فصل: تفسير الآيات (61- 62):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (47- 49):

{قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)}
هذه الآية فيها إنابة نوح وتسليمه لأمر الله تعالى واستغفاره بالسؤال الذي وقع النهي عليه والاستعاذة والاستغفار منه هو سؤال العزم الذي معه محاجة وطلبة ملحة فيما قد حجب وجه الحكمة فيه؛ وأما السؤال في الأمور على جهة التعلم والاسترشاد فغير داخل في هذا.
وظاهر قوله: {فلا تسألنِ ما ليس لك به علم} [هود: 46] يعم النحويين من السؤال، فلذلك نبهت على أن المراد أحدهما دون الآخر، والخاسرون هم المغبونون حظوظهم من الخير، وقوله تعالى: {قيل يا نوح اهبط بسلام} كان هذا عند نزوله من السفينة مع أصحابه للانتشار في الأرض، والسلام هنا السلامة والأمن ونحوه، والبركات الخير والنمو في كل الجهات، وهذه العدة تعم جميع المؤمنين إلى يوم القيامة، قاله محمد بن كعب القرظي؛ وقوله: {ممن معك} أي من ذرية من معك ومن نسلهم، ف {مَنْ}- على هذا- هي لابتداء الغاية، أي من هؤلاء تكون هذه الأمم، و{من} موصولة، وصلتها {معك} وما يتقدر معها نحو قولك: ممن استقر معك ونحوه ثم قطع قوله: {وأمم} على وجه الابتداء إذ كان أمرهم مقطوعاً من الأمر الأول، وهؤلاء هم الكفار إلى يوم القيامة.
وقوله تعالى: {تلك من أنباء الغيب} الآية إشارة إلى القصة، أي هذه من الغيوب التي تقادم عهدها ولم يبق علمها إلا عند الله تعالى، ولم يكن علمها أو علم أشباهها عندك ولا عند قومك، ونحن نوحيها إليك لتكون لك هداية وأسوة فيما لقيه غيرك من الأنبياء، وتكون لقومك مثالاً وتحذيراً، لئلا يصيبهم إذا كذبوك مثل ما أصاب هؤلاء وغيرهم من الأمور المعذبة.
قال القاضي أبو محمد: وعلى هذا المعنى ظهرت فصاحة قوله: {فاصبر إن العاقبة للمتقين}، أي فاجتهد في التبليغ وجد في الرسالة واصبر على الشدائد واعلم أن العاقبة لك كما كانت لنوح في هذه القصة. وفي مصحف ابن مسعود: {من قبل هذا القرآن}.

.تفسير الآيات (50- 52):

{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)}
{وإلى عاد} عطف على قوله: {إلى قومه} [هود: 25] في قصة نوح، و{عاد} قبيلة وكانت عرباً- فيما ذكر- و{هود} عليه السلام منهم، وجعله {أخاهم} بحسب النسب والقرابة؛ فإن فرضناه ليس منهم فالأخوة بحسب المنشأ واللسان والجيرة. وأما قول من قال هي أخوة بحسب النسب الآدمي فضعيف.
وقرأ جمهور الناس: {يا قومِ} بكسر الميم، وقرأ ابن محيصن: {يا قومُ} برفع الميم، وهي لغة حكاها سيبويه، وقرأ جمهور الناس: {غيرهُ} بالرفع على النعت أو البدل من موضع قوله: {من إله}. وقرأ الكسائي وحده بكسر الراء، حملاً على لفظ: {إله} وذلك أيضاً على النعت أو البدل ويجوز {غيرَه} نصباً على الاستثناء.
و{مفترون} معناه كاذبون أفحش كذب في جعلكم الألوهية لغير الله تعالى، والضمير في قوله: {عليه} عائد على الدعاء إلى الله تعالى، والمعنى: ما أجرى وجزائي إلا من عند الله، ثم وصفه بقوله: {الذي فطرني} فجعلها صفة رادة عليهم في عبادتهم الأصنام واعتقادهم أنها تفعل، فجعل الوصف بذلك في درج كلامه، منبهاً على أفعال الله تعالى، وأنه هو الذي يستحق العبادة، وفطر معناه اخترع وأنشأ، وقوله: {أفلا تعقلون} توقيف على مجال القول بأن غير الفاطر إلاه، ويحتمل أن يريد: {أفلا تعقلون} إذ لم أطلب عرضاً من أعراض الدنيا إني إنما أريد النفع لكم والدار الآخرة؛ والأول أظهر، والاستغفار طلب المغفرة، وقد يكون ذلك باللسان، وقد يكون بإنابة القلب وطلب الاسترشاد والحرص على وجود المحجة الواضحة، وهذه أحوال يمكن أن تقع من الكفار، فكأنه قال لهم: اطلبوا غفران الله بالإنابة، وطلب الدليل في نبوتي، ثم توبوا بالإيمان من كفركم، فيجيء الترتيب على هذا مستقيماً وإلا احتيج في ترتيب التوبة بعد الاستغفار إلى تحيل كثير فإما أن يكون: {توبوا} أمراً بالدوام، والاستغفار طلب المغفرة بالإيمان، وإلى هذا ذهب الطبري، وقال أبو المعالي في الإرشاد: التوبة في اصطلاح المتكلمين هي الندم، بعد أن قال: إنها في اللغة الرجوع، ثم ركب على هذا أن قال إن الكافر إذا آمن ليس إيمانه توبة وإنما توبته ندمه بعد.
قال القاضي أبو محمد: والذي أقول: إن التوبة عقد في ترك متوب منه يتقدمها علم بفساد المتوب منه وصلاح ما يرجع إليه، ويقترن بها ندم على فارط المتوب منه لا ينفك منه وهو من شروطها؛ فأقول إن إيمان الكافر هو توبته من كفره، لأنه هو نفس رجوعه، وتاب في كلام العرب معناه رجع إلى الطاعة والمثلى من الأمور، وتصرف اللفظة في القرآن ب إلى يقتضي أنها الرجوع لا الندم، وإنما لا حق لازم للتوبة كما قلنا، وحقيقة التوبة ترك مثل ما تيب منه عن عزمة معتقدة على ما فسرناه، والله المستعان.
و{مدراراً} هو بناء تكثير وكان حقه أن تلحقه هاء، ولكن حذفت على نية النسب وعلى أن {السماء} المطر نفسه، وهو من در يدر؛ ومِفعال قد يكون من اسم الفاعل الذي هو من ثلاثي، ومن اسم الفاعل الذي هو من رباعي: وقول من قال: إنه ألزم للرباعي غير لازم.
ويروى أن عاداً كان الله تعالى قد حبس عنها المطر ثلاث سنين، وكانوا أهل حرث وبساتين وثمار، وكانت بلادهم شرق جزيرة العرب، فلهذا وعدهم بالمطر، ومن ذلك فرحهم حين رأوا العارض، وقولهم: {هذا عارض ممطرنا} [الأحقاف: 24] وحضهم على استنزال المطر بالإيمان والإنابة، وتلك عادة الله في عباده، ومنه قول نوح عليه السلام {استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً}، ومنه فعل عمر رضي الله حين جعل جميع قوله في الاستسقاء ودعائه استغفاراً فسقي، فسئل عن ذلك، فقال: لقد استنزلت المطر بمجاديح السماء.
وقوله: {ويزدكم قوة إلى قوتكم}، ظاهره العموم في جميع ما يحسن الله تعالى فيه إلى العباد، وقالت فرقة: كان الله تعالى قد حبس نسلهم، فمعنى قوله: {ويزدكم قوة إلى قوتكم} أي الولد، ويحتمل أن خص القوة بالذكر إذ كانوا أقوى العوالم فوعدوا بالزيادة فيما بهروا فيه، ثم نهاهم عن التولي عن الحق والإعراض عن أمر الله. و{مجرمين} حال من الضمير في {تتولوا}.

.تفسير الآيات (53- 56):

{قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)}
المعنى: {ما جئتنا} بآية تضطرنا إلى الإيمان بك ونفوا أن تكون معجزاته آية بحسب ظنهم وعماهم عن الحق، كما جعلت قريش القرآن سحراً وشعراً ونحو هذا، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من نبي إلا وقد أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر» الحديث، وهذا يقضي بأن هوداً وغيره من الرسل لهم معجزات وإن لم يعين لنا بعضها.
وقوله: {عن قولك} أي لا يكون قولك سبب تركنا إذ هو مجرد عن آية، وقولهم: {إن نقول} الآية، معناه ما نقول إلا أن بعض الآلهة لما سببتها وضللت عبدتها أصابك بجنون، يقال: عر يعر واعترى يعتري إذا ألم بالشيء، فحينئذ جاهرهم هود عليه السلام بالتبري من أوثانهم وحضهم على كيده هم وأصنامهم، ويذكر أن هذه كانت له معجزة وذلك أنه حرض جماعتهم عليه مع انفراده وقوتهم وكفرهم فلم يقدروا على نيله بسوء.
و{تنظرون} معناه تؤخروني أي عاجلوني بما قدرتم عليه، وقوله تعالى: {إني توكلت على الله} الآية، المعنى: أن توكلي على الله الذي هو ربي وربكم مع ضعفي وانفرادي وقوتكم وكثرتكم يمنعني منكم ويحجز بيني وبينكم؛ ثم وصف قدرة الله تعالى وعظم ملكه بقوله: {ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها} وعبر عن ذلك ب الناصية، إذ هي في العرف حيث يقبض القادر المالك ممن يقدر عليه، كما يقاد الأسير والفرس ونحوه حتى صار الأخذ بالناصية عرفاً في القدرة على الحيوان، وكانت العرب تجز ناصية الأسير الممنون عليه لتكون تلك علامة أنه قدر عليه وقبض على ناصيته. والدابة: جميع الحيوان، وخص بالذكر إذ هو صنف المخاطبين والمتكلم.
وقوله: {إن ربي على صراط مستقيم} يريد أن أفعال الله عز وجل هي في غاية الإحكام، وقوله الصدق، ووعده الحق؛ فجاءت الاستقامة في كل ما ينضاف إليه عز وجل. فعبر عن ذلك بقوله: {إن ربي على صراط مستقيم} على تقدير مضاف.

.تفسير الآيات (57- 60):

{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)}
قرأ الجمهور: {تولَّوا} بفتح اللام والتاء على معنى تتولوا، وقرأ عيسى الثقفي والأعرج: {تُولُوا} بضم التاء واللام، و{إن} شرط، والجواب في الفاء وما بعدها من قوله: {فقد أبلغتكم}، والمعنى أنه ما علي كبير همّ منكم إن توليتم فقد برئت ساحتي بالتبليغ، وأنتم أصحاب الذنب في الإعراض عن الإيمان. ويحتمل أن يكون {تولوا} فعلاً ماضياً، ويجيء في الكلام رجوع من غيبة إلى خطاب، أي فقل: قد أبلغكم.
وقرأ جمهور {ويستخلفُ} بضم الفاء على معنى الخبر بذلك، وقرأ عاصم- فيما روى هبيرة عن حفص عنه- {ويستخلفْ} بالجزم عطفاً على موضع الفاء من قوله: {فقد}.
وقوله: {ولا تضرونه شيئاً} يحتمل من المعنى وجهين:
أحدهما ولا تضرونه بذهابكم وهلاككم شيئاً أي لا ينتقص ملكه، ولا يختل أمره، وعلى هذا المعنى قرأ عبد الله بن مسعود: {ولا تنقصونه شيئاً}.
والمعنى الآخر: {ولا تضرونه} أي ولا تقدرون إذا أهلككم على إضراره بشيء ولا على الانتصار منه ولا تقابلون فعله بكم بشيء يضره. ثم أخبرهم أن ربه {حفيظ} على كل شيء عالم به، وفي ترديد هذه الصفات ونحوها تنبيه وتذكير، والأمر واحد الأمور، ويحتمل أن يكون مصدر أمر يأمر، أي أمرنا للريح أو لخزنتها ونحو ذلك، وقوله: {برحمة}، إما أن يكون إخباراً مجرداً عن رحمة من الله لحقتهم، وإما أن يكون قصداً إلى الإعلام أن النجاة إنما كملت بمجرد رحمة الله لا بأعماله؛ فتكون الآية- على هذا- في معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل أحد الجنة بعمله» قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل منه ورحمته».
وقوله: {ونجيناهم من عذاب غليظ} يحتمل أن يريد: عذاب الآخرة، ويحتمل أن يريد: وكانت النجاة المتقدمة من عذاب غليظ يريد الريح، فيكون المقصود على هذا، تعديد النعمة ومشهور عذابهم بالريح هو أنها كانت تحملهم وتهدم مساكنهم وتنسفها وتحمل الظعينة كما هي ونحو هذا. وحكى الزجاج أنها كانت تدخل في أبدانهم وتخرج من أدبارهم وتقطعهم عضواً عضواً. وتعدى {جحدوا} بحرف جر لما نزل منزلة كفروا، وانعكس ذلك في الآية بعد هذا، وقوله: {وعصوا رسله}، شنعة عليهم وذلك أن في تكذيب رسول واحد تكذيب سائر الرسل وعصيانهم، إذ النبوات كلها مجمعة على الإيمان بالله والإقرار بربوبيته: ويحتمل أن يراد هود. وآدم، ونوح والعنيد: فعيل من عَنِدَ إذا عتا. ومنه قول الشاعر: [الرجز].
إني كبير لا أطيق العندا

أي الصعاب من الإبل، وكان التجبر والعناد من خلق عاد لقوتهم، وقوله: {وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة} الآية، حكم عليهم بهذا الحكم لكفرهم وإصرارهم حتى حل العذاب بهم، واللعنة: الإبعاد والخزي، وقد تيقن أن هؤلاء وافوا على الكفر فيلعن الكافر الموافي على كفره ولا يلعن معين حي، لا من كافر، ولا من فاسق، ولا من بهيمة، كل ذلك مكروه بالأحاديث. و{يوم} ظرف معناه أن اللعنة عليهم في الدنيا وفي يوم القيامة. ثم ذكرت العلة الموجبة لذلك وهي كفرهم بربهم؛ وتعدى كفر بغير الحرف إذ هو بمعنى {جحدوا} كما تقول شكرت لك وشكرتك، وكفر نعمته وكفر بنعمته، و{بعداً} منصوب بفعل مقدر وهو مقام ذلك الفعل.

.تفسير الآيات (61- 62):

{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62)}
التقدير: وأرسلنا إلى ثمود وقد تقدم القول في مثل هذا وفي معنى الأخوة في قصة هود.
وقرأ الجمهور: {وإلى ثمودَ} بغير صرف، وقرأ ابن وثاب والأعمش {وإلى ثمود} بالصرف حيث وقع، فالأولى على إرادة القبيلة، والثانية على إرادة الحي، وفي هذه الألفاظ الدالة على الجموع ما يكثر فيه إرادة الحي كقريش وثقيف وما لا يقال فيه بنو فلان؛ وفيها ما يكثر فيه إرادة القبيلة كتميم وتغلب، ألا ترى أنهم يقولون تغلب ابنة وائل، وقال الطرماح: [الطويل]
إذا نهلت منه تميم وعلّت

وقال الآخر: [المتقارب]
تميم ابن مر وأشياعها

وفيها ما يكثر فيه الوجهان كثمود وسبأ، فالقراءتان هنا فصيحتان مستعملتان. وقرأت فرقة {غيرُه} برفع الراء، وقد تقدم آنفاً.
و{أنشأكم من الأرض}، أي اخترعكم وأوجدكم، وذلك باختراع آدم عليه السلام: فكأن إنشاء آدم إنشاء لبنيه. {واستعمركم}، أي اتخذكم عماراً، كما تقول: استكتب واستعمل. وذهب قوم إلى أنها من العمر أي عمركم، وقد تقدم مثل قوله: {فاستغفروه ثم توبوا إليه}.
{إن ربي قريب مجيب}، أي إجابته وغفرانه قريب ممن آمن وأناب، و{مجيب}، معناه بشرط المشيئة والظاهر الذي حكاه جمهور المفسرين أن قوله: {مرجواً} معناه: مسوداً؛ نؤمل فيك أن تكون سيداً سادّاً مسدّ الأكابر، ثم قرروه على جهة التوبيخ في زعمهم بقولهم: {أتنهانا} وحكى النقاش عن بعضهم أنه قال: معناه حقيراً.
قال القاضي أبو محمد: فأما أن يكون لفظ {مرجواً} بمعنى حقير فليس ذلك في كلام العرب، وإنما يتجه ذلك على جهة التفسير للمعنى، وذلك أن القصد بقولهم: {مرجواً} يكون: لقد كنت فينا سهلاً مرامك قريباً رد أمرك، ممن لا يظن أن يستفحل من أمره مثل هذا فمعنى مرجو أي مرجو اطراحه وغلبته ونحو هذا، فيكون ذلك على جهة الاحتقار، فلذلك فسر بحقير، ويشبه هذا المعنى قول أبي سفيان بن حرب: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة... الحديث؛ ثم يجيء قولهم: {أتنهانا} على جهة التوعد والاستشناع لهذه المقالة منه.
و{ما يعبد آباؤنا} يريدون به الأوثان والأصنام، ثم أوجبوا أنهم في شك من أمره وأقاويله، وأن ذلك الشك يرتابون به زائداً إلى مرتبته من الشك قال القاضي: ولا فرق بين هذه الحال وبين حالة التصميم على الكفر، و{مريب} معناه ملبس متهم، ومنه قول الشاعر: [الرجز]
يا قوم ما بال أبي ذؤيب ** كنت إذا أتيته من غيب

يشم عطفي ويمس ثوبي ** كأنني أربته بريب