فصل: تفسير الآيات (51- 56):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (51- 56):

{وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56)}
قرأ أبو حيوة {ونبهُم} بضم الهاء من غير همز، وهذا ابتداء قصص بعد انصرام الغرض الأول، و{ضيف} مصدر وصف به فهو للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث بلفظ واحد كعدل وغيره، قال النحاس وغيره: التقدير عن أصحاب ضيف.
قال القاضي أبو محمد: ويغني عن هذا أن هذا المصدر عومل معاملة الأسماء كما فعل في رهن ونحوه، والمراد ب الضيف هنا الملائكة الذين جاؤوا لإهلاك قوم لوط وبشروا إبراهيم، وقد تقدم قصصهم. وقوله: {سلاماً} مصدر منصوب بفعل مضمر تقديره سلمنا أو نسلم سلاماً، والسلام هنا التحية، وقوله: {سلاماً} حكاية قولهم فلا يعمل القول فيه، وإنما يعمل إذا كان ما بعده ترجمة عن كلام ليس يحكى بعينه كما تقول لمن قال لا إله إلا الله قلت حقاً ونحو هذا وقوله: {إنا منكم وجلون} أي فزعون، وإنما وجل إبراهيم عليه السلام منهم لما قدم إليهم العجل الحنيذ فلم يرهم يأكلون، وكانت عندهم العلامة المؤمنة أكل الطعام، وكذلك هو في غابر الدهر أمنة للنازل والمنزول به، وقرأ الجمهور {لا توجل} مستقبل وجل، وقرأ الحسن {لا تُؤجل} بضم التاء على بناء الفعل للمفعول من أوجل، لأن وجل لا يتعدى، وكانت هذه البشارة بإسحاق، وذلك بعد مولد إسماعيل بمدة، وقول إبراهيم {الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق} [إبراهيم: 39] وليس يقتضي أنهما حينئذ وهبهما بل قبل الحمد بكثير. وقرأ الجمهور {أبشرتموني} بألف الاستفهام، وقرأ الأعرج {بشرتموني} بغير ألف. وقوله: {على أن مسني الكبر}، أي في حالة قد مسني فيها الكبر، وقرأ ابن محيصن {الكُبْر} بضم الكاف وسكون الباء، وقرأ أبو عمرو وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي {تُبشرونَ} بفتح النون التي هي علامة الرفع، والفعل على هذه القراءة غير معدى، وقرأ الحسن البصري {تبشروني} بنون مشددة وياء، وقرأ ابن كثير بشد النون دون ياء، وهذه القراءة أدغمت فيها نون العلامة في النون التي هي للمتكلم موطئة للياء، وقرأ نافع {تبشرونِ} بكسر النون، وغلط أبو حاتم نافعاً في هذه القراءة، وقال إن شاهد الشعر في هذا اضطرار.
قال القاضي أبو محمد: وهذا حمل منه، وتقدير هذه القراءة أنه حذفت النون التي للمتكلم وكسرت النون التي هي علامة الرفع بحسب الياء، ثم حذفت الياء لدلالة الكسرة عليها، ونحو هذا قول الشاعر أنشده سيبويه: [الوافر]
تراه كالثغام يعل مسكاً ** يسوء الفاليات إذا فليني

ومنه قول الآخر:
أبالموت الذي لابد أني ** ملاق لا أباك تخوفيني

ومن حذف هذه النون قول الشاعر:
قدني من نصر الخبيبين قدي

يريد عبد الله ومصعباً ابني الزبير، وكان عبد الله يكنى أبا خبيب، وقرأ الحسن {فبم تَبشُرون} بفتح التاء وضم الشين، وقول إبراهيم عليه السلام {فبم تبشرون} تقرير على جهة التعجب والاستبعاد لكبرهما، أو على جهة الاحتقار وقلة المبالاة بالمسرة الدنيوية لمضي العمر واستيلاء الكبر. قال مجاهد: عجب من كبره ومن كبر امرأته، وقد تقدم ذكر سنة وقت البشارة. وقولهم {بشرناك بالحق} فيه شدة ما، أي بشر بما بشرت به ودع غير ذلك، وقرأ جمهور الناس {القانطين} والقنوط: أتم اليأس، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وابن مصرف ورويت عن عمرو {القنطين}، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وحمزة، {من يقنَط} بفتح النون في كل القرآن، وقرأ أبو عمرو والكسائي {ومن يقنِط} بكسر النون، وكلهم قرأ من {بعد ما قنطوا} [الشورى: 28] بفتح النون، ورد أبو عبيدة قراءة أهل الحرمين وأنكر أن يقال قِنط بكسر النون، وليس كما قال لأنهم لا يجمعون إلا على قوي في اللغة مروي عندهم، وهي قراءة فصيحة إذ يقال قَنَط يقنَط يقنِط مثل نَقَم ونقِم، وقرأ الأعمش هنا {يقنِط} بكسر النون، وقرأ {من بعد ما قنطوا} [الشورى: 28] بكسر النون أيضاً، فقرأ باللغتين، وقرأ الأشهب {يقنُط} بضم النون وهي قراءة الحسن والأعمش أيضاً وهي لغة تميم.

.تفسير الآيات (57- 65):

{قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آَلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60) فَلَمَّا جَاءَ آَلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65)}
القائل هنا إبراهيم عليه السلام، وقوله: {فما خطبكم} سؤال فيه عنف، كما تقول لمن تنكر حاله: ما دهاك وما مصيبتك؟ وأنت إنما تريد استفهاماً عن حاله فقط. لأن الخطب لفظة إنما تستعمل في الأمور الشداد، على أن قول إبراهيم عليه السلام {أيها المرسلون} وكونهم أيضاً قد بشروه يقتضي أنه قد كان عرف أنهم ملائكة حين قال: {فما خطبكم}، فيحتمل قوله: {فما خطبكم} مع هذا أنه أضاف الخطب إليهم من حيث هم حملته إلى يوم المعذبين أي ما هذا الخطب الذي تتحملونه وإلى أي أمة. و{لقوم مجرمين} يراد به أهل مدينة سدوم الذين بعث فيهم لوط عليه السلام، والمجرم الذي يجر الجرائر ويرتكب المحظورات، وأصل جرم وأجرم كسب، ومنه قول الشاعر: [الوافر]
***جريمة ناهض في رأس نيق ** أي كسب عقاب في قنة شامخ، ولكن اللفظة خصّت في عرفها بالشر، لا يقال لكاسب الأجر مجرم، وقولهم {إلا آل} استثناء منقطع، والأول القوم الذين يؤول أمرهم إلى المضاف إليه، كذا قال سيبويه، وهذا نص في أن لفظة {آل} ليست لفظة أهل كما قال النحاس، ويجوز على هذا إضافة {آل} إلى الضمير، وأما أهيل فتصغير أهل، واجتزوا به عن تصغير آل، فرفضوا {أويلاً} وقرأ جمهور السبعة {لمُنجُّوهم} وقرأ حمزة والكسائي {لمنْجُوهم} بسكون النون وضم الجيم مخففة، والضمير في {لمنجوهم} في موضع خفض بالإضافة، وانحذفت النون للمعاقبة، هذا قول جمهور النحويين، وقال الأخفش الضمير في موضع نصب وانحذفت النون لأنه لابد من اتصال هذا الضمير.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا نظر، وقوله: {إلا امرأته} استثناء بعد استثناء وهما منقطعان فيما حكى بعض النحاة لأنهم لم يجعلوا امرأته الكافرة من آله.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا نظر، لأنها قبل الاستثناء داخلة في اللفظ الذي هو الأول، وليس كذلك الأول مع المجرمين، فيظهر الاستثناء الأول منقطعاً والثاني متصلاً، والاستثناء بعد الاستثناء يرد المستثنى الثاني في حكم أمر الأول، ومثل بعض الناس في هذا بقولك: لي عندك مائة درهم إلا عشرة دراهم إلا درهمين، فرجعت الدرهمان في حكم التسعين الدرهم، وقال المبرد: ليس هذا المثال بجيد، لأنه من خلق الكلام ورثه إذ له طريق إلى أداء المعنى المقصود بأجمل من هذا التخليق، وهو أن يقول لي عندك مائة إلا ثمانية، وإنما ينبغي أن يكون مثالاً للآية قولك: ضربت بني تميم إلا بني دارم إلا حاجباً، لأن حاجباً من بني دارم فلما كان المستثنى الأول في ضمنه ما لا يجري الحكم عليه، والضرورة تدخله في لفظه ولا يمكنك العبارة عنه دون ذلك يجري الحكم عليهم اضطررت إلى استثناء ثان.
قال القاضي أبو محمد: ونزعة المبرد في هذا نبيلة، وقرأ جميعهم سوى عاصم في رواية أبي بكر {قدّرنا} بتشديد الدال في كل القرآن، وقرأ عاصم {قدَرنا} بتخفيفها، ونقل في رواية حفص، والتخفيف يكون بمعنى التثقيل كما قال الهذلي أبو ذؤيب: [الطويل]
ومفرهة عنس قدرت لساقها ** فخرت كما تتابع الريح بالقفل

يريد قدرت ضربي لساقها، وكقول النبي عليه السلام في الاستخارة: «واقدر لي الخير حيث كان»، ويكون أيضاً بمعنى سن ووفق ومنه قول الشاعر: [يزيد بن مفرغ]
بقندهار ومن تقدير منيته ** يرجع دونه الخبر

وكسرت الألف من {إنها} بسبب اللام التي في قوله: {لمن} والغابر الباقي في الدهر وغيره، وقالت فرقة منهم النحاس: هو من الأضداد، يقال في الماضي وفي الباقي، وأما في هذه الآية فهي للبقاء أي من الغابرين في العذاب، وقوله تعالى: {فلما جاء آل لوط المرسلون} الآيات، تقدم القول وذكر القصص في أمر لوط وصورة لقاء الرسل له، وقيل إن الرسل كانوا ثلاثة، جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وقيل كانوا اثني عشر وقوله: {منكرون} أي لا يعرفون في هذا القطر، وفي هذه اللفظة تحذير وهو من نمط ذمه لقومه وجريه إلى أن لا ينزل هؤلاء القوم في تلك المدينة خوفاً منه أن يظهر سوء فعلهم وطلبهم الفواحش، فقالت الرسل للوط بل جئناك بما وعدك الله من تعذيبهم على كفرهم ومعاصيهم، وهو الذي كانوا يشكون فيه ولا يحققونه، وقرأت فرقة {فاسر} بوصل الألف، وقرأت فرقة {فأسر} بقطع الألف، يقال سرى وأسرى بمعنى، إذا سار ليلاً، وقال النابغة: [البسيط]
أسرت عليه من الجوزاء سارية

فجمع بين اللغتين في بيت، وقرأ اليماني {فيسر بأهلك}، وهذا الأمر بالسرى هو عند الله تعالى، أي يقال لك، والقطع الجزء من الليل، وقرأت فرقة {بقطَع} بفتح الطاء حكاه منذر بن سعيد. وقوله: {واتبع أدبارهم} أي كن خلفهم وفي ساقتهم حتى لا يبقى منهم أحد ولا يتلوى، و{حيث} في مشهورها ظرف مكان، وقالت فرقة أمر لوط أن يسير إلى زغر، وقيل: إلى موضع نجاة غير معروف عندنا، وقالت فرقة: {حيث} قد تكون ظرف زمان، وأنشد أبو علي في هذا بيت طرفة: [المديد]
للفتى عقل يعيش به ** حيث تهدي ساقه قدمه

كأنه قال مدة مشيه وتنقله، وهذه الآية من حيث أمر أن يسري {بقطع من الليل} ثم قيل له {حيث تؤمر}. ونحن لا نجد في الآية أمراً له لا في قوله: {بقطع من الليل} أمكن أن تكون {حيث} ظرف زمان، و{يلتفت} مأخوذ من الالتفات الذي هو نظر العين، قال مجاهد: المعنى لا ينظر أحد وراءه.
قال القاضي أبو محمد: ونهوا عن النظر مخافة العقلنة وتعلق النفس بمن خلف، وقيل بل لئلا تتفطر قلوبهم من معاينة ما جرى على القرية في رفعها وطرحها. وقيل {يلتفت} معناه يتلوى من قولك لفت الأمر إذا لويته، ومنه قولهم للعصيدة لفيتة لأنها تلوى، بعضها على بعض.

.تفسير الآيات (66- 77):

{وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)}
المعنى {وقضينا ذلك الأمر} أي أمضيناه وختمنا به، ثم أدخل في الكلام {إليه} من حيث أوحى ذلك إليه وأعلمه الله به فجلب هذا المعنى بإيجاز وحذف ما يدل الظاهر عليه و{أن} في موضع نصب، قال الأخفش: هي بدل من {ذلك}، وقال الفراء: بل التقدير بأن دابر فحذف حرف الجر، والأول أصوب، والدابر الذي يأتي آخر القوم أي في أدبارهم، وإذا قطع ذلك وأتى عليه فقد أتى العذاب من أولهم إلى آخرهم، وهذه ألفاظ دالة على الاستئصال والهلاك التام، يقال قطع الله دابره واستأصل شأفته وأسكت نأمته بمعنى. و{مصبحين} معناه إذا أصبحوا ودخلوا في الصباح، وقوله: {وجاء أهل المدينة}، يحتمل أن رجع الوصف أمر جرى قبل إعلام لوط بهلاك أمته، ويدل على هذا أن محاجة لوط لقومه تقتضي ضعف من لم يعلم إهلاكهم، وأن الأضياف ملائكة، ويحتمل قوله: {وجاء أهل المدينة} أن يكون بعد علمه بهلاكهم، وكان قوله ما يأتي من المحاورة على جهة التهكم عنهم والإملاء لهم والتربص بهم.
قال القاضي أبو محمد: والاحتمال الأول عندي أرجح، وهو الظاهر من آيات غير هذه السورة، وقوله: {يستبشرون} أي بالأضياف طمعاً منهم في الفاحشة، والضيف مصدر وصف به، فهو يقع للواحد والجميع والمذكر والمؤنث، وقولهم {أو لم ننهك عن العالمين} روي أنهم قد تقدموا إليه في أن لا يضيف أحداً ولا يجيره، لأنهم لا يراعونه ولا يكتفون عن طلب الفاحشة فيه، وقرأ الأعمش {إن دابر} بكسر الهمزة وروي أن في قراءة عبد الله {وقضينا إليه ذلك الأمر وقلنا إن دابر هؤلاء مقطوع}، وذكر السدي أنهم إنما كانوا يفعلون الفاحشة مع الغرباء ولا يفعلونها بعضهم ببعض، فكانوا يعترضون الطرق، وقول لوط عليه السلام {هؤلاء بناتي} اختلف في تأويله، فقيل أراد نساء أمته لأن زوجات النبيين أمهات الأمم وهو أبوهم فالنساء بناته في الحرمة والمراد بالتزويج، ويلزم هذا التأويل أن يكون في شرعه جواز زواج الكافر للمؤمنة، وقد ورد أن المؤمنات به قليل جداً، وقيل إنما أراد بنات صلبه ودعا إلى التزويج أيضاً قاله قتادة ويلزم هذا التأويل أيضاً ما لزم المتقدم في ترتيبنا.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل أن يريد بقوله عليه السلام هؤلاء بناتي بنات صلبه، ويكون ذلك على طريق المجاز، وهو لا يحقق في إباحة بناته وهذا كما تقول لإنسان تراه يريد قتل آخر اقتلني ولا تقتله فإنما ذلك على جهة التشنيع عليه والاستنزال من جهة ما واستدعاء الحياء منه، وهذا كله من مبالغة القول الذي لا يدخله معنى الكذب بل الغرض منه مفهوم، وعليه قول النبي عليه السلام «ولو كمفحص قطاة»، إلى غير هذا من الأمثلة والعَمر والعُمر بفتح العين وضمها واحد، وهما مدة الحياة، ولا يستعمل في القسم إلا بالفتح، وفي هذه الآية شرف لمحمد عليه السلام لأن الله تعالى أقسم بحياته ولم يفعل ذلك مع بشر سواه، قاله ابن عباس.
قال القاضي أبو محمد: والقسم ب {لعمرك} في القرآن، وب لعمري ونحوه في أشعار العرب وفصيح كلامها في غير موضع.
كقوله: [الطويل]
لعمري وما عمري عليَّ بهين

وقوله الآخر: [الوافر]
لعمر أبيك ما نسب المعالي

وكقول الآخر: [طرفة بن العبد] [الطويل]
لعمرك إن الموت ما أخطأَ الفتى ** لكالطِّوَلِ المرخى وثنياه باليد

والعرب تقول لعمر الله، ومنه قول الشاعر:
إذا رضيت عليَّ بنو قشير ** لعمر الله أعجبني رضاها

وقال الأعشى: [الكامل]
ولعمر من جعل الشهور علامة ** فيها فبين نصفها وكمالها

ويروى وهلالها، وقال بعض أصحاب المعاني، لا يجوز هذا لأنه لا يقال لله تعالى عمر، وإنما يقال بقاء أزلي ذكره الزهراوي، وكره إبراهيم النخعي أن يقول الرجل لعمري لأنه حلف بحياة نفسه، وذلك من كلام ضعفة الرجال، ونحو هذا، قول مالك في لعمري ولعمرك أنها ليست بيمين، وقال ابن حبيب ينبغي أن تصرف {لعمرك} في الكلام اقتداء بهذه الآية، و{يعمهون} يرتبكون ويتحيرون، والضمائر في {سكرتهم} يراد بها قوم لوط المذكورون، وذكر الطبري أن المراد قريش، وهذا بعيد لأنه ينقطع مما قبله ومما بعده، وقوله: {لفي سكرتهم} مجاز وتشبيه، أي في ضلالتهم وغفلتهم وإعراضهم عن الحق ولهوهم، و{يعمهون} معناه يتردون في حيرتهم، و{مشرقين} معناه قد دخلوا في الإشراق وهو سطوع ضوء الشمس وظهوره قاله ابن زيد.
قال القاضي أبو محمد: وهذه الصيحة هي صيحة الوجبة وليست كصيحة ثمود، وأهلكوا بعد الفجر مصبحين واستوفاهم الهلاك مشرقين، وخبر قوله: {لعمرك} محذوف تقديره لعمرك قسمي أو يميني، وفي هذا نظر، وقرأ ابن عباس و{عمرك}، وقرأ الأشهب العقيلي {لفي سُكرتهم} بضم السين، وقرأ ابن أبي عبلة {لفي سكراتهم}، وقرأ الأعمش {لفي سكرهم} بغير تاء، وقرأ أبو عمرو في رواية الجهضمي {أنهم في سكرتهم} بفتح الألف، وروي في معنى قوله: {جعلنا عاليها سافلها} أن جبريل عليه السلام اقتلع المدينة بجناحيه ورفعها حتى سمعت ملائكة السماء صراخ الديكة ونباح الكلاب ثم قلبها وأرسل الكل، فمن سقط عليه شيء من جرم المدينة مات، ومن أفلت منهم أصابته {حجارة من سجيل}، و{سجيل} اسم من الدنيا، وقيل لفظة فارسية، وهي الحجارة المطبوخة من الطين كالآجر ونحوه، وقد تقدم القول في هذا و{المتوسمون} قال مجاهد المتفرسون، وقال الضحاك الناظرون، وقال قتادة المعتبرون، وقيل غير هذا مما هو قريب منه، وهذا كله تفسير بالمعنى، وأما تفسير اللفظة فإن المعاني التي تكون في الإنسان وغيره من خير أو شر يلوح عليه وسم عن تلك المعاني، كالسكون والدماثة واقتصاد الهيئة التي تكون عن الخير ونحو هذا، فالمتوسم هو الذي ينظر في وسم المعنى فيستدل به على المعنى، وكأن معصية هؤلاء أبقت من العذاب والإهلاك وسماً، فمن رأى الوسم استدل على المعصية به واقتاده النظر إلى تجنب المعاصي لئلا ينزل به ما نزل بهم، ومن الشعر في هذه اللفظة قول الشاعر: [الطويل]
توسمته لما رأيت مهابة ** عليه وقلت المرء من آل هاشم

وقال آخر:
فظللت فيها واقفاً أتوسم

وقال آخر:
إني توسمت فيك الخير نافلة

والضمير في قوله: {وإنها} يحتمل أن يعود على المدينة المهلكة؛ أي أنها في طريق ظاهر بين للمعتبر، وهذا تأويل مجاهد وقتادة وابن زيد، ويحتمل أن يعود على الآيات، ويحتمل أن يعود على الحجارة، ويقوي هذا التأويل ما روي أن النبي عليه السلام قال: «إن حجارة العذاب معلقة بين السماء والأرض منذ ألفي سنة لعصاة أمتي»، وقوله: {الآية} أي أمارة وعلامة كما تقول آية ما بيني وبينك كذا وكذا.