فصل: تفسير الآيات (7- 8):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (5- 6):

{أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)}
قيل إن هذه الآية نزلت في الكفار الذين كانوا إذا لقيهم رسول الله عليه وسلم تطامنوا وثنوا صدورهم كالمستتر وردوا إليه ظهورهم وغشوا وجوههم بثيابهم تباعداً منه وكراهة للقائه، وهم يظنون أن ذلك يخفى عليه وعلى الله عز وجل فنزلت الآية في ذلك.
و{صدورهم} منصوبة على هذا ب {يثنون}. وقيل: هي استعارة للغل والحقد الذي كانوا ينطوون عليه كما تقول: فلان يطوي كشحه على عداوته، ويثني صدره عيلها.
فمعنى الآية: ألا إنهم يسرون العداوة ويتكتمون بها لتخفى في ظنهم عن الله، وهو تعالى حين تغشيهم بثيابهم وإبلاغهم في التستر يعلم ما يسرون.
وقرأ سعيد بن جبير {يُثنُون} بضم الياء والنون من أثنى، وقرأ ابن عباس {ليثنوه}، وقرأ ابن عباس أيضاً ومجاهد وابن يعمر وابن بزي ونصر بن عاصم والجحدري وابن إسحاق وابن رزين وعلي بن الحسين وأبو جعفر محمد بن علي ويزيد بن علي وجعفر بن محمد وأبو الأسود والضحاك. {تثنوني صدورُهم} برفع الصدور وهي تحتمل المعنيين المتقدمين في {يثنون} وزنها تفوعل على بناء مبالغة لتكرار الأمر، كما تقول اعشوشبت الأرض واحلولت الدنيا ونحو ذلك. وحكى الطبري عن ابن عباس على هذه القراءة أن هذه الآية نزلت في أن قوماً كانوا لا يأتون النساء والحدث إلا ويتغشون ثيابهم كراهية أن يفضوا بفروجهم إلى السماء. وقرأ ابن عباس- فيما روى ابن عيينة- {تثنو} بتقديم الثاء على النون وبغير نون بعد الواو، وقال أبو حاتم هذه القراءة غلط لا تتجه، وقرأ نصر بن عاصم ويحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق {ينثوي} بتقديم النون على الثاء، وقرأ عروة وابن أبي أبزى والأعشى {تثنَون} بثاء مثلثة بعدها نون مفتوحة بعدها واو مكسورة، وقرأ أيضاً هما ومجاهد فيما روي عنه {تثنان} بهمزة بدل الواو وهاتان مشتقة من الثن وهي العشب المثني بسهولة، فشبه صدورهم به إذ هي مجيبة إلى هذا الانطواء على المكر والخدع: وأصل {تثنون} تثنونن سكنت النون المكسورة ونقلت حركتها إلى الواو التي قبلها وأدغمت في النون التي بعدها، وأما {تثنان} فأصلها تثنان مثل تحمار ثم قالوا: اثنانت كما قالوا احمار وابياض، والضمير في {منه} عائد على الله تعالى، هذا هو الأفصح الأجزل في المعنى وعلى بعض التأويلات يمكن أن يعود على محمد صلى الله عليه وسلم، و{يستغشون} معناه يجعلونها أغشية وأغطية ومنه قول الخنساء: [البسيط]
أرعى النجوم وما كلّفت رعيتها ** وتارة اتَغَشَّى فضل أطماري

وقرأ ابن عباس {على حين يستغشون} ومن هذا الاستعمال قول النابغة: [الطويل]
على حين عاتبت المشيب على الصبا ** وقلت ألمّا أصحُ والشيبُ وازع

و{ذات الصدور}: ما فيها، والذات تتصرف في الكلام على وجوه هذا أحدهما كقول العرب الذيب مغبوط بذي بطنه أي بالذي فيه من النفخ وكقول أبي بكر الصديق رضي الله عنه: إنما هو ذو بطن بنت خارجة، والذات التي هي حقيقة الشيء ونفسه قلقة في هذا الموضع؛ ويحتمل أن يفرق بين ذي بطنه وبين الذات وإنما يجمع بينهما المعنى.
وقوله تعالى: {وما من دابة.....} الآية، تماد في وصف الله تعالى بنحو قوله: {يعلم ما يسرون وما يعلنون}. والدابة ما دب من الحيوان، والمراد جميع الحيوان الذي يحتاج إلى رزق ويدخل في ذلك الطائر والهوام وغير ذلك كلها دواب، وقد قال الأعشى: [الطويل]
نياف كغصن البان ترتج إن مشت ** دبيب قطا البطحاء في كل منهل

وقال علقمة بن عبيدة لطيرهن دبيب وفي حديث أبي عبيدة: فإذا دابة مثل الظرب يريد من حيوان البحر، وتخصيصه بقول {في الأرض} إنما هو لأنه الأقرب لحسهم: والطائر والعائم إنما هو في الأرض، وما مات من الحيوان قبل أن يتغذى فقد اغتذى في بطن أمه بوجه ما.
وهذه الآية تعطي أن الرزق كل ما صح الانتفاع به خلافاً للمعتزلة في قولهم إنه الحلال المتملك.
وقوله تعالى: {على الله} إيجاب لأنه تعالى لا يجب عليه شيء عقلاً. والمستقر: صلب الأب: والمستودع بطن الأم، وقيل المستقر: المأوى، والمستودع القبر، وهما على هذا الطرفان، وقيل المستقر، ما حصل موجوداً من الحيوان، والمستودع ما يوجد بعد. قال القاضي أبو محمد: والمستقر على هذا- مصدر استقر وليس بمفعول كمستودع لأن استقر لا يتعدى. وقوله: {في كتاب} إشارة إلى اللوح المحفوظ. وقال بعض الناس: هذا مجاز وهي إشارة إلى علم الله.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف وحمله على الظاهر أولى.

.تفسير الآيات (7- 8):

{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8)}
قال أكثر أهل التفسير: الأيام هي من أيام الدنيا، وقالت فرقة: هي من أيام الآخرة يوم من ألف سنة. قاله كعب الأحبار، والأول أرجح.
وأجزاء ذكر السماوات عن كل ما فيها إذ كل ذلك خلق في الستة الأيام، واختلفت الأحاديث في يوم بداية الخلق، فروي أبو هريرة- فيما أسند الطبري- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده وقال: «خلق الله التربة يوم السبت والجبال يوم الأحد، والشجر يوم الاثنين والمكروه يوم الثلاثاء، والنور يوم الأربعاء، وبث الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة»، ونحو هذا من أن البداءة يوم السبت في كتاب مسلم، وفي الدلائل لثابت: وكان خلق آدم في يوم الجمعة، لا يعتد به إذ هو بشر كسائر بنيه، ولو اعتد به لكانت الأيام سبعة خلاف ما في كتاب الله، وروي عن كعب الأحبار أنه قال: بدأ الله خلق السماوات والأرض يوم الأحد، وفرغ يوم الجمعة، وخلق آدم في آخر ساعة منه. ونحو هذا في جل الدواوين أن البدأة يوم الأحد، وقال قوم: خلق الله تعالى هذه المخلوقات في ستة أيام مع قدرته على خلقها في لحظة. نهجاً إلى طريق التؤدة والمهلة في الأعمال ليحكم البشر أعمالهم، وروي عن ابن عباس أنه قال: كان العرش على الماء، وكان الماء على الريح.
وقوله تعالى: {ليبلوكم} متعلق ب {خلق} والمعنى أن خلقه إياها كان لهذا وقال بعض الناس: هو متعلق بفعل مضمر تقديره أعلم بذلك ليبلوكم، ومقصد هذا القائل: أن هذه المخلوقات لم تكن لسبب البشر.
وقرأ عيسى الثقفي: {ولئن قلتُ} بضم التاء، وقرأ الجمهور {قلتَ} بفتح التاء.
ومعنى الآية: أن الله عز وجل هذه صفاته وهؤلاء بكفرهم في حيز إن قلت لهم: إنهم مبعوثون كذبوا وقالوا: هذا سحر. أي فهذا تناقض منكم إذ كل مفطور يقر بأن الله خالق السماوات والأرض، فهم من جملة المقرين بهذا، ومع ذلك ينكرون ما هو أيسر منه بكثير وهو البعث من القبور إذ البداءة أعسر من الإعادة، وإذ خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس.
واللام في {لئن} مؤذنة بأن اللام في {ليقولن} لام قسم لا جواب شرط.
وقرأ الأعرج والحسن وأبو جعفر وشيبة وفرقة من السبعة {سحر} وقرأت فرقة {ساحر} وقد تقدم.
وقوله تعالى: {ولئن أخرنا عنهم العذاب} الآية، المعنى: ولئن تأخر العذاب الذي توعدتم به عن الله قالوا ما هذا الحابس لهذا العذاب؟ على جهة التكذيب. والأمة في هذه الآية: المدة كما قال: {وادكر بعد أمة} [يوسف: 45]. قال الطبري سميت بذلك المدة لأنها تمضي فيها أمة من الناس وتحدث فيها أخرى، فهي على هذه المدة الطويلة.
ثم استفتح بالإخبار عن أن هذا العذاب يوم يأتي لا يرده ولا يصرفه. و{حاق} معناه: حل وأحاط وهي مستعملة في المكروه و{يوم} منتصب بقوله: {مصروفاً}.

.تفسير الآيات (9- 11):

{وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)}
{أذقنا} هاهنا مستعارة، لأن الرحمة هاهنا تعم جميع ما ينتفع به من مطعوم وملبوس وجاه وغير ذلك. و{الإنسان} هاهنا اسم الجنس والمعنى أن هذا الخلق في سجية الناس، ثم استثنى منهم الذين ردتهم الشرائع والإيمان إلى الصبر والعمل الصالح.
و{يؤوس} و{كفور} بناءان للمبالغة، و{كفور} هاهنا من كفر النعمة، والمعنى أنه ييأيس ويحرج ويتسخط، ولو نظر إلى نعمة الله الباقية عليه في عقله وحواسه وغير ذلك، ولم يكفرها لم يكن ذلك، فإن اتفق هذا أن يكون في كافر أيضاً بالشرع صح ذلك ولكن ليس من لفظ الآية.
وقال بعض الناس في هذه الآية: {الإنسان} إنما يراد به الكافر وحمله على ذلك لفظة {كفور}، وهذا عندي مردود، لأن صفة الكفر لا تطلق على جميع الناس كما تقتضي لفظة الإنسان.
والنعماء تشمل الصحة والمال ونحو ذلك والضراء من الضر وهو أيضاً شامل. وقد يكثر استعمال الضراء فيما يخص البدن.
ولفظة {ذهب السيئات عني} تقتضي بطراً وجهلاً أن ذلك بإنعام من الله، واعتقاد أن ذلك اتفاق أو بسعد من الاعتقادات الفاسدة، وإلا فلو قالها من يعتقد أن ذهابها بإنعام من الله وفضل، لم يقع ذلك.
و{السيئات} هاهنا كل ما يسوء في الدنيا.
وقرأت فرقة لفرِح بكسر الراء، وقرأت فرقة: لفرُح بضمها، وهذا الفرح مطلق، ولذلك ذم، إذ الفرح انهمال النفس: ولا يأتي الفرح في القرآن ممدوحاً إلا إذا قيد بأنه في خير.
وقوله تعالى: {إلا الذين صبروا} الآية هذا الاستثناء متصل على ما قدمناه من أن الإنسان عام يراد به الجنس: ومن قال إنه مخصوص بالكافر قال هاهنا: إن الاستثناء منقطع، وهو قول ضعيف من جهة المعنى وأما من جهة اللفظ فجيد، وكذلك قاله من النحاة قوم.
واستثنى الله تعالى من الماشين على سجية الإنسان هؤلاء الذين حملتهم الأديان على الصبر على المكاره ومثابرة عبادة الله: وليس شيء من ذلك في سجية البشر وإنما حمل على ذلك حب الله وخوف الدار الآخرة. والصبر والعمل الصالح لا ينفع إلا مع هداية وإيمان، ثم وعد تعالى أهل هذه الصفة تحريضاً عليها وحضاً، بالمغفرة للذنوب والتفضل بالأجر والنعيم.

.تفسير الآيات (12- 13):

{فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13)}
سبب هذه الآيات أن كفار قريش قالوا: يا محمد لو تركت سب آلهتنا وتسفيه آبائنا لجالسناك واتبعناك. وقالوا: ائت بقرآن غير هذا أو بدله، ونحو هذا من الأقوال. فخاطب الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم على هذه الصورة من المخاطبة، ووقفه بها توقيفاً راداً على أقوالهم ومبطلاً لها، وليس المعنى أنه صلى الله عليه وسلم هم بشيء من ذلك فزجر عنه، فإنه لم يرد قط ترك شيء مما أوحي إليه، ولا ضاق صدره، وإنما كان يضيق صدره بأقوالهم وأفعالهم وبعدهم عن الإيمان.
و{لعلك} هاهنا بمعنى التوقيف والتقرير، و{ما يوحى إليك} هو القرآن والشريعة والدعاء إلى الله تعالى كأن في ذلك سب آلهتهم وتسفيه آبائهم أو غيره؛ ويحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد عظم عليه ما يلقى من الشدة فمال إلى أن يكون من الله تعالى إذن في مساهلة الكفار بعض المساهلة ونحو هذا من الاعتقادات التي تليق به صلى الله عليه وسلم، كما جاءت آيات الموادعة. وعبر ب {ضائق} دون ضيق للمناسبة في اللفظ مع {تارك}، وإن كان ضيق أكثر استعمالاً لأنه وصف لازم، و{ضائق} وصف عارض فهو الذي يصلح هنا، والضمير في {به} عائد على البعض، ويحتمل أن يعود على ها وأن في موضع نصب على تقدير كراهة أن والكنز ها هنا: المال وهذا طلبهم آية تضطر إلى الإيمان: والله تعالى لم يبعث الأنبياء بآيات اضطرار وإنما بعثهم بآيات النظر والاستدلال، ولم يجعل آية الاضطرار إلا للأمم التي قدر تعذيبها لكفرها بعد آية الاضطرار، كالناقة لثمود.
ثم أنسه تعالى بقوله: {إنما أنت نذير}، أي هذا القدر هو الذي فوض إليك، والله تعالى بعد ذلك هو الوكيل الممضي لإيمان من شاء وكفر من شاء.
وقوله تعالى: {أم يقولون...} الآية، هذه {أم} التي هي عند سيبويه بمعنى بل وألف الاستفهام، كأنه أضرب عن الكلام الأول، واستفهم في الثاني على معنى التقرير، كقولهم: إنها لإبل أم شاء، والافتراء أخص من الكذب، ولا يستعمل إلا فيما بهت به المرء وكابر، وجاء بأمر عظيم منكر، ووقع التحدي في هذه الآية {بعشر} لأنه قيدها بالافتراء، فوسع عليهم في القدر لتقوم الحجة غاية القيام، إذ قد عجزهم في غير هذه الآية: {بسورة من مثله} [البقرة: 23، يونس: 38] دون تقييد فهذه مماثلة تامة في غيوب القرآن ومعانيه الحجة، ونظمه ووعده ووعيده وعجزوا في هذه الآية بل قيل لهم عارضوا القدر منه بعشر أمثاله في التقدير والغرض واحد واجعلوه مفترى لا يبقى لكم إلا نظمه فهذه غاية التوسعة؛ وليس المعنى عارضوا عشر سور بعشر، لأن هذه إنما كانت تجيء معارضة سورة بسورة مفتراة ولا تبالي عن تقديم نزول هذه على هذه: ويؤيد هذا النظر أن التكليف في آية البقرة إنما هو بسبب الريب، ولا يزيل الريب إلا العلم بأنهم لا يقدرون على المماثلة التامة؛ وفي هذه الآية إنما التكليف بسبب قولهم {افتراه} فكلفوا نحو ما قالوا: ولا يطرد هذا في آية يونس. وقال بعض الناس: هذه مقدمة في النزول على تلك، ولا يصح أن يعجزوا في واحدة فيكلفوا عشراً؛ والتكليفان سواء، ولا يصح أن تكون السورة الواحدة إلا مفتراة وآية سورة يونس في تكليف سورة متركبة على قولهم: {افتراه} وكذلك آية البقرة وإنما ريبهم بأن القرآن مفترى.
قال القاضي أبو محمد: وقائل هذا القول لم يلحظ الفرق بين التكليفين: في كمال المماثلة مرة، ووقوفها على النظم مرة.
و{من} في قوله: {من استطعتم} يراد بها الآلهة والأصنام والشياطين وكل ما كانوا يعظمونه، وقوله: {إن كنتم صادقين} يريد في أن القرآن مفترى.