فصل: تفسير الآيات (36- 37):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (33- 35):

{قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)}
المعنى: ليس ذلك بيدي ولا إليَّ توفيته، وإنما ذلك بيد الله وهو الآتي به إن شاء وإذا شاء، ولستم من المنعة بحال من يفلت أو يعصتم بمنج، وإنما في قبضة القدرة وتحت ذلة المتملك، وليس نصحي بنافع ولا إرادتي الخير لكم مغنية إذا كان الله تعالى قد أراد بكم الإغواء والإضلال والإهلاك. والشرط الثاني اعتراض بين الكلام، وفيه بلاغة في اقتران الإرادتين. وأن إرادة البشر غير مغنية، وتعلق هذا الشرط هو ب {نصحي}، وتعلق الآخر هو ب {لا ينفع}. والنصح هو سد ثلم الرأي للمنصوح وترقيعه، وهو مأخوذ من نصح الثوب إذا خاطه، والمنصح الإبره، والمخيط يقال له منصح ونصاح: وقالت فرقة معنى قوله: {يغويكم}: يضلكم، من قولهم غوى الرجل يغوى، ومنه قول الشاعر [المرقش]: [الطويل]
فمن يلق خيراً يحمد الناس أمره ** ومن يغو لا يعدم على الغي لائما

وإذا كان هذا معنى اللفظة، ففي الآية حجة على المعتزلة القائلين إن الضلال إنما هو من العبد. وقالت فرقة معنى قوله: {يغويكم}: يهلككم، والغوى المرض والهلاك؛ وفي لغة طيِّئ: أصبح فلان غاوياً، أي مريضاً، والغوى بشم الفصيل، قال يعقوب في الإصلاح. وقيل: فقده اللبن حتى يموت جوعاً، قاله الفراء وحكاه الطبري. يقال غوى يغوى، وحكى الزهراوي أنه الذي قطع عنه اللبن حتى كاد يهلك ولما يهلك بعد، فإذا كان هذا معنى اللفظة زال موضع النظر بين أهل السنة والمعتزلة، وبقي الاحتجاج عليهم بما هو أبين من هذه الآية كقوله تعالى: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام} [الأنعام: 125] ونحوها.
قال القاضي أبو محمد: ولكني أعتقد أن للمعتزلة تعلقاً وحجة بالغة بهذا التأويل، فرد عليه وأفرط حتى أنكر أن يكون الغوى بمعنى الهلاك موجوداً في لسان العرب.
وقوله: {هو ربكم}، تنبيه على المعرفة بالخالق. وقوله: {وإليه ترجعون} إخبار في ضمنه وعيد وتخويف، وقوله تعالى: {أم يقولون افتراه...} الآية، قال الطبري وغيره من المتأولين والمؤلفين في التفسير: إن هذه الآية اعترضت في قصة نوح وهي شأن محمد صلى الله عليه وسلم مع كفار قريش، وذلك أنهم قالوا: افترى القرآن وافترى هذه القصة على نوح، فنزلت الآية في ذلك.
قال القاضي أبو محمد: وهذا لو صح بسند وجب الوقوف عنده، وإلا فهو يحتمل أن يكون في شأن نوح عليه السلام، ويبقى اتساق الآية مطرداً، ويكون الضمير في قوله: {افتراه} عائداً إلى العذاب الذي توعدهم به أو على حميع أخباره، وأوقع الافتراء على العذاب من حيث يقع على الإخبار به. والمعنى: أم يقول هؤلاء الكفرة افترى نوح هذا التوعد بالعذاب وأراد الإرهاب علينا بذلك؛ ثم يطرد باقي الآية على هذا.
و{أم} هي التي بمعنى بل يقولون، والإجرام مصدر أجرم يجرم إذا جنى، يقال: جرم وأجرم بمعنى، ومن ذلك قول الشاعر:
طريد عشيرة ووهين ذنب ** بما جرمت يدي وجنى لساني

.تفسير الآيات (36- 37):

{وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37)}
قرأ أبو البرهسم: {وأَوحى} بفتح الهمزة على إسناد الفعل إلى الله عز وجل، {إنه} بكسر الهمزة، وقيل لنوح هذا بعد أن طال عليه كفر القرن بعد القرن به، وكان يأتيه الرجل بابنه فيقول: يا بني لا تصدق هذا الشيخ فهكذا عهده أبي وجدي كذاباً مجنوناً؛ رواه عبيد بن عمير وغيره، وهذه الآية هي التي أيأست نوحاً عليه السلام من قومه، فروي أنه لما أوحي إليه ذلك دعا فقال: {رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً} [نوح: 26].
و{تبتئس} من البؤس تفتعل، ومعناه: لا تحزن نفسك ومنه قول الشاعر- وهو لبيد بن ربيعة-: [مجزوء الكامل]
في مأتم كنعاج حا ** رة تبتئس بما لقينا

حارة: موضع.
قال القاضي أبو محمد: وفي أمر نوح عليه السلام تدافع في ظاهر الآيات والأحاديث ينبغي أن نخلص القول فيه، وذلك أن ظاهر أمره أنه عليه السلام دعا على الكافرين عامة من جميع الأمم ولم يخص قومه دون غيرهم، وتظاهرت الروايات وكتب التفاسير بأن الغرق نال جميع أهل الأرض وعم الماء جميعها، قال ابن عباس وغيره، ويوجب ذلك أمر نوح بحمل الأزواج من الحيوان، ولولا خوف إفناء أجناسها من جميع الأرض، ما كان ذلك، فلا يتفق لنا أن نقول إنه لم يكن في الأرض غير قوم نوح في ذلك الوقت، لأنه يجب أن يكون نوح بعث إلى جميع الناس، وقد صح أن هذه الفضيلة خاصة لمحمد صلى الله عليه وسلم بقوله: «أوتيت خمساً لم يؤتهن أحد قبلي» فلابد أن نقرر كثيراً من الأمم كان في ذلك الوقت، وإذا كان ذلك، فكيف استحقوا العقوبة في جمعهم ونوح لم يبعث إلى كلهم؟ وكنا نقدر هنا أن الله تعالى بعث إليهم رسلاً قبل نوح فكفروا بهم واستمر كفرهم، لولا أنا نجد الحديث ينطق بأن نوحاً هو أول الرسل إلى أهل الأرض؛ ولا يمكن أيضاً أن نقول: عذبوا دون رسالة ونحن نجد القرآن: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} [الإسراء: 15].
والتأويل المخلص من هذا كله هو أن نقول: إن نوحاً عليه السلام أول رسول بعث إلى كفار من أهل الأرض ليصلح الخلق ويبالغ في التبليغ ويحتمل المشقة من الناس- بحسب ما ثبت في الحديث- ثم نقول: إنه بعث إلى قومه خاصة بالتبليغ والدعاء والتنبيه، وبقي أمم في الأرض لم يكلف القول لهم، فتصح الخاصة لمحمد صلى الله عليه وسلم ثم نقول: إن الأمم التي لم يبعث ليخاطبها إذا كانت بحال كفر وعبادة أوثان، وكانت الأدلة على الله تعالى منصوبة معرضة للنظر، وكانوا متمكنين من النظر من جهة إدراكهم، وكان الشرع- ببعث نوح- موجوداً مستقراً.
فقد وجب عليهم النظر، وصاروا بتركه بحال من يجب تعذيبه: فإن هذا رسول مبعوث وإن كان لم يبعث إليهم معينين ألا ترى أن لفظ الآية إنما هو {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} [الإسراء: 15]، أي حتى نوجده، لأن بعثة الأنبياء إلى قوم مخصوصين إنما هو في معنى القتال والشدة، وأما من جهة بذل النصيحة وقبول من آمن فالناس أجمع في ذلك سواء؛ ونوح قد لبث ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعو إلى الله، فغير ممكن أن لم تبلغ نبوءته للقريب والبعيد، ويجيء تعذيب الكل بالغرق بعد بعثة رسول وهو نوح صلى الله عليه وسلم.
ولا يعارضنا مع هذه التأويلات شيء من الحديث ولا الآيات، والله الموفق للصواب.
وقوله تعالى: {واصنع الفلك} عطف على قوله: {فلا تبتئس} و{الفلك}: السفينة، وجمعها أيضاً فلك، وليس هو لفظاً للواحد والجمع وإنما هو فعل وجمع على فعل ومن حيث جاز أن يجمع فعل على فعل كأسد وأسد، جاز أن يجمع فعل على فعل، فظاهر لفظ الجمع فيها كظاهر لفظ واحد وليس به، تدل على ذلك درجة التثنية التي بينهما لأنك تقول: فلك وفلكان وفلك، فالحركة في الجمع نظير ضمة الصاد إذا ناديت يا منصو، تريد يا منصور، فرخمت على لغة من يقول: يا حار بالضم، فإن ضمة الصاد هي في اللفظ كضمة الأصل، وليست بها في الحكم.
وقوله: {بأعيننا} يمكن- فيما يتأول- أن يريد به بمرأى منا وتحت إدراك، فتكون عبارة عن الإدراك والرعاية والحفظ، ويكون جمع الأعين للعظمة لا للتكثير كما قال تعالى: {فنعم القادرون} [المرسلات: 23] فرجع معنى الأعين في هذه وفي غيرها إلى معنى عين في قوله: {لتصنع على عيني} [طه: 39]، وذلك كله عبارة عن الإدراك وإحاطته بالمدركات، وهو تعالى منزه عن الحواس والتشبيه والتكييف لا رب غيره. ويحتمل قوله: {بأعيننا} أي بملائكتنا الذين جعلناهم عيوناً على مواضع حفظك ومعونتك، فيكون الجمع على هذا للتكثير.
وقرأ طلحة بن مصرف {بأعينا} مدغماً.
وقوله: {ووحينا} معناه: وتعليمنا لك صورة العمل بالوحي، وروي في ذلك أن نوحاً عليه السلام لما جهل كيفية صنع السفينة أوحى الله إليه: أن اصنعها على مثال جؤجؤ الطير، إلى غير ذلك مما عمله نوح من عملها، فقد روي أيضاً أنها كانت مربعة الشكل طويلة في السماء، ضيقة الأعلى، وأن الغرض منها إنما كان الحفظ لا سرعة الجري، والحديث الذي تضمن أنها كجؤجؤ الطائر أصح ومعناه أظهر: لأنها لو كانت مربعة لم تكن فلكاً بل كانت وعاء فقط، وقد وصفها الله تعالى بالجري في البحر، وفي الحديث: كان راز سفينة نوح عليه السلام جبريل عليه السلام والراز: القيم بعمل السفن. ومن فسر قوله: {ووحينا} أي بأمرنا لك، فذلك ضعيف لأن قوله: {واصنع الفلك} مغن عن ذلك. و{الذين ظلموا} هم قومه الذين أعرضوا عن الهداية حتى عمتهم النقمة، قال ابن جريج: وهذه الآية تقدم الله فيها إلى نوح أن لا يشفع فيهم.

.تفسير الآيات (38- 40):

{وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آَمَنَ وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40)}
التقدير: فشرع يصنع فحكيت حال الاستقبال، إذ في خلالها وقع مرورهم، قال ابن عباس: صنع نوح الفلك ببقاع دمشق وأخذ عودها من لبنان وعودها من الشمشار وهو البقص. وروي أن عودها من الساج وأن نوحاً عليه السلام اغترسه حتى كبر في أربعين سنة؛ وروي أن طول السفينة ألف ذراع ومائتان، وعرضها ستمائة ذراع، ذكره الحسن بن أبي الحسن وقيل: طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسون ذراعاً، وطولها في السماء ثلاثون ذراعاً، ذكره قتادة، وروي غير هذا مما لم يثبت، فاختصرت ذكره، وذكر الطبري حديث إحياء عيسى ابن مريم لسام بن نوح وسؤاله إياه عن أمر السفينة فذكر أنها ثلاث طبقات: طبقة للناس، وطبقة للبهائم، وطبقة للطير، إلى غير ذلك في حديث طويل.
و{الملأ} هنا الجماعة، و{سخروا} معناه استجهلوه، وهذا الاستجهال إن كان الأمر كما ذكر أنهم لم يكونوا قبل رأوا سفينة ولا كانت- فوجه الاستجهال واضح. وبذلك تظاهرت التفاسير؛ وإن كانت السفائن حينئذ معروفة فاستجهلوه في أن صنعها في موضع لا قرب لها من البحر وروي أنهم كانوا يقولون له صرت نجاراً بعد النبوة؟!!.
وقوله: {فإنا نسخر منكم} قال الطبري: يريد في الآخرة.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل الكلام، بل هو الأرجح، أن يريد: إنا نسخر منكم الآن، أي نستجهلكم لعلمنا بما أنتم عليه من الغرر مع الله تعالى والكون بمدرج عذابه، ثم جاء قوله: {فسوف تعلمون} تهديداً، والسخر: الاستجهال مع استهزاء، ومصدره: سُخرى بضم السين، والمصدر من السخرة والستخير سِخرى بكسرها.
والعذاب المخزي هو الغرق، والمقيم هو عذاب الآخرة، وحكى الزهراوي أنه يقرأ {ويحُل} بضم الحاء، ويقرأ {ويحِل} بكسرها، بمعنى ويجب. و{من} في موضع نصب ب {تعلمون}. وجاز أن يكون {تعلمون} بمثابة تعرفون في التعدي إلى مفعول واحد، وجائز أن تكون التعدية إلى مفعولين واقتصر على الواحد.
وقوله تعالى: {حتى إذا جاء أمرنا} الآية، الأمر هاهنا يحتمل أن يكون واحد الأمور، ويحتمل أن يكون مصدر أمر، فمعناه أمرنا للماء بالفوران، أو للسحاب بالإرسال، أو للملائكة بالتصرف في ذلك، ونحو هذا مما يقدر في النازلة و{فار} معناه انبعث بقوة؛ واختلف الناس في {التنور}، فقالت فرقة- وهي الأكثر- منهم ابن عباس ومجاهد وغيرهما: هو تنور الخبز الذي يوقد فيه، وقالت فرقة: كانت هذه أمارة جعلها الله لنوح، أي إذا فار التنور فاركب في السفينة؛ ويشبه أن يكون وجه الأمارة أن مستوقد النار إذا فار بالماء فغيره أشد فوراناً، وأحرى بذلك. وروي أنه كان تنور آدم عليه السلام خلص إلى نوح فكان يوقد فيه، وقال النقاش: اسم المستوقد التنور بكل لغة؛ وذكر نحو ذلك ابن قتيبة في الأدب عن ابن عباس.
قال القاضي أبو محمد: وهذا بعيد، وقيل: إن موضع تنور نوح عليه السلام كان بالهند، وقيل: كان في موضع مسجد الكوفة، وقيل كان في ناحية الكوفة، قاله الشعبي ومجاهد، وقيل كان في الجهة الغربية من قبلة المسجد بالكوفة، وقال ابن عباس وعكرمة: التنور وجه الأرض، ويقال له: تنور الأرض، وقال قتادة: {التنور}: أعالي الأرض، وقالت فرقة: {التنور}: عين بناحية الجزيرة، وقال الحسن بن أبي الحسن: {التنور} مجتمع ماء السفينة فار منه الماء وهي بعد في اليبس، وقالت فرقة: {التنور} هو الفجر، المعنى: إذا طلع الفجر فاركب في السفينة، وهذا قول روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، إلا أن التصريف يضعفه، وكان يلزم أن يكون التنور، وقالت فرقة: الكلام مجاز وإنما إراد غلبة الماء وظهور العذاب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لشدة الحرب: «حمي الوطيس» والوطيس أيضاً مستوقد النار، فلا فرق بين حمي و{فار} إذ يستعملان في النار، قال الله تعالى: {سمعوا لها شهيقاً وهي تفور} [الملك: 7]، فلا فرق بين الوطيس والتنور.
وقرأ حفص عن عاصم {من كلٍّ زوجين اثنين} بتنوين {كل} وقرأ الباقون {من كلِّ زوجين} بإضافة {كل} إلى {زوجين}. فمن قرأ بالتنوين حذف المضاف إليه التقدير: من كل حيوان أو نحوه، وأعمل الحمل في {زوجين} وجاء قوله: {اثنين} تأكيداً- كما قال: {إلهين اثنين} [النحل: 51]. ومن قرأ بالإضافة فأعمل الحمل في قوله: {اثنين}، وجاء قوله: {زوجين} بمعنى العموم، أي من كل ما له ازدواج، هذا معنى قوله: {من كل زوجين} قاله أبو علي وغيره، ولو قدرنا المعنى: احمل من كل زوجين حاصلين اثنين لوجب أن يحمل من كل نوع أربعة، والزوج يقال في مشهور كلام العرب للواحد مما له ازدواج، فيقال: هذا زوج هذا، وهما زوجان: وهذا هو المهيع في القرآن في قوله تعالى: {ثمانية أزواج} [الأنعام: 143، الزمر: 6] ثم فسرها، وكذلك هو في قوله تعالى: {وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى} [النجم: 45]. قال أبو الحسن الأخفش في كتاب الحجة: وقد يقال في كلام العرب للاثنين زوج، ومن ذلك قول لبيد: [الكامل]
من كل محفوف يظل عصيه ** زوج عليه كلة وقرامها

وهكذا يأخذ العدديون: الزوج أيضاً في كلام العرب النوع كقوله: {وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج} [ق: 7] وقوله: {سبحان الذي خلق الأزواج كلها} [يس: 36] إلى غير ذلك.
وروي في قصص هذه الآية أن نوحاً عليه السلام كان يأتيه الحيوان، فيضع يمينه على الذكر ويساره على الأنثى. وروي أن أول ما أدخل في السفينة الذر، وآخر ما أدخل الحمار، فتمسك الشيطان بذنبه، فزجره نوح عليه السلام فلم ينبعث فقال له: ادخل ولو كان معك الشيطان، قال ابن عباس: زلت هذه الكلمة من لسانه فدخل الشيطان حينئذ، وكان في كوثل السفينة، أي عند مؤخرها، وقيل كان على ظهرها.
وروي أن نوحاً عليه السلام آذاه نتن الزبل والعذرة، فأوحى الله إليه: أن امسح على ذنب الفيل، ففعل، فخرج من الفيل- وقيل من أنفه- خنزير وخنزيرة، فكفيا نوحاً وأهله ذلك الأذى؛ وهذا يجيء منه أن نوع الخنازير لم يكن قبل ذلك. وروي أن الفأر آذى الناس في السفينة بقرض حبالها وغير ذلك، فأمر الله نوحاً أن يمسح على جبهة الأسد ففعل، فعطس فخرج منه هر وهرة، فكفياهم الفأر، وروي أيضاً أن الفار خرج من أنف الخنزير.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كله قصص لا يصح إلا لو استند والله أعلم فكيف كان.
وقوله: {وأهلك} عطف على ما عمل فيه {احمل} والأهل هنا القرابة، وبشرط من آمن منهم، خصصوا تشريفاً؛ ثم ذكر {من آمن} وليس من الأهل واختلف في الذي {سبق عليه القول} فقيل: هو ابنه يام، وقال النقاش: اسمه كنعان؛ وقيل هي امرأته والعة هكذا اسمها بالعين غير منقوطة؛ وقيل: هو عموم في من لم يؤمن من أهل نوح وعشيرته. و{القول} هاهنا معناه: القول بأنه يعذب، وقوله: {ومن آمن} عطف على قوله: {وأهلك} ثم قال إخباراً عن حالهم {وما آمن معه إلا قليل} واختلف في ذلك {القليل} فقيل: كانوا ثمانين رجلاً وثمانين امرأة وقيل كان جميعهم ثلاثة وثمانين: وقيل كانوا ثمانين في الكل، قاله السدي: وقيل: عشرة؛ وقيل: ثمانية، قاله قتادة وقيل: سبعة؛ والله أعلم. وقيل: كان في السفينة جرهم، وقيل لم ينج من الغرق أحد إلا عوج بن أعنق، وكان في السفينة مع نوح عليه السلام ثلاثة من بنيه سام، وحام، ويافث، وغرق يام. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سام أبو العرب، ويافث أبو الروم، وحام أبو الحبش».