادي الرأي إلا الأراذل، ثم يحتمل على هذا قوله: {بادي الرأي} معنيين:
أحدهما: أن يريد اتبعك في ظاهر أمرهم وعسى أن بواطنهم ليست معك.
والثاني: أن يريد اتبعوك بأول نظر وبالرأي البادي دون تعقب ولو تثبتوك لم يتبعوك. وفي هذا الوجه ذم الرأي الغير المروي.
والوجه الثالث: من تعلق قوله: {بادي الرأي} أن يتعلق بقوله: {أراذلنا} أي الذين هم أراذلنا بأول نظر فيهم، وببادي الرأي يعلم ذلك منهم، ويحتمل أن يكون قولهم: {بادي الرأي} وصفاً منهم لنوح، أي تدعي عظيماً وأنت مكشوف الرأي لا حصافة لك، ونصبه على الحال وعلى الصفة، ويحتمل أن يكون اعتراضاً في الكلام مخاطبة لمحمد صلى الله عليه وسلم. ويجيء جميع هذا ستة معان، ويجوز التعلق في هذا الوجه ب {قال}.
ومعنى {وما نرى لكم علينا من فضل} أي ما ثم شيء تستحقون به الاتباع والطاعة. ثم قال: {بل نظنكم كاذبين} فيحتمل أنهم خاطبوا نوحاً ومن آمن معه من قومه، أي أنتم كاذبون في تصديقكم هذا الكاذب، وقولكم إنه نبي مرسل.

.تفسير الآيات (28- 30):

{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30)}
هذه الآية كأنه قال: أرأيتم إن هداني الله وأضلكم أأجبركم على الهدى وأنتم كارهون له معرضون عنه، واستفهامه في هذه الآية أولاً وثانياً على جهة التقرير. وعبارة نوح عليه السلام كانت بلغته دالة على المعنى القائم بنفسه، وهذا هو المفهوم من هذه العبارة العربية، فبهذا استقام أن يقال كذا وكذا، إذ القول ما أفاد المعنى القائم بنفسه.
وقوله: {على بيّنة} أي على أمر بيّن جلي، والهاء في {بيّنة} للمبالغة كعلامة ونسابة، وإيتاؤه الرحمة هو هدايته للبيّنة، والمشار إليه بهذا كله النبوءة والشرع، وقوله: {من عنده} تأكيد، كما قال: {يطير بجناحيه} [الأنعام: 38]، وفائدته رفع الاشتراك ولو بالاستعارة.
وقرأ جمهور الناس {فعميت} ولذلك وجهان من المعنى:
أحدهما: خفيت، ولذلك يقال للسحاب العماء لأنه يخفي ما فيه، كما يقال له: الغمام لأنه يغمه، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «كان الله قبل أن يخلق الأشياء في عماء».
والمعنى الثاني: أن تكون الإرادة: فعميتم أنتم عنها، لكنه قلب، كما تقول العرب: أدخلت القلنسوة في رأسي، ومنه قول الشاعر: [الطويل]
ترى النور فيها مدخل الظل رأسه ** وسائره باد إلى الشمس أجمع

قال أبو علي: وهذا مما يقلب إذ ليس فيه إشكال وفي القرآن: {فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله} [إبراهيم: 47].
وقرأ حفص وحمزة والكسائي {فعُمّيت} بضم العين وشد الميم على بناء الفعل للمفعول وهذا إنما يكون من الإخفاء؛ ويحتمل القلب المذكور.
وقرأ الأعمش وغيره {فعماها عليهم}. قال أبو حاتم: روى الأعمش عن ابن وثاب {وعميت} بالواو خفيفة.
وقوله: {أنلزمكموها} يريد إلزام جبر كالقتال ونحوه، وأما إلزام الإيجاب فهو حاصل، وقال النحاس: معناه أن وجبها عليكم، وقوله في ذلك خطأ.
وفي قراءة أبي بن كعب: {أنلزمكموها من شطر أنفسنا}، ومعناه من تلقاء أنفسنا. وروي عن ابن عباس أنه قرأ ذلك {من شطر قلوبنا}.
وقوله: {يا قوم لا أسألكم عليه مالاً...} الآية؛ الضمير في {عليه} عائد على التبليغ.
وقوله: {وما أنا بطارد الذين آمنوا} يقتضي أنهم طلبوا منه طرد الضعفاء الذين بادروا إلى الإيمان به نظير ما اقترحت قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم بطرد تباعه بمكة الذين لم يكونوا من قريش.
وقوله: {إنهم ملاقو ربهم} تنبيه على العودة إلى الله ولقاء جزائه المعنى، فيوصلهم إلى حقهم عندي إن ظلمتهم بالطرد. ثم وصفهم بالجهل في مثل هذا الاقتراح ونحوه.
وقوله: {يا قوم من ينصرني من الله...} الآية؛ هو استفهام بمعنى تقرير وتوقيف، أي لا ناصر يدفع عني عقاب الله إن ظلمتهم بالطرد عن الخير الذي قبلوه، ثم وقفهم بقوله: {أفلا تذكرون} وعرض عليهم النظر المؤدي إلى صحة هذا الاحتجاج.

.تفسير الآيات (31- 32):

{وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32)}
قوله: {ولا أقول} عطف على قوله: {لا أسألكم عليه مالاً} [هود: 29]، ومعنى هذه الآية: أني لا أموه عليكم ولا أتعاطى غير ما أهلني الله له، فلست أقول {عندي خزائن الله}، يريد القدرة التي يوجد بها الشيء بعد حال عدمه، وقد يمكن أن يكون من الموجودات كالرياح والماء، ونحوه ما هو كثير بإبداع الله تعالى له، فإن سمي ذلك- على جهة التجوز- مختزناً فيشبه. ألا ترى ما روي في أحمر ريح عاد أنه فتح عليهم من الريح قدر حلقة الخاتم، ولو كان على قدر منخر الثور لأهلك الأرض. وروي أن الريح عتت على الملائكة الموكلين بتقديرها فلذلك وصفها الله تعالى بالعتو، وقال ابن عباس وغيره: عتت على الخزان. فهذا ونحوه يقتضي أن ثم خزائن. ثم قال: {ولا أعلم الغيب}، ثم انحط على هاتين فقال {ولا أقول إني ملك}، ظاهر هذه الآية فضل الملك على البشر وعلى النبي صلى الله عليه وسلم وهي مسألة اختلاف. وظواهر القرآن على ما قلناه.
قال القاضي أبو محمد: وإن أخذنا قوله: {ولا أقول إني ملك} على حد أن لو قال: ولا أقول إني كوكب أو نحوه- زالت طريقة التفضيل، ولكن الظاهر هو ما ذكرنا.
و{تزدري} أصله تزتري تفتعل من زرى يزري؛ ومعنى {تزدري}: تحتقر. والخير هنا يظهر فيه أنه خير الآخرة، اللهم إلا أن يكون ازدراؤهم من جهة الفقر، فيكون الخير المال؛ وقد قال بعض المفسرين: حيثما ذكر الله الخير في القرآن فهو المال.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا الكلام تحامل، والذي يشبه أن يقال: إنه حيثما ذكر الخير فإن المال يدخل فيه.
وقوله: {الله أعلم بما في أنفسهم} تسليم لله تعالى، أي لست أحكم عليهم بشيء من هذا وإنما يحكم عليهم بذلك ويخرج حكمه إلى حيز الوجود، الله تعالى الذي يعلم ما في نفوسهم ويجازيهم بذلك، وقال بعض المتأولين: هي رد على قولهم: اتبعك أراذلنا على ما يظهر منهم.
قال القاضي أبو محمد: حسبما تقدم في بعض تأويلات تلك الآية آنفاً، فالمعنى لست أنا أحكم عليهم بأن لا يكون لهم خير بظنكم بهم أن بواطنهم ليست كظواهرهم، الله عز وجل أعلم بما في نفوسهم، ثم قال: {إني إذاً} لو فعلت ذلك {لمن الظالمين} الذين يضعون الشيء في غير موضعه.
وقوله: {يا نوح...}، الآية معناه: قد طال منك هذا الجدال، وهو المراجعة في الحجة والمخاصمة والمقابلة بالأقوال حتى تقع الغلبة، وهو مأخوذ من الجدل وهو شدة الفتل ومنه: حبل مجدول، أي ممرّ، ومنه قيل للصقر أجدل لشدة بنيته وفتل أعضائه؛ والجدال فعال، مصد فاعل، وهو يقع من اثنين، ومصدر فاعل يجيء على فعال وفيعال ومفاعلة، فتركت الياء من فيعال ورفضت.
ومن الجدال ما هو محمود، وذلك إذا كان مع كافر حربي في منعته ويطمع في الجدال أن يهتدي، ومن ذلك هذه الآية، ومنه قوله تعالى: {وجادلهم بالتي هي أحسن} [النحل: 125] إلى غير ذلك من الأمثلة. ومن الجدال ما هو مكروه، وهو ما يقع بين المسلمين بعضهم في بعض في طلب علل الشرائع وتصور ما يخبر الشرع به من قدرة الله، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وكرهه العلماء، والله المستعان.
وقرأ ابن عباس {قد جادلتنا فأكثرت جَدلنا} بغير ألف، وبفتح الجيم، ذكره أبو حاتم.
والمراد بقولهم {ما تعدنا} العذاب والهلاك، والمفعول الثاني ل {تعدنا} مضمر تقديره بما تعدناه. ولما كان الكلام يقتضي العذاب جاز أن يستعمل فيه الوعد.